الانفراجة السياسية في مصر.. قراءة في المؤشرات

خلال الأسابيع الماضية برز مصطلح «انفراجة سياسية»[[1]]، للحديث عن مستقبل الأوضاع في مصر، لا سيما في أعقاب العودة المفاجئة للناشط السياسي  المهندس ممدوح حمزة، والإفراج «المشروط» عن رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات السابق المستشار هشام جنينة، وقبل عودة حمزة المفاجئة بأسبوعين، أفرجت السلطات عن رجل الأعمال ثابت ونجله سيف، بعد أكثر من عامين من التوقيف، ورفعت اسمه من قوائم الإرهاب.

من يقف وراء الترويج لهذه «الانفراجة السياسية» إنما هم نفر ينتمون إلى ما تسمى بالقوى المدنية الديمقراطية، والتي تتشكل أساسا من الأحزاب العلمانية التي أيدت انقلاب 03 يوليو 2013م، في إطار تبرير مشاركتهم في مسرحية «الحوار الوطني»، كذلك تتحدث صحف النظام وفضائياته عن هذه الانفراجة (المزعومة) كشكل من أشكل تبييض صورة النظام منذ الدعوة للحوار الوطني في إبريل (2022).

في المقابل جاءت تصريحات لبعض المحسوبين على الإخوان لتثير شيئا من اللبس والاحتمالات؛ حيث أشار كل من القيادي الإخواني الدكتور حلمي الجزار والصحفي قطب العربي كل على حسابه الخاص بمواقع التواصل الاجتماعي إلى دعم كل توجه من شأنه أن يعيد المهاجرين إلى وطنهم.

فقد كتب الدكتور حلمي الجزار الذي ينتقل بين لندن وإسطنبول على موقعه على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”: «أرجو أن تُسهم عودة ممدوح حمزة في دعم المهاجرين في العودة لوطنهم». وبالمثل أشار قطب العربي، في تدوينة له، إلى أن «مصر بلدنا ونشتاق للعودة إليها»؛ الأمر الذي فسره مراقبون ومحللون باعتباره مؤشرا على هذه الانفراجة.

وتم السماح للمخرج خالد يوسف بالعودة إلى القاهرة بعد فضيحة الفيديوهات الجنسية الشهيرة، وهروبه عندما أدرك أنه مستهدف من  أجهزة  النظام. كما عاد الناشط السياسي وائل غنيم، إلى القاهرة، بعد فترة طويلة قضاها في الولايات المتحدة الأميركية.

وقال حينها عضو «لجنة العفو الرئاسي» في مصر، طارق العوضي: «انتظروا مزيداً من العائدين قريباً… وطن يتسع للجميع».

أعقبه عودة الفنان الشهير حمزة نمرة. وفي منتصف 2022م، وفي أعقاب إطلاق ما يسمى بالحوار الوطني، فتح النظام ذراعيه للناشط السياسي الدكتور عمرو حمزاوي، الذي كان يقيم في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عدة سنوات؛ حيث دعي إلى المشاركة في الحوار الوطني فلبى مرحبا مطالبا بعودة المصريين بالخارج على أرضية  الإيمان بشرعية دستور 2014م؛ حيث قال نصا: «لدي شعور غامر بالسعادة لخدمة بلدي» مضيفا: «لا مكان في الحوار الوطني لمن لا يقبل بشرعية دستور 2014».

وخلال السنوات الماضية تم الإفراج عن الفريق سامي عنان، والمستشار أحمد سليمان وزير العدل الأسبق، والدكتور ياسر علي، المتحدث باسم رئاسة الجمهورية في عهد الرئيس الراحل محمد مرسي، وغيرهم.[[2]]

وكان من اللافت أن تصريحات  ممدوح حمزة لدى عودته إلى القاهرة، بعد سنوات قضاها بالخارج في انتظار إسقاط اسمه من قوائم ترقب الوصول، والتي رحب خلالها بما وصفها بـ”الانفراجة”، قوبلت بانتقادات من جانب كثير من النشطاء حيث اعتبروا أن ترويج حمزة لحدوث “انفراجة” في ملف الحريات العامة أمر “مضلل” و”غير واقعي”.

