مع انطلاق فاعليات كأس العالم في قطر، ارتفعت حدة الجدل المثارة حول هذه النسخة من المونديال، هذا الجدل كان ذا شقين؛ الأول: جدل عربي-عربي حول الفاعليات والنشاطات التي صاحبت انطلاق مباريات البطولة، الشق الثاني: جدل عربي-غربي حول موقف الحكومة القطرية المنظمة من عدد من القضايا، وهي المواقف التي اعتبرتها حكومات ونخب غربية أنها مناهضة لحقوق الإنسان.
هذا الجدل المثار والذي ما يكاد يخبو حتى يستعيد ضجيجه، يثير الكثير من التساؤلات، حول دوافع هذا الجدل، وهل بالفعل تضمنت الفاعليات التي صاحبت انطلاق البطولة ما يستحق كل هذا الجدل والخلاف، ثم ما دوافع الدوحة لتنظيم هذه الفاعليات واتخاذ هذه الإجراءات التي أثارت كل هذا الضجيج، وهل هذا الضجيج يكشف عن تعنت قطري، وحال دون خروج البطولة في صورة أفضل.. هذه الأسئلة وغيرها نحاول مقاربتها من خلال هذه السطور.
أولاً: الجدل العربي-العربي:
دار الجدل العربي حول النشاطات الدعوية المتعددة التي صاحبت فاعليات البطولة الأكبر عالمياً؛ ومنها تدشين مركز عبد الله بن زيد آل محمود الثقافي الإسلامي التابع لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية القطرية مبادرة تهدف إلى تعريف جماهير كأس العالم 2022 بالإسلام من خلال مواد دينية مترجمة بلغات عدة[1]، فيما يشارك دعاة ومتطوعين من دول مختلفة، ويتكلمون لغات عدة، في الدعوة إلى الإسلام خلال فاعليات المونديال[2]، هذا فضلاً عن استخدام الجداريات التعريف بالدين الإسلامي للقادمين إلى كأس العالم.
“وتضمنت الجداريات أحاديث للنبي محمد عليه الصلاة والسلام عن الأخلاق والأعمال الصالحة وضرورة فعل الخير في الحياة الدنيا، بلغة عربية مرفقة بترجمة إنجليزية[3]“.
ومبادرات أخرى في السياق ذاته منها الرسمي ومنها التطوعي، مثل حملة يطلق عليه البعض “تجربة الحجاب خلال مونديال قطر”، وقد لقيت استجابة من مشجعات أقبلن على تجربة ارتداء الحجاب للمرة الأولى[4]، وغيرها من المبادرات الدعوية التي شهدتها فاعليات المونديال.
وحدوث جدل عربي حول النشاطات الدعوية كان غريبا في الحقيقة، فمن المفترض أن يأتي النقد لهذه النشاطات من جانب النخب الغربية، أو من جانب الجاليات التي أتت للاستمتاع بالبطولة، لكن ما حدث أن جل الجدل المثار حول النشاطات الدعوية التي أهتمت بتعريف الإسلام والحضارة العربية الإسلامية وتحسين صورة المسلمين أمام الجماهير المشاركة جاء من جانب نخب عربية، رأت في هذه النشاطات “إقحام الدين في بطولة رياضية”، و”تسطيح الدين وحصره بالحجاب”، ورياء وسخافة، كشفت عن “تناقض كبير في تفكير الدولة المضيفة والمدافعين عنها”، بل وتتسبب أيضاً في “فرض ثقافة وأسلوب واحد على الجميع”[5]، وذلك في مقابل وجهات نظر أخرى رأت في هذه الفاعليات “مهرجان للتعريف بالإسلام وتعاليمه”، و”تجربة لطيفة تصحح الأفكار المغلوطة التي شوهت صورة المرأة المحجبة خلال العقدين الأخيرين”[6].
