تشهد مصر تحولات اقتصادية ضخمة لها تأثير بالغ على التركيبة الاجتماعية للسكان؛ فشبح الفقر يلتهم قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى التي كادت تختفي في ظل التدهور الحاد في الوضع الاقتصادي وخفض قيمة العملة والتضخم المتزايد باستمرار بعدما تخطى سعر صرف الدولار 30 جنيها لأول مرة في تاريخ مصر قبل أن يتراجع إلى 29.55 جنيها؛ هذه التحولات تدفع الكثيرين من أبناء الطبقة الوسطى إلى تغيير نمط عيشهم بصورة جذرية وسط أنين وشكوى مستمرة من سوء الأوضاع.
وكالة الأنباء الفرنسية في تقرير لها نشرته في 17 يناير23م تنقل عن السيدة: منار وهي أم لطفلين قولها: «نحن كمن هبطت به الأرض فجأة وأصبح مضطرًا للتنازل عن كل شيء»، مشيرة إلى أنها قررت إلغاء أي عطلات خارج البلاد لضبط مصروف العائلة. وتضيف منار (38 عامًا) التي رفضت الإفصاح عن اسم عائلتها “كنا نعيش حياة ليست مرفهة لكن مكتفية. الآن كل ما أفكر فيه هو سعر الخبز والبيض”.
وتشكك الوكالة الفرنسية في معدلات التضخم الرسمية المعلنة من جانب الجهاز المركزي للإحصاء في مصر؛ فحسب الأرقام الرسمية ارتفع التضخم إلى 24.4%، وزادت أسعار السلع الغذائية بنسبة 37.9%.
وتنقل الوكالة عن أستاذ الاقتصاد بجامعة جون هوبكنز في ميريلاند ستيف هانك، المتخصص في التضخم البالغ الارتفاع، يقول إن نسبة التضخم الحقيقية السنوية في مصر “تصل إلى 88%”.
وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، تحدّث مصريون عن تأثرهم بارتفاع الأسعار الذي جعلهم يهبطون إلى طبقة اجتماعية أدنى. كما نقل بعضهم مشاهداته عن مواطنين لم يكونوا يستخدمون المواصلات العامة، إلا أنهم اضطروا إلى ذلك بعد تأثرهم بالأزمة الاقتصادية.
هذه الأوضاع الاقتصادية المتدهور انعكست سلبا على النشاط الخيري، فتقلصت المساعدات التي تقدمها المؤسسات الخيرية للفقراء والمساكين؛ وتنقل وكالة «فرانس برس» عن أحمد هشام، المسؤول في مؤسسة “أبواب الخير” الأهلية التي تساعد العديد من الأسر، إن جمهورا مختلفا بات يطرق أبواب المؤسسة.
ويضيف: “كثيرون كانت لديهم مدخرات يحتفظون بها من أجل أولادهم أو للمستقبل، يلجؤون إليها اليوم من أجل تغطية مصاريف صحية أو احتياجات يومية”، موضحا أن “غالبية هؤلاء يعملون في القطاع الخاص ويكسبون ما بين أربعة آلاف إلى ستة آلاف جنيه شهريا (133 إلى 200 دولار)”. ويتابع: “بعض من يأتون لم يعرفوا هذا من قبل وكانوا يستطيعون تغطية احتياجاتهم بأنفسهم، ولأنها المرة الأولى التي يواجهون فيها هذا الموقف، يكون الأمر صعبا عليهم ويكادون لا يصدقون أنهم يحصلون على مساعدة من مؤسسة خيرية”.
وينقل هشام عن أحد الذين لجأوا الى المؤسسة قوله “كان يتعيّن عليه الاختيار بين أن يشتري الطعام لأبنائه أو أن يسدّد لهم مصاريف المدارس”. ولا تقتصر الصعوبات على العائلات، بل امتدت إلى جمعيات ومؤسسات أهلية زادت مصاريفها في حين قلت التبرعات.
