قبل أن يغتصب الجنرال عبدالفتاح السيسي السلطة في مصر بانقلاب عسكري في 03 يوليو 2013م، كان سعر صرف الدولار يدور حول 6.75 إلى 7 جنيهات مقابل الدولار الواحد. وخلال السنوات التالية تم تحرير سعر صرف الجنيه أمام الدولار ثلاث مرات:
التعويم الأول، في 3 نوفمبر 2016م، حتى يبرم اتفاقه الأول مع صندوق النقد والحصول على قرض قيمته 12 مليار دولار لمدة ثلاث سنوات، وارتفع سعر الدولار حينها من (8) جنيهات إلى نحو 18 جنيها في منتصف 2017م، قبل أن يتراجع قليلا إلى نحو 16 جنيها عبر التحكم من جانب البنك المركزي الذي كان يدعم الجنيه فيما يطلق عليه الاقتصاديون «التعويم المدار».
ومع تفشي جائحة كورونا وما تلاه من تدهور اقتصادي حاد اضطر نظام السيسي إلى إبرام قرضين من الصندوق؛
الأول بنظام المساعدات العاجلة بقيمة “2.8” مليار دولار في مايو 2020م.
والثاني بعده بشهر واحد بقيمة “5.2” مليار دولار، ليبلغ قيمة ما اقترضه نظام السيسي من الصندوق حتى منتصف 2020 إلى “20” مليار دولار.
التعويم الثاني، تم تعويم الجنيه للمرة الثانية في يوم الإثنين 21 مارس 2022م، حيث اتخذ البنك المركزي قرارين أبرزها ما يتعلق بالمرونة في سعر صرف الجنيه أمام الدولار وباقي العملات الأخرى، حيث تحدث بيان البنك عن إيمانه بأهمية مرونة سعر الصرف؛ وهو ما يعني تعويما نسبيا جديدا للجنيه.
في أعقاب بيان البنك المركزي التقطت البنوك هذه الإشارة والسماح بتحريك سعر الجنيه مقابل الدولار بعد ست سنوات من التعويم النسبي المدار؛ حيث حافظ البنك المركزي على سعر الصرف عند الحدود المسموح بها من الدولة، وفي غضون ساعات انخفضت قيمة الجنيه من 15.64 إلى 18.4 بنسبة انخفاض بلغت نحو 17%.[[1]] ثم ترك الجنيه ينزف على مدار الشهور التالية بعد مارس 2022م، حتى وصل سعر صرف الدولار نحو 19.6 جنيها.
التعويم الثالث، جرى الخميس 27 أكتوبر 2022م؛ وبموجب هذا التعويم وهو الثاني في سنة 2022 فقط فقد الجنيه نحو 16% من قيمته بعد ساعات من إعلانه، وما يزيد عن 40% منذ تعويم مارس (التعويم الثاني) الماضي، وقفز سعر الدولار إلى ما يزيد عن 23 جنيها في إغلاق تعاملات يوم التعويم، وظل الجنيه يتراجع أمام الدولار وباقي العملات الأخرى حتى وصل إلى 24.6 قرشا بنهاية شهر نوفمبر 2022م، هذا التعويم جاء كشرط أساسي لصندوق النقد الدولي من أجل الموافقة على قرض رابع لنظام الجنرال السيسي بقيمة ثلاثة مليارات دولار، والحصول على 6 مليارات أخرى من دول ومؤسسات مالية عالمية وإقليمية أخرى.
معنى ذلك أن السيسي اغتصب السلطة وسعر صرف الدولار 6.18 جنيهات واليوم في بداية ديسمبر 2022 وصلت سعر صرف الدولار في البنوك 24.6 جنيها بينما وصل سعره في السوق السوداء تجاوز الـ”30″ جنيها! [[2]] في ظل هذه الحقائق وتدهور الأوضاع الاقتصادية إلى نحو خطير وغير مسبوق، و تفاقم أزمة الديون وفوائدها وأقساطها يتساءل المصريون: ما أسباب المشكلة؟ وما عوامل تدهور الوضع الاقتصادي على هذا النحو المخيف؟ وما موعد التعويم الرابع والخامس والسادس؟ وإلى متى يظل هذا التدهور الحاد في قيمة الجنيه أمام الدولار وباقي العملات؟ ومتى تتوقف هذه الدوامة الجهنمية وما يصاحبها من غلاء فاحش طال كل شيء ولم يعد المصريون قادرين على تحمل هذه الأوضاع التي تنزلق بوتيرة سريعة ومؤلمة؟!
