النهضة المستوردة.. قراءة في كتاب معالم على طريق تحديث الفكر العربي

النهضة المستوردة..

قراءة في كتاب معالم على طريق تحديث الفكر العربي

النقطة الأولى: أن التاريخ يتخذ مسار صاعد، فكل مرحلة تاريخية تقود لمرحلة جديدة أفضل منها بالضرورة؛ فاليوم أفضل من أمس، وغداً أفضل من اليوم وهكذا، بدون انقطاعات أو ارتدادات؛ ألم ترى أن المعارف الإنسانية تتطور بشكل تراكمي، وقدرة الإنسان على استخدام الأدوات وتطوير التقنية تتخذ مسار تصاعدي، والرفاهية تتنامى بمرور السنين.

النقطة الثانية: ليس لشيء قيمة في ذاته، إنما تتحدد قيمة الأشياء بحسب أعمارها؛ فكل ما هو جديد وحديث أفضل من كل ما هو قديم أو تقليدي. وكل قديم مصيره إلى الأفول وسيطويه النسيان.

النقطة الثالثة: أن هذا المسار الصاعد للتاريخ ينتظم كل الأمم والدول والحضارات، فلا يفلت من صيرورة التاريخ أحد، كل ما هنالك أن تدرك كل أمة موقعها على سلم التطور، لتعرف أين تقف وإلى أين تصير.

النقطة الرابعة: ضرورة الاستفادة من المنجزات الحضارية للأمم التي سبقتنا، فالاستيراد والتقليد والتبعية هي شروط المرور من مرحلة إلى التي تليها على سلم الصعود الحضاري؛ إن دول الغرب المتقدم تقف على قمة سلم التطور، بالتالي يجب على غيرها من الدول أن تضع بلدان العالم الأول نصب عينيها وتسعى جاهدة لمحاكاتها واستيراد تجاربها وتبني رؤاها وقيمها، عل هذه البلدان النامية تواصل مسيرتها التحديثية فتلحق بدول العالم الأول.

النقطة الخامسة: هذا الاستيراد والتقليد والتبعية يكتسب شرعيته من كون العالم كله ينتمي لحضارة واحدة، ومسيرة تاريخية واحدة، ومصير واحد، فإن قلدت أوروبا الحداثة فتلك بضاعتنا ردت إلينا.

النقطة السادسة: من يتجاهل قانون التطور أو سنة التقدم سيتجاوزه التاريخ، سينقرض ويلحق بأسلافه من الديناصورات، وسيواصل التاريخ مساره التصاعدي الراسخ.

هذه الرؤية سادت بشكل واضح، خاصة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، لدى كثير من المفكرين والمثقفين العرب. وقد جرى استخدامها لتبرير وشرعنة الاستيراد والتبعية والمحاكاة لكل ما هو وافد من دول الشمال. كما جرى استخدامها دون مساءلتها أو تعريضها لحد أدنى من النقد والتفكيك، ودون مساءلة تضميناتها الفلسفية أو الفرضيات التي أنبنت عليها، فقد طرحت في كثير من الكتابات العربية باعتبارها مسلمة يجدر الإذعان لها. ومن الجدير ذكره أن هذا الطابع التبشيري يغلب على كثير من الكتابات العربية -التي سلطت الضوء على التجربة الغربية فيما يتعلق بالنظريات والقيم والمؤسسات والممارسات- التي ظهرت بداية من الخمسينات وحتى نهاية القرن العشرين؛ فهي كتابات منبهرة طرحها أصحابها وهم مأخوذون بالتجربة الغربية دفعهم شعورهم نحوها بالهزيمة إلى الولع بتقليدها.

ضمن هذا اللون يندرج كتاب “معالم على طريق تحديث الفكر العربي” للكاتب والأكاديمي اللبناني معن زيادة، أستاذ الفلسفة والفكر العربي الحديث في الجامعة اللبنانية، والمحاضر في الجامعة الأمريكية ببيروت، كما ورد في نهاية كتابه، الصادر عن سلسلة عالم المعرفة (عدد 115، يوليو 1987).

ويتكون معمار الكتاب من 5 فصول، مع مقدمة وخاتمة لا يتجاوزان الثلاث صفحات.

