الخلاف السعودي-المصري.. الدوافع والتداعيات
تحول الفضاء الإعلامي والرقمي في مصر والسعودية إلى ساحة تراشق لفظي مستعر تبادل بموجبه إعلاميون مقربون من السلطات في البلدين اتهامات، فضلاً عن التذكير بـ”أفضال” كل بلد على الآخر، ورغم التزام البلدين رسميًا الصمت إزاء هذه الحرب الكلامية، إلا أنها أثارت العديد من التساؤلات والتكهنات بشأن وجود توتر بين القاهرة والرياض[1]، وتسعي هذه الورقة إلي توضيح مظاهر هذا التراشق الإعلامي بين البلدين، وأسبابه، وتداعياته.
أولًا: مظاهر الخلاف ومؤشراته:
تصاعدت حدة الخلافات الإعلامية بين السعودية ومصر مع بداية عام 2023، وتمثلت أهم مؤشراتها فيما يلي:
– نشر الأكاديمي السعودي تركي الحمد، سبع تغريدات، في أواخر يناير 2023، تطرق فيها إلى الأوضاع الاقتصادية في مصر، وأحصى الأكاديمي السعودي مجموعة من العوامل التي تسببت بحسب رأيه في “وقوع مصر أسيرة لصندوق النقد الدولي”، ومن بين العوامل التي ذكرها الحمد “سيطرة الجيش على دوائر الدولة ومفاصلها”، إضافة إلى ما سماها بـ “البيروقراطية المصرية الهرمة المقاومة للتغيير”، علاوة على ذلك؛ رأى الحمد أن هناك “ثقافة شعبية خاضعة في مصر حيث ينتظر الجميع أن يأتي كل شيء من القمة مع غياب شبه كامل لمبادرة مجتمعية مستقلة”، ويبدو أن الكاتب السعودي اضطر لاحقًا لحذف تلك التغريدات مكتفيًا بتغريدة واحدة يستنكر فيه “حساسية البعض من أي رأي ناقد يأتي من خارج بلدهم”[2].
وقبل تلك الانتقادات بستة أشهر تقريبًا شن الإعلامي المقرب من دوائر السلطة السعودية هجومًا مشابهًا على الإعلامي المصري عماد الدين أديب بسبب مقال كتبه الأخير تحت عنوان “مصر: من يعوض الفاتورة المؤلمة للحرب الروسية الأوكرانية”، حيث اعتبر أن أديب يبتز دول الخليج عبر التلويح بورقة تصاعد النفوذ التركي – الإيراني في المنطقة بسبب عدم دعم الخليج لمصر، موجهًا إليه رسالة قال فيها: “كان المفروض على هذا الكاتب أن يتساءل: ولماذا لا تستطيع بلاده (مصر) حل أزماتها المزمنة بنفسها بدل أن تصبح عالة على هذا وذاك”[3].
وعلى غرار الحمد، نشر الكاتب السعودي المختص في علم الاجتماع السياسي، خالد الدخيل تغريدة، حول أبعاد المشهد السياسي والاقتصادي في مصر. وقال الدخيل إن “ما يحصل لمصر في السنوات الأخيرة يعود في جذره الأول إلى أنها لم تغادر عباءة العسكر منذ 1952”[4].
وقال الدخيل إن “السيسي قال في خطاب له وهو يشير إلى السعودية، بأن “مصر لن تركع إلا لله، وهي جملة مربكة في السياق الذي قيلت فيه، فالسعودية والخليج ليسوا أعداء لمصر”، وأضاف: “تفسيري أن المقصود هو أن مصر لن تركع للمال الخليجي، فلماذا يطالب السيسي بـ(الرز الخليجي)؟”[5].
جرت تلك التغريدة انتقادات لاذعة على الدخيل فأعقبها بأخرى يؤكد فيها على أهمية مصر مضيفًا بأن ” نقد سياسات أي حكومة ليس نقدًا للدولة”[6].
– أثارت هذه التغريدات غضب الإعلام المصري، الذي توجه إلي شن هجومًا حادًا علي المملكة السعودية، حيث شن الإعلامي المصري، نشأت الديهي، هجومًا على تركي الحمد، وقال له “أنت مالك ومال مصر”.
