دراسة: العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بعد “طوفان الأقصى”(1)

استفاق الاحتلال الإسرائيلي فجر يوم السبت، 7 أكتوبر 2023، على اقتحام مئات المقاتلين الفلسطينيين لبعض مقراته ومستوطناته التي أقامها قرب منطقة قطاع غزة، في عملية سميت “طوفان الأقصى”، حيث سيطروا على عشرات الثكنات العسكرية، واشتبكوا مع قوات الاحتلال وأجهزته الأمنية؛ ما تسبب في مقتل ما يزيد على 1400 شخص، وجرح حوالي 5431 آخرين من العسكريين والمدنيين. وتمكن المقاتلون الفلسطينيون أيضًا من أسر ضباط وجنود، واحتجزوا رهائن مدنيين، يراوح عددهم بين 229 و250 شخصًا، بينهم العشرات ممن فقدوا حياتهم.

ردت قوات الاحتلال الإسرائيلية على هذا الهجوم المفاجئ، في اليوم نفسه، بحملة عسكرية وحشية، سمتها “عملية السيوف الحديدية”، وهي الحرب العدوانية السابعة والأعنف على قطاع غزة منذ إعادة الانتشار في القطاع في عام 2005[1]. وتستهدف هذه العملية تدمير البنية التحتية في غزة، بالإضافة إلى تكثيف الهجوم لاغتيال عدد من قيادات حماس ومحاولة تحجيم تحركات ما بعد “طوفان الاقصى” وإضعاف رغبة المقاومة نحو إبرام صفقة سياسية حول تبادل الأسرى مع ارتفاع حصيلة الأسرى الإسرائيليين لدى الفصائل، كذلك وأد أطروحات فك الحصار عن المعاملات المالية والاقتصادية لدى فصائل المقاومة وفى مقدمتها حركة حماس، وقطاع غزة ككل[2]. وعليه تسعى هذه الورقة إلى التعرف على أهداف ودوافع العملية الإسرائيلية على قطاع غزة، والتحركات والأدوات التي استخدمتها إسرائيل لتحقيق هذه الأهداف، وأخيرًا؛ مآلات هذه العملية وما يمكن أن تحققه من الأهداف الإسرائيلية.  

أولًا: الأهداف الإسرائيلية من عملية السيوف الحديدية:

تتمثل الأهداف السياسية والعسكرية والأمنية، الآنية والبعيدة المدى، التي تسعى إسرائيل إلى تحقيقها من خلال عملية “السيوف الحديدية” على قطاع غزة في:

1- استعادة الردع المفقود: تسعى إسرائيل من خلال هذه العملية إلي استعادة هيبة الجيش والمؤسسات الأمنية التي انهارت يوم 7  أكتوبر 2023. حيث لا تزال مختلف أشكال الفشل الاستراتيجي والعسكري والاستخباراتي الإسرائيلي ماثلة للعيان، والتي تتمثل في:

الفشل الأول: والذي يمثل الفشل الأكبر للأجهزة الأمنية في إخفاق الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) والمخابرات العامة (الشاباك) في توقع العملية أو الوصول إلى معلومة بشأنها. وما زاد من مرارة هذا الفشل الاستخباراتي، في دولة طالما تبجحت بقوة أجهزتها الأمنية، وقدراتها الاستخباراتية حول العالم، كما أن الفشل نتج من قطاع غزة الذي تراقبه هذه الأجهزة وتجمع المعلومات عنه على مدار الساعة بمختلف الوسائل البشرية والإلكترونية.

الفشل الثاني: فتمثل في هشاشة الجدار الأمني الذي بنته إسرائيل حول غزة، وراهنت على قدرته في منع المقاتلين الفلسطينيين من اختراقه، حيث تمكن مقاتلو حماس من اختراقه والعبور من خلاله بأعداد كبيرة إلى أكثر من 20 موقعًا. فقد بنت إسرائيل منذ انسحابها الأحادي من قطاع غزة، جدارًا من الأسمنت المسلح على طول حدود القطاع البالغة نحو 65 كيلومترًا، بعمق 7 أمتار في باطن الأرض، و7 أمتار فوقها، ونصبت فوقه أحدث أجهزة الرقابة الإلكترونية، كما أقامت عليه أبراج مراقبة في مواضع مختلفة لرصد كل حركة خلفه.

