تطورات الوضع الميداني في السودان وتأثيراته على مصر

تواجه السودان أزمة خانقة تُعزِّزها حالة الانسداد السياسي التي تفاقمت بانطلاق الاشتباكات المسلحة في 15 إبريل الماضي 2023 في عدد من الولايات والمدن السودانية بين القوات المسلحة بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وسط إخفاق في احتواء الصراع برغم التحركات الإقليمية والدولية لإيجاد مخرج للأزمة في البلاد.

وتكشف تطورات المشهد العملياتي على الساحة السودانية عن إصرار طرفي الصراع على حسمه عسكريًّا والتغاضي عن دعوات المجتمع الدولي لوقف القتال المحتدم في البلاد، أملًا في بدء المفاوضات بشأن تسوية الصراع بشكل نهائي، وهو ما يُعزِّز المخاوف لدى دول الجوار المباشر للسودان وعلى رأسها مصر من استمرار الصراع الذي يُهدِّد استقرارها السياسي والاقتصادي. فكيف يُمكن قراءة تطورات الوضع الميداني والعملياتي في السودان؟ وما هي أهم تداعياته السياسية والاقتصادية على الدولة المصرية؟ تلك هي التساؤلات التي سنسعى للإجابة عليها خلال هذا التقرير..

أولًا؛ الوضع الميداني في السودان وتطوراته..

1. عوامل أثَّرت على تطورات الوضع الميداني على الأرض: هناك عدة عوامل ساهمت في تشكيل الوضع الميداني على الأرض منذ بدء الحرب:

أولها؛ محاولة قوات الدعم السريع في مرحلة لاحقة من اليوم الأول للمعارك قطع التواصل بين شمال العاصمة وجنوبها، عبر تعطيل حركة المرور التي تربط بين جنوب العاصمة ومنطقتي بحري وأم درمان شمالها، وتحديدًا جسر نمر الرابط بين الخرطوم وبحري، وجسر النيل الأبيض بين الخرطوم وأم درمان، وجسر شميرات بين أم درمان والخرطوم بحري، وذلك بهدف منع القوات النظامية من تحريك قواتها لتأمين مبنى التلفزيون الحكومي، لكن فشلت قوات الدعم في تحقيق هذا نتيجة لافتقارها للآليات العسكرية الثقيلة، ما أفضى في النهاية إلى فشلها بالتالي في السيطرة على مبنى التلفزيون.

وثانيها؛ افتقار قوة الدعم السريع للدعم المدفعي الثقيل والدبابات، حيث يقتصر تسليحها على أقل من 50 مدرعة خفيفة، وأعدادًا كبيرة من سيارات الدفع الرباعي من طراز لاندكروزر مسلحة براجمات صواريخ من عيار 107 و122، ورشاشات متوسطة مضادة للطائرات، ومدافع عديمة الارتداد مضادة للدروع، في حين تمتلك القوات النظامية قوة مدفعية كبيرة، وقوة مدرعة متماسكة، تمكن من الدفع بدبابات تي-55 وتي-72 لتقديم الدعم الناري المباشر.

وثالثها؛ على المستوى البشري، وبالإضافة إلى حقيقة أن ميزان القوى البشرية يميل بشدة لصالح القوات النظامية، التي تمتلك نحو 205 آلف جندي، من بينهم 100 ألف جندي قوات عاملة، و55 ألف جندي ينتمون لقوات داعمة شبه عسكرية، مقابل ما لا يزيد عن مائة ألف جندي في صفوف قوات الدعم السريع، قسم كبير منهم يتمركز في دارفور، يُمكن القول أن قسم مهم من قوات الدعم السريع، ينتمى في الأصل لأجهزة عسكرية نظامية سودانية، مثل جهاز المخابرات وأجهزة عسكرية اخرى، وتم إلحاقه بقوة الدعم السريع، وبالتالي كان قرار حل جهاز الدعم السريع محفزًا لهؤلاء للعودة إلى جهاتهم الأصلية في السلك العسكري النظامي، وهو ما أثَّر على أداء قوة الدعم السريع، خاصةً على المستوى المعلوماتي والاستخباراتي.[1]

2. تطورات الوضع الميداني في السودان: في أول مايو الجاري قال الجيش السوداني إن قواته تمكَّنت خلال 15 يوم من تخفيض قدرات قوات الدعم السريع القتالية بما بين 45 و55%. جاء ذلك في بيان نشره الجيش السوداني عبر فيسبوك، تحت عنوان “الأوضاع مستقرة في جميع ولايات السودان”.