وقال حمزة، الذي يتوقع نظر محكمة أمن الدولة العليا طوارئ بإعادة إجراءات محاكمته، في 26 إبريل/ نيسان المقبل(2023)، في مقطع فيديو مباشر صوره من صالة كبار الزوار عقب وصوله إلى مطار القاهرة: “بعد دخولي المطار لواء استقبلني وقال لي: مصر ترحب بأولادها المخلصين وفاتحة دراعاتها ليعودوا لبلدهم وتستفيد منهم”.

وتابع حمزة: “ما حدث اليوم يجعلني متفائلاً جداً، وما فهمته وأسعدني جداً أن هناك انفراجة وبالتأكيد لن تقتصر عليّ”.

فهل مصر مقبلة حقا على انفراجة سياسية في ظل نظام 3 يوليو؟ وما المؤشرات على ذلك؟ وما العقبات التي تحول دون ذلك؟ وهل يمكن أن تشهد مصر انفراجة سياسية حقيقية؟ ومتى يمكن أن يحدث ذلك؟ وما شروط تحققها والنتائج المترتبة حال حدوثها على مسقبل البلاد؟

 

قراءة في المؤشرات

الذين يروجون لهذه الانفراجة إنما يستدلون على ذلك بعمليات الإفراج التي تمت (الفريق سامي عنان ـ المستشار هشام جنينة ـ المستشار أحمد سليمان)، وعودة بعض المحسوبين على المعارضة العلمانية (ممدوح حمزة ـ عمرو حمزاوي) وبعض المحسوبين على شباب الثورة (وائل غنيم)، وبعض المقربين من الإسلاميين (حمزة نمرة)، لكن هناك عدة ملاحظات على هذه المؤشرات.

الأولى، ضآلة هذه الأعداد مقارنة بأعداد المعتقلين السياسيين والتي تزيد عن (60) ألفا، كذلك ضآلة أعداد العائدين من الخارج والذين لا يزيدون عن عدد أصابع اليدين مقارنة باعداد المهاجرين والذين يقدرون بالآلاف؛ والزعم أن عودة هذا الرقم الصغير  مؤشر على انفراجة سياسية هو من قبيل التضليل والخداع الذي لا ينطلي إلا على السذج وخفاف العقول.

الثانية، أن الذين أفرج عنهم وآخرهم المستشار هشام جنينة، والعائدون وآخرهم (المهندس ممدوح حمزة)، لم يتم حلحلة أزمتهم إلا بناء على شروط النظام؛ ففي حالة المستشار هشام جنينة؛ فإن الرجل كان قد قضى عقوبة سجنه 5 سنوات من محكمة عسكرية في 2018م بعدما كشف عن امتلاك الفريق سامي عنان مستندات وصفها بـ”بئر الأسرار”، تتضمن وثائق وأدلة “تدين الكثير من قيادات الحكم بمصر الآن، وهي متعلقة بالأحداث التي وقعت عُقب ثورة 25 يناير” عام 2011 التي أزاحت الرئيس الراحل حسني مبارك عن الحكم.

وقبل الإفراج عن جنينة تم التحقيق معه في قضية جديدة (رقم 441 لسنة 2018)، المعروفة إعلاميا باسم “الحراك الإخواني”.

الأمر الذي اعتبره كثيرون ترهيبا لرئيس الجهاز المركزي السابق قبل الإفراج عنه من أجل إجباره على الصمت لأنه على الدوام سيبقى تحت تهديد  الاعتقال على ذمة هذه القضية، وتفيد أنباء مسربة إعلاميا إلى أن جنيه مورست عليه ضغوط لإجباره على التوقف عن  ممارسة أي أنشطة سياسية أو إعلامية أو حتى الحديث عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

ويرى الحقوقي جمال عيد أن أنه “حتى الآن لا توجد أي مؤشرات لانفراجة سياسية كما يدّعون، وخروج المستشار جنينة كان بعد قضاء عقوبته كاملة، ورجوع المهندس ممدوح حمزة بعد 3 سنوات من الغياب عن بلده هو بمثابة الرجوع عن قرار خاطئ من البداية. كل ما في الأمر أن شخصين استعادا حريتهما، لا أكثر ولا أقل”!.[[3]]

وحتى الفريق سامي عنان وغيره لم يخرجوا ليمارسوا حياتهم بكل حرية؛ بل تم الإفراج عنهم بصفقات اشترطت عليهم الصمت والابتعاد عن السياسة؛ ومنذ الإفراج عن عنان في مارس 2019م في إطار صفقة تبنتها بعض القيادات العسكرية (المشير طنطاوي) حينها، فلم يصدر عن عنان أي شيء تصريحا أو تلميحا أو حتى نشاطا يمكن أن يمثل شكلا من أشكال المعارضة للنظام.