وفي حديثه ببرنامج “بالورقة والقلم” المذاع على قناة “تن” الفضائية المصرية، وجه حديثه لتركي الحمد قائلا: “أنا بقول لتركي الحمد وأمثاله عيب”، مضيفًا “من أنت لكي تتحدث عن تاريخ مصر، مصر باقية، هذه الدولة خلقت لتبقى، وحديث تركي الحمد عبارة عن صفر كبير”[7].
كما نشر رئيس تحرير صحيفة الجمهورية، عبد الرازق توفيق، مقالاً، في 2 فبراير 2023، تحت عنوان ” الأشجار المثمرة وحجارة اللئام والأندال”، ونشر موقعي “الجمهورية” و”كايرو 24″ المقال قبل أن يتم “حذفه لاحقًا”.
حمل المقال عبارات انتقاد قاسية وألفاظاً حادة تجاه من وصفهم بأنهم “الأقزام الكارهون لنجاحات مصر وجيشها العظيم”، و”الحفاة العراة الذين ارتدوا أفخر الثياب مؤخرًا”، و “اللئام والأنذال ومحدثي النعمة”، و”ضآلة هذه الدول التي تعاني من الهشاشة البشرية والحضارية، والتي أصبحت في غفلة من الزمان تحمل اسم دول”، قائلاً إن: “هؤلاء لن يعيشوا لحظة واحدة إذا ما حاق مكروه بمصر”[8].
– وفيما يبدو كرد علي مقال توفيق، فقد نشرت صحيفة “عكاظ” السعودية مقالُا للكاتب السعودي “محمد السساعدي” شن فيه هجومًا حادًا على شعوب دول عربية (لم يسمها)، متسائلًا عن سبب حملها مشاعر كراهية ضد المملكة، بحسب زعمه، قبل أن تحذف الصحيفة المقربة من السلطات المقال من موقعها الإلكتروني.
فقد أشار السعدي في مقاله إلي أن “كثير من الشعوب في المنطقة تعيش على الكراهية والحسد والجحود ونكران الجميل”، وتابع: “أصبحوا عالة على دول الخليج يصدرون فشلهم الاقتصادي لليوم”، وقال “الساعدي”: “لم يتوقفوا عند ذلك، بل فشلوا حتى في إنتاج دولة وطنية واحدة قادرة على بناء نفسها، دول تحولت إلى (فقاسات) للانقلابات في بغداد ودمشق وصنعاء والقاهرة، تمسي الشعوب على ملكية وتصبح على مجلس قيادة ثورة بأشكال وأنواع لا تتحدث إلا بالمسدس والبندقية”.
واستطرد “الساعدي” قائلًا، إن السعودية وقفت مع هذه الدول، لكن لم ترد الأخيرة المعروف بمثله، مضيفا أنها “أوقفت إنتاج نفطها من أجلهم، دفعت الأموال لهم، واشترت الأسلحة لصالحهم، بل وأرسلت أبناءها للقتال معهم في حروب الاستقلال والتحرير، لقد حاول السعوديون -قدر جهدهم- تحسين أحوال جيرانهم العرب ومدوهم بالأموال وبرامج التنمية، واستقدموا عشرات الملايين من العمالة العربية التي أعادت ضخ المليارات في اقتصادات بلدانها، ومع ذلك فقد بقي الجحود مقيماً في نفوس الكثيرين، ويبقى السؤال الكبير: لماذا يكرهوننا؟!”[9].
– وقد سبق ذلك، أن انتقد الإعلامي عمرو أديب، عبر برنامجه اليومي “الحكاية” على قناة MBC السعودية (من أحضره إلى القناة هو تركي آل الشيخ، رئيس هيئة الترفيه ومستشار ابن سلمان وذراعه اليمني) الوضع الاقتصادي لمصر، وحذر بأن الأمور في البلاد ستنحدر إلى مستويات أكثر صعوبة وأن القادم ليس بالأفضل، الأمر الذي جعله لأن يكون هدفًا في مرمى الإعلاميين المصريين المقربين من النظام المصري[10].
فقد خرج الإعلامي المصري محمد الباز، رئيس مجلس تحرير صحيفة “الدستور” المملوكة لشركة “المتحدة للخدمات الإعلامية” التابعة لجهاز المخابرات المصرية، في بث مباشر عبر صفحته على موقع “فيسبوك” في 12 يناير 2023، مهاجمًا أديب، بقوله: “متصدقوش واحد على قناة مش مصرية يطلع ويتنطع ويقول أنا خايف على أولادي وأهلي”.