أما الغاية من استدعاء الحديث عن كتاب مر على نشره أكثر من ثلاث عقود؛ هو مواصلة التفكير في السؤال الذي ما فارق العقل العربي والإسلامي خلال القرنين الأخيرين، وهو سؤال النهضة، أي “لماذا تأخرنا؟”، بالتالي استدعاء الكتاب هو خطوة في مسار النقاش حول النهضة وسبل تحقيقها، وعوامل إجهاضها خلال القرنين الماضيين.

هنا قد يطرح سؤال مفاده: هل لم يخرج كتاب إلى النور تناول القضية نفسها خلال الفترة الماضية مما دفعك للعودة لهذا الكتاب دون غيره؟ يمكن القول أن على الرغم من كثرة الجدل الذي أثير بشأن النهضة وسبب تأخرنا، إلا أن ثمة إجابات ثلاث كبرى تشكلت على جانبي الجدل بشأن النهضة؛

التيار الأول: التيار المحافظ الذي يرى أن طريق النهضة هو العودة إلى تقاليد الأجداد، واستكمال المسار الذي بدأوه والعودة إلى المرجعية التي انطلقوا منها.

التيار الثاني: هو التيار الذي يجوز تسميته بالتيار التحديثي، ويسمى بالتيار الحداثي أو التغريبي، ويرى أصحابه أن تحقيق النهضة يكون باتباع المسار الذي ابتدره الغرب، وتبني المشروع الحداثي.

التيار الثالث: هو التيار التوفيقي –ويسميه البعض التلفيقي- الذي حاول التوفيق بين الأصالة لدى التيار الأول والمعاصرة لدى التيار الثاني، ومحاولة بناء تركيب جديد يجمع بين الحداثة وبين الثقافة الإسلامية.

ومن ثم لن يخرج كتاب عن سؤال النهضة وسبل تحقيقها، وعن سر تأخرنا، لن يخرج كتاب تناول هذا الموضوع عن إحدى هذه التيارات الثلاث، بالتالي هذا الكتاب يقودنا إلى قلب هذا الجدل.

 

المجتمع الحديث والعقل الحديث:

في الفصل الأول من الكتاب يسعى المؤلف إلى تقديم صورة تقريبية للمجتمع الحديث كما يتجلى في دول العالم المتقدم، ويتسم هذا المجتمع بـ (1) أن العلم والتكنولوجيا هما المحدد الأساسي للمجتمع الحديث. العلم بمعنى المعرفة القائمة على التجربة الحسية، وعلى ملاحظة الوقائع المادية الملموسة، وليس المعرفة الحدسية أو الفلسفية أو الأيديولوجية أو الدينية القائمة على الإيمان، وهو العلم القائم على فرضيات مؤقتة قابلة للتحقق من صدقها أو إثبات زيفها ومن ثم استبدالها بغيرها.

(2) وجود أنظمة اقتصادية جديدة، وأنماط إنتاجية مستجدة، قائمة على التصنيع والميكنة والرأسمالية.

(3) وجود أنظمة سياسية علمانية، حيث تبرز الهوية القومية كبديل للهويات الدينية والأثنية. أنظمة تبلورت بعد مسار صراعي ونضالي مع الكنيسة، ومع الملوك المتغطرسين كونهم يحكمون باسم الإله.

(3) تتأسس العلاقات الاجتماعية بين أبناء هذه المجتمعات على قاعدة “المصلحة المشتركة”، كبديل للعلاقات القائمة على روابط الدم والنسب أو الروابط الدينية، فقد تم استبدال هذه الأخيرة بروابط تعاقدية برجماتية.