الفشل الثالث: إخفاق الجيش الإسرائيلي في حماية قاعدته العسكرية الواقعة بالقرب من الحدود الشمالية لقطاع غزة؛ حيث سيطرت “كتائب القسام” الجناح العسكري لحركة “حماس” على مقر قيادة “فرقة غزة” في الجيش الإسرائيلي وقاعدة “يركون” التابعة للاستخبارات العسكرية (أمان) التي تعد من أهم قواعد الاستخبارات العسكرية في إسرائيل، كما سيطرت “القسام “على العديد من النقاط العسكرية وأبراج المراقبة الممتدة على طول حدود القطاع. فضلًا عن سيطرتها على أكثر من 20 مستوطنة واقعة في غلاف القطاع داخل ما يسمى “الخط الأخضر”، موقعة خسائر بقوات الجيش الإسرائيلي وأجهزة الأمن المختلفة. ومما يزيد من الشعور بمرارة الفشل أن الطرف الذي وجه الضربة إلى إسرائيل لم يكن دولة كبيرة يحسب لها حساب، وإنما حركة مقاومة في قطاع غزة الصغير والمحاصر منذ سنة 2007.

الفشل الرابع: تمثل في شل قدرة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية على اتخاذ القرار والتجاوب مع متطلبات الوضع الأمني والعسكري بصورة فعالة وسريعة، حيث أنها فشلت في التدخل سريعًا لاستعادة المواقع العسكرية والمستوطنات الإسرائيلية التي سيطر عليها المقاتلون الفلسطينيون، وظلوا يتحركون فيها لمدة لا تقل عن يومين، بينما يستغيث المستوطنون الذين كانوا يختبئون في أجزاء منها. وامتد الارتباك إلى مؤسسات الدولة الأخرى التي أقعدتها صدمة الهجوم عن التعاطي سريعًا مع نتائجها، بما في ذلك الوصول المتأخر إلى القتلى والجرحى، والفشل في تقديم المعلومات الأولية لأهالي القتلى والجرحى والمفقودين، حتى بعد مرور عدة أيام على بدء العملية[3].

وبالتالي؛ يسعى الاحتلال الإسرائيلي إلي تلقين الفلسطينيين درسًا لا يُنسى على تجرؤهم على مقاومته وإذلالهم من خلال إيقاع أكبر عدد ممكن من الخسائر في الأرواح والممتلكات، وارتكاب المجازر المتتالية ضد المدنيين، في إطار ما أصبح يعرف في الأدبيات الإسرائيلية بـ “كي الوعي”. ارتكاب المجازر المتتالية ضد المدنيين الفلسطينيين ليس ضرورة للقضاء على حماس وحكمها في قطاع غزة، ولا يأتي لإشباع غريزة الانتقام فحسب، وإنما هو، وفق مفهوم “كي الوعي”، جزء من معادلة تحقيق النصر، التي يجب ألا تتناسب فيها خسائر الفلسطينيين في الأرواح والممتلكات بأي حال مع الخسائر الإسرائيلية. ومعادلة النصر هي جزء مهم من عملية إعادة الردع والهيبة للجيش الإسرائيلي محليًا وإقليميًا ودوليًا؛ وهي تعني، كما صرح وزير الزراعة الإسرائيلي عضو الكابينت السياسي الأمني، آفي ديختر، ارتكاب نكبة ثانية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة أكبر من النكبة الأولى من حيث عدد القتلى والمهجرين.