وتابع الباز هجومه على “عمرو أديب” قائلًا: “حتى لو في مشكلة ضخمة عمرو أديب مش هيتأثر هو وأولاده.. وآخره هيروح يعيش في السعودية.. لأنه أجندة سعودية.. وعنده كفيل سعودي.. ومعاه فلوس كتير تكفيه لبعد يوم القيامة بسنتين”[11].
جدير بالذكر هنا، أنه ربما يقول البعض إن كل تلك المؤشرات ما هي إلا حالات فردية لإعلاميين هنا وهناك، ولا تعكس بأي حال من الأحوال وجود توتر بين الرياض والقاهرة. ولكن في ظل أن الإعلام في مصر والسعودية والإمارات يخضع بالكامل للسيطرة الرسمية، كما أن الإعلاميين المشاركين في هذا التلاسن مقربون من السلطة هنا وهناك.
إذ إن خالد الدخيل وتركي الحمد مقربان من الديوان الملكي، ويوصف “الحمد” في الإعلام المحلي بأنه “المتحدث الإعلامي باسم الأسرة الحاكمة”، أما عبد الرازق توفيق فهو رئيس تحرير صحيفة رسمية مصرية. وبالتالي من غير المتصور أن يخرج أي من هؤلاء الإعلاميين فجأة ليهاجم دولة حليفة هكذا من تلقاء نفسه، وبدون توجيه رسمي[12].
ثانيًا: أسباب الخلاف ودوافعه:
يمكن الإشارة إلي مجموعة من الأسباب التي تقف خلف حالة التوتر الحالية بين مصر والسعودية، تتمثل أبرزها في:
1- الأزمة الاقتصادية في مصر: تعيش مصر هذه الأيام أزمة اقتصادية طاحنة، جانب منها بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية والجانب الأكثر حضورًا جراء السياسات المتبعة التي حولت القاهرة إلى واحدة من أكثر بلدان العالم استدانة، إذ تبلغ حجم ديونها الخارجية فقط حاجز الـ154 مليار دولار، بخلاف خدمة الدين التي تستنزف الجزء الأكبر من الموازنة العامة للدولة حتى 2030.
تفاقم الوضع مع الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في فبراير 2022 وأحدثت هزة في السوق العالمية كانت نتيجتها خروج أكثر من 20 مليار دولار من الأموال الساخنة من السوق المصرية في مارس العام الماضي (2022)[13]، وانخفاض قيمة العملة المصرية إلى ما دون مستوى 30 جنيهًا مقابل الدولار، ولجوء مصر إلى صندوق النقد الدولي لطلب حزمة إنقاذ جديدة بقيمة 3 مليارات جنيه.
ويبدو أن مصر كانت تراهن بصورة كبيرة في حل تلك الأزمة علي الدعم والمساعدات الخليجية، خاصة وأن السعودية ودول الخليج كانت قد قدمت للنظام المصري ما يربو على 90 مليار دولار منذ استيلاء الجيش على السلطة في صيف 2013، بحسب مصادر البنك المركزي المصري التي أظهرت هذا الرقم للعلن عام 2019، ولكن القاهرة قد فوجئت بتغير السياسات السعودية والخليجية التي أصبحت ترفض أن تواصل سياسة المساعدات غير المشروطة[14].
وفي هذا الإطار، فقد أكد وزير المالية السعودي، محمد الجدعان، علي إن بلاده غيرت طريقتها في تقديم المنح والمساعدات إلى الدول المجاورة، موضحًا أنها ستكون مشروطة بحدوث “إصلاحات”.
حيث قال الجدعان، على هامش منتدى دافوس، في 18 يناير 2023: “نحن نغير طريقة تقديمنا للمساعدات وتطويرها… اعتدنا أن نعطي منحًا وودائع دون شروط، ونحن نغير ذلك، ونقوم نقوم بالعمل مع مؤسسات متعددة الأطراف… لنقول نحن نريد أن نرى إصلاحات”[15].
وقد أشار مراقبون أن تصريحات “الجدعان” كانت رسالة إلى بعض دول المنطقة التي تعتمد على الدعم السعودي وفي مقدمتها مصر ولبنان والأردن[16].