تآكل الطبقة الوسطى
في ظل هذه الأوضاع المتردية، وسط التفاوت الكبير في الدخول ومستويات المعيشة في مصر، يصعب تحديد الطبقة المتوسطة، وفق الباحثة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة هدى عبد العاطي التي تقول “المشكلة أن هؤلاء الذين لم يكونوا قريبين من خط الفقر يمكن أن يقتربوا أكثر وأكثر منه بسبب التصاعد الكبير في التضخم”.
ووفق أحدث دراسة نُشرت عام 2020، يبلغ متوسط الأجور في مصر 69 ألف جنيه سنويًّا (نحو 2300 دولار)، أي أعلى قليلًا من خط الفقر الذي حدده البنك الدولي بـ3.8 دولارات يوميًّا.
اليوم ــ حسب هدى عبد العاطي ــ فإن هؤلاء الذين يحصلون على هذا الدخل لم يعودوا قادرين على تأمين حاجات المعيشة الأساسية، ولكن لا تنطبق عليهم شروط الحصول على المساعدات الاجتماعية التي تمنحها الحكومة”.
في ظل هذه الأوضاع فإن الفجوة الطبقية في مصر تتسع على نحو مرعب يهدد بتماسك المجتمع وينذر باشتعال حرب طبقية قد تسهم في المزيد من تفكيك المجتمع وإضعافه؛ ففي الوقت الذي يزداد فيه عدد الفقراء وتعاني الدولة نفسها من الفقر وتضخم الديون والاعتماد على القروض فإن نخبة الحكم والأثرياء يزدادون غنى وثراء؛ وهو أمر غريب؛ إذ كيف تفتقر البلاد ويغتني هؤلاء؟ وكيف يتراجع الدخل ويزداد عدد الأثرياء؟ هذا هو الفساد بعينه في أبسط صوره.
وفي أحدث تقرير أعدته مؤسسة “هينلي أند بارتنرز” في يونيو (2022)، حول الثروات في أفريقيا لعام 2022م، فهناك نحو 17 ألف مصر يمتلكون أكثر من مليون دولار، يبلغ عدد الذين يملكون أكثر من 10 ملايين دولار نحو (880) شخصا، في حين لا يزيد عدد من يملكون أكثر من 100 مليون دولار على 57 شخصا.
أما من تقدر ثرواتهم بأكثر من مليار دولار فعددهم 7 أشخاص من إجمالي 21 ملياردير في القارة، وبذلك تضم مصر أكبر عدد من المليارديرات في أفريقيا.
وتحتل مصر الترتيب الثاني كأغنى دولة في القارة السمراء من حيث ثروة الأفراد بمبلغ 307 مليارات دولار، بفارق يزيد الضعف على الدولة الأغنى، وهي جنوب أفريقيا التي يبلغ حجم الثروات بها 651 مليار دولار.[[1]]
الغلاء بمعدل يومي
وفي مصر دون باقي دول العالم فإن أسعار الكثير من السلع الاستراتيجية التي تشهد انخفاضا عالميا نجد الأسعار عندنا في مرحلة ارتفاعات مستمرة، فقد انخفضت أسعار الزيوت والألبان واللحوم والحبوب عالميا عن مستوى ما قبل الحرب الأوكرانية.
حسب المنظمات الرسمية، وانخفضت أسعار الأقماح في البورصة العالمية إلى 300 دولار للطن بنهاية ديسمبر 2022م أي ما يعادل 7500 جنيه للطن، وإذا ما أضفنا للطن مصروفات استيراده وشحنه التى قد تصل إلى ألف جنيه يصل سعره إلى 8500 جنيه للطن، لكنه سعر الدقيق في الأسواق يباع بسعر 17 جينها للكيلو بمعنى أن الطن الذي يوازي سعره العالمي نحو (8500 جنيها) يباع للمستهلك في مصر بـ17 ألف جنيها!! ومع ذلك تتزايد اسعار المخبوزات وتقل من حيث الحجم.
