الارتحال السياسي في مصر
تتصاعد يوما بعد الاخر الهجرات القسرية من مصر ، لأسباب سياسية، بعد الانقلاب العسكري في مصر منذ العام 2013، اثر القمع العسكري لمعارضي النظام ورافضي الانقلاب العسكري، وحتى كثير من المستقلين..وهو الأمر الذي يفقد مصر كثيرا من مقدراتها البشرية وكوادرها العلمية والمهنية ، والتي تعد خصما من قوة مصر الاستراتيجية ، بحسب الدكتور عصام حجي المستشار العلمي السابق لعبد الفتاح السيسي..عبر حسابه على تويتر، الثلاثاء 28 مايو…
الأمر الذي سلطت عليه الضوء دراسة حديثة لمعهد كارينجي لسياسات الشرق الأوسط، حول الارتحال السياسي في مصر"، أعدها الباحثان ؛ ميشيل دنّ، وعمرو حمزاوي….
الدراسة المنشورة مطلع مايو الجاري، أكدت أن المنفيون المصريون يواجهون صعوبات جمّة في معيشتهم في الخارج ومحاولة العودة إلى وطنهم. وفي ظل القمع المستمر للحكومة، يجدون أنفسهم أمام خيارات مؤلمة تتعلق بمستقبلهم.
واستعرضت الدراسة تاريخ الارتحال السياسي في مصر، مشيرة إلى أن المصريون، يرتحلون منذ عقود من الزمن، إلى الخارج بحثاً عن عمل، إنما تحدث تغريبةٌ من نوع آخر منذ العام 2011، فقد غادر عشرات الآلاف البلاد لأسباب سياسية. فبعضهم هجر البلاد انطلاقاً من انطباع عام بأن المناخ السياسي بات محفوفاً بأخطار شديدة تتهدّدهم، وبعضهم الآخر ارتحل مدفوعاً بمخاوف محدّدة بسبب صدور أحكام قضائية بحقهم في المحاكم أو ملاحقتهم قضائياً أو خسارتهم وظائفهم أو تعرضهم للتشويه في وسائل الإعلام أو للتهديدات المباشرة على خلفية نشاطهم السياسي أو الصحافي أو المدني.
وخلال الاضطرابات التي شهدتها مرحلة الانفتاح السياسي الوجيز في مصر بين 2011-2013، قيل لمعارِضي صعود الإسلاميين بالدارجة المصرية "لو مش عاجبكم، روحوا لكندا ولا أمريكا" – ثم بعد الانقلاب العسكري في العام 2013، قيل للإسلاميين "لو مش عاجبكم، روحوا لقطر ولا تركيا".
وعلى النقيض من موجات الارتحال المصري ذات الدوافع السياسية في المرحلة الممتدة من خمسينيات إلى سبعينيات القرن العشرين، تضم الدفعة الراهنة من المغادرين كوكبة متنوّعة جداً من الأشخاص ذوي الهويات والدوافع والوجهات المختلفة والتجارب المختلفة في المنفى. وفي حين أنه يصعب الحصول على بيانات محدّدة، يبدو أن المرتحلين المصريين بعد العام 2011 هم، عموماً، أكثر عدداً وأصغر سناً وذوو كفاءات علمية أعلى بالمقارنة مع المرتحلين في السابق.
وأحد الأسباب خلف أعداد المرتحلين وتنوّعهم هو أن أعداداً أكبر من الفئات تُواجه خطراً جدّياً في مصر اليوم مقارنةً بالسابق، وتشمل هذه الفئات المواطنين الأقباط كما المنتمين لجماعات الإسلام السياسي، والليبراليين كما اليساريين، والفنانين كما رجال الأعمال، والمفكّرين المرموقين كما النشطاء المشاكسين. أما في الماضي، واجهت فئات أقل اضطهاداً سياسياً أو اجتماعياً في مختلف المراحل.