لم ينبثق هذا المجتمع الجديد من فراغ، إنما هو نتاج عقل حداثي تشكل عبر مروره بالمخاضات نفسها التي تولد عنها المجتمع الحديث، وقد تشكل هذا العقل الحداثي نتيجة ثلاث حركات تغيير رئيسية؛ الأولى: محطة الإصلاح البروتستانتي، والتي أسفرت عن تقويض الوحدة الشكلية للمسيحية الكاثوليكية في أوروبا الغربية خلال ألف عام، نشوء قيم التسامح الديني مع المخالف، وفصل الدين عن الدولة، مع التخفيف من تدخل الكنيسة في حياة الأفراد. الثانية: الحركة الإنسانية، التي شارك فيها فنانون، وفلاسفة، وعلماء وسياسيون، والتي عملت على أحياء التراث اليوناني والروماني. الثالثة: الحركة العقلانية، وهي الحركة التي اضطلعت بتثوير مناهج النظر للعالم والمجتمع، فانتقدت مكونات فكر العصر الوسيط، وأدواته المعرفية التي تستبعد الحس والعقل، وبدأت تشكل مناهج جديدة تتأسس على التجريب والنظر العقلي مع مكيافللي، ومونتاني، وكوبرنيكوس، وبيكون.

في هذا الفصل قدم الكاتب المجتمع والعقل الغربيين باعتبارهما المثال الذي يجدر بنا تمثله والسراج الذي يفترض أن نتحرك صوب المستقبل في ضوئه، فهما النافذة التي ننظر من خلالها للمستقبل المأمول. فهو مجتمع يتأسس على العلم التجريبي معيار للنظر، وعلى اقتصاد السوق والتصنيع معيار للعمل وطريق للنهوض، وعلى العلمنة والهوية القومية في المجال السياسي، وعلى العلاقات البرجماتية بديل لروابط الدم والنسب والدين في الاجتماع. أما العقل الغربي فهو عقل علماوي يجعل من الحس مصدر وحيد للمعرفة، ويجعل من العقل مصدر وحيد للقيم.

 

ماهية الثقافة:

بينما استعرض الفصل الأول صور التقدم التي حققتها أوروبا الحداثة والتنوير، على صعيد العقل والتفكير، أو على صعيد الاجتماع والعمران، فإن الفصل الثاني بمثابة مدخل للثقافة الإسلامية؛ كان الفصل الأول يستعرض الـ “يوتوبيا” التي يرغب الكاتب في استنباتها في بلادنا، بينما يستكشف الفصل الثاني الأرض التي سيتم فيها استزراع المشروع الحداثي اليوتوبي، فالفصل الأول فيه استعراض العلاج الناجع، بينما الفصل الثاني استكشاف لمكامن الداء.

يبدأ الكاتب بتسليط الضوء على التعريفات المختلفة التي وضعت لمصطلح الثقافة، ويحاول المفاضلة بينها، ويتبني تعريف مفاده أن الثقافة هي جملة واسعة من التصورات والأفكار والقيم والبنى والمؤسسات والممارسات، وأنها ذات طابع ديناميكي؛ فهي تشبه الذرة يقع في قلبها نواة تعمل كقوة جذب تحتف بها المكونات الثقافية الأخرى، هذه النواة أو قوة الجذب تلك قد تكون الدين أو العلم أو الفلسفة أو اللذة والمصلحة المادية المباشرة. وأنها أي الثقافة تنطوي على مكونات بنيوية تتعلق ببيئة الثقافة (بيئة بدوية، أو ساحلية، أو زراعية، أو حضرية، بيئة صناعية أو تجارية)، وعلى مكونات اجتماعية (مستوى التعليم، درجة المعرفة، طبيعة الدين والموروث).

ثم يبدأ في ترسيم تصور للثقافة وعلاقتها بالاجتماع؛ كون البنى الاجتماعية هي الحامل للثقافة، ويسلط الضوء على علاقة الثقافة بالبيئة التي تنشأ فيها، وكيف أن التكوينات الاجتماعية والتشكيلات الاقتصادية والوسائط التكنولوجية والرموز اللغوية والتعبيرات الفنية كلها لسان الثقافة والمعبر عنها والكاشف عن مكنوناتها.

ويشير الكاتب إلى أن الثقافة تتطور، وتتغير، فهي محكومة بالصيرورة التاريخية، وليست خارج التاريخ فهي تخضع لقوانينه وسننه، وأن هناك علاقة جدلية بين الثقافة والشروط المادية؛ فالتغير في الثقافة يقود إلى تغيير الوقائع المادية، وتغير الواقع المادي يقود إلى تغيير الثقافة. وهو يفرق بين حزمتين من العوامل التي تغير الثقافة؛ المجموعة الأولى: التغير الطبيعي أو العفوي غير المقصود؛ ويحدث نتيجة استثناءات، سلبية على غرار الحروب والأوبئة والمجاعات، وتطورات إيجابية مثل النمو الاقتصادي وتراكم رأس المال. المجموعة الثانية: تحولات ثقافية متعمدة ومدروسة؛ جراء السياسات الثقافية، أو تشريعات قانونية، أو دعوة إلى التجديد، أو تغييرات تتسبب بها الأعمال الفنية والأدبية.