ثمة ملاحظتين نشير إليهما بخصوص هذا الجدل؛ الأولى: أن حجم الجدل المثار بشأن النشاطات الدعوية التي صاحبت فاعليات البطولة أكبر بكثير من حجم النشاطات الدعوية نفسها. الثاني: لعل مما نفخ كثيراً في نار هذا الجدل المثار، أن تنظيم البطولة جاء في وقت يشهد حالة استقطاب واسعة بين الإسلاميين والعلمانيين في العالم العربي، استقطاب تغذى على الخلافات والتباينات التي تعاظمت بين الفريقين جراء فشل ما عرف باسم “ثورات الربيع العربي”، ويتغذى على الخوف والقلق واللايقين المهيمن عربياً جراء التداعيات الاقتصادية لفيروس كورونا ثم العدوان الروسي على أوكرانيا على كثير من دول وشعوب المنطقة، ويتغذى على وجود سياسات، تدعمها دول في المنطقة، تروج لخطاب معادي للإسلاميين –بل وللإسلام نفسه في كثير من الأحيان- يستهدف إقصاء الإسلام السياسي وغيره من صيغ الإسلام المقاوم ويفسح المجال لأنماط تدين جديد أكثر طواعية وقابلية للتوظيف من قبل هذه الدول. وعليه لو كنا في سياق آخر ما وجدنا كل هذا الجدل والتعنت بشأن النشاطات الدعوية التي صاحبت فاعليات مونديال قطر.
ثانياً: الجدل العربي-الغربي:
تعود الانتقادات الغربية لقطر، على خلفية تنظيمها لفاعليات كأس العالم، إلى ما قبل انطلاق فاعليات البطولة؛ فمنذ حصول الدوحة على حق استضافة المونديال عام 2010 لم يتوقف “سيل الانتقادات الموجهة لها، والتي تنوعت وفق كل مرحلة، ففي البداية وجهت اتهامات إلى مسؤولي الاتحاد الدولي لكرة القدم بالفساد، والسماح لقطر بشراء حق استضافة كأس العالم، وهي اتهامات لم يتم اثباتها”[7]، بعد إجراء التحقيقات اللازمة والتي لم تجد دليلا دامغا على ذلك[8].
بعدها رصدت منظمات وجماعات حقوقية ما اعتبرته “انتهاكات لحقوق المهاجرين وحقوق العمالة المشاركة في بناء ملاعب كرة القدم وغيرها من المرافق والمنشآت والبُنى التحتية اللازمة لتنظيم البطولة الرياضية”[9]، فانطلقت على أثر ذلك موجة انتقادات جديدة، وقد صاحب هذه الموجة انتقادات أخرى تتعلق بسجل قطر في مجال حقوق المرأة، وكذلك حقوق المثليين جنسيا.
الانتقادات الغربية لقطر، على خلفية استضافتها فاعليات كأس العالم، اتخذت طابعاً تعبوياً في أوروبا، فلم تقتصر الانتقادات على الصحافة والإعلام والمنظمات الحقوقية، بل اتسع ليشمل مسئولين حكوميين، وأندية رياضية ولاعبين، في مشهد سريالي[10] لا يخلو من طرافة. سريالياً كونه شارك فيه فئات شديدة الاختلاف والتنوع بصورة تعكس الكثير من الهوس، وطريف كونه كاشفاً عن التناقض الأوروبي، بل والتصالح مع هذه الشيزوفرانيا[11].
فوزيرة الداخلية الألمانية تصف استضافة الدوحة لكأس العالم بأنه “خادع للغاية”، مشددة على أنه “من الأفضل عدم منح شرف تنظيم البطولات لمثل هكذا دول”، وتنتج القناة الألمانية الأولى سلسلة وثائقية بعنوان “قطر ـ كأس العالم للعار”، ويدعو الرئيس السابق لرابطة الدوري الألماني، والمدير الرياضي السابق للعديد من الأندية الألمانية، أندرياس ريتيش، جماهير كرة القدم في ألمانيا إلى مقاطعة مباريات كأس العالم ما أمكن[12].