3 موجات
وأشارت الدراسة إلى أن مصر شهدت ثلاث موجات متداخلة من الارتحال منذ العام 2011: أعداد صغيرة من رجال الأعمال الموالين لمبارك وأعداد أكبر من المسيحيين الذين غادروا اعتباراً من العام 2011؛ وأعداد كبيرة من الإخوان المسلمين وسواهم من الإسلاميين الذين بدأوا بالارتحال منذ منتصف العام 2013؛ وأعداد أقل من العلمانيين (المفكّرين والنشطاء) الذين هاجروا البلاد مع تصاعد حملة القمع ضدهم بدءاً من العام 2014.
وتناولت الدراسة الفترة الولى من نجاح ثورة يناير 2011، حيث فرضت استقالة الرئيس الأسبق مبارك في 11 فبراير 2011 على بعض رجالات نظامه الارتحال إما إلى الدول الغربية أو إلى دول خليجية كالإمارات العربية المتحدة والسعودية والبحرين التي لم ترض عن التنحي وفتحت أبوابها لوزراء ومسؤولين سابقين. وتباينت دوافع هؤلاء لمغادرة مصر بين استباق قيود توقعوها على حرية حركتهم (المنع من السفر) وبين خشية الملاحقة القضائية والسياسية في أجواء غير مستقرة (يوسف بطرس غالي ورشيد محمد رشيد كنموذجين).
وبحسب الدراسة، فإنه في الفترة بين 2011 و2013، بحثت أعداد متزايدة من المصريين الأقباط ميسوري ومتوسطي الحال عن سبل للهجرة إلى أمريكا الشمالية وأوروبا وأستراليا خوفا من تداعيات سيطرة الإسلاميين على الحكم. فقد كانت التيارات السلفية، وفي مقدمتها جماعة الدعوة السلفية وحزب النور، قد صدرت خطابا تمييزيا ضد الأقباط وأنكرت عليهم حقوق المواطنة المتساوية ووظفت حضورها في الهيئات الدستورية والتشريعية للضغط باتجاه تديين الدولة والسياسة والفضاء العام. كذلك أضافت الهجمات الطائفية المتكررة (حادثة كنيسة أطفيح وكنائس امبابة في 2011 والهجمات الطائفية في محافظات الصعيد في 2012 و2013) إلى مخاوف الأقباط ودفعت ومعها التدهور العام في الأوضاع الأمنية والاقتصادية بعضهم إلى تقديم طلبات الهجرة والإقامة واللجوء إلى الغرب واستندت الدراسة لحوار في 2013 أجراه الدكتور عمرو حمزاوي مع السفير الألماني في القاهرة والذي أكد أن طلبات الحصول على إقامة ولجوء في جمهورية ألمانيا الاتحادية من قبل المصريين الأقباط قد تضاعفت 3 مرات بين 2011 و2013).
المنفيين بعد 2013
انتزعت المؤسسة العسكرية السيطرة على حكم البلاد وأطاحت بعد مظاهرات شعبية بالرئيس محمد مرسي ودفعت به ومعه قيادات الصف الأول من جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة (أسسه الإخوان في 2011) إلى السجون. وفي 14 أغسطس 2013، فضت السلطات المصرية اعتصامات الإخوان وأنصارهم بقوة مفرطة أسفرت عن مقتل أكثر من 800 مواطنة ومواطن –حسب الدراسة-
وتبع تدخل المؤسسة العسكرية في السياسة وفض السلطات العنيف للاعتصامات تنفيذ إجراءات قمعية وعقابية واسعة النطاق بحق الإخوان وأنصارهم الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها مسلوبي الحرية ومواجهين بملاحقات قضائية.
فيما اعلنت الحكومة المصرية في ديسمبر 2013 جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية واعتبر الانتماء إليها وحتى الدعم لها مخالفة تستوجب السجن. ولم تكن ممارسات القمع والعقاب والملاحقة وفي أجواء استقطاب مجتمعي حاد غير أن تسبب موجة ارتحال كاسحة بين أعضاء جماعة الإخوان من الصف الثاني وما تلاه وبين بعض المتعاطفين مع الجماعة من الكهول ومتوسطي العمر والشباب.