ورغم ذلك؛ تعالت أصوات الاشتباكات في العاصمة السودانية الخرطوم رغم تمديد الهدنة في وقت حذَّرت فيه الأمم المتحدة من “لحظة انهيار” على الصعيد الإنساني. وسقط مئات القتلى وآلاف المصابين منذ أن بدأت الاشتباكات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. وعن الوضع الميداني، أفاد الجيش بأن (العدو) حشد بالعاصمة لتنفيذ المؤامرة حتى صبيحة يوم 15 إبريل، قوات ضخمة بتجهيزات كبيرة بلغت حشد 27135 مقاتل، و39490 مستجد، و1950 مركبة مقاتلة، و104 ناقلات جنود مدرعة، و171 عربة بوكس دبل كاب مسلحة بالمدافع الرشاشة.[2]

هذا وقد تم تعطيل إمدادات المساعدات ودفع 100 ألف لاجئ للفرار إلى الخارج وتحويل المناطق السكنية بالخرطوم إلى مناطق حرب.[3] وقالت وزارة الصحة السودانية إن 528 على الأقل قُتلوا وأُصيب 4599 آخرون، وسجَّلت الأمم المتحدة عددًا مماثلًا من القتلى لكنها قالت إنها تعتقد أن العدد الحقيقي أكبر من ذلك بكثير، وكلا الجانبين لم يكشف عن عدد القتلى من مقاتليهم. ومن جانبه، قال مارتن جريفيث منسق الشؤون الإنسانية والإغاثة في حالات الطوارئ في الأمم المتحدة إن الصراع أدى أيضًا إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في السودان الذي كان ثلث سكانه يعتمدون على شكل من أشكال المساعدات الإنسانية قبل اندلاع القتال.

وأضاف “نطاق وسرعة ما يحدث في السودان غير مسبوق، نحن قلقون جدًا من التأثير الحالي وعلى المدى الطويل في جميع الناس في السودان والمنطقة الأوسع”. وقال برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، إنه سيلغي فورًا تعليق أنشطته في السودان بعد أن اضطر إلى ذلك بسبب مقتل 3 من موظفيه هناك في 16 إبريل باشتباكات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.[4]

وبالرغم من قدرات الجيش؛ لكن قائده، اللواء عبد الفتاح البرهان، سرعان ما وجد القوة الجوية والمدفعية وحدهما لن يتمكنوا من إيقاف رجال خصمه، الذين اقتحموا مقر إقامة البرهان في عمق مقر قيادة الجيش في الساعات الأولى من الصراع -وفقًا لتقرير صادر عن رويترز-. ويتبع حميدتي تكتيكه المفضل، وهو القتال من مسافة قريبة واللعب على نقاط القوة في قوات الدعم السريع.

فعلي المستوى التكتيكي؛ بعد قرابة شهر من بدء القتال، وعلى الرغم من الضربات الجوية شبه اليومية، لم يطرد الجيش قوات الدعم السريع من العاصمة، حيث اتخذ رجالها مواقع في مناطق سكنية وعدة مؤسسات رئيسية. واتجه مقاتلو قوات الدعم السريع من قواعدهم في العاصمة، التي تتعرض للضربات الجوية، إلى المنازل وطردوا السكان.

ويقول السكان إنهم يوقفون سياراتهم بالقرب من المنازل لردع الضربات الجوية. كما احتل رجال حميدتي مبانٍ حكومية مثل وزارة الداخلية ومباني الشرطة واستولوا على إمدادات كبيرة من الوقود من مصفاة النفط، وكذلك البنوك. ونشرت قوات الدعم السريع قناصة على أسطح المنازل. ولتشديد سيطرتهم، أقام العديد من مقاتلي حميدتي من الرزيقات، أكبر قبيلة عربية في دارفور، نقاط تفتيش في جميع أنحاء الخرطوم، يبحثون في بطاقات الهوية ويفتشون السيارات والأمتعة. واتهمهم سكان العاصمة بالنهب، وهو ما نفته قوات الدعم السريع.[5]