وعليها فقس كل أسعار السلع! حتى لو سلمنا بقفزات في سعر الصرف وانخفاضه بنسبة 90% أمام الدولار منذ شهر مارس (22م) بعد أن خفض البنك المركزي المصري قيمة العملة المحلية ثلاث مرات، فقد خسر الجنيه 50% من قيمته خلال السنة الماضية؛ ورغم ذلك لا تزال الأسعار في مصر أعلى من الأسعار العالمية رغم بؤس مقدار الأجور والمرتبات في مصر مقارنة بالدول الأخرى في أوروبا وأمريكا؛ فقد ارتفعت الأسعار في مصر خلال السنة الماضية بنحو 150% عما كانت عليه قبل سنة واحدة فقط!!
البنك الدولي يرفع خط الفقر العالمي
واعتبارا من أكتوبر الماضي “2022”، رفع البنك الدولي الخط العالمي للفقر من 1.90 دولار كحد أدنى للدخل اليومي للفرد، إلى 2.15 دولار، استنادا إلى التحول في الأسعار فيما يتعلق بالطعام والسكن والملابس والاحتياجات الأساسية للسكان في الدول النامية.
واستند البنك في ذلك إلى أسعار سنة 2017م وليس إلى الأسعار الراهنة في 2023م والتي ارتفعت بشدة بعد جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية؛ الأمر الذي يؤدي تلقائيا إلى دخول ملايين المصريين في دائرة الفقر المدقع.
بمعنى أن الدخل اليومي للفرد الواحد على خط الفقر كان نحو (57) جنيها، أما اليوم فإن هذا الفرد يجب أن يرتفع دخله اليومي إلى (65) جنيها، فإذا كان أسرة تتكون من خمسة أفراد يتعين أن يكون دخلها نحو (5×65×30= 9750 جنيها/شهريا)!
هذه الأرقام توضح أن هذه الأسرة التي تتكون من خمسة أفراد ودخلها يلامس الـ(10 آلاف جنيه شهريا) هي بالكاد على خط الفقر، فإذا زادت فردا آخر مع ثبات الدخل باتت تحت خط الفقر؛ وهذا حال عشرات الملايين من المصريين اليوم، فالحد الأدنى الرسمي للأجور في مصر هو ثلاثة آلاف جنيه شهريا في الحكومة و”2.700″ جنيه في القطاع الخاص!
لذلك فإن الجهات الرسمية تمتنع منذ 2019م عن إصدار الإحصائيات الدقيقة بشأن معدلات الفقر في مصر. وتكشف دراسة للجهاز المركزي للإحصاء أجراها على عينة من 17 ألف أسرة في أغسطس الماضي (2022)، عن شكوى 99.8% من المصريين من غلاء أسعار الأغذية، وأكدت 31.9% من الأسر بالمدن عدم كفاية الدخل للوفاء بالاحتياجات الأساسية، ترتفع إلى 37.7% للمقيمين بالريف. وتبين الدراسة أن 65.8% من الأسر تأثرت نفقاتها سلبا على السلع الغذائية وغير الغذائية، وانخفض استهلاك 74% منها على السلع الغذائية و90% انخفض استهلاكها للبروتينات من اللحوم والأسماك والطيور و50% قلت نفقاتها على خدمات النقل والمواصلات.
وفقا للدراسة، تعاني 33% من الأسر المصرية من عدم كفاية الدخل للوفاء بالاحتياجات الشهرية التي كانت تتوافر لهم قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا.
ويتوقع صندوق النقد الدولي، وفقا لدراسة حول آفاق الاقتصاد الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط، أصدرها في نهاية أكتوبر الماضي (2022)، زيادة معدلات التضخم بمصر في ظل استمرار تعرض المنطقة لأجواء من عدم اليقين ومخاطر حدوث تطورات سلبية تؤدي إلى تباطؤ النمو خلال عام 2023، ليصل إلى 3.6%. تؤكد الدراسة ارتفاع معدلات التضخم لأسعار المستهلك في مصر من 8.5% في المتوسط العام سنويا 2022 إلى 12% لعام 2023.