وقد لجأ الكاتب لمفهوم الثقافة كمدخل لدراسة المجتمعات العربية وسر تخلفها ولم يستخدم مصطلح الحضارة؛ وتفسير ذلك أن الكاتب يفترض أن هناك حضارة إنسانية واحدة ينتظم في خيطها كل الأمم والمجتمعات، حضارة واحدة تتداول الثقافات المختلفة زمام قيادتها، قادها المسلمون خلال العصور الوسطى، ومع دخول العصر الحديث تولى زمام قيادتها الغرب الصاعد. والغرب في صعوده إلى عرش قيادة العالم استفاد مما لدى المسلمين من عوامل قوة وبنى عليها؛ وعليه فإن استعادة مجتمعاتنا عرش الحضارة العالمية يستلزم الاستفادة مما لدى الغرب والبناء عليه.

والكاتب وإن كان يسلم بقيادة الغرب للحضارة الإنسانية؛ كونها حضارة واحدة تتداول الثقافات قيادتها بحسب ما حققوا من تقدم، إلا أنه يبدوا رافضاً للهيمنة الثقافية التي تمارسها الثقافة الغربية، وهو رفض يدفعه رغبته في أن يعرب عن تفهمه لحق المجتمعات في الاحتفاظ بخصوصياتها الثقافية، لكنه في المقابل أكثر اقتناعاً بأن هناك عملية دمج ثقافي قائمة تقود إلى صهر كل الثقافات في ثقافة كونية واحدة؛ دمج يدفعه؛

(1) انتشار التكنولوجيا في مجالات الاتصال والمواصلات والنقل.

(2) التغول الرأسمالي الذي ربط بين كل البلدان عبر سلاسل الإمداد والإنتاج وعبر أسواق الاستهلاك والإنتاج.

(3) وحدة العلم والحركة العلمية على الصعيد العالمي. عملية الدمج تلك يسيطر عليها الغرب المهيمن لما يمتلك من فوائض مالية وثروات، وما يوظف من أدوات.

يستبعد الكاتب المعيار القيمي في تصنيفه للثقافات؛ بينما يعتمد معيار الفاعلية؛ فلا يهم تصنيف الثقافات إلى ثقافة حسنة وأخرى قبيحة، ما يهم هو أن هناك ثقافة قوية قادرة على البقاء تحقق مصالح المجتمع وتضمن تفوقه في مواجهة الثقافات الأخرى، وثقافة ضعيفة عاجزة لا تحقق مصالح مجتمعها وتضعه في موقع ضعف مع غيره من الثقافات. وفي الحقيقة كان استناد الكاتب إلى هذا المعيار في تصنيف الثقافات هو المدخل الوحيد فيما يبدو الذي يمكن من خلاله تبرير اقتفاء أثار الغرب والسير على خطاه؛ فلو اعتمد الكاتب معيار أخلاقي في تصنيف الثقافات لما أمكن له تبرير الاستيراد من الغرب. فالكاتب يفترض أن الضعف الذي تعانيه مجتمعاتنا هو نتاج ثقافتنا، وبالتالي تحصيل القوة يستلزم تغيير ثقافي، والتغيير الثقافي يستلزم الاستعارة من الثقافة المسيطرة. يستعير ماذا؟ هذا ما يشرحه الفصل الثالث.

 

ماهية الحداثة والمعاصرة:

مجتمعاتنا هي مجتمعات الثقافة، الثقافة الراسخة القديمة الموروثة. المجتمعات الحديثة هي مجتمعات ما بعد ثقافية. لم يذكر الكاتب ذلك نصاً؛ ولعل ذلك يرجع إلى أن مصطلح ما بعد الثقافة[1] لم يكن قد ظهر بعد. لكن النموذج الحداثي الذي يسوقه الكاتب باعتباره المثال والهدف هو نموذج ما بعد ثقافي؛ حيث الهدف حيازة القوة وفتح المجال لحيازة المزيد من القوة، وغياب أية غاية أخرى يمكن فيها توظيف فائض القوة الذي يتراكم بمرور الوقت، أو أية مرجعية متجاوزة تضفي معنى على هذا الشبق والسعار الاستهلاكي لكل شيء.