أين المشكلة؟
المشكلة الاقتصادية والمالية في مصر لها أوجه متعددة:[[3]]
الوجه الأول،( عجز الميزان التجاري) الدولار؛ فمشكلة مصر هي شح الدولار، والسبب الأبرز في ذلك هو ضعف الإنتاج (الزراعي والصناعي) وقلة واردات الدولة في الوقت الذي تتضخم فيه فاتورة الاستيراد؛ وبالتالي فإن المشكلة الأساسية هي عجز الميزان التجاري، والأرقام الرسمية توضح ذلك؛ فالميزان التجاري هو الفارق بين ما نبيع للدول الأخرى من منتجات وسلع (التصدير)، وما نشتريه من هذه الدول من منتجات وآلات وسلع (الاستيراد)؛ فإذا كان حجم الصادرات أعلى من الواردات كان الميزان التجاري (فائضا) بما يعكس قوة الاقتصاد وتنوعه وشموله، وإذا كان الحجم الواردات أكبر من حجم الصادرات كان الميزان التجاري “عجزا”.
وفي الحالة المصرية فقد بلغت الصادرات المصرية في 2021 43.6 مليار دولار. بينما زادت قيمة الواردات إلى 83.5 مليار دولار؛ بما يعني أن الفارق يصل إلى 39.8 مليار دولار بنسبة 52% فقط من فاتورة الاستيراد.
إذن مصر تحتاج إلى 40 مليار دولار سنويا حتى تحقق التوازن في ميزان المدفوعات فقط، وبالنظر إلى أرقام صعود وهبوط الميزان التجاري بين العجز والفائض نجد أن سنة 1952 محطة فاصلة حيث تأسست جمهورية الضباط بعد انقلاب 23 يوليو؛ فما قبلها كانت سنوات الفائض تهيمن على الميزان التجاري، وما بعدها هيمن العجز على الميزان التجاري وكانت آخر سنة حققت مصر فيها فائضا هي سنة 1973م (سنة الحرب) لتوقف عجلة الاستيراد لدعم المجهود الحربي، ومنذ 48 سنة تعاني مصر من عجز مزمن في الميزان التجاري؛ بما يعني أن المشكلة مزمنة ورغم ذلك لم تتمكن كل الحكومات العسكرية التي حكمت مصر من حل هذه الأزمة، رغم عشرات الخطط الخمسية التي وضعوها والأرقام الرسمية التي تدعي قوة الاقتصاد ومرونته أمام الأزمات.
«فمصر في 2021 صُدِّرت سلع غذائية بقيمة 5.7 مليارات دولار، بينما تم استيراد سلع غذائية بقيمة 14 مليار دولار، ومع تصدير مستلزمات صناعية بقيمة 17 مليار دولار، فقد تم استيراد مستلزمات صناعية بقيمة 32 مليار دولار، ومع تصدير سلع رأسمالية وقطع غيار -عدا السيارات- بقيمة 805 ملايين دولار، فقد تم استيراد النوعية نفسها من السلع بقيمة تقترب من 13 مليار دولار.
ومع تصدير سلع استهلاكية بقيمة 5.6 مليارات دولار، فقد تم استيراد سلع استهلاكية بقيمة تزيد عن 6 مليارات دولار، ومع تصدير سيارات ووسائل نقل وقطع غيار سيارات بقيمة 749 مليون دولار، فقد تم استيراد النوعية ذاتها من السلع بقيمة 8 مليارات دولار، حتى إن قيمة تصدير سيارات الركوب وحدها بلغت 4 ملايين دولار فقط، مقابل استيراد سيارات ركوب بقيمة 3.7 مليارات دولار خلال العام الماضي.