وعلى المستوى الجغرافي؛ بالرغم من ميل كفة ميزان القوة لصالح قوات الجيش السوداني، بشكلٍ يجعلها في النهاية تُحقِّق انتصارًا مرحليًا في العاصمة والولايات القريبة، لكن ظلت معضلة التعامل مع الوضع في كلٍّ من مدينة مروى وولاية شمال كردفان، وولايات دارفور، خاصةً مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، ومدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور، ومدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور، حيث قد تلجأ قوات الدعم السريع إلى التمترس في ولايات دارفور، وخلق واقع مشابه لما كان الحال عليه في ليبيا خلال السنوات الأخيرة، خاصةً أن القطاعات السبع العسكرية التي تمتلكها قوات الدعم، يقع أغلبها في إقليم دارفور.[6] هذا بالإضافة إلى الفوضى التي خلقتها تلك القوات بالفعل في العاصمة.

وفي ظل هذا التصعيد العملياتي على الأرض؛ كانت هناك ملاحظتان هامتان:

أولهما؛ غياب القوى السياسية عن المشهد: حيث استمر تجاهل طرفي الصراع السوداني للدعوات المتكررة من جانب معظم القوى والأحزاب السياسية السودانية بوقف الاقتتال فورًا والبدء في عملية تفاوضية لإنهاء الصراع وتسويته، وهو ما أدى إلى تدويل الصراع بعيدًا عن محاولات الداخل للاحتواء، إذ يتضاءل وزن هذه القوى في اللحظة الراهنة كونها تُعد الطرف الأقل نفوذًا في خضم تطورات الصراع العسكري الراهن.

وثانيهما؛ استمرار عمليات الإجلاء للرعايا الأجانب: وهو مؤشر مهم يعكس حجم التطورات على صعيد المسرح الميداني في مناطق القتال، كما أنه ينذر بتصعيد الاشتباكات المسلحة بين طرفي الصراع في المدى القريب. فقد أعلنت عدد من الدول إجلاء رعاياها من السودان مثل الولايات المتحدة الأمريكية والصين وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وهولندا والسويد والدنمارك وفنلندا وتركيا واليابان وإسبانيا واليونان وليبيا والأردن وجنوب إفريقيا وكينيا وغيرها.[7]

3. معركة إعلامية موازية للعسكرية برعاية دولية: منذ اندلاع المعارك في 15 إبريل 2023، لجأ قائد الجيش السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان وغريمه محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد قوات الدعم السريع، إلى إغراق وسائل الإعلام بمعلومات مضللة. ونشر الجانبان -وفقًا لباحثين في هذا الشأن- “حقائق ملتوية” في حملة إعلامية لخلق “حالة من الخوف” تسيطر على الناس. وبينما لم يُحقِّق أي طرف تقدمًا ميدانيًا كبيرًا، يرى خبراء أن لقوات الدعم السريع وحميدتي يد طولى في المعركة الإعلامية.

فبُعيد اندلاع القتال، بدأت حسابات مرتبطة بحميدتي وقواته تبث بلغة إنجليزية مُتقنة، منشورات تؤكد فيها أنها تقاتل “الإسلاميين المتطرفين” الذين “يشنون حملة وحشية ضد الأبرياء”، وتقوم بالدفاع عن “الديموقراطية”. ويرى متخصصون في شؤون الشرق الأوسط، أن ذلك مؤشر على أن قوات الدعم “تستفيد من خدمات خبراء في مجال الصورة والتواصل الالكتروني”. كما ويرى هؤلاء أن قوات الدعم تتفوق في الحرب الكلامية على الجيش الذي يعتمد تكتيكات أسموها بالـ “قديمة”، حيث يستخدم الجيش حسابات وهمية على مواقع التواصل، كانت بالكاد ناشطة قبل المعارك.