وفي فرنسا أعلنت عدة مدن امتناعها عن عرض مباريات كأس العالم على الشاشات العملاقة، احتجاجا على وضع حقوق الإنسان في قطر[13]، من ضمنها العاصمة باريس التي أعلنت عدم تخصص أماكن عامة للمشجعين من أجل مشاهدة فعاليات بطولة كأس العالم في قطر[14]، بينما نشرت مجلة فرنسية رسماً كاريكاتورياً لفريق كرة القدم القطري في “زي إرهابي”[15]؛ حيث صورتهم وهم يطيلون لحاهم ويرتدون عمامات أو أقنعة وجه، ويستلون سيوفاً وخناجر ومسدسات، وعلى وجوههم علامات الوحشية والغضب[16]، ولدعم توجهها، نشرت الصحيفة بجانب الرسم الكاريكاتوري تقريرا عن مزاعم “تمويل قطر لمنظمات إرهابية”، وظهر أيضا على الغلاف الرئيسي للصحيفة صورة كاريكاتورية تظهر مباني ملونة عملاقة وسيدات منتقبات بالزي الأسود وبجانبهن كرة القدم[17].
وفي لندن اتخذت هيئة النقل في العاصمة البريطانية قرار بحظر الإعلانات التي تروّج للسياحة في قطر على وسائل النقل العام في العاصمة[18]، أما هيئة الإذاعة البريطانية فقد تجاهلت عرض حفل افتتاح كأس العالم للمرة الأولى في تاريخها، بسبب وجوده في قطر، ولم تكتف هيئة الإذاعة البريطانية بتجاهل الحدث بأكمله، بل بثت فقرة -في الوقت ذاته- تنتقد “حقوق العمال في قطر”، وتسلط الضوء على “الفساد في الفيفا”، وتناقش “حظر المثلية الجنسية في قطر”[19].
وبصورة عامة، فقد رصد المجهر الأوروبي لقضايا الشرق الأوسط[20]، أن حملة تقودها جهات في أوروبا وعدد من الدول، تشن هجوماً غير مبرر ضد قطر[21].
وعلى صعيد المنتخبات واتحادات الكرة؛ فقد أصدر لاعبو المنتخب الأسترالي بيان مشترك يهاجم السجلّ الحقوقي للدولة المضيفة للمونديال، ويدعو الدوحة إلى تحسين معاملة العمّال الأجانب وحقوق أفراد مجتمع الميم[22].
أما الاتحاد الدنماركي فقد أعلن عن تصنيع زي رياضي للاعبين المشاركين في المسابقة باللون الأسود بالكامل إحياء لذكرى العمال المهاجرين الذين قضوا أثناء تشييد البُنى التحتية الرياضية[23].
كما أعلن قائد فريق منتخب إنجلترا لكرة القدم هاري كين إنه سوف يرتدي شارة ذراع تحمل ألوان الطيف عليها عبارة “حب واحد” كرمز لمعارضته التمييز في هذ الدولة التي تجرم ممارسات المثلية الجنسية[24].
فيما أعلن 7 منتخبات أوروبية تأهلت للمونديال، أن لاعبيها سيحملون «شارة الحب الواحد!»؛ بهدف إرسال رسالة بأن كرة القدم هي حب مشترك للجميع بغض النظر عن دينهم وثقافتهم وميولهم الجنسية، بينما يقول جاريث ساوثجيت مدرب المنتخب الإنجليزي: إن الهدف هو لفت أنظار العالم في المونديال إلى انتهاكات قطر لحقوق الإنسان، ومنها حقوق العمال المهاجرين، وكذلك للاعتراض على حظر قطر للمثلية.
وفي 19 نوفمبر التقت الفيفا قادة المنتخبات الأوروبية المشاركة، وعرضوا عليهم استبدال الشارة بشارة أخرى مماثلة مكتوب عليها «لا للتفرقة»[25]، لكنهم رفضوا أي شارة لا تحتوي على قوس قزح على الرغم من أنها ستؤدي نفس «المعنى»، لكنها لن تؤدي نفس «الغرض»[26].