واستنتجت الدراسة تنوع الخلفيات الاقتصادية والاجتماعية لمرتحلي الإخوان وتفاوتت انتماءاتهم العمرية، وتنوعت أيضا وجهاتهم بين قطر وتركيا والسودان ومنافي أمريكا الشمالية وأوروبا وآسيا، وكانت موجتهم بين 2013 واليوم هي الأكثر كثافة عددية والأكثر تنوعا في هوية المرتحلين.
أما السلفيون، مجددا جماعة الدعوة السلفية وحزب النور، فقد انقلبوا على تحالفاتهم السابقة مع الإخوان والتحقوا بركب مبرري انقلاب 2013 ومؤيدي انقلاب وزير الدفاع الأسبق عبد الفتاح السيسي وصاروا من المعتاشين على السلطوية الجديدة التي أنهت تجربة التحول الديمقراطي بين 2011 و2013. أما بعض السلفيين من غير المنتمين للدعوة السلفية أو حزب النور فقد انسحبوا من المشهد السياسي، بينما انتهى الحال بالبعض الآخر إلى التعرض لسلب الحرية ودفع بهم إلى خلف أسوار السجون لدعمهم حركه الإخوان المسلمين في الاعتصامات والمظاهرات المعارضة للحكم الجديد.
القمع..من الإخوان إلى النشطاء
وبين 2013 و2015، لم تكتف السلطة الجديدة وحكامها العسكريون والأمنيون بقمع وعقاب وملاحقة الإخوان وأنصارهم، فتعقبوا أيضا النشطاء من الشباب الذين طالبوا بالديمقراطية قبل وبعد ثورة يناير 2011، وألقوا بهم وراء أسوار السجون موظفين قوانين وتعديلات قانونية مررت على عجل لتهجير المواطن بعيدا عن الفضاء العام (قانون التظاهر 2013 نموذجا). كما أن النفر الصغير من الكتاب والمثقفين الليبراليين واليساريين الذين عارضوا الانقلاب وأدانوا الفض العنيف للاعتصامات والانتهاكات المتراكمة الأخرى لحقوق الإنسان لم يسلم من تعقب وتشويه الحكام العسكريين والأمنيين، وألفوا أنفسهم إما في مواجهة محاكمات صورية أو أمام إجراءات بمنع السفر والمحاربة في الرزق أو خليط من هذا وذاك. كذلك استهدف الحكم الجديد من أيد في بداية الأمر الانقلاب العسكري في 2013 ثم شرع في انتقاد الممارسات القمعية.
وبذلك أضيفت مجموعات جديدة لموجة هجرة ما بعد 2013، فقد طرق نشطاء شباب وكتاب ومثقفون وفنانون وإعلاميون أبواب المنافي الغربية واستقبلت عواصم أوروبية كلندن وبرلين وأيضا بلدان مثل كندا والولايات المتحدة الأمريكية غالبيتهم وتوزع آخرون في كل جهات الأرض.
وتتابع الدراسة :"تواصلت الضغوط الحكومية على منظمات المجتمع المدني وخاصة منظمات حقوق الإنسان، ودفع ذلك بعض النشطاء المصريين إلى التقدم بطلبات للتدخل العاجل من اجل الحماية لدى العديد من المنظمات الأوروبية والأمريكية".
وفضلا عن المطالبين بالديمقراطية ممن نجوا من التعقب، غادر مصر أيضا شباب ومتوسطو العمر من ميسوري الحال اقتصاديا واجتماعيا طلبا للدراسة أو العمل في أمريكا الشمالية وأوروبا.
هجرات ممتدة عبر التاريخ المصري
وتتسم موجة الارتحال الراهنة والتي بدأت في أعقاب ثورة 25 يناير 2011 بالتنوع الكبير في هوية الملتحقين بها ودوافعهم والمنافي التي يتجهون إليها.