ويؤكد خبراء اقتصاد أن زيادة الأسعار ستؤدي حتما إلى وقوع مزيد من الأسر المصرية متوسطة الدخل في دائرة الفقر وأخرى ستتجه إلى الفقر المدقع، في ظل استمرار تراجع قيمة الجنيه والدخول، مع ارتفاع أسعار السلع الضرورية، وعلى رأسها الغذاء والعلاج والمواصلات وخدمات التعليم، التي تمثل الجزء الأكبر من نفقات الأسر المصرية.[[2]]
استهداف الطبقة الوسطى
ما يفعله نظام السيسي العسكري يبدو أنه أقرب إلى أجندة مقصودة بذاتها؛ بمعنى أن النظام يعمل على تدمير الطبقة الوسطى؛ فكل سياساته وقراراته تصب في تحقيق هذا الهدف؛ وذلك لاعتبارات سياسية تتعلق بمكانة ودور هذه الطبقة في ثورة يناير 2011م، وهي التي تمثل بعبعا للسيسي وأجهزته على الدوام. لأن الفقراء لا يشعلون الثورات على عكس أبناء الطبقة الوسطى.
ويذهب الباحث والمحلل السياسي، الدكتور خليل العناني، إلى أن الفقراء لا يثورون رغم فقرهم وعوزهم الشديد، فالعمال والفلاحون الفقراء لا يستطيعون الإطاحة بحكومات تمتلك جيوشا نظامية عازمة على الدفاع عن أنظمتها مهما كان الثمن.
وينقل خلاصة أقوال علماء وباحثين في علم الاجتماع أن الثورات والانتفاضات لا يقوم بها الفقراء ولا يدشنونها، قد يلحقون بها ولكنهم لا يبدؤونها، الفقراء قد يتمردون وينتفضون لكنهم لا يثورون، وشتان ما بين الثورة والتمرد، فالثورة -في معناها العام والواسع- هي حراك شعبي كبير يستهدف تغييرا جذريا وكليا للنظام السياسي بشخوصه ومؤسساته وقيمه وممارساته واستبداله بنظام آخر أكثر تمثيلا وعدلا، فيما التمرد هو حالة انفجار لفئات وطبقات معينة نتيجة لتراكم حالة الغضب والإحباط.
وعليه، فإن الدول الفقيرة كمصر، نادرا ما تشهد ثورات، ولكنها في أغلب الأحوال تشهد انفجارات وانتفاضات شعبية بهدف تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
وينقل عن جاك غولدستون عالم الاجتماع السياسي الأميركي والأستاذ بجامعة جورج مايسون، قوله إن الفقر وحده لا يؤدي إلى قيام الثورات، ويستدل على ذلك بأن الثورات التي حدثت خلال القرون الثلاثة الأخيرة كانت في بلدان متوسطة الدخل وليست فقيرة. فلماذا لا يثور الفقراء رغم فقرهم وعوزهم الشديد؟
يرى غولدستون وآخرون عدة إجابات على هذا السؤال المثير للجدل والدهشة:
أولا؛ الفقراء لا يستطيعون الإطاحة بحكومات تمتلك جيوشا نظامية عازمة على الدفاع عن أنظمتها مهما كان الثمن، فالثورات تحدث -في أغلب الحالات- عندما يقع انقسام أو انشقاق بين النخب الداعمة للنظام خاصة النخبة العسكرية، والنخب وليس الفقراء هم من يستطيعون تعبئة المواطنين من أجل الثورة والإطاحة بالنظام.
ثانيا؛ الفقراء لا يمتلكون الموارد الكافية -سواء المادية أو المعنوية- لتشكيل قوة ثورية يمكنها العمل والتخطيط لتغيير النظام القائم، وأحيانا يفسر البعض الفقر باعتباره قدرا دينيا أو أمرا طبيعيا يجب تحمله والصبر عليه، لذلك يعتقد غولدستون أن الفقر لا يؤدي إلى ثورات وإنما إلى تمرد شعبي، وكما أشرنا سابقا فإن التمرد هو انفجار مجتمعي يحدث نتيجة للاحتقان والغضب المتراكم، وبالتالي لا يوجد مشروع سياسي واضح خلف التمرد.