لو حاولنا الاستفادة من التجربة التاريخية في فهم السلوك الغربي تجاه قطر بعد استضافتها المونديال، نجد أن ما حدث من جانب هذه الدول ليس جديداً، بل هو تعبير متكرر عن النرجسية والتمركز حول الذات، وعن ضيق بالاختلاف والتنوع، وهوس بفرض تصوراتهم وقيمهم على العالم أجمع باعتبارها القيم الأجدر بالتبني والاحتفاء دون غيرها، وعجز عن تفهم أو قبول أي طرح يباين الرؤية الغربية للعالم ويقدم منظومة أخلاقية تختلف عن المنظومة الأخلاقية الغربية.
لكن الجديد في الأمر، وإن كنا سبق شاهدناه في التعاطي الأوروبي مع الأزمة الأوكرانية، هو الصراخ الغربي والعويل على حقوق الإنسان المنتهكة، وعلى المثليين والمرأة والأقليات المهدرة حقوقهم.
صراخ صاخب وتجييش وتعبئة يكشفان عن حالة الضعف وفقدان الثقة التي بلغتها القارة العجوز، فقد باتت عواصم الشمال الغني لا تملك سوى الصراخ والصخب، وما عادت تملك من أدوات القوة ما يمكنها من تمرير قيمها وتصوراتها وتحقيق رغباتها في هدوء وسكينة دون أن ينطق أحد قادتها أو مسئوليها كما كانت تفعل في السابق، بل والأدهى أن هذه الدول باتت تتراجع وتغير موقفها إذا وجدت أنها غير مجدية؛ لذلك وجدنا الدول التي هاجمت قطر بسبب موقفها من قضايا حقوق الإنسان والمرأة والمثليين، تعود وتبتلع لسانها وتعرب عن إعجابها بالنجاح الكبير الذي حققته الدوحة في تنظيم البطولة.
وعلنا نتمكن من فهم هذه المواقف الغربية المتشنجة، إذا أدركنا أن أوروبا الغربية المتقدمة، لا تزال تحتفظ بتصورها الاستعماري القديم عن العالم، ولم تدرك بعد أن لدى الآخرون ما يمكنهم تقديمه، وأن غير الأوروبي قادر على الكلام، ولديه ما يقوله مما يختلف عما هو سائد في ممالك الجليد في الشمال الأوروبي.
ثالثاً: أهداف الحرص القطري على التقاليد الإسلامية في المونديال:
في البدء كانت السلطة، وتأتي السياسة تالياً، فالسلطة في جوهرها معنية بالحفاظ على بقائها، قد تتبنى سياسات رشيدة، وقد تلتزم سياسات خرقاء، لكن في النهاية يظل هم البقاء هو الهاجس الكامن في قلب أي سلطة، مهما بدت اخلاقية ورشيدة.
تسهم الديمقراطية في تخفيف فوبيا السلطة من مآل التفكك؛ فهي تُمأسس السلطة عبر فتح المجال لتداول الحكم، أما السلطة المغلقة على نخبة حكم لا تتبدل، نجدها مسكونة بخوف لا فكاك منه من كل ما حولها.
يعتقد ناثان براون أن لدى الأنظمة ثلاثة انشغالات في الحقل الديني، الأول، أنها ترغب بالحصول على الدعم لسياستها وأيديولوجياتها. ثانياً، أنها تسعى إلى منع مناوئيها السياسيين من استخدام الحيّز الديني لتعبئة الأتباع بهدف تحقيق أجنداتهم.
وإذا ما عجزت الأنظمة عن ذلك، تسعى حينذاك إلى مراقبة مثل هذه النشاطات. ثالثاً، الدين بوصفه ساحة حرب لمواجهة التطرّف العنفي، وعلى المؤسسات الدينية للدولة كسلاح يمكن توظيفه في هذه المعركة[27].
هذه الاعتبارات نجدها كذلك في خلفية الموقف القطري من حضور الدين في المونديال. بالتأكيد هناك دور تلعبه قناعات القيادة السياسية واختياراتها الدينية، لكن القناعات الدينية الشخصية للقيادات السياسية، لا يعني أن هناك سياقات أعطت معنى خاص لهذه القناعات.