وأن السعودية تضع مجموعة من الشروط من أجل تقديم المساعدات والاستثمارات لمصر، منها؛ ضرورة إحداث تغيير في المنظومة الاقتصادية المصرية، وتقليص دور المؤسسة العسكرية في الاقتصاد، ما يعني، من الناحية العملية، توسيع نشاط الصندوق السيادي السعودي، في شراء عدة أصول مصرية[17].
كذلك فهناك رغبة سعودية في الاستحواذ على شركات مملوكة للقطاع الخاص؛ لأنها تحقق عائدات اقتصادية ومالية أكبر من تلك المملوكة للحكومة، في حين تفضل الحكومة المصرية في أن تكون عمليات الاستحواذ السعودية على شركات تابعة للحكومة أو للأخيرة نسبة فيها، ما يسمح بدخول الدولار إلى السوق المصرية بشكل مباشر[18].
2- ملف تيران وصنافير: وهو الملف الأكثر حساسية في مسار العلاقات بين البلدين خلال العامين الماضيين تحديدًا، في ضوء الجدل الذي يخيم على الشارع المصري منذ إبرام اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية في 2018، فهناك فرق شاسع بين المزاج العام الشعبي المصري والتوجه السلطوي الرسمي بشأن هذا الملف الذي حسمه السيسي والبرلمان لصالح المملكة.
وتلكؤ الجانب المصري في تسليم الجزيرتين رغم إنهاء كل الإجراءات القانونية والإدارية كان مثار تساؤل لدى الشارع السعودي، فيما تعللت القاهرة بالجزء المقتطع من المعونة الأمريكية والبالغ 130 مليون دولار بسبب وضع حقوق الإنسان، مشترطة أن تفرج واشنطن عنه نظير تسليم الجزيرتين، بجانب بعض المسائل الفنية، وهو السبب المعلن بحسب موقع “AXOIS” الأمريكي الذي نقل عن مسؤولين إسرائيليين قولهم إن مصر بدأت في الأسابيع الأخيرة تتقدم بتحفظات على بنود في الاتفاق، معظمها فنية، ومنها تركيب كاميرات في الجزر التي تتعلق بها الاتفاقية، فيما يفترض أن تستعين القوة متعددة الجنسيات الموجودة بالجزيرتين بتلك الكاميرات لمراقبة النشاط الجاري فيهما، وكذلك في مضيق تيران، بعد مغادرة الجزيرتين، فيما يذهب آخرون الى أن الأمر أكبر من مجرد الـ130 مليون دولار، وكاميرات المراقبة، إذ كانت تعول السلطات المصرية على المملكة في إنقاذها من الأزمة الاقتصادية الحالية بالمنح والمساعدات المستمرة[19].
3- التنافس في البحر الأحمر: فمنذ أن أعلنت السعودية مطلع أغسطس 2017 إطلاق مشروع سياحي عالمي في المملكة تحت مسمى مشروع “البحر الأحمر“، في الوقت الذي تسعى فيه البلاد إلى تنويع اقتصادها وتقليص اعتمادها على النفط، بات النشاط السياحي المصري خاصة في منتجعات شرم الشيخ والغردقة في مرمى الخطر، كون المشروع السعودي سيكون الأضخم في الإقليم.
وفي 6 أكتوبر 2022، قال رجل الأعمال المصري، نجيب ساويرس، إن “الاستثمارات التي تنفذها السعودية في البحر الأحمر سواء في نيوم أو غيرها لا شك ستهدد استثماراتنا في البحر الأحمر وشرم الشيخ وهذه المناطق الاستراتيجية التي كانت تقع في زمام السيطرة المصرية”.
من جانب آخر، تسعي السعودية لحجز موقع القيادة السياسية والأمنية، عبر تجمع الدول العربية والإفريقية المشاطئة للبحر الأحمر، الذي استأثرت بقيادته ومقره الدائم لديها.
وفي هذا الإطار، فقد وقع خلاف بين القاهرة والرياض بشأن طبيعة إدارة منتدى الدول المشاطئة للبحر الأحمر، بعدما أبدت مصر رغبتها في استضافة أحد الكيانات المنبثقة عن التجمع على أراضيها، وهو كيان معني بالعمليات والدراسات العسكرية والأمنية ويهدف للتنسيق بين الدول الأعضاء فيما يتعلق بأمن واستقرار الممر المائي الأهم[20].