وتأتي تصريحات قادة إسرائيل السياسيين والعسكريين، مثل تصريح نتنياهو عن “إبادة عماليق”، وخطاب رئيس الأركان الإسرائيلي هرتسي هليفي أمام جنوده الذي بث التلفزيون الإسرائيلي مقاطع منه بضرورة إبادة العدو، وتصريحات العديد من القادة والمحللين الإسرائيليين بضرورة محو غزة من الخريطة، وتصريح وزير التراث عميحاي إلياهو من حزب القوة اليهودية عن استعمال السلاح النووي ضد قطاع غزة كأحد الاحتمالات الممكنة، في سياق تحقيق معادلة النصر على الفلسطينيين واستعادة الردع الإسرائيلي[4].

جدير بالذكر هنا، أن إسرائيل تسعى لاستعادة قدرتها على الردع، ليس فقط في مواجهة فصائل المقاومة في غزة، بل وأيضًا في مواجهة خصومها في لبنان، وإيران، وبقية المنطقة[5].

2- تحرير الأسرى الإسرائيليين: مع الإعلان عن حالة الحرب ردًا على هجوم “حماس” في السابع من أكتوبر، تجنبت الحكومة الإسرائيلية وضع قضية الأسرى والرهائن بوصفها جزءًا من أولويات الحرب، وتم تجاهل هذا الملف لنحو أسبوعين، حتى إن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو لم يعقد جلسة مع عائلات الأسرى والرهائن إلا بعد أن فعلها الرئيس الأمريكي جو بايدن، حيث ساهمت الولايات المتحدة في دفع الحكومة الإسرائيلية إلى عد تحرير الأسرى والرهائن واحدًا من أهداف الحرب المركزية. وإن كان هناك اختلاف داخل الحكومة حول تحقيق هذا الهدف عبر تبني الخيار الدبلوماسي (تحريرهم عبر صفقة تبادل أسرى) أم عبر تبني الخيار العسكري (تحريرهم عبر عملية عسكرية). ورغم أن إسرائيل بدأت العملية البرية، إلا أن ذلك لا يعني أنها لا تجري مباحثات من أجل عقد صفقة، ولكنها تضغط عسكريًا لتكون شروط الصفقة بحسب مطالبها وليس بحسب مطالب حركة حماس. ويبدو أن إسرائيل لن تقبل صفقات عديدة، بل صفقة واحدة وبشروطها لتغلق هذا الملف[6].  

3- القضاء على حماس عسكريًا وسياسيًا: ظهر إجماع إسرائيلي عز نظيره على هذا الهدف، بل إنه تعزز بتأييد أميركي وغربي علني، انطلاقًا من وجود رواية متوافق عليها بأن “حماس” تساوي “داعش”، وما حصل مع الأخيرة في الموصل والرقة يجب أن يتكرر مع الحركة في غزة.

وتسعى هذه العملية الإسرائيلية إلى ضرب القدرات العسكرية لحركة “حماس” على نحو لا يجعلها قادرة على تهديد الاحتلال الإسرائيلي مرة أخري، ويشمل ذلك شبكات الأنفاق بشقيها: الهجومية؛ المنتشرة على حدود غزة الشرقية والشمالية، والدفاعية؛ المنتشرة في أنحاء قطاع غزة، بهدف صد أي عدوان بري محتمل في قلب القطاع[7]. بجانب ضرب منصات إطلاق الصواريخ ومراكز السيطرة والتحكم. وربما يسعى الاحتلال من هذا العدوان الذي قد يستغرق عدة أسابيع كما تحدث بذلك عدد من المسؤولين الإسرائيليين إلى استنزاف الترسانة الصاروخية لدى المقاومة، وإفقادها ما لديها من قدرات تهدد بها الاحتلال[8]. وصولًا لاغتيال القيادة السياسية والعسكرية لـ”حماس” دون تفرقة، مع التركيز على قيادة الجناح العسكري باعتبارهم العصبة القيادية الأقوى للحركة[9].

