يشهد السودان فصلًا جديدًا من فصول الانتقال السياسي في البلاد، بعد التوقيع على اتفاق إطاري بين قوى معارضة رئيسية وقادة الجيش يوم الاثنين 5 ديسمبر، لبدء مرحلة من المُفترض أن يقودها مدنيون تنتهي بإجراء انتخابات، ووقَّع نحو أربعين حزبًا ونقابة مهنية على الاتفاق، من بينها قوى الحرية والتغيير مجموعة المجلس المركزي وفصائل مسلحة وأحزاب سياسية ذات توجهات مختلفة، بينما وقَّع عن المكون العسكري قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو، وفيما يلي قراءة لأهم بنود هذا الاتفاق، والمواقف المختلفة منه، والملاحظات عليه، والمخاطر المُتوقَّعة منه..
أولًا: الاتفاق والمواقف المختلفة منه:
بحسب ما كشفت عنه قوى الحرية والتغيير الطرف المدني الموقع على الاتفاق؛ فإن أبرز بنوده تتلخص في:
أولًا؛ تسليم السلطة الانتقالية إلى سلطة مدنية كاملة دون مشاركة القوات النظامية؛ وتتكون من مستوى سيادي مدني محدود، بمهام شرفية، يُمثِّل رأسًا للدولة، ورمزًا للسيادة، وقائدًا أعلى للأجهزة النظامية؛ ومستوى تنفيذي يرأسه رئيس وزراء مدني تختاره القوى الموقعة على الاتفاق، إضافةً إلى مجلس تشريعي وآخر للأمن والدفاع يرأسه رئيس الوزراء ويضم قادة الأجهزة النظامية و6 من حركات الكفاح المسلح الموقعة على سلام جوبا.
ثانيًا؛ النأي بالجيش عن السياسة وعن ممارسة الانشطة الاقتصادية والتجارية الاستثمارية؛ ودمج قوات الدعم السريع والحركات المسلحة في الجيش وفقًا للترتيبات التي يتم الاتفاق عليها لاحقًا في مفوضية الدمج والتسريح ضمن خطة إصلاح أمني وعسكري يقود إلى جيش مهني وقومي واحد.
ثالثًا؛ إصلاح جهازي الشرطة والمخابرات ووضعهما تحت رئاسة رئيس مجلس الوزراء، وحصر مهام جهاز المخابرات على جمع المعلومات وتحليلها وتقديمها للجهات المختصة وتجريده من سلطة الاعتقال أو الاحتجاز.
رابعًا؛ إصلاح الأجهزة العدلية بما يُحقِّق استقلاليتها ونزاهتها؛ وإطلاق عملية شاملة تحقق العدالة الانتقالية تكشف الجرائم وتحاسب مرتكبيها وتنصف الضحايا وتبرئ الجراح وتضمن عدم الإفلات من العقاب وعدم تكرار الجرائم مرة أخرى.
خامسًا؛ تنفيذ اتفاق سلام جوبا مع تقييمه وتقويمه بين السلطة التنفيذية وشركاء الاتفاق وأطراف الإعلان السياسي واستكمال السلام مع الحركات المسلحة غير المُوقِّعة.
سادسًا؛ إزالة تمكين نظام 30 يونيو 89 وتفكيك مفاصله في كافة مؤسسات الدولة، واسترداد الأموال والأصول المنهوبة، ومراجعة القرارات التي بموجبها تم إلغاء قرارات لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989.
سابعًا؛ إطلاق عملية شاملة لصناعة الدستور، تحت إشراف مفوضية “صناعة الدستور”، للحوار والاتفاق على الأسس والقضايا الدستورية وبمشاركة كل أقاليم السودان.