وقبل نهاية الحكم الملكي في البلاد وجلاء القوات البريطانية في خمسينيات القرن العشرين، لم تسجل هجرات واسعة النطاق بغية الابتعاد عن قمع السلطات أو تعقب المستعمر. اقتصر الأمر إما على نفي زعماء الحركة الوطنية إلى الخارج أو على طرقهم هم أبواب أوروبا لكسب شيء من التعاطف الدولي مع "المسألة المصرية" (أي المطالبة باستقلال البلاد). على سبيل المثال، نفي أحمد عرابي في نهايات القرن التاسع عشر وبعد أن قاد حراكا وطنيا ضد المستعمر البريطاني إلى سرنديب (سيريلانكا الحالية)، وفي بدايات القرن العشرين عاش مصطفى كامل ومحمد فريد سنوات في المنافي الأوروبية للدعوة للاستقلال. وفي 1919، نفت السلطات الاستعمارية البريطانية إلى جزيرة مالطة سعد زغلول والزعماء الآخرين الذين طالبوا بحق تقرير المصير وأشعلوا ثورة 1919 وأرادوا تمثيل البلاد في مؤتمر فرساي للقوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى (1914-1918).
وبعد إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية وجلاء القوات البريطانية وسيطرة الجيش على الحكم، بدأت موجات ارتحال المصريين لأسباب سياسية. فضلا عن مغادرة أميرات وأمراء الأسرة الملكية للبلاد، شهدت الخمسينيات رحيل الأغلبية الساحقة من اليهود تأثرا بالصراع العربي-الإسرائيلي وللحروب التي بدأت في 1947 ثم تكررت في 1956. ولم يفرق الحكام الجدد للبلاد بين النفر القليل من اليهود المصريين الذي تعاطف مع الحركة الصهيونية وأيد تأسيس إسرائيل وبين الأغلبية الساحقة التي كانت مصر وطنها الذي أرادت العيش به ولم ترغب في مغادرته ولم تذهب بعد تهجيرها إلى إسرائيل، بل استقر بها المقام في المنافي الأوروبية والأمريكية الشمالية. ومع شروع الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر (1954-1970) في تطبيق سياسات التمصير والتأميم وإجراءات اشتراكية أخرى، غادرت مصر عائلات صناعية وتجارية كبيرة وبعض كبار ملاك الأراضي الزراعية بعد أن وضعت ممتلكاتهم تحت الحراسة (السيطرة الحكومية) أو نزعت منهم وصارت ملكية عامة. وكانت المنافي الأوروبية والأمريكية هي أيضا وجهة أغنياء مصر المرتحلين.
بالإضافة لكل ذلك بعثت الحكومة المصرية تحت حكم جمال عبد الناصر عدد كبير من المعلمين والقضاة والإداريين الى المحيط العربي للمساعدة في بناء مؤسسات الدولة في البلاد العربية.
أما فيما خص موجة ارتحال قيادات وأعضاء جماعة الإخوان المسلمين والتي بدأت في النصف الثاني من الخمسينيات واستمرت حتى نهاية الستينيات. فقد أطلقت محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في 1954 "المفبركة" موجة من القمع الحكومي ضد الجماعة. ثم كان أن دفع القمع الرسمي للإخوان، وهما ترجما إلى عمليات واسعة لسلب الحرية والإبقاء لسنوات وراء أسوار السجون وفي بعض الحالات الإعدام، دفع القيادات والأعضاء الذين لم تطلهم يد الأجهزة الأمنية والاستخباراتية إلى مغادرة البلاد باتجاه دول الجوار العربي ومنها السعودية والكويت وذهب قليل منهم إلى بلدان أوروبية.
وبجانب هجرة الإخوان في الخمسينيات والستينيات، ارتحل أيضا لأسباب القمع والتعقب الكثير من كوادر الشيوعيين المصريين الذين عاداهم الحكام العسكريون ولم يتركوا لهم مجالا للعمل العام لا في الحركات العمالية والنقابية التي خضعت للسيطرة الحكومية ولا في الأحزاب السياسية التي حلت وألغي وجودها. ارتحل الشيوعيون المصريون إلى وجهات متعددة، من لبنان في الشرق الأوسط والجزائر في شمال إفريقيا (بداية من الستينيات) إلى الاتحاد السوفييتي السابق ودول الكتلة الاشتراكية السابقة وبعض المنافي الأوروبية الغربية. في لبنان والجزائر وبريطانيا وفرنسا وسويسرا، على سبيل المثال، استقر نفر من الشيوعيين الذين كانوا إما يعملون في الصحافة أو يمتهنون الكتابة الأدبية. وفي الاتحاد السوفييتي السابق وألمانيا الشرقية السابقة وغيرهما من البلدان الاشتراكية آنذاك، استقر آخرون ممن كانت تخصصاتهم العلمية تراوح بين العلوم الاقتصادية وبين الدراسات الاجتماعية…
ومع وفاة جمال عبد الناصر وارتقاء أنور السادات إلى سدة السلطة في 1970، توالت موجات ارتحال المصريين غير أن هوية المنتمين إليها تغيرت. بين 1970 و1973، حدثت أعمال طائفية ضد الأقباط (كان أشدها وقعا أحداث الخانكة في 1972) وتزايدت من جراءها أعداد الأقباط الذين طرقوا أبواب المنافي.