الثالثة، ما يتعلق بالإسلاميين بشكل عام والإخوان منهم على وجه خاص فإن أي حديث عن انفراجة لا تتضمن الإسلاميين فهي خداع وتضليل؛ لأن الغالبية الساحقة من المعتقلين السياسيين هم من الإسلاميين.

فهم الفصيل الأكبر الذي تعرض لكل أشكال الظلم والاضطهاد وصنوف التعذيب والانتقام خلال سنوات ما بعد الانقلاب حتى اليوم.

وكذلك فإن القاعدة الشعبية العريضة التي يتمتع بها الإسلاميون لا يمكن الاستخفاف بها؛ فما داموا مضطهدين، وتصادر حياتهم وحرياتهم وأموالهم بتهم ملفقة وأحكام قضائية مسيسة، فإن الانقسام سيبقى قائما بلا حل، وستظل مصر تنزف وتعاني، وربما لن ترفع اللعنة عنها إلا بإقامة العدل ورد الحقوق لأصحابها.

أما بالنسبة لبعض التصريحات المنسوبة لبعض الإسلاميين (الجزار وقطب العربي)، فيمكن النظر إليها من زاويتين:

  • الاولى، أنها لا تزيد عن كونها تعبير عن الشوق للوطن، والرغبة في العودة إليه. وهذا شعور إنساني طبيعي لا يمكن تحميله معاني وأبعاد سياسية لم يصرح بها. فالجزار يتمنى أن تسهم عودة حمزة في دعم المهاجرين في العودة لوطنهم. أما العربي فيعبر عن شوقه إلى مصر والعودة إليها.
  • الثانية، هي تحميل هذه التصريحات أبعاد ودلالات سياسية؛ قد يفهم منها أن هناك وساطات تجري في الخفاء من أجل تسوية الأزمة في مصر بين نظام 3 يوليو والإسلاميين والإخوان على وجه خاص. وقد يستدل أصحاب هذا التوجه بالزيارة المفاجئة في توقيتها ورمزيتها لوفد أمني قطري رفيع المستوى لسجن وادي النطرون والذي يضم في عنابره بعض قيادات الإخوان، والتي تمت في فبراير (2023م)، وذلك في سياق زيارة رئيس الوزراء القطري ووزير الداخلية الشيخ خالد بن خليفة آل ثاني، ولقائه بوزير الداخلية بحكومة السيسي وفق وكالة الأنباء القطرية للتباحث في العديد من الملفات الأمنية.[[4]] فلم يكشف عن تفاصيل هذه الزيارة، ولم يوضح الجانبان (المصري والقطري) أسباب زيارة الوفد لسجن وادي النطرون، وعلاقة ذلك بوجود قيادات إخوانية رفيعة في بعض عنابره.

 

مؤشرات ناقضة

الوقائع على الأرض تعمل عكس هذه الادعاءات حول الانفراجة المحتملة؛ بل تنفي ليس فقط حدوثها بل تنفي نية النظام مستقبلا في تبني فلسفة الانفراجة السياسية من الأساس؛ لأنه أولا تأسس على الدماء والإرهاب ولا يفهم أصلا في الممارسة السياسية شيئا.

وثانيا لأن النظام يرى في أي انفراجة سياسية بمعناها الحقيقي والشامل تهديدا مباشرا لوجوده؛ فهو لن يسمح مطلقا بدوران العملية السياسية ولن يقبل في يوم من الأيام بأي تعددية أو انتخابات ديمقراطية وتداول سلمي للسلطة أو حتى حرية الرأي والتعبير.

أولا،  الحكم الذي أصدرته محكمة جنايات أمن الدولة العليا طوارئ الأحد 05 مارس (23م)، بحبس (30) من فريق عمل منظمة التنسيقية المصرية للحقوق والحريات، وهي الأحكام التي ترواحت بين المؤبد لـ(17) منهم، والسجن خمسة عشر سنة لـ(7) آخرين، من بينهم المحامي عزت غنيم المدير التنفيذي للتنسيقية، ومحمد أبو هريرة.