وهكذا يتبين أنه إذا كانت النسبة العامة لتغطية الصادرات للواردات تصل إلى 52%، فقد كانت النسبة 6% فقط لتغطية صادرات السلع الرأسمالية للواردات منها، ونسبة 9% لتغطية صادرات السيارات ووسائل النقل وقطع غيارها إلى الواردات منها، ونسبة تغطية السلع الغذائية 41%، لتنفرد صادرات النفط والغاز بتحقيق نسبة تغطية 132%، إذ بلغت قيمة صادراتها 13.7 مليار دولار مقابل واردات بقيمة 10.4 مليارات دولار».[[4]]
الوجه الثاني، أزمة الديون؛ فلأول مرة في تاريخ مصر يصل حجم الدين الخارجي إلى 157.8 مليار دولار بنهاية مارس 2022م حسب بيان البنك المركزي المصري. وهو الرقم الذي ارتفع بشدة بنهاية 2022 وقد يتجاوز الـ180 مليار دولار. وجه الخطر ــ حسب بيانات البنك المركزي ومؤسسات دولية ــ أن مصر مطالبة بسداد أعباء ديون خارجية تقدر بنحو 35 مليار دولار خلال العام المالي الجاري (2022/2023) فقط. [[5]] وهو رقم مهول.
فمصر مطالبة بسداد الديون التي اقترضها السيسي بعد سنوات انقلابه العجاف؛ والتي تصل إلى 129 مليار دولار كديون طويلة الأجل، ونحو 26.6 مليار دولار كديون قصيرة الأجل تسدد خلال السنتين المقبلتين فقط. هذا بخلاف الديون الجديدة التي اقترضها بعد مارس 2022م والتي تزيد عن 20 مليار دولار معظمها لدول الخليج.
ولأول مرة في تاريخ مصر أيضا تصل قيمة فوائد وأقساط الديون وفقا لأرقام الموازنة العامة للدولة (2022/2023) إلى مستوى أعلى من كل إيرادات الدولة؛ فالإيرادات المتوقعة (نحو (1.517) تريليون جنيه)، بينما بند خدمة الدين (690.1 مليار جنيه أقساط+ فوائد 965.48 مليارا =1,655 تريليون جنيه ).
معنى ذلك أن جميع إيرادات الدولة لا تكفي لبند خدمة الدين فقط! علاوة على ذلك فإن القروض المتوقعة لسنة 22/23 ـ وفقا لأرقام الموازنة العامة ـ تصل إلى تريليون و523 ملياراً و639 مليون جنيه، بزيادة تبلغ 455 ملياراً و131 مليون جنيه عن السنة الماضية. ليس ذلك فقط، فالحكومة أيضا تخفي أرقام الدين المتعلقة بالشركات والجهات المحلية التي اقترضت أموالاً من دول ومؤسسات أجنبية بضمان من وزارة المالية، على غرار المبالغ التي اقترضتها شركة العاصمة الإدارية من الصين لإنشاء البرج الأيقوني ومجمع الوزارات في العاصمة الجديدة (شرق القاهرة).