ومؤخرًا، فقد أوكلت الولايات المتحدة قيادة “القوة البحرية المشتركة 153” للقوات المسلحة المصرية، وهو التكليف الذي تلقته مصر في 13 ديسمبر 2022، وهي قوة تنضم لعدة قوى للمهام المشتركة هي “قوة المهام المشتركة 150” ونظيرتيها “القوة 151” والقوة 152″، وجميعها معنية بحماية الأمن البحري لاسيما في البحر الأحمر وخليج عدن والخليج العربي.
وتهدف “القوة 153” إلى مكافحة أعمال التهريب والتصدي للأنشطة غير المشروعة، خاصة الإرهابية بمناطق البحر الأحمر، باب المندب، وخليج عدن. وربما كانت السعودية تحضر نفسها لاستلام هذه المهمة، عبر عدة مناورات أجرتها، كان آخرها التدريبات التي أجراها الأسطول الغربي السعودي مع قوات بحرية من الأردن ومصر والسودان وجيبوتي واليمن وبحضور مراقبين من الصومال في يونيو 2022، وربما يكون في هذه الخطوة تجريدًا للمملكة، صاحبة أطول سواحل على البحر الأحمر، وصاحبة الأسطول الغربي المخصص لأمن البحر الأحمر، من وزنها العسكري ضمن ترتيبات أمن البحر الأحمر؛ لتعمل وحدات عسكرية من طرفها تحت إمرة القوات المصرية التي تقود حاليًا “القوة 153”[21].
4- أن النظام المصري لم يعد ورقة رابحة بيد السعودية: ولا أي من دول الخليج، لأن خطر الإسلاميين الذي كان يلوح به السيسي دائمًا ويستخدمه كفزاعة في وجه الخليج لم يعد موجودًا، بعد نجاح قوى الثورة المضادة في إفشال الربيع العربي، وما ترتب عليه من سقوط مشاريع التيار الإسلامي الذي صعد مع ثورات الربيع، وما تبع ذلك من ملاحقة ومطاردة وتصفية لقيادات وعناصر جماعات الإسلام السياسي.
إضافة إلى ذلك لم يكن رئيس النظام المصري بقدر الطموحات السعودية في حسم الحرب باليمن ضد الحوثيين[22]، حيث لم تشارك مصر بقوات ضمن تحالف «عاصفة الحزم» العربية بقيادة السعودية لإعادة الشرعية إلى اليمن وإنهاء انقلاب الحوثيين منذ عام 2015.
واكتفى السيسي بتكرار العقيدة العسكرية بأن: «أمن الخليج ذات أهمية استراتيجية كبيرة ويشكل أحد الركائز الرئيسية للأمن القومي المصري، وأن أي تهديد يواجه الأمن الخليجي يقتضي منا وقفة لمواجهته بمنتهى الحزم والحكمة».. ومسافة السكة لحماية الأشقاء من أهم أولوياتنا».
تبقى تلك العقيدة بالتالي شعاراً مكرراً مستهلكاً. وبرز ذلك بوضوح قبل وبعد أكبر اعتداء بصواريخ ومسيرات إيرانية الصنع على منشآت أرامكو في ابقيق وخريص شرقي السعودية في سبتمبر 2019، وتعطيل نصف الإنتاج النفطي السعودي-5 ملايين برميل يومياً.
كما تحفظت مصر على الانضمام إلى مبادرة الرئيس أوباما أولاً والرئيس ترامب لاحقاً على ما عُرف بمبادرة «التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط»-MESA-»الناتو العربي» بعضوية دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن، لمواجهة إيران[23].
5- الانحياز المصري للإمارات: فمن الواضح أن هناك انحياز مصري واضح للإمارات في تنافسها مع السعودية، وكان أخر مظاهر ذلك؛ هو غياب المملكة السعودية، مع الكويت، عن القمة الأخيرة التي استضافتها الإمارات في 19 يناير المنصرم، وجمعت الرئيس المصري “السيسي” مع أمير قطر وملك البحرين وسلطان عمان وملك الأردن، وكان جزءًا من جدولها هو بحث إغاثة مصر اقتصاديًا[24].
تغيب المملكة أثار التساؤلات حول وجود خلافات مع الإمارات، خاصة بعد حديث الأكاديمي الإماراتي المقرب من الرئيس محمد بن زايد، عبد الخالق عبدالله، عن أن «المحور الرباعي العربي الذي شمل مصر والسعودية والإمارات والبحرين (وحاصر قطر)، أدى دوره وانتهى مفعوله، وأصبح شيئاً من الماضي».