وبحسب الدراسة، بعد 1973، شرع السادات في تغيير وجهة السياسات الاقتصادية والاجتماعية للبلاد متبنيا الليبرالية الاقتصادية ومنقلبا على التجربة الاشتراكية لسلفه عبد الناصر. وفي السياسة الخارجية، ابتعد السادات عن التحالف مع الاتحاد السوفييتي السابق والكتلة الاشتراكية السابقة وبحث عن سبل لإنجاز معاهدة سلام مع إسرائيل وصادق الولايات المتحدة الأمريكية لبناء علاقة تعاون استراتيجي معها. وللتخلص من إرث التجربة الاشتراكية والحد من نفوذ الناصريين ومجمل التيارات اليسارية، عزل السادات قيادات الناصريين واليسار من الكثير من المناصب الرسمية (كان بعضهم من شاغلي المناصب العليا قد عزل بالفعل فيما عرف "بثورة التصحيح" في 1971) وحاصر المثقفين والكتاب والصحفيين والفنانين ونشطاء الحركات الطلابية الذين عرفوا بالانتماء إلى اليسار ودأبوا على انتقاد سياسات السادات. وترتب على ذلك نشوء ظاهرتين، هجرة ارتدادية لقيادات وعناصر جماعة الإخوان المسلمين الذين كانوا قد غادروا مصر في الخمسينيات والستينيات وموجة ارتحال واسعة بين الناصريين واليسار إلى المنافي العربية والأوروبية. ترك العديد من المثقفين والكتاب والصحفيين البلاد إلى الخليج والعراق ولبنان وليبيا حيث عملوا في وسائل إعلام حكومية وخاصة تبنى بعضها توجهات مضادة لسياسات السادات خاصة بعد زيارته للقدس في 1977 وشروعه في مفاوضات للسلام مع إسرائيل (اتفاقية كامب ديفيد في 1977 ومعاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية في 1979). وارتحل بعض المثقفين والكتاب والصحفيين اليساريين إلى بريطانيا وفرنسا وسويسرا، ونجحوا هناك إما في الالتحاق بالمشهد الصحفي والإعلامي العربي (الصحفي محمود السعدني وعمله في لندن مثالا) أو استكمال كتاباتهم الأدبية في بيئات حرة (الروائي بهاء طاهر ومنفاه السويسري نموذجا). وفي السبعينيات أيضا، هاجر الكثير من المصريين اقتصاديه بحثا عن فرص عمل في الخليج وليبيا وخاصة في حقول النفط.