فالمجتمع الحديث؛ تنتظم فيه النشاطات والقيم على أساس عقلاني، في أنساق موضوعية، لا تستقي من الخرافة أو الغيب. فهو مجتمع يخضع لعملية تأسيس مستمرة، لا يصل أبداً إلى حالة ثبات، فليس ثمة نهاية قد يصلها. فالروح العلمية تهيمن على عقله، ويرى الكون والوجود باعتباره عالم معقول تسوده قوانين مكتشفة أو قيد الاكتشاف، وتسوده علاقات منظمة، فهو عالم معقول مقنن، تخضع ظواهره للقياس والتكميم.

في هذا الوقت –زمن صدور الكتاب- كان المتعارف عليه أن هذه التركيبة تقود إلى، (1) ازدهار اقتصادي وارتفاع مستوى الدخل القومي. (2) سلطة تعبر عن إرادة المواطنين وترعى مصالحهم. (3) ارتفاع مستمر بمستوى التعليم ومن ثم زيادة مضطردة في منسوب الوعي والإبداع. (4) التحرر والاستقلال السياسي. في ديناميكية مستمرة تنتظم السياسة والاقتصاد والنظام الاجتماعي بأسره.

وعلى مستوى الفرد فإن الإنسان الحداثي هو صاحب الوعي العميق بمبدأي الحرية والديمقراطية في أوسع معانيهما، الإيمان بالحق في الاختلاف، والكرامة الإنسانية، الانفتاح على التغيير والتجارب الجديدة، كما يهيمن عليه التفكير في الحاضر والمستقبل أكثر من اهتمامه بالماضي؛ فالزمن يتحرك والحياة تتغير ولا يجب تأبيد لحظة من الماضي.

والكاتب هنا أغفل بشكل واضح سلبيات المجتمع الحداثي العلماني منزوع القيم الذي يسوق له، وفي الوقت نفسه قدم بعض السمات باعتبارها من اختراع المجتمعات الحداثية، على الرغم من كونها سمات ليست حكراً على المجتمعات الحداثية إلا في التجربة التاريخية الأوروبية، مثل قبول الاختلاف، تعبير السلطة عن إرادة المجتمع ورعاية مصالحهم، قبول الاختلاف وحماية الكرامة الانسانية.

 

مركب ثقافي جديد للخروج من بحر الظلمات:

تحقيق التحديث في مجتمعاتنا يستلزم إحداث تحول ثقافي، عبر بناء مركب ثقافي جديد يستبقي مكونات ثقافتنا الجديرة بالإبقاء عليها، ويستوعب الحديث الذي أضافته الثقافة الغربية.

هذا التحول الثقافي ليس جديدا على تاريخنا؛ فالإسلام قاد أوسع وأعمق عملية انفتاح ثقافي على الآخر عرفها الفكر العربي على الإطلاق؛ حيث تناولت كافة أوجه الحياة بالتعديل؛ فهو من جهة ديانة عالمية بينما الأديان الكبرى التي تتقاسم العالم مع الإسلام هي أديان قومية خاطبت شعوب وقبائل، يندرج في ذلك اليهودية والمسيحية، كما نجد أن الإسلام منذ اللحظة الأولى جاء باعتباره رسالة عالمية للناس كافة، فضلاً عن القفزة النوعية التي حققها الإسلام في ميدان التوحيد؛ فالتوحيد في الاعتقاد الإسلامي هو تصور غير مسبوق، أيضاً الخطاب العقلاني الذي انمازت به رسالة الإسلام، وأخيراً تأكيد الإسلام على العدالة التامة والمساواة المطلقة بين بني البشر.