وقامت هذه الحسابات غير المُوثَّقة بنشر بيانات للبرهان والجيش أقرب ما تكون إلى دعاية مضللة، وفق خدمة تقصّي صحة الأخبار لوكالة فرانس برس. وتداولت الحسابات على منصات مختلفة، مقاطع فيديو تشيد بالجيش لشنّه ضربات جوية على مقرات لقوات الدعم، والاستيلاء على كميات ضخمة من النقود من منزل حميدتي، وشنّ غارات جوية في شمال البلاد، واتضح فيما بعد أن اللقطات قديمة وتعود إلى اليمن وليبيا، وحتى أن بعضها كان من ألعاب الفيديو. كما أعلن حساب باسم قوات الدعم يحمل علامة التوثيق -التي باتت متوافرة عبر خدمة الدفع-، عن مقتل حميدتي. وبحسب متخصصين، فإن تغريدة داعمة لقوات الدعم السريع مؤخرًا حملت بصمتها الرقمية “التوقيت المحلي للإمارات”، ما قد يؤشر إلى أن بعض الحسابات على تويتر كانت “تُدار من الإمارات”.

وهذا الأمر ليس بجديد؛ فوفق بيانات “دي أف آر لاب”، فبعض الصفحات -أغلقتها فيسبوك في 2021-[8] “كانت تُدار من السعودية والإمارات”. وفي مارس 2022، أكَّد مسؤول أمني سوداني أن “خبراء روس يشاركون في تأمين الاتصالات ومراقبة شبكات التواصل الاجتماعي لصالح مؤسسات مرتبطة بالدولة” في السودان.[9]

4. حسابات الطرفين ومستقبل الصراع: تعكس تكتيكات وسياسات الطرفين منذ اندلاع الاشتباكات المسلحة في البلاد امتلاك كل طرف حساباته الاستراتيجية الخاصة في هذا الصراع الدائر بالبلاد.

فمن ناحية؛ يدرك الجيش السوداني ضرورة أن يستأثر وحده بالقوة العسكرية، وعدم السماح بوجود جيش موازٍ له في الداخل، كما أن حسم الصراع عسكريًّا لصالح الجيش السوداني يمنحه المزيد من الشرعية والنفوذ في الداخل السوداني. لذلك، يعزز الجيش مساعيه في خضم هذا الصراع لنزع الشرعية السياسية التي تعتمد عليها قوات الدعم السريع في شرعنة وجودها في الواقع السوداني، والدفع نحو تفكيكها أو على الأقل إجبارها على الاندماج في القوات المسلحة السودانية بشروط الأخيرة، وهو ما قد يترتب عليه إقصاء حميدتي من المشهد السياسي برمته خلال المرحلة المقبلة، إضافةً إلى القضاء على الحواضن الإقليمية والدولية الداعمة لقواته. وفي ذات الوقت يدعم الطموح السياسي للمؤسسة العسكرية السودانية بتقديم مرشح لها تتعزز فرصه في الفوز بالانتخابات الرئاسية المقبلة بالبلاد.

ومن ناحية أخرى؛ يسعى حميدتي بقوة إلى تأكيد شرعيته هو وقواته كرقم صعب في المعادلتين السياسية والعسكرية بالداخل السوداني، وذلك في إطار تنامي الطموح السياسي لقائد الدعم السريع ربما وصولًا إلى قيادة البلاد مستقبلًا بعد انتهاء المرحلة الانتقالية، وهو ما دفعه إلى تبرير انخراطه في هذا الصراع بمزاعمه حول الدفاع عن الديمقراطية وحماية التحول الديمقراطي في البلاد وانتقال السلطة إلى المدنيين. كما يدرك حميدتي جيدًا أن تعزيز قوته العسكرية وموازنتها للجيش السوداني سوف تخدم طموحاته المستقبلية في المشهد السوداني.

لذلك، يحاول حميدتي هز ثقة قطاع كبير من المواطنين في القوات المسلحة، وتأليب الرأي العام ضد قادتها في ضوء توجيه المزيد من الاتهامات لهم بانتمائهم إلى النظام السابق واستهداف المدنيين في القصف الجوي، مستغلًا الآلية الإعلامية التي تمتلكها الدعم السريع منذ بدء الصراع، والتي تشير إلى استعانتها بشبكة من الخبراء في المجال الإعلامي لإدارة المعركة عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي على الصعيدين المحلي والدولي. وحتى في حالة عدم حسم الصراع، قد يضغط المجتمع الدولي من أجل التفاوض بين طرفي الصراع، مما قد يُمثِّل فرصة لحميدتي للمساومة بشأن بقائه في المشهد السياسي دون تقديم تنازلات كبيرة، والحصول على ضمانات بشأن مستقبل قواته ومستقبله خلال المرحلة المقبلة.[10]

ثانيًا؛ تأثيرات الوضع في السودان على مصر..