هدوء عهد مبارك
وأشارت الدراسة إلى أنه منذ العام 1981 وتولي الرئيس الأسبق حسني مبارك الحكم (1981-2011)، هدأت تقلبات السياسات المصرية تدريجيا. لم تعاد حكومات الرئيس مبارك المتعاقبة الناصريين واليسار، بل رأت في تمكين أغلبيتهم من العودة بعد ارتحال فرصة لإظهار تميزها عن سياسات وممارسات السادات. عاد الكثير من الناصريين وأهل اليسار إلى مصر، وعاد بعضهم إلى المؤسسات الصحفية والإعلامية ذات الملكية العامة في بادرة حسن نية من الرئيس الأسبق مبارك. تواصلت أيضا في عقدي الثمانينيات والتسعينيات والسنوات الأخيرة في حكم الرئيس الأسبق مبارك عودة الإسلاميين من المنافي، خاصة مع اتساع دوائر مشاركة الإسلام السياسي في الحياة العامة من النقابات والمجتمع المدني والنشاط الاقتصادي إلى المنافسة في الانتخابات البرلمانية. بل أن الصراع المسلح التي تورطت به تيارات إسلامية متشددة (تنظيم الجهاد والجماعة الإسلامية) مع الأجهزة الرسمية والأمنية لم يرتب ارتحال أعضاء تلك التنظيمات ممن لم يسجنوا إلى خارج البلاد (اقتصر الأمر على حالات فردية، أبرزها أيمن الظواهري ونفر آخر من الجهاديين المصريين الذين أصبحوا من النافذين في تنظيم القاعدة). وبين 1981 و2011، اقتصر ارتحال المصريين لأسباب سياسية على الأقباط الذين استمر بعضهم في الابتعاد عن البلاد بسبب أحداث العنف الطائفي والممارسات التمييزية ضد المجتمع القبطي (من أحداث الزاوية الحمراء في 1981 إلى تفجير كنيسة القديسين في 2011).
وجهات الهجرة
وقارنت الدراسة بين فترات التقلبات السياسية في مصر منذ الملكية إلى الان، موضحة زيادة كبيرة في أعداد المرتحلين منذ العام 2011، ولا سيما منذ العام 2013. يبدو عموماً أن المرتحلين المصريين ذوي الخلفيات المنتمية لجماعات الإسلام السياسي توجهوا نحو تركيا أو قطر إلى جانب وجهات عدة أخرى في آسيا وأفريقيا، في حين أن غير الإسلاميين يُبدون ميلاً أكبر للهجرة إلى أميركا الشمالية أو أوروبا بحثاً عن ملاذ. لكن هذا التمييز ليس مطلقاً، إذ يعيش مرتحلون ذوو ميول أيديولوجية متنوّعة في جميع هذه الأماكن.
وقد فاقت الزيادة في أعداد المصريين الذين تقدّموا بطلبات للحصول على تأشيرة هجرة إلى الولايات المتحدة، الضعف على امتداد سبع سنوات، فقد ارتفعت أعدادهم من 534375 في العام 2011 إلى 960279 في العام 2013، و1274751 في العام 2018 (ولم يحصل سوى عدد قليلٌ منهم على التأشيرة).
وتُظهر بيانات البنك الدولي أن 181677 مصرياً هاجروا إلى الولايات المتحدة في العام 2018، و171985 في العام 2017، بالمقارنة مع 132513 في العام 2010 (لا تتوافر بيانات عن العام 2011).4 وكان المرتحلون لدوافع سياسية، في الأغلب، مجرد مجموعة فرعية صغيرة من أولئك المهاجرين الذين غادر معظمهم لأسباب اقتصادية على الأرجح. إلا أن ذلك لا يدحض أن هذه الأرقام تُظهر أن المصريين يغادرون إلى الولايات المتحدة بأعداد أكبر من المعهود.
ومن البلدان الأخرى التي استقبلت، كما هو معلوم، أعداداً كبيرة نسبياً من المرتحلين المصريين، تركيا وقطر ..فضلاً عن السودان وكندا وألمانيا والمملكة المتحدة. فقد استضافت قطر، مثلاً، 166840 مهاجراً مصرياً في العام 2018، و143960 في العام 2013 مقارنةً بـ87727 في العام 2010 وفقاً للبنك الدولي…
وأظهرت بيانات الحكومة المصرية للعام 2016 أن نحو 25800 مصري يعيشون في تركيا، وفي هذا الإطار، تُشير البيانات المتداوَلة إلى أن عدداً كبيراً منهم يتألف من مرتحلين سياسيين وأفراد عائلاتهم، فضلاً عن بعض العمّال.
وفي هذا الصدد، يُنظَر إلى تركيا بأنها تؤمّن الحماية لعدد كبير من المصريين، لا سيما أعضاء جماعة الإخوان المسلمين والمتعاطفين معها، من التعقّب المحتمل.