كما يقوم الاحتلال بضرب القدرة الحكومية لحماس في غزة من خلال استهداف كل المقار الوزارية والبنوك المصرفية والمؤسسات السلطوية مما يفقد الحركة القدرة على إدارة الوضع في القطاع فترة طويلة من الزمن بعد انتهاء الحرب، صحيح أن هذا الأسلوب معتمد في كل حرب، ولكن هذه المرة حجم الاستهدافات يبدو واسعًا، فقد قصف الاحتلال كل فروع البنوك والمقر العام لمجلس الوزراء ومراكز الشرطة في جميع أنحاء القطاع.

كذلك يسعى الاحتلال إلى الضغط على الحاضنة الشعبية للمقاومة، وهي سياسة متبعة في كل عدوان يشنه على غزة، لكنه هذه المرة أشد وأقسى، لا سيما وأن أعداد الشهداء في تصاعد متسارع، وإقدامه على قصف المنازل على رؤوس أصحابها سياسة جديدة، بالإضافة إلى كونها لا تشمل بيوت قادة المقاومة من الصف الأول، بل إن القصف يستهدف منازل كوادر من الصفوف الوسطى[10].

4- بناء منطقة أمنية عازلة: تتفق أغلب التقديرات والآراء الإسرائيلية على أنه بعد صدمة السابع من أكتوبر فإن على إسرائيل الاحتفاظ بمنطقة عازلة داخل القطاع بعمق 2-3 كيلومترات، وتكون هذه المنطقة فارغة من السكان وتقع تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، وهو نموذج جنوب لبنان بعد انسحاب إسرائيل من لبنان.

فعلى سبيل المثال، يشير عاموس يادلين، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية السابق، إلى أن القضاء على حكم حماس هدف صعب التحقيق، لذلك يقترح دخول قطاع غزة وتدمير 40%-70% من قدرات الحركة العسكرية، وهو برأيه – إن تم – إنجاز عسكري كبير، ثم الانسحاب وبناء منطقة أمنية بعمق 1-2 كيلومتر داخل القطاع، وربما السيطرة على “محور فيلادلفيا” (الخط الحدودي الفاصل بين قطاع غزة ومصر)، لمنع تهريب السلاح للقطاع. في حين يعتقد معلقون إسرائيليون آخرون أن المنطقة العازلة ضرورة أمنية حتى بعد القضاء على حكم حماس، لمنع تكرار سيناريو السابع من أكتوبر[11]. وفي هذا السياق؛ ذكر جدعون ساعر، الوزير المعين حديثًا في حكومة إدارة الحرب، أن “غزة ستصبح أصغر حجمًا في نهاية الحرب”، مضيفًا أن “إسرائيل” بعد أن تنتهي من حماس، ستبقى قواتها بغرض شن غارات متكررة لقمع جيوب المقاومة[12].

ولعل ذلك ما يفسر قيام قوات الاحتلال باحتلال ثلث غزة، وفصل الشمال عن الجنوب، وتهجير 1.6 مليون مواطن وفق الصليب الأحمر، وصولًا إلى فتح حرب على المستشفيات من أجل إغلاقها، واستكمال عملية التهجير، وتدمير الشمال تدميرًا كاملًا تمهيدًا لجعله كله أو أجزاء واسعة منه منطقة أمنية عازلة، لدرجة إلقاء أكثر من 32 ألف طن من المتفجرات على قطاع غزة، وهذا أكثر من ضعفي القنبلة النووية التي ألقيت على مدينة هيروشيما اليابانية. كما يعاني القطاع من التجويع جراء الحصار الخانق الذي تفرضه قوات الاحتلال، وعجز العرب والعالم عن إدخال المعونات الإنسانية الممنوع وصولها إلى الشمال؛ حيث إنها تدخل بالقطارة، وما دخل منها حتى الآن لا يساوي ما كان يدخل القطاع قبل العدوان في يومين أو ثلاثة[13].