فإذا كان الفقراء لا يثورون ــ وفقا للمعنى الصحيح للثورة بوصفه تغييرا جذريا للنظام القائم ــ لكنهم ينتفضون؟ فلماذا ينتفضون؟ وما الذي يجعلهم ينتفضون؟
يذهب غولدستون بأن الحرمان النسبي وليس الفقر هو الذي قد يدفع إلى قيام الثورة وحدوث التغيير، فالشعور بعدم المساواة وانعدام الفرص -سواء في الدول الغنية أو الدول متوسطة الدخل- هو الذي يدفع باتجاه التفكير في الثورة، وذلك من أجل تغيير موازين القوى السياسية وتحقيق العدالة الاجتماعية، ويصبح الأمر أكثر إلحاحا عندما يدرك المواطنون أولا أن فقرهم ليس قدرا حتميا لأن بلادهم فقيرة ولكن نتيجة للسياسات الحكومية الفاشلة والفاسدة، وثانيا لأن هناك فئات وطبقات أخرى لا تعاني الفقر، بل تحتكر الثروات والموارد على حساب بقية المجتمع، وبكلمات أخرى، فإن فقرهم هو بفعل فاعل وليس أمرا قدَريا.[[3]]
يبرهن على صحة ذلك أن ثورة يناير في مصر ما أطلق شرارتها إلا شرائح من الطبقة المتوسطة من المهنيين والطلاب والعمال والموظفين، نفس الأمر في تونس واليمن وسوريا وغيرها، وقد كان الشعور بالحرمان النسبي، وغياب العدالة الاجتماعية، وشيوع الفساد بين الطبقة الحاكمة من أهم محركات ثورات الربيع العربي، ولذلك حملت هذه الثورات شعارات ومطالب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وذلك بغض النظر عما حدث لاحقا.
لذلك، يحذّر البعض أحيانا مما تسمى “ثورة الجياع” التي قد تحدث نتيجة للفقر الذي يضرب البلاد والعباد، وهم هنا يخلطون -ربما بدون قصد- بين التمرد والانفجار الشعبي وبين الثورة، فالجوعى لا يثورون، وإنما يتمردون وينتفضون، ليس لإنهاء فقرهم بشكل حقيقي ومؤسسي، وإنما من أجل الحصول على مكاسب اقتصادية واجتماعية مؤقتة، وذلك دون تجاوزها بالضرورة باتجاه تغيير للنظام الذي يتسبب في فقرهم ومعاناتهم.[[4]]
الإفقار الممنهج
وكان تحليل أعده أعده مركز كارنيجي ونشر بموقع «open democracy»، في بداية أكتوبر “2020” قد انتهى إلى أن نظام الطاغية عبدالفتاح السيسي يشن حربا بلا هوادة على المجتمع المصري، وأنه إلى جانب الطبيعة السلطوية للنظام، فإن الدعم الدولي الذي يحصل عليه في شكل تدفقات مالية وقروض يساهم في تعزيز جهوده الآيلة إلى إثراء طبقة النخبة في الأعمال والمؤسسات العسكرية على حساب المواطنين.
ويضيف أن حكومة السيسي قد حصلت من حلفائها الإقليميين على دعمٍ مالي قدره 92 مليار دولار بين عامَي 2011 و2019، وتستمر في اقتراض مبالغ طائلة من المؤسسات الدولية. تتيح هذه الأموال للحكومة تنفيذ مشاريع ضخمة والإبقاء على منظومة الضريبة التنازلية التي تلقي العبء الأكبر على الفقراء دون الأغنياء.
التحليل الذي أعده الباحث الاقتصادي ماجد مندور، يعز أسباب تزايد معدلات الفقر في مصر إلى تبني النظام حزمة من السياسات المالية والاقتصادية تستهدف تسريع نقل الثروات من الطبقتَين الدنيا والوسطى إلى نخب الأعمال وعلى رأسها المؤسسة العسكرية وقادتها التي باتت تحتكر وتتحكم في مفاصل النشاط الاقتصادي بما تحوزه من امتيازات ونفوذ واسع.