1. على المستوى السياسي: تواجه مصر أزمة مُعقَّدة جراء تصاعد الأزمة السودانية بين الجيش بقيادة البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي. فالموقف المصري يميل إلى دعم معسكر الجيش السوداني بقيادة البرهان، ويرجع ذلك لأكثر من سبب، فمن جهة؛ القلق المصري من كون خسارة الجيش السوداني لمعركة الصراع على السلطة يعني أن زعيمًا لميليشيات قد يصبح الحاكم الفعلي للجارة الجنوبية، وهو ما قد يعني عدم استقرار الأوضاع في السودان لفترات ممتدة. ومن جهة ثانية؛ عدم استقرار السودان ستكون له تداعيات خطيرة للغاية على مصر بشكل مباشر، منها ما يتعلق بملف سد النهضة الذي تعتبره القاهرة تهديدًا وجوديًا لها. ومن هذه الملفات أيضًا النزوح المُتوقَّع لملايين السودانيين الهاربين من الصراع، والذين قد تعتبر غالبيتهم مصر وجهتهم الأولى، مما سيضيف أعباء اقتصادية على مصر. ومن جهة ثالثة؛ فإن ما يزيد الأمر تعقيدًا هو أن ثلاثة من أهم حلفاء مصر يقفون في صف المعسكر الآخر. أولهم؛ الإمارات -الداعم الاقتصادي الأكبر لمصر-، والتي تدعم زعيم قوات الدعم السريع حميدتي، وتساعده بقوة كي يخرج منتصرًا في نهاية المطاف. وثانيهم؛ خليفة حفتر زعيم الحرب المسيطر في شرق ليبيا، والذي وقفت القاهرة في صفه ودعمته عندما انقلب على الحكومة الليبية المعترف بها دوليًا، ويقف أيضًا بجانب قوات الدعم السريع وقائدها حميدتي. وثالثهم؛ روسيا التي تُلقي بثقلها خلف حميدتي، وتعتمد عليها مصر اقتصاديًا بشكل كبير.[11]

* عوائق تحول دون قيام مصر بدور فعَّال فيما يحدث بالسودان: وجود نظام سياسي بديل معادٍ للقاهرة في الخرطوم؛ قد تكون له تداعيات خطيرة على الجارة الشمالية. إلا أن هناك أسباب تجعل من الصعب على مصر إعلان دعمها لأحد طرفي الصراع، والتي قد تكون مفهومة.

وأبرزها التعقيد الشديد الذي ينطوي عليه المشهد السياسي في السودان، علاوةً على التشابه الصارخ بين التطورات التي شهدها البلدان في الفترة الأخيرة. فقد كان لكل دولة منهما ثورة خاصة بها أسقطت رأس النظام، وكان للجيش دور حاسم في إسقاط الزعيمين. ثم أحبط الجيش في مصر الانتقال إلى الديمقراطية، وهو ما أثار مخاوف مُبرَّرة لدى النخبة السياسية في الخرطوم حيال أن يشجع الجيش المصري نظيره السوداني على أن يتبع النهج نفسه.

وبالتالي، فإن خيارات مصر تبدو محدودة على صعيد الموقف من الصراع في السودان، والسبب الرئيسي هو الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة التي تمر بها البلاد، وسط مخاوف حيال إمكانية أن تتعرض للتعثُّر في سداد الدين الخارجي الهائل في وقتٍ لاحق من هذا العام.

وبما أن الإمارات، أحد أكبر الداعمين الماليين الرئيسيين للسيسي في الخليج، تقف في صف قوات الدعم السريع في السودان، سيكون من الصعب أن يجاهر السيسي بدعم الجانب المعاكس من الصراع. والأسوأ هنا هو أن جميع المسارات المُحتملة للصراع في السودان تُعد محفوفة بالمخاطر بالنسبة للجيش المصري، وقد يؤدي التدخل بقوة لصالح أيٍّ من طرفي الصراع إلى نتائج عكسية تؤثِّر على المصالح الوطنية المصرية. وبينما تتوخى مصر الحيطة والحذر في رهاناتها على صعيد الصراع في السودان، قد لا ينجح أيضًا عدم اتخاذ إجراء حيال الموقف الحالي على المدى الطويل.[12]

2. على المستوى الاقتصادي: ألقى اندلاع الحرب في السودان على الوضع الاقتصادي في الدول المجاورة خاصة مصر، حيث أن تدهور النشاط الاقتصادي بشكل كبير داخل السودان سوف يكون له العديد من الآثار السلبية.