ثامنًا؛ تنظيم عملية انتخابية شاملة بنهاية فترة انتقالية مدتها 24 شهر على أن يتم تحديد متطلباتها والتحضير لها في الدستور الانتقالي، لتكون ذات مصداقية وشفافية وتتمتع بالنزاهة.[1]
- هياكل السلطة الانتقالية والأجهزة النظامية وفقًا للاتفاق: تتكوَّن هياكل السلطة الانتقالية بحسب ما نص عليه الاتفاق الإطاري من مستوى سيادي ومجلس وزراء ومجلس تشريعي وهي مؤسسات مدنية بالكامل. تمثيل النساء في المجلس التشريعي بنسبة 40%. المستوى السيادي سيكون مدنيًا ومحدود العدد بمهام شرفية. يتشكَّل مجلس الأمن والدفاع برئاسة رئيس الوزراء وعضوية الوزارات ذات الصلة وقادة الأجهزة النظامية، وتتشكَّل المفوضيات المستقلة والمتخصصة والمجالس العدلية والنيابية. أما الأجهزة النظامية؛ فيأتي في مقدمتها القوات المسلحة، وقوات الدعم السريع، وقوات الشرطة، وجهاز المخابرات العامة. القوات المسلحة وفق ما نص عليه الاتفاق الإطاري هي مؤسسة نظامية قومية غير حزبية وبعقيدة تلتزم بالنظام الدستوري والمدني، وتضطلع القوات المسلحة بمهامها وفق ما نص عليه قانونها، وعليها كذلك تنفيذ المهام الواردة بالاتفاق الإطاري مثل تنفيذ السياسات المُتعلِّقة بالإصلاح الأمني والعسكري وفق خطة الحكومة الانتقالية. يتضمَّن الإصلاح أن تدمج في القوات المسلحة قوات الدعم السريع وفق الجداول الزمنية المتفق عليها، كذلك دمج قوات الحركات المسلحة وفقًا لبند الترتيبات الأمنية الوارد في اتفاقية جوبا. حظر تكوين ميليشيات عسكرية أو شبه عسكرية، مع حظر مزاولة القوات المسلحة الأعمال الاستثمارية والتجارية ما عدا تلك التي تتعلق بالتصنيع الحربي والمهمات العسكرية.[2]
- المواقف الداخلية من الاتفاق: أثار الاتفاق جدلًا وانقسامًا كبيرًا في الشارع السوداني بين رافض كليًا ومتحفظ ومؤيد. أما الرافضون؛ فتضم قائمة الرافضين مجموعات متباينة فكريًا وسياسيًا وعلى رأسهم التيار الإسلامي العريض والحزب الشيوعي وتجمُّع المهنيين الأصل والحزب الاتحادي الديمقراطي بزعامة محمد عثمان الميرغني؛ إضافةً إلى حركات مسلحة مُوقِّعة على اتفاق السلام السوداني. كما أكَّدت بعض لجان المقاومة رفضها لأي اتفاق مع المكون العسكري، ودعا الناشطون المنادون بالديموقراطية ويرفضون “أي تفاوض وأي شراكة” مع الجيش الى تظاهرات احتجاجًا على الاتفاق. واعترض على الاتفاق كذلك بعض قادة حركات التمرد السابقين الذين وقَّعوا في 2020 اتفاقًا مع الجيش ودعموه عقب انقلاب العام الماضي.[3] كما لم يُبدِ الأمين السياسي للمجلس الأعلى لنظارت البجا سيد على أبو آمنة أي تفاؤل في أن يقود الاتفاق السياسي الإطاري إلى معالجة مسار الشرق وقضيته من خلال المراجعة المشار إليها لاتفاق جوبا لسلام السودان، مؤكدًا رفضهم من حيث المبدأ لأن يتوافق بعضهم على حكم البلاد من دون أصحاب المصلحة في إقليم البجا، ثم بعد أن يحكموا يجلسوا ليحلوا مشكلته، معتبرًا أي اتفاق لا يكونوا جزءًا منه لا يعنينهم، بل يُمثِّل امتدادًا لفكرة الدولة المركزية. وجدَّد التمسك بقرارات مؤتمر سنكات بوصفها تضمن الحقوق العادلة لهم وكذلك حق تقرير المصير، مؤكدًا عدم قبولهم بأي اتفاق لا يشمل مجلس البجا وقرارات مؤتمر سنكات. وشدَّد على أنهم فيما عدا ذلك؛ سوف يقاومون أي اتفاق إقصائي كهذا، وسوف ينزعون إلى الاستقلال ولو أجبروا على الحرب، على حد قوله.