فضلا عن الحكم بعشر سنوات سجن لأربعة من بينهم: عائشة خيرت الشاطر، وسمية ناصف، وخمس سنوات للمحامية الحقوقية هدى عبد المنعم، وأحمد سلام، فيما قضت بالبراءة بحق مروة مدبولي فقط. كما تضمن الحكم مراقبة شرطية خمس سنوات لجميع المحكوم عليهم عقب انقضاء العقوبة، مع إدراجهم والكيان التابعين له (التنسيقية المصرية للحقوق والحريات) على «قوائم الإرهاب»، وغلق الموقع الإلكتروني لـ«التنسيقية»، وحذفه من مواقع التواصل، فضلًا عن مصادرة المضبوطات.

وتعود أحداث القضية إلى نوفمبر 2018 عندما ألقي القبض على أكثر من 31 شخصًا خلال يوم واحد، من النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان، ومعظمهم عاملين في «التنسيقية المصرية للحقوق والحريات»، وضُموا جميعًا للقضية رقم 1552 أمن دولة عليا لسنة 2018، ووجهت لهم اتهامات منها: «تولي قيادة جماعة إرهابية، والانضمام لجماعة إرهابية، والترويج لأفكار الجماعة باستخدام حسابات التنسيقية المصرية للحقوق والحريات عبر ثلاثة مواقع للتواصل الاجتماعي».

وبدأت محاكمتهم في سبتمبر 2021 أمام محكمة جنايات أمن الدولة طوارئ، مع العلم أن محكمة الطوارئ تصدر أحكامًا نهائية غير قابلة للطعن، تصبح نهائية بعد تصديق رئيس الجمهورية عليها أو من يفوضه.[[5]]

ثانيا، تصاعد معدلات التعذيب والانتهاكات في السجون والمعتقلات خصوصا بحق قيادات الإخوان؛ حيث كشفت عدة رسائل جرى تسريبها للمعتقلين في سجن بدر 3 عن تنظيم المعتقلين إضرابا ممتدا للحصول على حقوقهم ومطالبهم المشروعة والتي يأتي على رأسها السماح بالزيارات العائلية، وفتح التريض، وتقديم الرعاية الطبية المطلوبة، وتحسين الأحوال المعيشية، واحترام حقوق الإنسان”.

كما أعلن المعتقلون في رسالتهم المعنونة بـ”انتفاضة بدر 3.. حصاد 10 أيام من الأحداث” أن “هناك 55 حالة محاولة انتحار، وترحيل 200 سجين إلى سجون أخرى، إلى جانب منع أدوية المرضى وكبار السن والحالات الحرجة.

وارتفعت محاولات الانتحار في بدر 3 إلى 55 حالة خلال 10 أيام، سواء بالشنق أو قطع الشرايين أو ابتلاع الأدوية، احتجاجًا على الانتهاكات التي يتعرضون لها”، حسب ما أشار البيان.

من جانبها زادت إدارة السجن من انتهاكاتها لكسر إرادة المعتقلين، وقامت إدارة السجن بمنع علاجات الحالات الحرجة وكبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة وعدم صرف علاجهم الدوري، وقامت بتغريب 50 معتقلا يشاركون في الفاعليات إلى سجن بدر 1، وترحيل 200 معتقل محكومين في قضايا النائب العام وحسم 1 وحسم 2 وكتائب حلوان، إلى سجون “شديد” المنيا ووادي النطرون وبرج العرب وجمصة”.

ويؤكد البيان على مشاركة فضيلة المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين الدكتور محمد بديع في تلك الفعاليات حيث دخل في إضراب عن الطعام كما يشارك في هذه الانتفاضة أعضاء مكتب الإرشاد، وآخرهم د. مصطفى الغنيمي، الذي أصيب بأزمة قلبية أثناء تغطيته لكاميرا المراقبة تضامنًا مع المعتقلين.