تَظهر، من حينٍ لآخر، معلومات تُشير إلى أن بعض المرتحلين المصريين يبحثون عن ملجأ في بلدان تقع بعيداً من الملاذات التي التجأوا إليها تقليدياً في الخليج وتركيا وأميركا الشمالية وأوروبا. فقد أعلنت وزارة العدل في كوريا الجنوبية، في يوليو 2018، عن تعليق العمل بالقرار الذي يُتيح للمصريين دخول البلاد من دون تأشيرة سفر، وذلك بسبب الأعداد الكبيرة من طلبات اللجوء التي تقدّم بها المصريون في العام 2017، والتي بلغت 3244 طلباً، لتأتي في المرتبة الثالثة بعد الطلبات المقدمة من الصين وباكستان. وقد أشار أحد المسؤولين الكوريين إلى أن "عدداً كبيراً منهم يدّعي أنه أُخضِع لمحاكمات جنائية بسبب أنشطته المناهضة للحكومة في إطار عضويته في جماعة الإخوان المسلمين".
تأثيرات وانعكاسات
وذهبت الدراسة إلى أن المصريين الذين توجّهوا خلال السنوات الماضية إلى المنافي ومكثوا فيها، يمارسون تأثيراً مختلفاً على البلاد بالمقارنة مع أولئك الذين يعملون في الخارج لفترات متنوعة ثم يتمكّنون من العودة إلى ديارهم بحرية. فالمصريون في المنافي يؤثّرون في وطنهم الأم بغيابهم تماماً كما يؤثرون به من خلال أنشطتهم بعيدا عنه.
التأثيرات غير المباشرة:
وفي ما يتعلق بتأثير غيابهم، فإن هجرة الأدمغة تصبح مسألة تستحق التوقف عندها حين يُغادر هذا العدد الكبير من المفكّرين والنشطاء ورجال الأعمال والصحافيين البلاد في غضون سنوات معدودة.
وتكمن الخسارة المصرية، في هدر الفرص، فالبلاد معرَّضة لخسارة مكاسب محتملة عندما يغادرها بعض مواطنيها الأكثر كفاءة بصورة دائمة أو شبه دائمة. في هذا الإطار، ورد في تقرير صادر عن البنك الدولي أن "العمّال ذوي الكفاءات العلمية العالية يولّدون تأثيرات إيجابية على المجتمع، وعندما يهاجرون إلى الخارج، تُفقَد هذه التأثيرات".
وهكذا تتكبّد البلاد، من جملة أمور أخرى، خسائر على مستوى إنتاجية اليد العاملة، والمساهمات في الخدمات العامة الأساسية مثل التعليم والصحة، والإيرادات الضريبية – وفي جانبٍ ينطبق تماماً على هذه المجموعة من الأشخاص، تخسر البلاد "مساهمتهم في النقاش عن المسائل الاجتماعية المهمة وتأثيرها في السياسات والمؤسسات".
وغالباً ما يُشير المصريون أنفسهم إلى نجاحاتٍ باهرة حقّقها مغتربون من بلادهم في الخارج، والتي لم تكن لتتجسد على أرض الواقع لو أنهم مكثوا في مصر، وذلك بسبب القمع الاجتماعي أو السياسي. ومن الشخصيات الاغترابية التي برزت إلى الواجهة مؤخراً أحمد زويل، الحائز على جائزة نوبل للكيمياء، ومحمد البرادعي، الحائز على جائزة نوبل للسلام. وشكّل فوز الممثل الأميركي من أصل مصري، رامي مالك، بجائزة أوسكار في الحفل الأخير، مناسبةً لإطلاق الكثير من التعليقات في مصر والتي تصب في هذا الإطار؛ فقد قالت إحدى الشابات: "إذا سافرتُ يوماً ما إلى الخارج، قد أتمكّن من إنجاز شيء ما بنفسي، لأنني أُسحَق بشتى الوسائل هنا، وما زلتُ عاجزة عن رؤية بصيص نور".
ومن المصريين الذين قصدوا المنفى القسري أو الطوعي منذ العام 2013 شخصيات مرموقة من مؤرّخين وخبراء في العلوم السياسية وروائيين وكتّاب سيناريو وكوميديين ساخرين وممثّلين وصحافيين يعملون في الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، ومدافعين عن حقوق الإنسان.