الوجه الثالث، هو مشكلة غياب الأولويات عند صانع القرار السياسي والاقتصادي؛ فمصر تحتاج في المقام الأول إلى:
- مشروع زراعي حيواني ضخم لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء؛ لأن مصر تستورد منذ عقود كث أكثر من 65% من غذائها؛ وهذا بحد ذاته أكبر تهديد للأمن القومي. فقد تراجع دور الزراعة من 65% إلى 17% بالناتج القومي. ووفقا للخبير الزراعي الدكتور نادر نور الدين فإن مصر تتربع على قمة الدول المستوردة للقمح بحجم 13.5 مليون طن سنويًا، ونُعتبر رابع أكبر مستورد للذرة الصفراء بنحو 10 ملايين طن سنويًا، وخامس أكبر مستورد لزيوت الطعام بنحو 3 ملايين طن سنويًا، ومعها 1.25 طن من السكر ونحو 50% من احتياجاتنا من اللحوم الحمراء والألبان المجففة، و100% من احتياجاتنا من العدس ونحو 80% من الفول، كما تحتاج مصر بالتوازي مع المشروع الزراعي تنمية الثروة الحيوانية والسمكية والثروة الداجنة، والاهتمام بالصناعات الغذائية المصاحبة لها لتحقيق هذا الهدف الأعظم مثل صناعة الزيوت والالبان والعلف وتحقيق الاكتفاء الذاتي لهذه المشروعات الضخمة من الحبوب والمحاصيل الاستراتيجية المهمة كالقمح والأرز والقطن والفول والعدس، وفول الصويا لصناعة العلف، وعباد الشمس والذرة والسمسم لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الزيوت، وهذا يتطلب أولا، حماية الرقعة الزراعية الموجودة من التآكل، وثانيا استصلاح ملايين الأفدنة، وثالثا وضع سياسية زراعية رشيدة والاعتماد على أفضل ما توصلت إليه العلوم والتكنولوجيا الحديثة بهذا الشأن؛ وتعزيز صناعة الأسمدة النيتروجينية التي تزيد من خصوبة التربة وتزيد الإنتاج بمعدل نحو 30%. كذلك يتعين ضبط السوق ليكون أكثر تنافسية حتى لا يتعرض المستهلكون لسيطرة قلة من المحتكرين. وهذا يستلزم تثبيت أسعار المنتجات الرئيسية والتى يستهلكها السواد الأعظم من الجمهور، لتحقيق المواءمة بين اعتبارات الربح من جانب المستثمرين وحق المواطن فى الحصول على السلعة بأسعار مناسبة، لا سيما وأن هامش الربح في السوق المصري مرتفع بصورة كبيرة، خاصة فى مجالات السلع الاستهلاكية والغذائية، والذى يتراوح بين 40% و75% فى حين لا يتجاوز نظيره بالأسواق العالمية 8% فقط.
- في الملف الصناعي، مشكلة مصر اقتصادية قبل أن تكون مالية؛ والمطلوب فورا هو سياسات على المديين المتوسط والطويل، لدفع النمو الاقتصادي وتدعيم الاقتصاد وتحقيق التنمية، وعلى المدى القصير، للتصدى للمشكلة الخانقة الراهنة. وبالتالي فالمطلوب فورا هو الحد من فاتورة الاستيراد والتخلي عن المواد الترفيهية التي تفاقم فاتورة الاستيراد ويتم أهدار مليارات الدولارات عليها سنويا، مع التركيز على صناعات كثيفة العمالة وفي ذات الوقت يمكن أن توفر المليارات من العملة الصعبة. وخير مثال على ذلك قطاع النسيج و صناعة الملابس؛ وهما صناعتان بسيطتان، حيث بلغ نصيب مصر من صادرات الملابس فى العالم فى سنة 2019 %0,33 (أقل من نصف في المائة) قيمتها 3,5 مليار دولار. فى نفس السنة كان نصيب فيتنام %6 من الصادرات العالمية بلغت قيمتها 63 مليار دولار. وللتذكرة كانت فيتنام فى حرب مع الولايات المتحدة حتى سنة 1975، بينما دشنت مصر سياسة الانفتاح الاقتصادى فى سنة 1974. نحن لسنا فقط فى مواجهة مشكلة بل مسألة اقتصادية ممتدة. وفى سنة 2019، بلغت قيمة صادرات بنجلاديش من الملابس 34,1 مليار دولار بارتفاع قدره (58.6%) عن 2013 عندما كانت قيمة الصادرات 21,5 مليار. لاحظ أن هذا الارتفاع حدث خلال ست سنوات هى بالضبط نفس طول الفترة الفاصلة بين «الإصلاح الاقتصادى المصري» وقرض الصندوق لمصر فى سنة 2016، والوقت الحالى. والسياسة الصناعية لا تقتصر بالطبع على الملابس ذات القيمة المضافة المنخفضة عموما بل ينبغى أن تمتد إلى أفرع أخرى للنشاط مثل الإلكترونيات، والبرمجيات، والصناعات الكيماوية، والسياحة. ومضمون السياسة الصناعية فى هذه الأفرع لا بد أن يتباين حسب طبيعة كل منها. فالاهتمام بصناعة النسيج والملابس وحدها قد تدر على الاقتصاد المصري نحو 50 مليار دولار سنويا لو أحسن استثمارها ومصر كانت سباقة في هذا المجال منذ العهد الملكي.