أولها؛ التبادل التجاري بين البلدين: حيث تحتل السودان المرتبة الثانية بقائمة أكبر خمس أسواق مستقبلة للصادرات المصرية بقيمة 226 مليون دولار سنويًا، وذلك وفقًا لبيانات الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات. ويستحوذ السودان على نحو 13.2% من إجمالي قيمة التبادل التجاري بين مصر والقارة الإفريقية. وتعتمد مصر على السودان في استيراد عدد كبير من السلع والمنتجات، على رأسها الحيوانات الحية، والسمسم، والفول السوداني، والقطن، والبذور الزيتية وفي المقابل تشمل الصادرات المصرية للسودان العديد من المنتجات تامة الصنع أهمها: الكيماويات، والمواد الغذائية، السكر، والآلات والمعدات. ويثير الوضع في السودان تساؤلات عديدة بشأن تضرر حركة التجارة البينية مع السودان خاصة مع تضرر المعابر والمنافذ والموانئ السودانية، وما قد ينتج عنه من أثار سلبية تتعلق بنقص اللحوم والحبوب وارتفاع أسعارها، والذي يعاني بالفعل جراء الحرب الروسية على أوكرانيا.[13]

وثانيها؛ عدم استقرار سوق الذهب المصري: والذي شهد ارتفاعًا قياسيًا، فبعد أن كانت أسعار عيار 21 (2265 جنيه) بداية الحرب في 15 إبريل؛ زادت زيادة كبيرة في غضون أيام قليلة من الحرب حتى وصلت إلى (2510 جنيه) في 25 إبريل، مما يعكس مدى تأثُّر سوق الذهب في مصر بالأحداث المحيطة.فنتيجة المعارك الدائرة في السودان تأثَّرت الصادرات السودانية من الذهب تـأثُّرُا شديد، حيث أن صادرات السودان من الذهب تُشكِّل 50% من إجمالي الصادرات، وقد نتج عن تعطُّل مطار الخرطوم تعطُّل حركة الصادرات من الذهب والتي تتم عن طريق الطيران، ويذكر أن قيمة صادرات السودان من الذهب بلغت خلال العام الماضي 1.6 مليار دولار، وهو ما يُمثِّل 44% من إجمالي صادرات البلاد التي بلغت 3.6 مليار دولار، فإن هذا سيضع ضغوطًا كبيرة على أسعار الذهب العالمي مما سيؤثر على أسعاره في السوق المصري.[14]

وثالثها؛ أزمة تمويل: فمع تأزُّم الأوضاع نتيجة الحرب، تتأثر أعمال البنوك ومؤسسات التمويل متعددة الأطراف ومدى قدرتها على تمويل المشاريع في المنطقة ككل ومنها (مصر)، وتتزايد المخاوف الحالية بشأن اتجاه المؤسسات الدولية نحو رفع متزايد لأسعار الفائدة على القروض للدول الإفريقية ومنها مصر والسودان. لاسيما وأن هناك مؤسسات مالية إقليمية مثل البنك الإفريقي للاستيراد والتصدير لديه نحو 930 مليون دولار قروض في السودان.

ورابعها؛ الاستثمارات المشتركة:تمتلك مصر الكثير من الاستثمارات الكبرى في السودان، حيث وصلت قيمة الاستثمارات إلى نحو 2.7 مليار دولار، بعدد مشروعات يقدر بنحو 273 مشروعًا، في مجال: الأسمنت والبلاستيك والرخام والأدوية ومستحضرات التجميل والأثاث والحديد والصناعات الغذائية، ونحو 90 مشروعا خدميًا بقطاعات المقاولات والبنوك والمخازن المبردة والري والحفريات وخدمات الكهرباء ومختبرات التحليل والمراكز الطبية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، و17 مشروعًا زراعيًا بقطاعات المحاصيل الزراعية والإنتاج الحيواني والدواجن ونشاط صيد الأسماك، كما أن نحو ٧٠٪ من الاستثمارات المصرية تتركَّز بالعاصمة السودانية الخرطوم. ومما لا شك فيه، أنه مع استمرار النزاع في السودان سوف تتأثَّر الاستثمارات المصرية، وسيتعرض بعضها للجمود والتعطيل المؤقت لحين عودة الاستقرار خاصة مع احتمالية إغلاق منافذ البضائع والمطارات؛ وبالتالي ستتوقَّف عمليات نقل البضائع من وإلى السودان، كذلك تضرر القطاع البنكي والمصرفي بالسودان بشكل كبير.[15]