وقام عصام سلطان، أمين حزب الوسط، بتغطية كاميرا المراقبة أيضًا تضامنًا معهم”. وكانت منظمة “كوميتي فور جستس” قد وثّقت 5 حالات وفاة في سجن “بدر 3” في الفترة من 5 أكتوبر حتى 25 ديسمبر 2022، بسبب الإهمال في الرعاية الطبية، وإحداها لسجين بسبب مضاعفات إضرابه عن الطعام.[[6]]

كما  استشهد محمد السيد المرسي (52 عاما) وهو مدرس لغة عربية بوزارة التربية والتعليم بدمياط بعد أن اعتقلته قوة أمنية من مباحث الأمن الوطني بدمياط تعسفياً يوم 21 فبراير الماضي(2023)، وجرى اقتياده ـ حسب الشبكة المصرية لحقوق الإنسان ـ إلى مقر الأمن الوطني بدمياط، وتعرّض للضغوط والتعذيب البدني والنفسي على مدار 11 يوماً، ليلفظ أنفاسه الأخيرة السبت 4 مارس.

ويعد المرسي رابع حالة وفاة في السجون ومقار الاحتجاز المختلفة في عام 2023، بعد وفاة السجين السياسي سعد محمود عبدالغني خضر، أمين صندوق نقابة العلميين بالدقهلية السابق، داخل محبسه بسجن برج العرب بالإسكندرية، في 26 فبراير، وذلك بعد معاناة مع المرض، ومنعه من تلقي العلاج والدواء بشكل منتظم، مما أدى إلى تفاقم معاناته.

وتوفي أيضاً المواطن سامح طلبة داخل محبسه بمركز شرطة الزقازيق، بمحافظة الشرقية، يوم 26 يناير، بسبب ظروف الحبس المزرية، وانعدام الرعاية الطبية والصحية داخل محبسه، مما أدى إلى تدهور حالته الصحية، ولفظ أنفاسه الأخيرة في الحبس، حسب منظمات حقوقية. وتوفي 52 سجيناً عام 2023، إما نتيجة الإهمال الطبي المتعمد، أو البرد، أو الوفاة الطبيعية في ظروف احتجاز مزرية وغير آدمية، تجعل الوفاة الطبيعية في حد ذاتها أمراً غير طبيعي، فضلاً عن رصد 194 حالة إهمال طبي في السجون ومقار الاحتجاز المختلفة في مصر، طبقاً لحصر منظمات حقوقية مصرية.  كما أدى الإهمال الطبي لوفاة 60 محتجزاً داخل السجون ومقار الاحتجاز المصرية خلال عام 2021.[[7]]

ثالثا،  المؤشر الثالث  الذي ينقض أي حديث عن (الانفراجة المزعومة) هو تجميد ما يسمى بالحوار الوطني؛ فرغم مرور نحو سنة على دعوة السيسي لإطلاق الحوار الوطني (25 إبريل 2022م) إلا أن هذه الحوار لم يحدث حتى اليوم، هناك كلام كثير وثرثرة مقصودة تلف وتدور حول الحوار لكن الحوار نفسه لم يحدث ولم تعقد أي جلسات حقيقية  لهذا الحوار المزعوم سوى جلسات تنظيم أعمال الحوار الذي لم يبدأ بعد.

اللافت أن مجلس أمناء الحوار أنجز “مهمته في الإعداد والتحضير للحوار الوطني، وأنهى كل الترتيبات، وذلك قبل انعقاد مؤتمر قمة المناخ العالمية في شرم الشيخ في نوفمبر(2022)، وحسب نجاد البرعي عضو المجلس «لم يعد لدينا ما نفعله، ولم يعد لدينا جديد نقدمه، وعلى أطراف الحوار أن تقرر ما إذا كانت تريد الحوار أم لا»!

المؤكد على الأرض أن هناك حالة ارتباك في دوائر السلطة وكذلك في الطرف العلماني للحوار (الحركة المدنية)، التي أصبحت في موقف حرج، بعد تجاهل السلطة وأجهزتها الأمنية معظم المطالب التي نادت بها الحركة في بيانهـا الأول الصادر بتاريخ 8 مايو 2022، من أجل الانخراط في “الحوار الوطني”، وعلى رأسها الإفراج عن المعتقلين السياسيين.

ورصد مركز “شفافية للأبحاث والتوثيق”، في 12 فبراير/ شباط الماضي(2023)، 4546 حالة تدوير لمعتقلين سياسيين مصريين من قضية لأخرى، لاستمرار حبسهم احتياطياً أكثر من عامين، خلال الفترة من 2016 وحتى 2023.