[4] وقد تظاهر عدة آلاف بالعاصمة الخرطوم احتجاجًا على الاتفاق، وحدثت مواجهات بين بعضهم وقوات الأمن التي أطلقت قنابل الغاز المسيل للدموع وقنابل الصوت على بعد نحو كيلومترين من مكان توقيع الاتفاق في القصر الرئاسي.[5] وأما المؤيدون؛ فتتمثَّل الأطراف المُوقِّعة في قيادتي الجيش والدعم السريع، وقوى الانتقال المُكوَّنة من قوى الحرية والتغيير -المجلس المركزي- وجماعتي المؤتمر الشعبي المُنفصل عن المؤتمر الوطني، إضافةً إلى عدد من لجان المقاومة. وبالنسبة للمتحفظين؛ تحفظ حزب البعث العربي الاشتراكي العضو في قوى الحرية والتغيير على الاتفاق وأعلن انسحابه من التوقيع عليه مع مشاركته في الاجتماعات والمناقشات التي سبقت عملية التوقيع.[6]
- أسباب رفض ودعم القوى الوطنية للاتفاق: لم يتطرق الاتفاق الإطاري إلى التفاصيل الخاصة بخمس قضايا رئيسية، في مقدمتها العدالة والعدالة الانتقالية، وتفكيك نظام البشير، وتعديل اتفاق السلام الموقع بين الحكومة والحركات المسلحة عام 2020، وإصلاح القطاع الأمني والعسكري، عدا إيجاد حل للأزمة المتفاقمة في شرق السودان (الاشتباكات القبلية والإغلاقات).[7] ولذا؛ يقول الرافضون من القوى التي شاركت في الحراك الذي أدى لإسقاط نظام البشير إن الاتفاق لم يحسم بشكل واضح مسألة إبعاد الجيش عن السلطة، وتجاهل قضايا العدالة وتفكيك التمكين؛ فيما ترى عدد من لجان المقاومة أن الاتفاق لا يتسق مع اللاءات الثلاثة المرفوعة في الشارع والتي تتحدَّث عن عدم المشاركة أو التفاوض مع القيادة العسكرية الحالية. وفي الجانب الآخر تقول جماعة الإخوان والمجموعات الصغيرة المتحالفة معها إن الاتفاق يُكرِّس لعلمانية الدولة. بينما يؤكد الداعمون أن الاتفاق يرسي دعائم الحكم المدني الذي يطالب به الشارع، ويؤدي إلى إعادة استقرار البلاد والانفتاح مُجددًا نحو المجتمع الدولي وينفون بشكل قاطع عدم اتساقه مع مطالب الشارع، ويشيرون إلى أنه سيكون مفتوحًا لإبداء الملاحظات والحوار حول القضايا الخلافية وصولًا إلى الاتفاق النهائي.[8]
- المواقف الخارجية من الاتفاق: من جانبه، رحب ستيفان دوجاريك المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بتوقيع الاتفاق السياسي الإطاري، وأعرب عن أمله في أن يؤدي الاتفاق للعودة إلى قيادة مدنية في البلاد. وكان الممثل الأممي في السودان فولكر بيرتس قال إن توقيع الاتفاق السياسي الإطاري بين قوى مدنية ومجلس السيادة جاء ثمرة جهود الأطراف السودانية لإيجاد حل للأزمة وإعادة النظام الدستوري. ودعا فولكر المجتمع الدولي للاستمرار في دعم العملية السياسية في السودان. كما رحَّبت الخارجية الأميركية بتوقيع الاتفاق الإطاري في السودان، واعتبرته خطوة نحو تشكيل حكومة انتقالية بقيادة مدنية. كما رحَّب مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بالتوقيع على اتفاق الإطار السياسي في السودان، وأثنى على الجهات الفاعلة التي وقَّعته. وأوضح بوريل أن الاتحاد الأوروبي كان داعمًا قويًا للآلية الثلاثية المشتركة بين بعثة الأمم المتحدة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان والاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية. وأكَّد على أهمية مضاعفة الجهود لتشكيل حكومة انتقالية مدنية شاملة يمكنها إجراء انتخابات حرة ونزيهة وذات مصداقية.