الخُلاصة؛ قد يعصف استمرار الصراع العسكري الراهن في السودان بمكتسبات المرحلة الانتقالية التي تلت سقوط نظام البشير في إبريل 2019، وهو ما يعود بالدولة السودانية للمربع الأول، ويُهدِّد مستقبلها بمزيد من التوتر والاضطرابات السياسية والأمنية، على نحوٍ يُفاقم المخاوف الإقليمية لدول الجوار وعلى رأسها مصر من تمدُّد الصراع وتهديد استقرارها. وفي ضوء توسع الصراع وإصرار طرفيه على الاستمرار في القتال لحين حسم المعركة عسكريًّا، تتصاعد المخاوف المصرية السياسية والاقتصادية. هذا وتعني الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية والجيوسياسية للسودان أن استمرار القتال أو انحداره إلى حرب أهلية سيؤثِّر سلبًا في حياة الملايين في السودان والمناطق المحيطة بها وعلى رأسها مصر، وربما في جميع أنحاء العالم.


[1] “آفاق الموقف الميداني في السودان”، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 18/4/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/rGyIY

[2] “الجيش السوداني: إضعاف قدرات الدعم السريع القتالية إلى النصف”، الجزيرة مباشر، 1/5/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/CeRsM

[3] Michael Georgy, Frank Jack Daniel (ed.), “How Sudan’s paramilitary forces took parts of Khartoum, stormed army chief’s quarters”, Reuters, 10/5/2023. At: https://cutt.us/UDzaN

[4] “الجيش السوداني: إضعاف قدرات الدعم السريع القتالية إلى النصف”، مرجع سبق ذكره.

[5] Michael Georgy, Frank Jack Daniel (ed.), Loc. Cit.

[6] “آفاق الموقف الميداني في السودان”، مرجع سبق ذكره.

[7] أحمد عسكر، “حسابات الداخل والجوار المباشر تجاه الصراع في السودان”، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 29/4/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/2dKyn

[8] ففي عامي 2019 و2021، أغلقت فيسبوك حسابات سودانية تدعم وسائل إعلام حكومية وروسية متصلة بـ”وكالة أبحاث الإنترنت” الروسية، وهي مجموعة اتهمتها الولايات المتحدة بالسعي للتأثير في انتخابات الرئاسة 2016. وفي 2021 أيضا، كشفت المنصة الأميركية أن هذه الحسابات كانت تدفع الأموال “بالريال القطري، الدولار (الأميركي)، والروبل (الروسي)” للترويج لها.

[9] “السودان- المواجهة غير محسومة ميدانيا.. فلمن السيطرة على مواقع التواصل؟”، DW، 23/4/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/BqCJB

[10] أحمد عسكر، مرجع سبق ذكره.

[11] “اقتصاديًا وسياسيًا وإنسانيًا.. كيف تواجه مصر “أزمة ثلاثية” بسبب الحرب في السودان؟”، عربي بوست، 24/4/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/YLFW1

[12] “اقتصاديًا وسياسيًا وإنسانيًا.. كيف تواجه مصر “أزمة ثلاثية” بسبب الحرب في السودان؟”، مرجع سبق ذكره.

[13] د. جيهان عبد السلام، “كيف تؤثر الحرب السودانية على الاقتصاد المصري؟”، مركز رع للدراسات الاستراتيجية، 30/4/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/8EBPm

[14] رضوى محمد سعيد، “انعكاسات الحرب السودانية على أسعار الذهب في مصر”، مركز رع للدراسات الاستراتيجية، 25/4/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/eswd0

[15] د. جيهان عبد السلام، مرجع سبق ذكره.

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022