تستند هذه السياسة إلى مرتكزات عدّة:
- أوّلها أن الحكومة تعتمد بشدّة على القروض، بدلاً من الضرائب، لتمويل عملياتها والمشاريع الضخمة في البنى التحتية. أما الإيرادات الضريبية فتُستخدَم على نحوٍ غير متكافئ في تسديد القروض والفوائد، ما يُفضي إلى نقل الثروات من الطبقتَين الدنيا والوسطى إلى الجهات الدائنة للنظام، الخارجية والداخلية على السواء.
- ثانياً، تواصل الحكومة خفض الدعم والإنفاق الاجتماعي.
- ثالثاً، يستمر العمل بالضريبة التنازلية التي تلقي بالعبء الضريبي على كاهل الطبقتَين الوسطى والدنيا. (في إشارة إلى عدم تبني فلسفة الضريبة التصاعدية التي تحدد قيمة الضريبة بناء على حجم المكاسب والأرباح وفق معادلة (ترتفع الضريبة كلما ارتفع الدخل وتقل كلما قل الدخل). وفي الوقت نفسه، تستمر الحكومة في العمل على تنفيذ مشاريع ضخمة في البنى التحتية بقيادة الجيش، ما يُشكّل أداةً للاستحواذ على الأموال العامة، لا أداةً لتطبيق برامج الإنفاق الاجتماعي والحد من الفقر. ويسمح هذا بدوره للأعمال والشركات المملوكة من الجيش بأن تزدهر، ما يساهم في تعزيز نفوذ المؤسسة العسكرية وشبكة المحسوبيات التابعة لها. وهذا الدعم الخارجي يحمي الجيش أيضاً من التدقيق العام، ويقترن مع الاعتماد المتزايد على الضرائب باعتبارها مصدراً للإيرادات الحكومية.
وحول انعكاسات تبني نظام السيسي العسكري لهذه السياسات المالية والاقتصادية على الأوضاع الاجتماعية والسياسية، توقع “مندور” أن تفضي هذه المقاربة إلى آثار خطيرة في المدى الطويل تذهب أبعد من الفقر المتزايد والحرمان الاجتماعي الذي يعاني منه المواطن العادي، إذ إنه من المحتّم أن يصبح هذا النظام أكثر قمعاً وسلطوية فيما يستمر في فرض سياساته القاسية.
وهذا بدوره سيغذّي صعود المقاومة العنيفة للدولة. وينتهي إلى أن هذه المقاومة حتى وإن لم تتبلور إلى إطار حركة سياسية متماسكة، فلا بد من أن يتفاقم مستوى العنف الاجتماعي، ما يفضي إلى تداعيات مزعزعة للاستقرار في المدى الطويل.
فضلاً عن ذلك، يؤدّي توسّع الأعمال والشركات المملوكة من الجيش إلى زيادة الضغوط على القطاع الخاص الاقتصادي فيما يسعى جاهداً للتنافس مع العملاق العسكري، وسوف تكون لهذا الأمر تأثيرات بنيوية طويلة الأمد على الاقتصاد والمنظومة السياسية، وهي تأثيرات يصعب العودة عن مفاعيلها وسوف تستمر على الأرجح إلى ما بعد السيسي ونظامه.