ووثّق المركز البحثي ومقره القاهرة، خلال الفترة من يناير 2016 وحتى 1 يناير 2023، تعرض 2914 ضحية لتلك الممارسة بإجمالي 4546 واقعة تدوير.

وهي الأرقام التي تؤكد أن الحديث عن انفراجة سياسية هو خداع وتضليل لا يسكن إلا في عقول أنصار السلطة ونفر من العلمانيين وبعض خفاف العقول المنقادين وراء الأوهام.

وحتى إن بدأ الحوار فإن الوصاية المفروضة عليه من السلطة ونوعية المشاركين فيه تؤكد أن مجرد مسرحية شكلية لتجميل صورة النظام ولن يكون لمخرجاته أي تأثير على مستقبل البلاد؛ فهو والعدم سواء من حيث القيمة والنتائج المنتظرة من ورائه.

 

نتائج متوقعة

قد يتجه النظام نحو إعادة عدد من نشطاء التيار العلماني كجزء من مخططات لم شمل معسكر (30 يونيو)، كما يمكن أن يتم (الإفراج بالتنقيط) عن عدد من النشطاء المحسوبين على القوى العلمانية، وقد يشرع النظام في بدء جلسات الحوار الوطني، لكن نتائج الحوار ستكون شكلية لأن الأجهزة الأمنية فرضت وصايتها على الحوار مسبقا وحددت أجندته ومخرجاته والخلاف حاليا حول قبول القوى العلمانية بهذه المخرجات الباهتة بعد استبعاد الملفات الشائلة والحساسة كملف التوسع في الاقتراض والغلاء والسياسات الاقتصادية وسد النهضة وغيرها.

ولعل هذا هو سبب جمود ما يتعلق بملف الحوار حتى اليوم رغم مرور سنة على الدعوة إليه. وفيما يتعلق بعشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين من الإخوان والإسلاميين، فهو ملف مستبعد في كل الأحوال عن هذه الانفراجة الشكلية، ويستخدمه النظام هذا الملف كورقة ابتزاز ومساومة للجماعة من جهة، ويلعب به لكسب المزيد من الدعم من قوى إقليمية (إسرائيل ـ الإمارات) وقوى عالمية (كالولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الاوروبي) من جهة أخرى.

والأهم أن النظام يستهدف ترتيب المشهد وتصميمه حتى الانتهاء من مسرحية انتخابات الرئاسة في منتصف 2024م، وهو الملف الذي يحظى باهتمام واسع من جميع الأجهزة ومؤسسات الدولة، فالمخابرات العامة والأمن الوطني يشرفان على هذا الملف الحساس وسط حالة سخط داخل هذه الأجهزة من مآلات الوضع الاقتصادي الكارثية وعدم وجود خطة إنقاذ من الانهيار الحالي.

ومع تآكل شعبية السيسي حتى داخل هذه المؤسسات فمن المحتمل أن يتجه جناح الرافضين للسيسي نحو الإطاحة به عبر سيناريو الانتخابات من خلال دعم مرشح بديل عوضا عن سيناريو الانقلاب الذي يمكن أن تكون له تداعيات أكثر صعوبة على الوضع الاقتصادي للبلاد، وعلى وحدة وتماسك المؤسسة العسكرية. لكن يبقى انهيار الوضع بوتيرة سريعة ومؤلمة سيفا مسلطا على جميع أجهزة الدولة التي ترى البلد تنهار والنظام عاجز عن وقف هذا الانهيار الحتمي.

ولن تتدخل هذه الأجهزة إلا حدثت انتفاضة شعبية  تطالب بالإطاحة بالسيسي ولذلك يخشى السيسي بشدة ليس من خروج الجماهير لكن من توظيف بعض الناقمين عليه في الجيش ومؤسسات الدولة وأجهزتها والإطاحة به  باعتبار ذلك استجابة  للإرادة الشعبية.

الخلاصة، كل المؤشرات التي تساق إعلاميا للتدليل على قرب حدوث انفراجة سياسية في مصر هي من قبيل الخداع والتضليل الذي تروج له الآلة الإعلامية للنظام من جهة أو بعض الأبواق والأقلام العلمانية لتبرير الموقف الحرج للحركة المدنية بعد استمرار موقفها من المشاركة في الحوار رغم رفض معظم المطالب التي رفعتها  الحركة في بيانها الأول في مايو (2022) كشرط للمشاركة فيه.