[9] كما رحَّبت المجموعة الدولية (النرويج والسعودية والإمارات والمملكة المتحدة والولايات المتحدة) بالاتفاق كخطوة أولى أساسية باتجاه إنشاء حكومة بقيادة مدنية وتحديد ترتيبات دستورية لتوجيه السودان عبر مرحلة انتقالية تفضي إلى إجراء انتخابات. وجاء في البيان المشترك، الذي أوردته وزارة الخارجية الأمريكية “ندعو كافة الأطراف إلى وضع المصلحة الوطنية السودانية فوق الغايات السياسية الضيقة. ونؤيد بشكلٍ كامل دور الآلية الثلاثية (بعثة الأمم المتحدة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (يونيتامس) والاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية لتنمية وسط وشرق إفريقيا (إيجاد) في تسهيل هذه المفاوضات وندعو كافة الأطراف إلى أن تحذو حذوها”. وقالت المجموعة في البيان “من الضروري بذل جهود متضافرة لإنهاء المفاوضات والتوصُّل سريعًا إلى اتفاق لتشكيل حكومة جديدة بقيادة مدنية”.[10] وكانت الآلية الثلاثية قد استبقت توقيع الاتفاق بلقاءات مع كلٍّ من عبد الواحد نور رئيس حركة جيش تحرير السودان وعبد العزيز آدم الحلو رئيس الحركة الشعبية لتحير السودان (شمال)، إلى جانب رئيس لجنة الوساطة الجنوبية في ملف سلام السودان توت قلواك. جاء لقاء الآلية الثلاثية مع الحركتين ورئيس لجنة الوساطة، بغرض إبراز جهودها في إنجاح العملية السياسية والاستماع لرؤيتهما بشأن حل الأزمة السياسية ومقاربتها ما بين العملية السياسية واستكمال تحقيق السلام الشامل في السودان.[11] كما رحَّبت مصر في بيان صادر عن وزارة خارجيتها بالتوقيع على الاتفاق، مؤكدةً على أنه يُعد خطوة هامة ومحورية لإرساء المبادئ المتعلقة بهياكل الحكم في السودان. كما أعربت مصر عن دعمها الكامل للاتفاق، واستعدادها للتعاون مع مختلف الأطراف السودانية في جهودها للبناء عليه وصولاً لاتفاق نهائي يُحقِّق تطلعات الشعب السوداني، ويُعزِّز من دور السودان الداعم للسلام والاستقرار في المنطقة والقارة الإفريقية -وفقًا للبيان-.[12] ويأتي هذا الموقف الدولي والإقليمي الداعم للاتفاق في إطار السعي الدولي والإقليمي لحل الأزمة في السودان لما لها من أهمية في المنطقة، مع الدعم الكامل من هؤلاء للمكون العسكري وتحركاته.
ثانيًا: قراءة في بنود الاتفاق:
من المُلاحظ بشكلٍ عام أنه قد غلب على بنود وثيقة الاتفاق طابع الإرجاء وغياب الحسب، والذي تمثَّل في إحالة المهام الانتقالية الرئيسية إلى فترات زمنية تالية، أو رهنها بإحراز المزيد من التقدم السياسي على مستوى توسيع قاعدة التوافق أو إحراز الحكومة الجديدة نجاحات ملموسة في المستقبل القريب. فبينما أقر الاتفاق الإطاري مدة زمنية محددة تقدر بعامين تنتهي بعدها المرحلة الانتقالية، إلا أن صياغة النص بدأت في حساب العامين بتولي رئيس الوزراء الجديد مهام منصبه، وهو ما يعني أن امتداد الخلاف بشأن تسمية رئيس الوزراء بين القوى السياسية المختلفة سيطيل أمد المرحلة الانتقالية بصورة آلية.
وفي ظل شغور منصب رئيس الوزراء في السودان لنحو 14 شهرًا منذ قرارات البرهان في أكتوبر 2021 وما تلاها من خلافات عميقة بشأن تسمية رئيس وزراء جديد، قد تمتد المرحلة الانتقالية في السودان لعام 2025 بما يؤهلها لأن تصبح المرحلة الانتقالية الأطول بين مختلف التجارب الإفريقية. وعلى المستوى الموضوعي، يتجلى المظهر الأبرز لغياب الحسم في الإحالة المتكررة لوثيقة تالية هي الدستور، حيث وضع الاتفاق عملية صناعة الدستور تحت إشراف مفوضية دستورية من بين قضايا ومهام الانتقال من دون أن يحسمها بالقدر الكافي.