خلاصة الأمر، أدخلت جائحة كورونا الاقتصاد المصري غرفة الإنعاش، وزجت بعشرات الملايين من المصريين إلى ما دون خط الفقر الدولي حيث يصل الفقراء في مصر إلى أكثر من 60 مليونا، بينما تراجعت دخول نحو 91.3% من القوى العاملة في مصر، وفي ظل هذه الأوضاع البائسة، تأتي الحرب الروسية الأوكرانية لتجهز على ما تبقى من قدرة لدى الاقتصاد المصري على الصمود، وفي ظل الارتفاع الفاحش في أسعار السلع الغذائية وزيادة معدلات التضخم في أعقاب انخفاض قيمة الجنيه بنحو 50% بعد ثلاثة تعويمات متتالية في مارس 22 وأكتوبر22 ويناير23م، واحتمال المزيد من ارتفاعات الأسعار وزيادة معدلات التضخم؛ فإن الوضع في مصر مرشح للانفجار؛ لذلك خرجت تقديرات موقف داخل النظام أعدتها أجهزة سيادية تحذر من تبني الحكومة لسياسات تقليص الدعم في ظل هذه الأوضاع وأن الأمور قد تخرج عن السيطرة على نحو لا يتمكن خلالها النظام من احتواء الموقف إذا اشتعل. وتحذر التقارير من أن أي ضغوط جديدة على المواطنين قد تؤدي إلى انفلات الشارع بشكل لا يعرف مداه على وجه الدقة.[[5]]
في هذه الأثناء لا تملك حكومة السيسي أي تصور أو حلول جادة يمكن أن تخفف من وقع أزمة الغذاء والتضخم والصعود الصاروخي للدولار أمام الجنيه الذي فقد نصف قيمته في 2022م فقط، في ظل اشتعال أسعار الغذاء واعتماد النظام على الاستدانة؛ وهو ما يرفع فواتير الديون والدعم ويغرق الدولة حكوما وشعبا في ورطة كبرى قد لا ينجو منها النظام ولا الشعب، في ظل تنبؤات ترجح اندلاع انفجار شعبي قد لايمكن احتواؤه أو السيطرة عليه.
فالسيسي يشن حربا ضارية على المجتمع ويتبنى سياسات اقتصادية تتسبب في تفاقم معدلات الفقر ، وتسرّع بنقل الثروات من الطبقتين الدنيا والوسطى إلى الحكومة ونخب المال والأعمال، وهو ما يمكن أن يفضي إلى نتائج كارثية. وآثار خطيرة في المدى الطويل تذهب أبعد من الفقر المتزايد والحرمان الاجتماعي الذي يعاني منه المواطن العادي، إذ إنه من المحتّم أن يصبح هذا النظام أكثر قمعاً وسلطوية فيما يستمر في فرض سياساته القاسية. وهذا بدوره سيغذّي صعود المقاومة العنيفة للدولة.
وينتهي إلى أن هذه المقاومة حتى وإن لم تتبلور إلى إطار حركة سياسية متماسكة، فلا بد من أن يتفاقم مستوى العنف الاجتماعي، ما يفضي إلى تداعيات مزعزعة للاستقرار في المدى الطويل. فضلاً عن ذلك، يؤدّي توسّع الأعمال والشركات المملوكة من الجيش إلى زيادة الضغوط على القطاع الخاص الاقتصادي فيما يسعى جاهداً للتنافس مع العملاق العسكري. وسوف تكون لهذا الأمر تأثيرات بنيوية طويلة الأمد على الاقتصاد والمنظومة السياسية، وهي تأثيرات يصعب العودة عن مفاعيلها وسوف تستمر على الأرجح إلى ما بعد السيسي ونظامه.[[6]]
[1] 17 ألف مليونير.. هل تتسع الفجوة الطبقية بمصر؟/ الجزيرة نت ــ 03 يونيو 2022م
[2] تم الاعتماد على بعض المصادر مثل: عادل صبري التضخم يدفع مزيداً من المصريين إلى قاع الفقر/ العربي الجديد ــ 29 نوفمبر 2022//محمد مكى/ جنون الأسعار يسابق أسعار الدولار/ بوابة الشروق ــ السبت 3 ديسمبر 2022
[3] خليل العناني/ هل يثور الفقراء؟!/ الجزيرة نت ــ 15 فبراير 2022م
[4] المرجع السابق
[5] مصر: الأوضاع المعيشية تهدد استقرار النظام/ العربي الجديد ــ 12 مارس 2022
[6] ماجد مندور/ مصر.. حرب السيسي على الفقراء/ مركز كارنيجي ونشر بموقع «open democracy» ترجمة موقع الخليج الجديد الجمعة 2 أكتوبر 2020