5- تهجير سكان غزة: يركز هذا الهدف بحسب وثيقة وزارة الاستخبارات الإسرائيلية التي تم تسريبها في 13 أكتوبر 2023 على نقل السكان المدنيين من غزة إلى مدن من الخيام في شمال سيناء، ثم بناء مدن دائمة وممر إنساني غير محدد، بالإضافة إلى إنشاء منطقة أمنية لمنع النازحين الفلسطينيين من العودة إلى قطاع غزة. ووفقًا المخطط، فقد تم تحديد وجهات أخرى للنازحين الفلسطينيين؛ مثل تركيا وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، حيث اقترحت الوثيقة أن توفر هذه الدول الدعم للخطة إما ماليًا، أو من خلال استقبال سكان غزة المهجرين كلاجئين، وعلى المدى الطويل كمواطنين. كما أشارت الوثيقة إلى بعض الوجهات الغربية التي تتمتع بممارسات هجرة “متساهلة”، مثل كندا باعتبارها هدفًا محتملًا أيضًا لإعادة توطين النازحين الفلسطينيين.

ورغم تقليل مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي من أهمية الوثيقة باعتبارها “ورقة مفاهيمية”، يتم إعداد أمثالها على جميع مستويات الحكومة وأجهزتها الأمنية، إلا أن هناك عددًا من التقارير الغربية أكدت قيام إسرائيل سرًا بحشد الدعم الدولي لإعادة توطين مئات الآلاف من سكان قطاع غزة في بعض الوجهات التي تم الإشارة إليها في المخطط السابق.

هذا بالإضافة إلى دعوة وزير الطاقة الإسرائيلي، المقرر أن يصبح وزيرًا للخارجية اعتبارًا من يناير 2024، يسرائيل كاتس، خلال لقائه بصحيفة “بيلد” الألمانية، في 23 أكتوبر 2023، إلى “إدخال سكان القطاع إلى سيناء وتسكينهم”[14]. كما سبق أن قال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي؛ اللفتنانت كولونيل ريتشارد هيشت، في 10 أكتوبر، لصحفيين أجانب: “أعلم أن معبر رفح (على الحدود بين غزة ومصر) لا يزال مفتوحًا.. وأنصح أي شخص يمكنه الخروج بالقيام بذلك”[15].

ومع تصاعد الحديث عن الغزو البري للقطاع، بدأت بعض الدوائر الإسرائيلية والأمريكية بالدعوة لتوفير ما تسمية “ممرات إنسانية آمنة” إلى سيناء لتجنيب المدنيين الفلسطينيين آثار الحرب، إضافة إلى اشتمال خطة الدعم المالي لأوكرانيا ودولة الاحتلال التي قدمها الرئيس الأمريكي للكونغرس الأمريكي على بند بقيمة 3.495 مليارات دولار، تحت عنوان “مساعدات الهجرة واللجوء”، وهي عبارة غامضة، لكنها اقترنت مع الجهود الأمريكية لإقناع الدول العربية بتهجير أهالي غزة[16]. ويدرك أصحاب هذا التوجه أن الأمر منوط بالموقف المصري الرافض كليًا لهذا الخيار، حيث صرح الرئيس المصري مرارًا أن هذا الأمر خط أحمر ويمثل تهديدًا للأمن القومي لبلاده، لذلك يطالب هؤلاء بتعظيم الأزمة الإنسانية للضغط على مصر لفتح معبر رفح لدخول الغزيين إلى سيناء وتوطينهم هناك مقابل مساعدات اقتصادية كبيرة لمصر[17].

كما حث وزير المالية في حكومة الاحتلال، بتسلئيل سموتريتش، حث على دعم الهجرة الطوعية واستيعاب عرب غزة وتوطينهم في دول العالم واصفًا ذلك بأنه “حل إنساني ينهي معاناة اليهود والعرب على حد سواء”. ثم دعا عضوا الكنيست الإسرائيلي، رام بن باراك، وداني دانون، في مقال في صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، كل دولة غربية باستقبال ما لا يقل عن 10 آلاف شخص من سكان غزة كلاجئين، بهدف إعادة توطينهم. هذا بالطبع بجانب ما سيتم ترحيله للدول العربية[18].