فعلى الرغم من عدم النص على ذلك صراحةً، إلا أن المقصود ضمنًا ليس مجرد التوافق بشأن الدستور الدائم الذي سيحكم البلاد في أعقاب انتخاب سلطة مستقرة في نهاية المرحلة الانتقالية، وإنما سيهتم الدستور الجديد كذلك بعدد من المهام التي تدخل في إطار الترتيبات الانتقالية، وذلك على نحو ما يرد في مواد لاحقة، كتلك التي تحدد هياكل السلطة الانتقالية وتنص على أن يحدد الدستور مهام وحجم ومعايير اختيار أعضاء المجلس التشريعي الانتقالي القومي، وكذلك الحال بالنسبة للحكومات الإقليمية أو الولائية والمحلية ومجلس الأمن والدفاع والمجلس العدلي المؤقت.
كذلك، اعترفت الوثيقة في بابها الأخير بأربع قضايا لم تتمكن من معالجتها، ولا تزال بحاجة للعمل على “تطوير الاتفاق الإطاري” وفق النص الوارد، وهي قضايا العدالة والعدالة الانتقالية، والإصلاح الأمني والعسكري، واتفاق جوبا وإكمال السلام، وتفكيك نظام الإنقاذ، وذلك في ظل الحاجة لمشاورات موسعة تشمل مختلف الأطراف صاحبة المصلحة. بهذا المنطق، يأتي غياب المعالجات الحاسمة للقضايا الأربع ليقصر القيمة المضافة للاتفاق الإطاري على تسوية الخلاف الممتد بين فصيل المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير والمكون العسكري في السودان بما يؤكد الحاجة لسلسلة من الاختراقات السريعة من أجل ضمان حد أدنى من النجاح للاتفاق الموقع مؤخرًا.[13]
- ملاحظات وحقائق حول الاتفاق: الحال السياسي في السودان ما بعد توقيع الاتفاق الإطاري 5 ديسمبر الجاري أكثر وضوحًا، والمواقف أكثر بروزًا، فقد انتقلت الكتل والجماعات السياسية والمكونات من مبادرات شتى وطروحات متعددة إلى وثيقة واحدة؛ حولها النقاش بالمدافعة عنها والانحياز لها، أو بانتقادها ومن ورائها والتحذير من عواقبها. ويبدو أن هذه غاية أساسية من القوى الدولية، لبناء منصة والوقوف خلفها، خاصةً أنها جمعت المكون العسكري وبعض القوى المدنية. ويمكن الإشارة لعدة نقاط مهمة: أولها؛ لم يعد الخلاف بين مكون عسكري ومدني، وإنما مع الاتفاق أو ضده، وهذه النقطة خفَّفت الضغط على المكون العسكري، وقد حسم نقاط خلافه كافة، بينما بقيت نقاط الخلاف ذات الطابع المدني مفتوحة. فقد حسم الاتفاق حالة الخلاف والتقديرات في المكون العسكري، خاصة بين البرهان وحميدتي ومساعي الأخير للتسوية مع قوى الحرية والتغيير، بينما تبدو المؤسسة العسكرية حذرة في تعاملها مع قوى الحرية بعد استعداء متواصل. وثانيها؛ فإن المعارضين، ما بين أقصى اليمين (نداء السودان، والتيار الإسلامي العريض)، وما بين أقصى اليسار (الحزب الشيوعي والناصرى والبعث)، مع قوة تأثيرهم، وفاعليتهم، فإن منطلقاتهم مختلفة، ومن الصعب تشكيل قوة أو تحالف بينهم. وثالثها؛ حسم الاتفاق حالة الخلاف والتقديرات في المُكوِّن العسكري، خاصةً بين البرهان وحميدتي ومساعي الأخير للتسوية مع قوى الحرية والتغيير، بينما تبدو المؤسسة العسكرية حذرة في تعاملها مع قوى الحرية بعد استعداء متواصل، وقد نجح البرهان حتى الآن، خلال النفس الطويل، في تقليل حدة مواقف الرتب العليا في الجيش. ورابعها؛ تغييب مفهوم “الحاضنة السياسية”، ومع أن بعض قيادات قوى الحرية والتغيير تتصدَّر المشهد، فإن التفاصيل تشير إلى أن الأمر متشعب، فالإشارة لقوى الثورة أكثر من أن تستوعبه أربعة أحزاب، وإن استعانت لذلك بكيانات وهمية. كما أن هناك حقائق ملموسة، وتنعكس مباشرة على الواقع السياسي، أولها؛ دعم المجتمع الدولي للاتفاق، مع سحب الغطاء السياسي والإعلامي والدعم المالي من أطراف أخرى بالمقابل مثل جماعة أقصى اليسار بمنظماتهم النسوية والشبابية وبعض لجان المقاومة. وثانيها؛ أن تجاهل قضايا جوهرية مثل السلام وقضية الشرق، ستكون له ردة فعل مباشرة، إغلاق في الشرق أو عودة للحرب، وهذه من القضايا المعلقة، والتي من الضروري التعجيل بحلها. وثالثها؛ إن شعور التيار الإسلامي والوطني بأنه مُستهدف، في فكرته وفي حقه في التعبير، وفي قيادته بالاعتقال والعسف، سيؤدي لمزيد من الاحتقان السياسي، وقوة الاستقطاب؛ وذلك نظرا لفاعلية هذا التيار في التعبئة والتنظيم والحشد، والارتباط بشرائح اجتماعية واسعة التأثير.[14]