وعلى أقصى تقدير فإن ما تسعى إليه السلطة هو لم شمل معسكر (30 يونيو) الذي أيد الانقلاب العسكري على المسار الديمقراطي، وهذا لا يمكن أن يمثل أي انفراجة على الإطلاق؛ لأن المشكلة قائمة حتى عندما كان هذا المعسكر في اقصى اتحاده وعنفوانه إبان الانقلاب؛ فمصر تعاني من التمزق  والانقسام الاجتماعي الحاد، كما تعاني من الفشل في جميع الملفات السياسية والاقتصادية وغيرها.

الواقع يؤكد أن مؤسسات الدولة انهارت بالمعنى الوظيفي باستثناء الدور الأمني في حماية النظام، ودور المؤسسة العسكرية في حماية إمبراطوريتها الاقتصادية ومصالح رعاتها في الخارج.

كل الحقائق على الأرض تؤكد أن النظام العسكري ماض في طغيانه واستبداده دون اعتبارا للمعارضة السياسية التي يراها عبئا على الدولة وكانت سببا في نكسة يناير كما تروج الآلة الإعلامية للنظام. كما لا يضع النظام اعتبارا للشعب أو حتى للموقف الصعب اقتصاديا والذي يعمل على حله بمزيد من القروض وبيع أصول الدولة في ظل إصراره على تغييب الشعب كليا عن صناعة القرار أو حتى المشاركة فيه ضمن مخططات تستهدف تصميم المشهد الداخلي على نحو يسمح بإعادة انتخابات السيسي مرة ثالثة في منتصف 2024م.

ورغم ذلك فقد تشهد مصر انفراجة سياسية كبرى ولكن  ذلك لن يحدث إلا بعد الإطاحة بالسيسي، ولعل ذلك لا يكون بعيدا في ظل الانهيار الاقتصادي القائم والغلاء الذي أسقط نحو (60) مليون مصر على الأقل تحت خط الفقر.

 

 

—————-

[1] مصطلح “الانفراجة السياسية” استخدمته تقارير صحفية وإعلامية كثيرة مؤخرا منها: وليد عبد الرحمن/ مصر: مؤشرات «انفراجة» سياسية تُغري «إخوان الخارج» بالتلميح للعودة/ الشرق الأوسط ــ الأربعاء – 24 رجب 1444 هـ – 15 فبراير 2023 مـ// عودة حمزة والإفراج عن جنينة.. هل مصر مقبلة على انفراجة سياسية؟/ الجزيرة نت ــ 16 فبراير 23م// كريم محمود/ استعدادات للحوار الوطني.. هل تؤدي الأزمة الاقتصادية إلى انفراجة سياسية بمصر؟/ الجزيرة نت ــ 07 فبراير23م// وائل قنديل/ انفراجة حمزة وشركاه/ العربي الجديد ــ 15 فبراير 2023

[2] للمزيد انظر: “الصمت مقابل الحرية”.. أبرز المعارضين المصريين الذي خرجوا من السجون أو عادوا من المنافي مقابل السكوت/عربي بوست ــ 14 فبراير 23م

 

[3] ما هي الرسائل من القضية الجديدة لهشام جنينة؟/ العربي الجديد ــ 16 فبراير 2023

[4] وفد أمني قطري يلتقي وزير داخلية مصر ويزور سجن وادي النطرون/ “عربي 21” ــ 08 فبراير23م

 

[5] «جنايات أمن الدولة» تقضي بالمؤبد والسجن المشدد بحق 30 من أعضاء «التنسيقية للحقوق والحريات»/ مدى مصر ــ الأحد 05 مارس 23م

[6] مصر: عقاب جماعي للمعتقلين في سجن “بدر 3” و55 حالة انتحار وإضراب مرشد الإخوان/ العربي الجديد ـ 06 مارس 2023// رسالة مسربة من «بدر 3»: محاولات انتحار بين السجناء.. ومرشد الإخوان يبدأ إضرابًا عن الطعام/ مدى مصر ـ السبت 25 فبراير23م

 

[7] وفاة سجين سياسي مصري نتيجة التعذيب بعد اعتقاله بأيام/ العربي الجديد ــ 06 مارس 2023

 

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022