ولعل هذا التوجه الإسرائيلي بتهجير سكان غزة هو ما يفسر استهداف الاحتلال البنى التحتية المدنية في قطاع غزة، وليس العسكرية والحكومية فقط، وما يشمله ذلك من محطات الكهرباء والمياه والاتصالات والصرف الصحي والوقود، حيث قصفتها الطائرات الإسرائيلية مباشرة، بما يعنيه من التسبب بأزمة إنسانية كارثية حذرت منها المنظمات الحقوقية الدولية، بهدف إفقاد الفلسطينيين القدرة على الصمود، ولذلك فقد ظهرت مبكرًا أعراض التأثر السلبي بانقطاع الكهرباء والمياه والإنترنت، وبدأت الشكوى بالنقص في بعض السلع الغذائية الأساسية، وحتى حين حاولت مصر إرسال مساعدات إنسانية قام الطيران الإسرائيلي بقصف عدد من الشاحنات، وأجبرتها على العودة إلى الأراضي المصرية[19].

ويأتي التوجه الإسرائيلي لتهجير السكان من قطاع غزة مدفوعًا بالاعتبارات التالية:

  1. يضمن هذا السيناريو إنهاء مشكلة غزة بالنسبة لإسرائيل بشكل كامل.
  2. التهجير سيتحول إلى حالة مكرسة كما حدث مع اللاجئين الفلسطينيين عام 1948، على الرغم من القرارات الدولية التي تنص على عودتهم.
  3. يمنع هذا السيناريو عودة حركة حماس أو تنظيمات أخرى إلى إعادة بناء نفسها من جديد، ويشكل حالة ردع عميقة للجبهات الأخرى.
  4. لن تضطر إسرائيل إلى تحمل تكلفة السكان الاقتصادية والمدنية بعد تهجير أغلب السكان.
  5. يسهم في إنهاء القضية الفلسطينية وحصرها في الضفة الغربية، حيث توجد السلطة الفلسطينية، التي يسهل إدارة الصراع معها كما هو الحال الآن. كما أنها خطوة أولى إذا نجحت تمهد، آجلًا أو عاجلًا، وفي ظرف موات، لتهجير آخر في الضفة الغربية.
  6. يستجيب مع خطاب اليمين المتطرف في إسرائيل الذي يعتبر قطاع غزة جزءًا من “أرض إسرائيل”، ويمكنهم من إعادة بناء المستوطنات في غزة من جديد[20]. فأحزاب اليمين الديني المشاركة في حكومة نتنياهو تجاهر بأنها معنية بتهجير الفلسطينيين من كل فلسطين. وينص البرنامج العام لحركة “القوة اليهودية” التي يقودها وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير صراحة على وجوب تهجير الفلسطينيين. وهذا ما يتبناه وزير المالية بتسلال سموتريتش، الذي يقود حركة “الصهيونية الدينية”، والذي سبق أن خير الفلسطينيين بين المغادرة، أو العيش بدون أي حقوق أو القتل[21].

6- تهرب القادة الإسرائيليين من المحاسبة: تخدم هذه الحرب وإطالة أمدها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يواف غالانت وقادة المؤسسة العسكرية والأمنية، وخاصة رئيس الأركان العامة ورئيس الاستخبارات العسكرية (أمان) ورئيس المخابرات العامة (الشاباك) ورئيس الموساد وقائد سلاح الجو وقائد المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي، باعتبارهم مسؤولين عن “كارثة” 7 أكتوبر. وباستثناء نتنياهو، أعلن قادة المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية عن تحملهم مسؤولية الفشل الذي وقع ذلك اليوم. ويعتقد نتنياهو وغالانت وقادة المؤسسة العسكرية والأمنية أن إطالة أمد الحرب والابتعاد زمنيًا عن يوم 7 أكتوبر قد يخففان من وطأة النقد والدعوة إلى محاسبتهم عن الفشل والتقصير، وأن تحقيق أهداف الحرب، أو بعضها، بما في ذلك ارتكاب المجازر ضد المدنيين الفلسطينيين وإظهار الدمار الهائل الذي يلحقه الجيش الإسرائيلي بقطاع غزة، قد يشبع غريزة الانتقام لدى الإسرائيليين ويخفف من نقمتهم على المسؤولين عن التقصير والفشل، وقد يسجل نقاطًا إيجابية لقادة المؤسسة السياسية والأمنية في لجنة التحقيق الرسمية التي بات من المؤكد تشكيلها عند الانتهاء من الحرب على غزة[22].