لم تنتهي عملية التحول الثقافي بوفاة النبي (ص)، بل قاد المسلمون خلال عصر الفتوح وما تلاه حركة تزاوج ثقافي مع الأمم المفتوحة في بلاد فارس والروم أنتج مركب ثقافي جديد جمع أحسن ما كان عند العرب بأحسن ما كان عند أصحاب الحضارات التي احتك بها العرب؛ وقد تجلت نتائج عملية المزج تلك في فنون الحرب التي طورها العرب متأثرين بهذه المدنيات التي فتحوها، وفي مجال السياسة والإدارة، وفي علوم الفلسفة وعلم الكلام خاصة بعد حركة الترجمة في العهد العباسي، وفي الطب والصيدلة، وغيرها من المجالات.

وفي العصر الحديث كان ثمة محاولات جديدة للتفاعل الإيجابي مع الثقافات الأخرى بغرض تحقيق النهضة واستعادة زمام المبادرة، سلط الكاتب الضوء على تجربة محمد علي في مصر، ومحاولة التحديث التي قادها حمودة باشا الحسيني، ثم تجددت مع الباي أحمد في تونس، هذه المحاولات التحديثية في مصر وتونس وغيرهما شهدتها المنطقة العربية هي إرث عثماني حيث سبقها محاولة عدد من سلاطين العثمانيين إدخال إصلاحات توقف عملية أفول الدولة.

محاولات النهضة التي دشنتها مشروعات تحديثية في مصر ولبنان والعراق والشام وتونس، صاحبتها مشروعات فكرية غرضها التنظير للنهضة، والبحث في شروطها، وقد سلط الكاتب الضوء على مشروع رفاعة الطهطاوي في مصر، والذي واكب تجربة محمد علي وشهد صعوده وأفوله، ومشروع خير الدين التونسي، والذي شارك في تجربة النهوض التي دشها الباي أحمد في تونس.

كأن الكاتب هنا يقدم دعوته للتجديد عبر تقليد الغرب، باعتبارها وريثة تجارب متتالية للانفتاح على الآخر، وللتفاعل الإيجابي مع الأمم والمجتمعات، بدأها المسلمون في عصر الفتوح وما تلاها، واستأنفها في العصر الحديث عدد من القادة التاريخيين في مصر وتونس وغيرهما، ودعا لها مفكرين كبار أمثال رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي والكواكبي. لكن في استعراضه لهذه التجارب والتصورات يغفل الكاتب الجوانب السلبية لهذه التجارب، ويغفل الطبيعة العفوية لبعضها، ويتجاهل الطابع التلفيقي لكتابات الطهطاوي وخير الدين التونسي.

وقد ثبت لاحقاً فشل نظريات التحديث التي افترضت أن هناك مسار حتمي للتطور، تستطيع الدول النامية إذا حاكت التجارب التاريخية للدول الحديثة في الغرب أن تصل إلى نفس النتائج. وكمعظم التوفيقيين تناسى الكاتب أو غفل عن كون كل تجربة تاريخية لمجتمع ما هي ذات شيفرة خاصة مرتبطة بهذا المجتمع، ويصعب استنساخها في مجتمع آخر ذات شيفرة أخرى. كما أن الفوائض التي تتمتع به الدول المتقدمة هي نتاج عمليات نهب استعماري منظم واستعباد وإبادة دفع ثمنه الملايين في أفريقيا وآسيا والأمريكتين.

الخاتمة:

بنى الكاتب أطروحته على افتراض (1) أن هناك قوانين حتمية تحكم الاجتماع الإنساني في كل زمان أو مكان، من ثم هناك تاريخ عالمي واحد لا يفلت من قبضة القوانين الحتمية المشار إليها، وأن العلم الوضعي الغربي يستطيع فك شيفرة التاريخ والاجتماع الإنساني واكتشاف القوانين الحتمية التي تحكمه، هذه القوانين الحتمية مفصولة عن القيم والغائية فهي محايدة أخلاقياً، التزام هذه القوانين والعمل بمقتضاها يضمن لصاحبها حيازة القوة وتحقيق المصلحة. وحيازة القوة وتحقيق المصلحة عبر تعظيم اللذة وتقليل الألم هو معيار النجاح. من هذه القوانين: (1) أن الكون والطبيعة تحكمه قوانين متضمنة فيه، قوانين سرمدية لا تتبدل، قوانين لا تخضع لإرادة قوى فوق طبيعية. هذه القوانين تستكشف بالتجريب والملاحظة. (2) أن العقل هو معيار الصواب والخطأ، ومعيار القانون والأخلاق.