- للأسف أولويات النظام مختلفة تماما عن ذلك؛ بل تصل إلى حد التناقض؛ فقد وضع السيسي 8 مليارات دولار على مشروع تفريعة قناة السويس (2014 /2015)، وهو المشروع الذي تم تدشينه على عجل دون أي دراسة جدوى من أجل رفع الروح المعنوية للمصريين في أعقاب انقلاب يوليو 2013م، وقد تمت الإطاحة بمحافظ البنك المركزي الأسبق هشام رامز رغم كفاءته لأنه انتقد المشروع وحمله المسئولية عن أزمة الدولار وتراجع قيمة الجنيه. كما اهتم النظام ببناء المدن الجديدة وأبرزها العاصمة الإدارية والعلمين الجديدة وغيرها والتي تصل إلى نحو 15 مدينة جديدة؛ وتم إهدار مئات المليارات من الدولارات على هذه المشروعات والتي لم يكن لها أولوية في هذا التوقيت. وقدر السيسي حجم الإنفاق على هذه المشروعات بنحو 6تريليونات جنيه وهو رقم مهول؛ تم إهداره على هذه المشروعات التي لا توفر فرص عمل دائمة أو تزيد الدخل القومي. ومن هذه المشروعات القطار الكهربي وتبطين الترع وغيرها من المشروعات التي لا تحظى بالأولوية من جهة وتفتقد إلى الجدوى الاقتصادية من جهة أخرى.
- الوجه الرابع هو دور السيسي في أزمة الدولار؛ فقد تسبب مشرع تفريعة القناة (2014/2015) في إهدار 8 مليارات دولار. ثم أهدر مئات المليارات من الدولارات على بناء المدن الجديدة والعاصمة الإدارية. لكن القاصمة كانت في تبني سياسات صندوق النقد الدولي؛ فالاتفاق الذي جرى في نوفمبر 2016م ثم تراجع قيمة الجنيه إلى النصف وتآكل مدخرات المواطنين بنفس القيمة (النصف)، أفقدت المصريين الثقة في الجنيه؛ وراحوا يدخرون أموالهم في العقارات والأرض والذهب والدولار. لا سيما بعد الخسائر الهائلة التي تعرض لها المواطنون والمكاسب الهائلة التي حققها الكانزون للدولار بعد تعويم 2016. فشن النظام حربا ضروسا على العقارات وزاد الضريبة العقارية ومنع البناء وهدم آلاف المنازل المخالفة، وعرقل عمليات البيع والشراء في الأراضي. ثم جاءت تصريحات الحكومة في 2021 حول إلغاء دمغة الذهب العادية والاعتراف فقط بدمغة الليزر؛ فلم يعد أمام الناس سوى «الدولرة» وهي الادخار بالدولار، وعادت السوق السوداء من جديد. هذه السياسات هي التي دفعت كل المصريين دفعا نحو اكتناز الدولار وعدم التفريط فيه؛ فشح في الأسواق وصنع النظام أزمته بنفسه.