[1] “الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة: قراءة في موقف القانون الدولي الإنساني”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 1/11/2023، الرابط: https://cutt.us/kzCtW

[2] “أبعاد وارتدادات التحولات الاستراتيجية لـ”طوفان الأقصى””، مجلة السياسة الدولية، 11/10/2023، الرابط: https://cutt.us/eqGi6

[3] “عملية طوفان الأقصى: انهيار الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه غزّة”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 12/10/2023، الرابط: https://cutt.us/ezheI

[4] “العدوان الإسرائيلي على غزّة: هل من أفق زمني لانتهاء الحرب؟”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 13/11/2023، الرابط: https://cutt.us/vsWfW

[5] “أمن دولي ـ العملية العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة.. الربح والخسارة”، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، 9/11/2023، الرابط: https://cutt.us/aFDdk

[6] “مُعضِلة إسرائيل المزدوجَة: العملية العسكرية في قطاع غزة بين أهداف الحرب وملف الأسرى والرهائن”، مركز الإمارات للسياسات، 6/11/2023، الرابط: https://cutt.us/x4CS7

[7] “الاجتياح البريّ للقطاع: كيف؟ ولماذا؟ وهل؟”، متراس، 17/10/2023، الرابط: https://cutt.us/62Ccs

[8] “سيناريوهات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة”، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 13/10/2023، الرابط: https://cutt.us/UIhrM

[9] “الاجتياح البريّ للقطاع: كيف؟ ولماذا؟ وهل؟”، مرجع سابق.

[10] “سيناريوهات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة”، مرجع سابق.

[11] “اليوم التالي في قطاع غزة: السيناريوهات المحتملة ما بعد العملية البرية الإسرائيلية”، مركز الإمارات للسياسات، 31/10/2023، الرابط: https://cutt.us/NWZUB

[12] “4 سيناريوهات لحكم قطاع غزة فيما لو نجح الاحتلال بتحييد حماس”، نون بوست، 12/11/2023، الرابط: https://www.noonpost.com/180077/

[13] “مصير الحرب يتوقف على مدتها”، المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية (مسارات)، 14/11/2023، الرابط: https://cutt.us/43PvQ

[14] “السيناريوهات الغربية والإسرائيلية لليوم التالي لحرب غزة: التناقض وعدم الواقعية”، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 19/11/2023، الرابط: https://cutt.us/LNPx6

[15] “متحدث عسكري إسرائيلي ينصح الفارين من غزة بالتوجه لمصر.. والجيش ينفي”، العربية نت، 10/10/2023، الرابط: https://cutt.us/4V13n

[16] ” الخيارات “الإسرائيلية” المعقدة في قطاع غزة”، مركز رؤية للتنمية السياسية، 20/11/2023، الرابط: https://cutt.us/gQajp 

[17] “اليوم التالي في قطاع غزة: السيناريوهات المحتملة ما بعد العملية البرية الإسرائيلية”، مرجع سابق.

[18] “عضوان في الكنيست يطالبان دول العالم باستقبال سكان غزة كلاجئين”, عربي21، الرابط: https://cutt.us/O9oIO

[19] “سيناريوهات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة”، مرجع سابق.

[20] “اليوم التالي في قطاع غزة: السيناريوهات المحتملة ما بعد العملية البرية الإسرائيلية”، مرجع سابق.

[21] “”الممر الإنساني”.. تفريغ غزة لتسهيل إبادتها”، الجزيرة نت، 14/10/2023، الرابط: https://cutt.us/yNOUC

[22] “العدوان الإسرائيلي على غزّة: هل من أفق زمني لانتهاء الحرب؟”، مرجع سابق.

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022