فإذا ذهبنا نطبق هذه الفرضيات على قضية حرص قطر على حضور الدين خلال فاعليات المونديال، وجدنا أن هناك سياقات يمكن تضفي معاني سياسية على هذا الحرص، هذه السياقات هي، (1) علاقة قطر مع جيرانها: تاريخياً، وجدت قطر نفسها ساحة لصراع القوى الإقليمية؛ فهي “تتمركز منتصف مثلث من الإمبراطوريات والسلطات المحتملة مع عُمان في الجنوب، وإيران في الشرق، والجزيرة العربية في الغرب، والبحرين الأكثر ثراءً والتي لا تكف عن محاولة لعب دور مُحرّك الدمى من الشمال[28]“.
وفي ظل الخطورة التي يمثلها هذا المحيط الجغرافي تدرك قطر أنها في حاجة ماسة إلى أوراق قوة تضمن لها الحفاظ على أمنها ومصالحها، وتساعدها في لعب أدوار هامة بالمنطقة، رعاية النشاطات الدينية أحد هذه الأوراق؛ خاصة مع توجه القيادة السعودية صوب تقليص دعمها للقوى الدينية ومحاولة بناء هوية جديدة يقل فيها حضور المكونات السلفية الوهابية ويزيد فيها منسوب الانفتاح على القيم والثقافة العلمانية، وهو ما يسمح لقطر بالتمدد في المساحات والأنشطة التي انسحبت منها السعودية، وتقديم نفسها باعتبارها راعية الإسلام المحافظ المقبول بصورة واسعة في المجتمعات العربية.
وفي الحقيقة هذه القراءة ليست جديدة، فمن المراقبين من افترض مبكراً أن قطر تحاول الاستحواذ على الوهابية، وأنها تسعى إلى احتلال مكان تركه السعوديون، وأنه في عام 2011، أو قبله بقليل بدأت الدوحة محاولاتها الاستحواذ على السلفية؛ “عبر نشاط كبير في السعي إلى استقطاب الوعاظ السعوديين، حتى أولئك المحسوبين على التيار السروري بحكم أنهم أقرب للسلفية من فصيل الإخوان المسلمين”[29].
(2) على الصعيد المنطقة ككل: حرص قطر على حضور الدين ودعم النشاطات الدينية والدعوية يضمن لها نتيجتين؛ الأولى: يساعدها في تدعيم قوتها الناعمة؛ فهو يقدم الدوحة للمجتمعات العربية باعتبارها حامية لقضية الإسلام وداعمة له، خاصة مع اتجاه دول في المنطقة صوب دعم اتجاهات دينية، نخبوية، أكثر تطبيعاً مع الترتيبات السياسية التي تتبناها هذه الدول، وأكثر طواعية للتوظيف، وأقل شعبية في المجتمعات العربية، وخاصة في ظل جو عام يخيم عليه تقليص حضور الدين في المجال العام. النتيجة الثانية: يسمح للدوحة بنسج علاقات طيبة مع القوى الدينية الرسمية وغير الرسمية، ومع المتدينين عموماً[30]، وهو ما يضمن لها لعب أدوار كبيرة في إرساء الترتيبات السياسية في المنطقة.
(3) على الصعيد العالمي: حضور الإسلام بقيمه وتصوراته ورموزه، وتسليط الضوء على الذات الحضارية للمنطقة، والحرص على عدم ظهور النسخة القطرية من المونديال باعتبارها مجرد تقليد باهت للنسخ الأوروبية من البطولة، يحمل في طياته إدراك الحكومة القطرية المبكر لـ “أهمية وقوة ما يسمى (السلطة الرابعة) و(السلطة الناعمة) soft power، في النظام العولمي، بداية في مشروع قناة الجزيرة، ثم في الاستثمار في الرياضة الأكثر شعبية في العالم[31]“؛ فبحسب مسئول قطري، فإن الدوحة تتعامل مع بطولة كأس العالم التي تُقام على أراضيها باعتبارها أكبر بكثير من مجرد حدث رياضي، وأنها ستكون بمنزلة “قاعدة انطلاق تسويقية” كبرى لقطر في المستقبل القريب والبعيد[32].