- مخاطر تواجه الاتفاق: ثمَّة مجموعة من المخاطر التي تواجه هذا الاتفاق، أولها؛ أنه فُرض من الخارج، وهو ما يُمثِّل أعلى درجات انتهاك السيادة والاستقلال الوطني، لإحكام السيطرة على السودان الغني بالموارد والإمكانات والثروات الطبيعية وموقع جغرافي بالغ الأهمية. وثانيها؛ النصوص التي وردت في الإعلان السياسي والتي تحدَّثت عن هوية الدولة، وصيغت على نحوٍ يفتح الأبواب أمام صناعة هوية جديدة للسودان، إذ تجنَّب في بابه الأول النص على أن السودان دولة عربية إفريقية، وأن اللغة العربية هي لغة سكانه، وبالتالي هي اللغة الرسمية للدولة، وقد سعت المواد 2، و3، و5 من هذا الباب لرسم هوية مغايرة من خلال مضامين هذه البنود، علمًا أن الوثيقة الدستورية لعام 2019 ومشروع الدستور الغربي الذي يُراد فرضه بديلًا من الوثيقة الدستورية يحملان الخطر نفسه. وثالثها؛ جعل الأحزاب الثلاثة التي شاركت القائدين العسكريين في التوقيع، صاحبة الحق الحصري في تشكيل السلطة الانتقالية بكل مؤسساتها التنفيذية والتشريعية والقضائية، فضلًا عن انفرادها في تأليف وقيادة المؤسسات السيادية بما في ذلك مجلسا السيادي والأمن والدفاع وتأسيس جهاز للأمن الداخلي، وإعادة هيكلة مؤسسات الخدمة العامة على نحوٍ يجعل الدعم السريع نواةً لجيش جديد، وبما يُمكِّن تلك المؤسسات من تنفيذ المشروع الغربي. ورابعها؛ التخلي عن اتفاق جوبا للسلام الذي وقَّعه طرفا هذا الإعلان مع حركات دارفور المسلحة في جوبا عام 2020. ونصت المادة السادسة من الباب الثاني من الاتفاق على إخضاعه لمراجعة السلطة التنفيذية التي ستشكلها الأحزاب الثلاثة المُوقِّعة على هذا الإعلان، وقد ربطت تلك الحركات نص هذا البند برفض شركاء الاتفاق مشاركة الحركات لهما في هذا الاتفاق، وبالتالي رفضهما لوجودها في السلطة الانتقالية التي ستتشكل وفق مضامين هذا الاتفاق، ما يؤثِّر سلبًا، وعلى نحوٍ خطر، في مسيرة السلام والأمن والاستقرار، ليس في دارفور فحسب، إنما في السودان ككل. وخامسها؛ وضعية قوات الدعم السريع التي جعلها الاتفاق قوة موازية للجيش في مقدمة بابه الرابع، وعزَّز وضعيتها الدستورية التي منحتها إياها الوثيقة الدستورية عام 2019، وعزَّز هذا الاتفاق استقلالها عن الجيش حين نصَّ على تبعيتها لرأس الدولة (المدني) دون سواها من المنظومات العسكرية الأخرى بما في ذلك الجيش والشرطة والأمن. وفي المقابل نصَّ الاتفاق على إعادة هيكلة الجيش وتجريده من مصادر تمويله، ربما تمهيدًا لإضعافه وتفكيكه واستبداله بجيش آخر. وسادسها؛ تمديد الفترة الانتقالية التي دخلت عامها الرابع عامين آخرين فتحها الاتفاق للتمديد، في حال عدم قدرة السلطة الانتقالية على الوفاء بمتطلبات الانتخابات وفق ما جاء في المادة التاسعة من الباب الثاني، ما يجعل الانتقال الديموقراطي أمرًا صعب المنال.[15]
الخُلاصة؛ يأتي الاتفاق بعد بضعة أشهر من إعلان البرهان أن الجيش سوف يبتعد عن السياسة ويترك المجال للاتفاق على حكومة مدنية. كما أنه الشق الأول من عملية سياسية على مرحلتين ترتكز على مسودة الدستور التي أعدتها نقابة المحامين السودانيين، بحسب بيان قوى الحرية والتغيير.