واعتبر عبدالله أن «قمة أبو ظبي وضعت أسس محور عربي جديد، وأكدت أن قيادة الأمة خليجية حتى إشعار آخر».
وبعد يومين من تغريدة عبدالخالق عبدالله، فقد حذر رئيس تحرير صحيفة الوطن السعودية، سليمان العقيلي، من أن أي محور ضد السعودية سيكون وبالا على أصحابه.
وقال العقيلي إن “تشكيل المحاور ضد السعودية قديم ومأساوي”، وأضاف في تغريدة في حسابه على “تويتر” أن ذلك يمتد “من الاتحاد العربي بين الملكين فيصل بالعراق وحسين بالأردن بالخمسينيات، إلى محور عبد الناصر الجمهوري بالستينيات، ثم محور صدام بالثمانينيات”.
مشيرا إلى أن كل “المحاور فشلت في هز صلابة المملكة، بل قزمت أصحابها وأسقطتهم من عروشهم!”، واختتم تغريدته بالقول: “ننبه لخطورة تكرار التجارب المأساوية!”[25].
ويبدو أن هناك خلاف مكتوم بين السعودية والإمارات عبر عدد من الملفات أبرزها حرب اليمن وملف النفط الذي أعربت الإمارات عن ضيقها سرًا من تفرد المملكة في اتخاذ القرارات بشأنه، في أعقاب قرار “أوبك بلس” خفض إنتاج النفط بمعدل مليوني برميل يوميًا في 5 أكتوبر الماضي.
كما يقع الملف الاقتصادي في قلب الخلاف السعودي الإماراتي أيضًا، حيث تسعى الرياض لسحب البساط من تحت قدمي أبوظبي ولعب دور المركز الرئيسي للمال والأعمال في المنطقة.
ويمتد هذا الخلاف الاقتصادي للعلاقة مع مصر، حيث لا تشعر السعودية بالرضا عن الأفضلية التي تمنحها القاهرة لأبوظبي في الصفقات الاقتصادية والاستثمارية الحيوية خاصة في منطقة قناة السويس وقطاع الموانئ[26].
ثالثًا: نتائج الخلاف وتداعياته:
يرجح الكثيرون ألا يكون لهذا الخلاف تأثيرات كبيرة علي العلاقات بين البلدين، خاصة وأن المملكة السعودية خلال العقد الماضي كانت أحد الداعمين الرئيسيين للنظام المصري اقتصاديًا. علاوة على المصالح الأخرى التي تجمع الطرفين، مثل العمالة المصرية في السعودية، والتي يبلغ عددها 2.5 مليون مصري، كأكبر جالية مصرية موجودة بالخارج[27].
كما أن الرياض تمد مصر بمنتجات نفطية بأسعار تفضيلية والتزامات سداد ميسرة. فضلًا عن أن ودائع الدول الخليجية ومنها السعودية، لدى المركزي المصري تشكل نحو 85% من احتياطي مصر الدولاري[28].
وفي المقابل، عطل السيسي المسار الديمقراطي في مصر عبر انقلابه على الرئيس محمد مرسي، وبهذا خلص السيسي السعودية مما عدته الأسرة الحاكمة فيها خطرًا عليها. كما ترى دول الخليج عبر العقود الماضية أن مصر صمام أمان حقيقي لمنطقة الخليج في ظل تهديدات إقليمية ودولية تواجه المنطقة المضطربة دائمًا[29].
لذلك، فإن هذه المصالح الجوهرية تمنع كلا الطرفين من القطيعة تمامًا مع الآخر، وعلى هذا، فإنه لا يتوقع أن يحتد الخلاف الإعلامي على وجه التحديد، خصوصًا وأن ما برز من تلاسن بين إعلاميي البلدين قد حُذف بعضه بالفعل من حساباتهم، الأمر الذي يشير إلى احتمالية تدخل بعض الجهات داخل الدولتين، بهدف تخفيف حدة الخلاف، أو على الأقل عدم إظهاره إعلاميًا على نطاق واسع.