الخاتمة:
أثيرت الكثير من الجدالات على خلفية استضافة قطر لبطولة كأس العالم؛ جدالات أثيرت في المجال العمومي العربي، حول النشاطات الدعوية والمظاهر الدينية التي صاحبت فاعليات البطولة، وجدالات أثيرت على خلفية الخطاب الغربي المناهض لاستضافة قطر للبطولة، والمندد بما أعتبره انتهاك لحقوق العمال وحقوق الإنسان، وإهدار لحقوق المرأة والمثليين من جانب الدوحة.
الجدالات العربية ساهم في تأجيجها غلبة مناخ الاستقطاب على الفضاء العام العربي؛ خاصة مع التداعيات السلبية لفيروس كورونا، وأزمة أوكرانيا، على كثير من شعوب المنطقة، ومع تفشي القلق واللايقين بشأن المستقبل بين أبناء المنطقة.
أما الخطاب الغربي المناهض لقطر ولحقها في استضافة البطولة، فهو في كثير منه تعبير عن الضجيج والصريخ الذي بات يصم السلوك الأوروبي في الآونة الأخيرة، فهو صخب أكثر منه حوار هادئ بخصوص قضايا المرأة والمثليين وحقوق الإنسان، ما يعكس عجز كثير من دول ونخب الشمال المتقدم عن رؤية التغيير الذي حدث في العالم، فما عاد تنظيم الفاعليات الكبيرة حكراً على دول أوروبا، وما عادت الرؤية الاستشراقية المتعالية قادرة على فهم العالم وشعوبه. فهذا الخطاب النرجسي لا يعكس اهتمام غربي حقيقي بحقوق الإنسان، إنما يعكس عجز هذه الدول وكثير من نخبها عن قبول الاختلاف والتسامح معه، وما حقوق الإنسان إلا كأوراق اللعب التي توظف لتحقيق مصالح هذه الدول.
بالتأكيد القناعات الدينية للنخب السياسية لها تأثير على قراراتهم ومواقفهم، لكن هذا لا ينفي أن كل سلوك سياسي له نتائجه، حتى لو كان لجوء الفاعل السياسي لهذه السلوك نابع من قناعاته الدينية والقيمية، في هذا السياق فإن حضور الدين ورموز الحضارة الإسلامية وملامح الخصوصية العربية، يحقق لقطر عدة نتائج هامة؛ فهو يضمن لها الحفاظ على أمنها ومصالحها، ويساعدها في لعب أدوار هامة بالمنطقة، وفي تدعيم قوتها الناعمة، ويعكس إدراك الحكومة القطرية المبكر للقوة الناعمة، فهي تتعامل مع البطولة المقامة على أراضيها باعتبارها “قاعدة انطلاق تسويقية” كبرى لقطر في المستقبل القريب والبعيد.
——————————–
[1] الجزيرة مباشر، رسائل بـ6 لغات.. مركز قطري يطلق مبادرة لتعريف جماهير المونديال بالإسلام، 19 نوفمبر 2022، شوهد في: 7 ديسمبر 2022، الرابط: https://tinyurl.com/2hshvjg6
[2] الجزيرة مباشر (يوتيوب)، بلغات عدة.. قطر تدشن جناحا للتعريف بالإسلام والدعوة إليه في كأس العالم، 10 نوفمبر 2022، شوهد في: 7 ديسمبر 2022، الرابط: https://tinyurl.com/2zpf2s77
[3] الجزيرة مباشر، رسائل بـ6 لغات.. مركز قطري يطلق مبادرة لتعريف جماهير المونديال بالإسلام، مرجع سابق.