وهؤلاء ليسوا سوى عيّنة صغيرة من آلاف المصريين الذين كانوا يُقدّمون مساهمات إيجابية للحياة العامة قبل العام 2013، لكنهم غادروا البلاد تاركين فراغاً ملحوظاً في الصحافة والخطاب السياسي والمجتمع المدني والفنون – وهي ميادين تواجه أيضاً تحدّيات شديدة بسبب القيود التي تُكبّل حرية التعبير عن الرأي داخل مصر، وأبرزها الملاحقات القضائية والتوقيفات. كذلك توجّهَ عددٌ كبير من روّاد الأعمال والعلماء إلى المنفى بسبب ارتباطاتهم الشخصية أو العائلية مع مجموعات معارِضة وما ترتّبَ عن ذلك من خطر تعرّضهم للتعقب والقمع في مصر بعد 2013. ويبدو أن السواد الأعظم من المرتحلين يتألف من مصريين في العشرينات والثلاثينات من العمر، والذين لم تطلق طاقاتهم بالكامل بعد.
كما ان الكثير من المرتحلين المصريين شاركوا بايجابية في نقل واقع بلادهم إلى العالم الخارجي، عبر التواصل مع المنظمات الحقوقية التي اضطر كثير منها لاغلاق منافذه بمصر، بسبب نفس القمع..
ويتقدم الكثير من المرحلين عن مصر، بشهادات علنية أمام هيئات الأمم المتحدة مثل مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في جنيف…
كما أن كثير من المرحلين بجانب نشاطهم في المجال الحقوقي، ونقل معاناة الداخل للمنظمات العالمية، ينشطون بالمجال الاعلامي، حيث يبقون وسائل الإعلام الدولية على اطلاع على المستجدات..
فقد أنشأوا، منذ العام 2013، عدداً من وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية الناطقة باللغة العربية، وقد اكتسب بعضها قاعدة جماهيرية معقولة داخل مصر وكذلك في بلدان الاغتراب. وعن الدور السياسي للمرتحلين بالخارج، استعرضت الدراسة دور المجلس الثوري المصري، الذي ما زال دوره محدودا، وايضا تحالف المصريين الأميركيين (تأسس في العام 2005)، بيد أن الاستقطاب الأيديولوجي (خصوصاً بين الإٍسلاميين وغير الإسلاميين) الذي يُحكم قبضته على مصر، يؤثّر أيضاً، حتى تاريخه، في المرتحلين، ما يجعل من الصعب عليهم رصّ صفوفهم حول هدفٍ سياسي معيّن – وهذا الأمر بات أشد صعوبة بالمقارنة مع العام 2010، مثلاً، عندما حشدَ محمد البرادعي دعماً كبيراً من المغتربين للجمعية الوطنية للتغيير التي أسّسها.19
واستعرضت الدراسة جهود الحكومة المصرية في مضايقة المنفيين اختياريا وقسريا خارج مصر، عبر تأسيس منصات حقوقية تدافع عن ممارات الدولة المصرية، وتشوه صور المدافعين عن حقوق الانسان، وانشاء تنظيمات ومنتديات تهتم بالمصريين بالخارج ، مهمامه مضايقة المنفيين بالخارج، كالتحريض على عدم تقديم الخدمات القنصلية لهم ، وعملت الحكومة المصرية أيضا على التلويح الممنهج بأدواتها القمعية لكبح جماح المعارضين الموجودين في المنافي واستهدف هنا المضطلعون بالعمل الإعلامي المعارض والمشاركون في تحالفات وجبهات معارضة.
تنوعت الأدوات القمعية التي وظفتها الحكومة بين الامتناع عن تجديد جوازات سفر المعارضين أو تعطيلها وبين الملاحقة القانونية للمعارضين وتوقيع العقوبات الغيابية عليهم وفي بعض الحالات تهديد أسرهم بالملاحقة والتعقب.، بل واعتقال أسرهم داخل مصر..
لمطالعة أصل الدراسة/
https://carnegie-mec.org/2019/05/01/ar-pub-79018