وقد أكد موقع “مدى مصر” هذا، حين نقل عن مصدر حكومي مصري أن الاعتذار الذي نشره رئيس تحرير جريدة الجمهورية شبه الرسمية، عن مقاله الذي شن فيه هجومًا كبيرًا على السعودية، جاء بتعليمات مباشرة من مستويات تنفيذية رفيعة بعد أن نقلت البعثة الدبلوماسية المصرية في الرياض أجواء استياء شديد في البلاط الملكي السعودي.
وألمح المصدر إلى أن الدخول في مواجهة “إعلامية عنيفة” مع السعودية لم يكن محل اتفاق بين جميع المؤسسات المسؤولة عن السياسة الخارجية، وأنه منذ بداية المعركة التي أصر على وصفها بأنها إعلامية بالأساس “لم يكن الأمر محل ارتياح من بعض أقرب مستشاري السيسي”[30].
وبعد حذف بعض التغريدات ومقال رئيس تحرير جريدة الجمهورية، خرج السيسي محاولًا أن ينفي وجود الخلاف من الأساس، وقال السيسي، خلال حضوره افتتاح المرحلة الثانية من مدينة الصناعات الغذائية “سايلو فوودز”، المملوكة للقوات المسلحة بمدينة السادات، إننا نكتب “لصالح تحسين ودعم العلاقات” وليس العكس، مشددًا على أن علاقات مصر “طيبة بالجميع”، وأن هذا منهج تسير عليه البلاد منذ “توليت المسؤولية”، وأنه مسار دولة حتى في الأزمات وفي الخلافات”، مؤكدًا أنه “(لا يجوز) أن نسيء لأشقائنا”، داعيًا إلى عدم نسيان “وقفة أشقائنا معنا”[31].
وللتأكيد على ثبات العلاقات بين البلدين، يتداول البعض صورًا من الجولة الخامسة لـ “لجنة المتابعة والتشاور السياسي المصرية السعودية” التي عُقدت قبل أيام في العاصمة الرياض. وهي لجنة تنعقد بشكل دوري لتعزيز آفاق التعاون الثنائي بين البلدين في كافة المجالات[32].
ولكن برغم التأكيد علي ثبات العلاقات المصرية- السعودية، إلا أن ذلك لا يمنع من حدوث بعض التغييرات علي تلك العلاقات خاصة فيما يتعلق بملف المنح والمساعدات والاستثمارات، حيث باتت الجدوى الاقتصادية تتفوق على الاعتبارات السياسية فيما يخص هذا الملف، ما يعني أن المملكة السعودية ستمارس مزيدًا من الضغوط على مصر لتلبية طلباتها وشروطها الاستثمارية وهو ما قد يعرض العلاقات الثنائية للمزيد من الضغوط[33].
————————
[1] “من تغريدة تركي الحمد إلى مقال صحيفة الجمهورية: ما أبعاد التراشق بين إعلاميين في السعودية ومصر؟”، بي بي سي عربي، 5/2/2023، الرابط: https://bbc.in/3IsHWuK
[2] المرجع السابق.
[3] “توتر العلاقات بين القاهرة والرياض.. ما الذي تغير في قواعد اللعبة؟”، نون بوست، 1/2/2023، الرابط: https://bit.ly/3YNqOpe
[4] “من تغريدة تركي الحمد إلى مقال صحيفة الجمهورية: ما أبعاد التراشق بين إعلاميين في السعودية ومصر؟”، مرجع سابق.
[5] “الخلاف السعودي المصري… الدوافع والسياقات”، المسار للدراسات الانسانية، 10/2/2023، الرابط: https://bit.ly/3lI19jv
[6] “من تغريدة تركي الحمد إلى مقال صحيفة الجمهورية: ما أبعاد التراشق بين إعلاميين في السعودية ومصر؟”، مرجع سابق.
[7] “تراشق إعلامي سعودي مصري.. تباين وجهات نظر أو “خلافات غير معلنة”؟”، الحرة، 4/2/2023، الرابط: https://arbne.ws/3EeNLJJ
[8] ” الأشجار المثمرة.. وحجارة اللئام والأندال”، موقع نبض، 2/2/2023، الرابط: https://bit.ly/3lIzgHU
[9] “”لماذا يكرهوننا؟”.. مقال سعودي محذوف يثير جدلا”، الخليج الجديد، 17/2/2023، الرابط: https://bit.ly/3Z0sifD
[10] “توتر العلاقات بين القاهرة والرياض.. ما الذي تغير في قواعد اللعبة؟”، مرجع سابق.