وبالتأكيد هذه رؤية علمانية يصعب استنباتها في أرض الثقافة الإسلامية الحقيقية؛ (أ) ففي التصور الإسلامي ثمة إرادتان؛ إرادة إلهية مطلقة خلقت الكون وتدبر الأمر وعنده علم الساعة، وإرادة إنسانية حرة اكتسبت حريتها بقدر من الله، لكن حريتها ليست مطلقة إنما مقيدة بالمشيئة والقدر الإلهي، أما الطبيعة فهي مسخرة لله؛ فهو سبحانه الذي ينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، ويسير السفن في البحر، ويكور الليل على النهار، ويخرج الحي من الميت.. إلخ. (ب) وفي التصور الإسلامي فإن الوحي هو المرجع والمعيار الذي يحسن ويقبح فهو صاحب الشريعة.

كما ينطلق الكاتب من رؤية خطية للتاريخ؛ فاليوم أفضل بالضرورة من أمس، والأفضلية على صعيد المؤسسات والممارسات والقيم والأفكار؛ ويعود ذلك كون التاريخ يشبه الإنسان، والمجتمع كائن حي دائم النمو، فالماضي البعيد شهد طفولة التاريخ الإنساني، والوسيط شهد مراهقته، والحديث شهد نضوجه واستواءه على سوقه. أما التصور الإسلامي للتاريخ فيتصور التاريخ الإنساني باعتباره مسيرة كدح للإفلات من قبضة النفس الأمارة بالسوء وتحقيق الإيمان والعمل الصالح مع التواصي بالحق عبر الدعوة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع الصبر على البلاء، ووعد إلهي بهداية من جاهد فيه، وتمكين من استمسك بحبل الله. وثمة تنويعات أخرى تتعلق بالنظرة الإسلامية للتاريخ والاجتماع الإنساني.

تتسم دعوة الكاتب لمحاكاة النموذج الغربي، بأنها تشبه الطرح الحداثي في الغرب، فهو طرح بدون غاية أو سقف، فهي تنمية من أجل التنمية، وحيازة قوة تقود إلى مزيد من حيازة القوة، ورغبة في الاستهلاك والتبديد تقود إلى مزيد من الاستهلاك والتبديد، وتغيير وتحديث بدون غاية أو يوتوبيا. وهو تصور عدمي في النهاية شبق للاستهلاك والتلذذ.

وغاية الكاتب في النهاية هو محاولة تقديم طرح توفيقي يجمع بين الاستفادة من النظام القيمي الإسلامي، والاستفادة من التصورات والمؤسسات والممارسات الغربية. وهو طرح حسن النية، لكن يعيبه أنه لا يحسن فهم فلسفة التصور الإسلامي للوجود، أو غايات فلسفته الاجتماعية، وفي الوقت ذاته لا يدرك الطبيعة العدمية للتصور الحداثي، أو الطابع التدميري لفلسفته الاجتماعية؛ وقد اسهبت الكتابات الغربية في تسليط الضوء على الطابع العدمي والإبادي للحداثة الغربية.

 

————————

[1] ما بعد الثقافة هو حالة فكريّة متغيّرة لامنتميّةٍ ولامنفصلة، بمعنى أنها حالة من اللا-انتماء للثقافة واللاّ-انفصال عنها في آنٍ معا، كما يُوضّح المؤلف، وذلك لأنها تحمل مرجعها الأم معها وفق المتغيرات والمُلاءمة الحافِظة. كما أنها على المستوى الفردي مرتبطة بممارسة الشّك والدخول في تنويرٍ ذاتيّ من أجل استرجاعٍ الوظيفة الغائبة التي هي الذكاء الفرديّ الساعي إلى تمحيص الكم الهائل من المعلومات المُبرمجة بشكلٍ مسبق في العقل وطريقة التفكير. المصدر: عالي الدمين، «ما بعد الثقافة»: ملامح طورٍ إنساني رابع، إضاءات، 21 أكتوبر 2017، الرابط: https://tinyurl.com/2h6y47xv

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022