[4] BBC عربي، قطر وكأس العالم: دلع المفتي تنتقد “تجربة الحجاب” في المونديال وتجدد النقاش حول صراع الحضارات، 27 نوفمبر 2022، شوهد في: 7 ديسمبر 2022، الرابط: https://tinyurl.com/2m8ggotj
[5] المرجع السابق.
[6] المرجع السابق.
[7] BBC عربي، كأس العالم 2022: هل هناك مبررات للانتقادات لقطر أم أنها لا تخلو من التحامل؟، 30 أكتوبر 2022، شوهد في: 8 ديسمبر 2022، الرابط: https://tinyurl.com/2htmod4p
[8] BBC عربي، كأس العالم 2022: لماذا تعتبر استضافة قطر للمونديال أمرا مثيرا للجدل؟، 1 أبريل 2022، شوهد في: 8 ديسمبر 2022، الرابط: https://tinyurl.com/2jj9hoth
[9] BBC عربي، كأس العالم 2022: هل تنجح الدوحة في احتواء انتقادات ملف حقوق العمال قبل المونديال؟ – الغارديان، 4 أكتوبر 2022، شوهد في: 8 ديسمبر 2022، الرابط: https://tinyurl.com/2kc44nof
[10] السريالية عبارة عن حركة عبثية فوضوية في مجال الفن والأدب عموما، للتعبير عن روح التمرد والغضب، وقد تشكلت بشكل عفوي أو عشوائي كرد فعل على مجازر الحرب العالمية الأولى. فهي تعني الواقعيّة الفائقة، وهي تحدٍّ للمنطق من خلال إلهام الأحلام وطُرق عمل العقل الباطن. أنظر: https://tinyurl.com/2pp455qc أيضاً: https://tinyurl.com/2mnecjsg
[11] الشيزوفرانيا أو الفصام اضطراب عقلي شديد يفسر فيه الأشخاص الواقع بشكل غير طبيعي. أنظر: https://tinyurl.com/2qtqpvm7
[12] دويتش فيلة، ألمانيا قٌبيل مونديال قطر.. حضور الانتقادات وغياب الحماس، 7 نوفمبر 2022، شوهد في: 8 ديسمبر 2022، الرابط: https://tinyurl.com/2g3zbs6k
[13] فرانس 24، مونديال 2022: وسائل إعلام قطرية ترد على انتقادات أوروبية للدوحة بشأن حقوق الإنسان، 10 أكتوبر 2022، شوهد في: 8 ديسمبر 2022، الرابط: https://tinyurl.com/2o83fy4f
[14] CNN بالعربية، انتقادات بشأن إعلان باريس عدم تخصيص أماكن عامة لمشاهدة مونديال قطر، 5 أكتوبر 2022، شوهد في: 8 ديسمبر 2022، الرابط: https://tinyurl.com/2mm9fbsr
[15] دويتش فيلة، انتقادات غربية لقطر تثير تساؤلات..هل تحركها صور نمطية؟، 28 نوفمبر 2022، شوهد في: 8 ديسمبر 2022، الرابط: https://tinyurl.com/2em5eykq
[16] الميادين، رسم كاريكاتوري فرنسي يحرّض ضد لاعبي منتخب قطر ويتهمهم بالإرهاب، 10 نوفمبر 2022، شوهد في: 8 ديسمبر 2022، الرابط: https://tinyurl.com/2e5pffq2
[17] الأناضول، صحيفة فرنسية تخصص عددا يصور لاعبي قطر “إرهابيين”، 8 نوفمبر 2022، شوهد في: 8 ديسمبر 2022، الرابط: https://tinyurl.com/2ghfrfln
[18] عربي بوست، كأس العالم 2022.. هل تتراجع بريطانيا عن انتقاد قطر بعد تلويح دول الخليج بسحب الاستثمارات؟، 29 نوفمبر 2022، شوهد في: 8 ديسمبر 2022، الرابط: https://tinyurl.com/2graufem
[19] الجزيرة نت، انتقادات لوسائل إعلام غربية بعد تجاهلها عرض حفل افتتاح مونديال قطر، 21 نوفمبر 2022، شوهد في: 8 ديسمبر 2022، الرابط: https://tinyurl.com/2lp7tddq
[20] مرصد يعرف نفسه بأنه مؤسسة أوروبية تعنى برصد تفاعلات قضايا الشرق الأوسط في أوروبا.