[11] “الخلاف السعودي المصري… الدوافع والسياقات”، مرجع سابق.
[12] “تغريدات تنتقد ومقال يردُّ، وحديث عن حلف جديد.. ما قصة التلاسن بين إعلام مصر والسعودية والإمارات؟”، عربي بوست، 6/2/2023، الرابط: https://bit.ly/3SdGlfW
[13] “توتر العلاقات بين القاهرة والرياض.. ما الذي تغير في قواعد اللعبة؟”، مرجع سابق.
[14] “السعودية ومصر.. كرة التوتر بدأت بالتدحرج فإلى أين ستصل؟”، الخليج الجديد، 1/2/2023، الرابط: https://bit.ly/3YT1RIW
[15] ” وزير المالية السعودي: لن نقدم منح ومساعدات إلى الدول بدون “رؤية إصلاحات””، سي إن إن عربية، 18/1/2023، الرابط: https://cnn.it/3lCIN3c
[16] “السعودية ومصر.. كرة التوتر بدأت بالتدحرج فإلى أين ستصل؟”، مرجع سابق.
[17] “في أزمة العلاقات المصرية السعودية وآفاقها”، العربي الجديد، 13/2/2023، الرابط: https://bit.ly/3k1D4Uk
[18] “السعودية ومصر.. كرة التوتر بدأت بالتدحرج فإلى أين ستصل؟”، مرجع سابق.
[19] “توتر العلاقات بين القاهرة والرياض.. ما الذي تغير في قواعد اللعبة؟”، مرجع سابق.
[20] “البحر الأحمر.. طموح سعودي يهدد مصالح مصر الاقتصادية ويهمشها استراتيجيا”، مصر360، 29/1/2023، الرابط: https://bit.ly/3HXN2hi
[21] “الخلاف السعودي المصري… الدوافع والسياقات”، مرجع سابق.
[22] “هل تخلّت السعودية عن نظام السيسي؟”، القدس العربي، 29/1/2023، الرابط: https://bit.ly/3Kf97La
[23] “معوقات تطور العلاقات المصرية ـ الخليجية لعلاقة استراتيجية!”، القدس العربي، 12/2/2023، الرابط: https://bit.ly/3IuO85A
[24] “السعودية ومصر.. كرة التوتر بدأت بالتدحرج فإلى أين ستصل؟”، مرجع سابق.
[25] ” رئيس تحرير “الوطن” السعودية: المحاور ضدّ المملكة تسقط عروش أصحابها”، عربي21، 7/2/2023، الرابط: https://bit.ly/3Z0X5cd
[26] “السعودية ومصر.. كرة التوتر بدأت بالتدحرج فإلى أين ستصل؟”، مرجع سابق.
[27] “الخلاف السعودي المصري… الدوافع والسياقات”، مرج سابق.
[28] “مصادر: تعليمات رفيعة المستوى وراء اعتذار رئيس تحرير «الجمهورية» للسعودية خشية «تبعات محتملة»”، مدي مصر، 7/2/2023، الرابط: https://bit.ly/3xy5dW1
[29] ” أول تعليق لمسؤول إماراتي… ماذا وراء الخلاف الإعلامي بين مصر والسعودية وما علاقة المساعدات؟”، سبوتينك عربي، 7/2/2023، الرابط: https://bit.ly/3XFjomG
[30] “مصادر: تعليمات رفيعة المستوى وراء اعتذار رئيس تحرير «الجمهورية» للسعودية خشية «تبعات محتملة»”، مرجع سابق.
[31] “كيف علّق السيسي على السجال الإعلامي مع السعودية؟”، عربي21، 10/2/2023، الرابط: https://bit.ly/3K9hYOp
[32] “من تغريدة تركي الحمد إلى مقال صحيفة الجمهورية: ما أبعاد التراشق بين إعلاميين في السعودية ومصر؟”، مرجع سابق.
[33] “تصاعد التوتر بين السعودية ومصر”، موقع العهد الإخباري، 4/2/2023، الرابط: https://bit.ly/3KaWwII
منافسة محتملة بين جمال والسيسي بالانتخابات الرئاسية المقبلة 2024
في اطار الأوضاع المأزومة بمصر، على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية، جاء التسريب المقتضب …