أما الشق الثاني من الاتفاق، ويشمل قضايا عدة من بينها العدالة الانتقالية وإصلاح الجيش، والتي من المُفترض أن يتم الانتهاء منه خلال أسابيع، إلا أنه من الواضح وفقًا لما تم رصده سلفًا من ردود الأفعال التي أثارها الاتفاق، وما يُمكن توقُّعه من مخاطر؛ أن هذا الاتفاق سيكون بمثابة بداية جديدة لسلسلة من التوترات التي قد تُهدِّد أمن واستقرار السودان، وحتى قد تودي به لأتون الحرب الأهلية؛ إن لم يتم استيعاب هذا التوتر بشكلٍ سريع، ومحاولة الوصول إلى توافق مع القوى الرافضة له لاسيما في الشرق.
[1] كمال عبد الرحمن، “السودان.. ما هو الاتفاق الإطاري ومن الداعمون والرافضون؟”، عربية Sky news، 5/12/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/0EAgF
[2] “توقيع “الاتفاق الإطاري” لحل أزمة السودان.. وهذه تفاصيله”، العربية نت، 5/12/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/z59OT
[3] “السودان: هل يمهد الاتفاق الإطاري الطريق أمام تشكيل حكومة مدنية؟”، عربي BBC News، 6/12/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/aI22M
[4] جمال عبد القادر البدوي، “هل ينجح الاتفاق الإطاري في توسيع مظلة السلام بالسودان؟”، عربية Independent، 6/12/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/h8ZvC
[5] “اتفاق إطاري جديد في السودان.. ترحيب دولي واحتجاجات بالخرطوم”، DW، 5/12/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/af1ix
[6] كمال عبد الرحمن، مرجع سبق ذكره.
[7] عبد الحميد عوض، “أسبوع على توقيع الاتفاق الإطاري في السودان: قضايا مؤجلة ودعم نسبي”، العربي الجديد، 12/12/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/mRwXA
[8] كمال عبد الرحمن، “السودان.. ما هو الاتفاق الإطاري ومن الداعمون والرافضون؟”، عربية Sky news، 5/12/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/0EAgF
[9] “توقيع اتفاق إطاري لحل الأزمة في السودان.. توجس داخلي وآمال دولية بعودة الحكم المدني للبلاد”، الجزيرة نت، 6/12/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/JNxsh
[10] “اتفاق إطاري جديد في السودان.. ترحيب دولي واحتجاجات بالخرطوم”، مرجع سبق ذكره.
[11] جمال عبد القادر البدوي، مرجع سبق ذكره.
[12] “مصر ترحب بالتوقيع على الاتفاق الإطاري في السودان”، وكالة السودان للأنباء SUNA، 6/12/2022. متاح على الرابط: https://2u.pw/oUZvfL
[13] د. أحمد أمل، “قراءة أوّلية للاتفاق السياسي الإطاري في السودان”، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 6/12/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/JjvzN
[14] إبراهيم الصديق علي، “السودان ما بعد الاتفاق الإطاري: مفارقات المشهد وتعقيدات الواقع”، عربي 21، 9/12/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/Z2eHh
[15] محمد حسب الرسول، “مخاطر الاتفاق السياسي الإطاري في السودان”، الميادين، 19/12/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/AZVgE