- الوجه الخامس، أن أزمة مصر سياسية بالأساس، بمعنى أن الإصلاح الاقتصادي والمالي مرهون بالإصلاح السياسي، وما دام الإصلاح السياسي جرى تجميده بفعل فاعل؛ فإن الإصلاح الاقتصادي يكاد يكون مستحيلا. تماما كالحصان والعربة؛ فالإصلاح السياسي هو الحصان، والإصلاح الاقتصادي هو العربة، وتقديم الإصلاح الاقتصادي على السياسي تماما كمن يضع العربة أمام الحصان؛ فهي لن تتحرك وسوف تعيق الحصان نفسه عن التحرك إلى الأمام وسيبقى الوضع مجمدا حتى يتعقل صانع القرار ويدرك أن المسار كله خطأ، أو يتم الإطاحة به والمجيء بنظام آخر أكثر حكمة ورشدا وكفاءة؛ فالطريق إلى إنقاذ البلاد لن يمر إلا عبر نسف المسار الحالي وإقامة نظام ديمقراطي تعددي لا يقصي أحدا، ويعيد السيادة للشعب بدلا من الأجهزة الأمنية والعسكرية التي اغتصبت الدولة والسيادة وهمشت الشعب وسحقته تحت آلة القمع والطغيان سحقا غير مسبوق.
الخلاصة أن مصر تعاني، تحتاج إلى “40” مليار دولار سنويا لسد العجز في الميزان التجاري، وتحتاج نحو 35 مليار دولار سنويا لسد فوائد وأقساط الديون؛ معنى ذلك أن مصر تحتاج نحو 75 مليار دولار سنويا لسد العجز في العملة المحلية في ظل تراجع موارد الدولة وإهدار الأموال على مشروعات إنشائية بلا أي جدوى اقتصادية.
وبناء على ذلك فإن مصر مرشحة لتعويم ثالث في (2022)، وقد يكون العام المقبل (2023) مرشحا لحدوث عدة تخفيضات أخرى لقيمة الجنيه حتى ينهار؛ فما الذي يمنع ذلك؟ وهل يملك نظام السيسي أي أدوات تمكنه من وقف هذا السيناريو؟! فالأدوات التي تملكها مصر قد تؤجل هذا السيناريو لكنها أبدا لن تتحاشاه.
الأمر الآخر أن المسألة الاقتصادية قد امتدت فى الزمن ولكنها ككل مسألة قابلة للحل، ومضمون الحل مسألة اقتصادية فنية. غير أن الإقدام على الحل قرارٌ سياسى، أما الاختيار بين البدائل الفنية والتوفيق بينها فيتداخل فيهما الاقتصادى والسياسى.
وعليه، إن كان للمسألة الاقتصادية أن تحل فلا بد من إصلاح سياسى يفك القيود، ويفسح المجال للخيال والمبادرة، وللعمل الجماعى والفردى والاستفادة من كل طاقات الوطن المعطلة لأسباب سياسية بحتة، وحتى ذلك الحين (الإصلاح السياسي)، ستبقى مصر تنزف وسيبقى الجنيه يواصل تراجعه أمام الدولار وكل عملات الأرض، وسيتواصل الغلاء بلا توقف ويرتفع التضخم إلى مستويات جديدة كل يوم، وستتضخم الديون؛ لأن النظام لن يتوقف عن الاقتراض، وسيتحول التعويم (خفض الجنيه أمام الدولار) من سياسة التعويم بالصدمات إلى التعويم بالاستنزاف؛ بمعنى أن الجنيه سيواصل هبوطه باستمرار وسوف يبقى ينزف وينزف لأن مصر بلد هشة تأكل من زرع غيرها وترتدي ملابس مصنوعة بالخارج وسيارات مستوردة وكل شيء تستورده من الخارج؛ فهل لمثل هذا البلد فرصة في النهوض أو التقدم؟!
أمام هذا الوضع المعقد، فإن استمرار الوضع على ما هو عليه بنفس السياسات والأشخاص كفيل بإغراق البلاد في فوضى كبيرة؛ لأن التدهور سوف يستمر والغلاء سوف يتواصل والركود سوف يمتد والأسواق ستبقى مرتبكة على الدوام؛ حتى تصل الأوضاع إلى نقطة الانفجار، وقد تحدث في أي وقت لسبب تافه أو بسيط لأن عوامل الانفجار ومسبباته توافرت بشدة؛ ومع كثرة الجريمة وتفشي الفقر والجوع سوف يفقد النظام سيطرته على البلاد؛ وهو سيناريو كارثي في كل الأحوال.