[21] القدس العربي، مرصد أوروبي يفضح الحملة الغربية ضد قطر قبيل المونديال، 8 نوفمبر 2022، شوهد في: 8 ديسمبر 2022، الرابط: https://tinyurl.com/2qz2qga4
[22] ميدل ايست أون لاين، قطر تستنفر في مواجهة انتقادات حقوقية تسبق المونديال، 27 أكتوبر 2022، شوهد في: 8 ديسمبر 2022، الرابط: https://tinyurl.com/2qnq83yf
[23] BBC عربي، كأس العالم 2022: هل تنجح الدوحة في احتواء انتقادات ملف حقوق العمال قبل المونديال؟ – الغارديان، 4 أكتوبر 2022، شوهد في: 8 ديسمبر 2022، الرابط: https://tinyurl.com/2kc44nof
[24] المرجع السابق.
[25] جدير بالذكر أن كتيب «قوانين اللعبة»، طبعة 2022/ 2023، الذي يصدره مجلس الاتحاد الدولي لكرة القدم (IFAB)، القانون الرابع الذي يخص لباس اللاعبين: نصت الفقرة الخامسة على: يجب ألا تحمل المعدات أي شعارات أو بيانات أو صور سياسية أو دينية أو شخصية، كما يجب على اللاعبين عدم الكشف عن الملابس التحتية التي تحمل أي شعارات أو بيانات أو صور سياسية أو دينية أو شخصية أو إعلانات غير شعار الشركة المصنعة وفي حالة مخالفة هذا فإنه يتم معاقبة اللاعب أو الفريق من قبل منظم المنافسة أو الاتحاد الوطني لكرة القدم أو الاتحاد الدولي لكرة القدم. أنظر: متعب بن خلف العتيبي، كأس العالم وشغب المثلية، الوطن السعودية، 1 ديسمبر 2022، شوهد في: 7 ديسمبر 2022، الرابط: https://tinyurl.com/2etbj5m2
[26] متعب بن خلف العتيبي، كأس العالم وشغب المثلية، الوطن السعودية، 1 ديسمبر 2022، شوهد في: 7 ديسمبر 2022، الرابط: https://tinyurl.com/2etbj5m2
[27] ناثان براون، الإسلام الرسمي في العالم العربي: التنافس على المجال الديني، مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، 11 مايو 2017، في: https://tinyurl.com/y5uzw72z
[28] عبد الجواد عمر، قطر الصغرى الكبرى (1): الاقتصاد السياسي «للاستقواء بالأجنبي»، حبر، 17 أكتوبر 2021، في: https://tinyurl.com/2hvdanog
[29] خالد العضاض، المؤسسة الدينية في قطر تحالف سلفي إخواني رغم التنافر، الوطن، 27 أبريل 2020، شوهد في: 7 ديسمبر 2022، الرابط: https://tinyurl.com/2l43gq8o
[30] علي بكر، الخطاب الديني في قطر: السلفية في خدمة الإسلام السياسي، مركز المسبار للدراسات والبحوث، 26 مارس 2018، شوهد في: 7 ديسمبر 2022، الرابط: https://tinyurl.com/2ol8umaj
[31] هيثم مناع، حقوق الناس والمونديال.. في فهم سر الهجوم الغربي على قطر، عربي 21، 26 نوفمبر 2022، شوهد في: 7 دسمبر 2022، الرابط: https://tinyurl.com/2f8spybe
[32] عماد أبو الفتوح، أكبر من مجرد حدث رياضي.. كيف استعدت قطر لكأس العالم؟ وما الذي تأمل تحقيقه؟، الجزيرة نت، 31 أكتوبر 2022، شوهد في: 7 ديسمبر 2022، الرابط: https://tinyurl.com/2z5f3f3b