والأجهزة العسكرية والأمنية تدرك أن نموذج السيسي قد فشل لكنها في ورطة كبرى بشأن البديل والطريقة التي يمكن بها الإطاحة به والبدء من جديد وفق منظومة جديدة وسياسات جديدة؛ لأن سياسة الحفاظ على النظام من التآكل بتغيير رأسه كما جرى مع مبارك، بات حلا لا يجدي؛ فالتغيير الذي ينقذ البلاد يستلزم تغيير السياسات والأشخاص.
وقد كان مقال عماد الدين أديب في 14 أغسطس 2022 عن سقوط بعض الأنظمة العربية خلال الشهور المقبلة على مقاس نظام السيسي تماما[[6]]؛ وهو في ذلك لا يعبر عن وجهة نظره بل الراجح أنه ينقل وجهة نظر وتحذيرات بعض الأجهزة في الدولة والتي ترى أن مآل نظام السيسي مع بقاء ذات السياسات هو السقوط الحتمي، وهو عين ما توصلت إليه مجلة فورين بوليسي الأمريكية في تحليل للكاتب ستيفين إيه كوك.[[7]]
————————–
[1][1] بيسان كساب/ انخفاض كبير في سعر الجنيه بعد رفع «المركزي» للفائدة/ مدى مصر ــ الإثنين 21 مارس 2022/// العملة المصرية تواصل الهبوط والدولار إلى 18.27 جنيهاً/ العربي الجديد ــ الإثنين 21 مارس 2022
[2] عادل صبري/ مصر: الدولار يكسر حاجز 30 جنيهاً في السوق الموازية/ العربي الجديد ــ الإثنين 05 ديسمبر 2022
[3] هناك شبه إجماع بين الخبراء والمختصين أن مصر سوف تشهد تعويمات أخرى وأن الجنيه سوف يتراجع بشدة خلال الأسابيع والشهور المقبلة. انظر: مدحت نافع/ هل نواجه تعويما جديدا في الطريق؟!/ بوابة الشروق ــ الإثنين 21 نوفمبر 2022// مصطفى عبد السلام/ التعويم القادم للجنيه المصري … متى الموعد؟/ العربي الجديد ــ الخميس 27 أكتوبر 2022// خالد المنشاوي/ هل يشهد 2022 خفضا جديدا للجنيه المصري مقابل الدولار؟/ إندبندنت عربية ــ الخميس 1 ديسمبر 2022 // ممدوح الولي/ تعويم الجنيه المصرى فى بحيرة شبه جافة/ الجزيرة مباشر ــ 03 نوفمبر 2022م// محمد مكى/ الاقتصاد لا يحيا بتعويم العملة فقط/ بوابة الشروق ــ السبت 26 نوفمبر 2022 // رويترز: مصر لم تتجاوز الأزمة رغم الاتفاق على قرض صندوق النقد/ العربي الجديد ــ الجمعة 25 نوفمبر 2022
[4] ممدوح الولي/ عجز الميزان التجاري السبب الرئيسي لمشكلة الدولار في مصر/ الجزيرة مباشر ــ الخميس 07 أبريل 2022م
[5] الدين الخارجي يرتفع 20 مليار دولار نهاية يونيو الماضي/ مدى مصر ــ الثلاثاء 11 أكتوبر 2022م
[6] عماد الدين أديب/14 سبباً لسقوط الحكّام والأنظمة!/ موقع أساس ميديا اللبناني ــ الأحد 14 آب ، أغسطس 2022
[7] فورين بوليسي الأمريكية: هل تؤدي الأزمة الاقتصادية المصرية إلى اندلاع ثورة جديدة؟/عربي بوست ــ 21 أغسطس 2022م