لعل من أبرز ملامح المشهد الانتخابي التركي هو حضور الدين كمعيار لتقييم وتصنيف المرشحين، فتركيا كغيرها من دول المنطقة والدول العربية ما تزال تعاني من أزمة هوية، ولم تقدم بعد معالجة مناسبة لمسألة علاقة الدين بصيغ الاجتماع الحداثية المعاصرة، “وواضح من لغة الخطاب السياسي السائد في هذه الانتخابات أن صراع الهوية لا يزال على أشدِّه في تركيا[1]“، وإن كان هذا الملمح يبرز بشكل خاص لدى المجموعات العربية المقيمة هناك؛ فهم من جهة كأنهم حملوا معهم صراعاتهم من مجتمعاتهم الأصلية إلى مجتمعهم الجديد، وهم من جهة أخرى جاءت مواقفهم استجابة وردةفعل على الخطاب الشعبوي الكاره للأجانب في تركيا.
هذا التوتر الإسلامي العلماني جاء على الرغم من حرص تحالف الأمة أو تحالف الطاولة السداسية، وفي القلب منه حزب الشعب الجمهوري، وعلى رأسه المرشح الرئاسي كيليتشدار أوغلو، على مغازلة التيار المحافظ في تركيا، فالشعب الجمهوري رشح محجبات على قوائمه، كذلك ضم التحالف أحزاب السعادة، والمستقبل، والديمقراطية والتقدم[2]، وكلها أحزاب تنتمي للطيف الإسلامي بتنويعاته، فضلا عن تصريحات كثيرة لشراء ود المحافظين الأتراك. لكن هذه المحاولات يبدو أنها لم تؤت ثمارها؛ إذ يعتقد كثير من المتدينين الأتراك “أن هذه التصرفات لا تعبر عن موقف هؤلاء الحقيقي اتجاه الدين بقدر ما هي ضرورة انتخابية سرعان ما ستزول”[3]، خاصة مع حرص كثير من رموز التيار السياسي العلماني في تركيا على تأكيد ضرورة تطهير المجال العام من كل مظاهر التدين التي تفشت فيه خلال سنوات حكم العدالة والتنمية.
الحضور الكبير للبعد الديني، بصورة لم يألفها الشارع التركي بهذه الكثافة من قبل؛ لا يمكن فهمه بمعزل عن الدور الذي لعبته المنصات الإعلامية ومراكز الدراسات الأوروبية والأمريكية، في الترويج لنتائج استطلاعات الرأي المبشرة بهزيمة تحالف الشعب الذي يترأسه الرئيس أردوغان، وفي الدعاية السلبية ضد الأخير، وضد التحالف الذي يتزعمه، “فمئات المقالات والتقارير والصور على أغلفة الصحف والمجلات الكبرى تهاجم الرجل بكل ضراوة، وتحذر الأتراك من انتخابه[4]“؛ حتى غدت الانتخابات التركية وكأنها حلبة صراع ومواجهة بين الغرب العلماني والشرق المتدين، هذه الممارسات بدورها غذت البعد الهوياتي والديني للانتخابات التركية؛ حيث بدا لكثير من المتدينين أن هناك رغبة ملحة لدى الحكومات الغربية في الإطاحة بـ “أردوغان” كونه آخر معاقل الإسلام السياسي في المنطقة، وكون ذلك يرد أنقرة مجدداً لحظيرة التبعية[5].
في ضوء ما سبق، نحاول في هذه السطور تسليط الضوء على بعض بيانات المؤسسات العلمائية التي أعلنت فيها دعمها للرئيس التركي والقوى المتحالفة معه، والوقوف على أبرز ملامح وسمات هذه البيانات.
المؤسسات العلمائية والانتخابات التركية:
كان من ملامح حضور الدين في الانتخابات التركية الأخيرة، حرص مؤسسات علمائية، في الداخل التركي وخارجه، على إعلان تأييدهم للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والتحالف الداعم له في الانتخابات الجارية.
في داخل تركيا: أعلن منتدى العلماء UMAD، وجمعية العلماء المسلمين، في بيان مشترك، عن دعمهما الرئيس التركي أردوغان؛ كون تركيا في عهده حققت خلال الأعوام العشرين الماضية إنجازات بارزة، كان لها رأي في السياسة العالمية من خلال كسر الأغلال التي كانت تكبل أياديها[6].
وفي خارج تركيا: قال بيان مشترك، وقعه علماء تابعون لـ “الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين” وعلماء مستقلون من معظم دول العالم الإسلامي، أن سياسية تركيا في عهد أردوغان عادت على المسلمين بنفع كثير؛ ففي تركيا وفرت الحرية والأمن للجميع، كما رفعت الحظر المفروض على الحجاب، كما كثرت هناك المساجد وحفظة القرآن، وعلى الصعيد الخارجي، حققت صعود سياسي، وحضور قوي على مستوى القضايا الإقليمية والدولية، كما شهدت نهضة اقتصادية كبيرة، وما أنجزته من نمو كبير في قوتها العسكرية، وهذا كله يعود على المسلمين بالنفع العميم.
أما على مستوى العالم الإسلامي فقد صارت تركيا مأمن يأوي إليه كل من يعاني الظلم والاضطهاد في بلده، بما في ذلك جمع عظيم من علماء المسلمين. كما امتدح البيان السياسات الخارجية التركية، مثل التدخل في ليبيا وإيقاف اجتياح العاصمة طرابلس، التدخل في سوريا وتأمين مناطق الشمال، ومساندة قطر خلال أزمة الحصار في 2017، وموقف أنقرة الصلب من الإساءات الغربية للنبي (ص). لكل ذلك دعا البيان المسلمين الذين يمتلكون حق التصويت في هذه الانتخابات أن يمنحوا أصواتهم للرئيس أردوغان، ومن لا يملك هذا الحق أن يساند مؤيدي أردوغان الأتراك بما استطاع[7].
كذلك أعلنت “جمعية الفاتح” لرجال الدين التركمان في العراق، عن دعمها للرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية، المقرر لها 14 مايو 2023.
وعن دوافع هذا الموقف، قال عضو الجمعية، عيسات رشيد، أن نتيجة الانتخابات التركية مهمة ليست فقط لتركيا ولكن للمنطقة بأكملها، وأن حق التصويت في الإسلام أمانة دينية يجب أن تعطى لمن يستحق، وأن أردوغان قدم تضحيات كبيرة من أجل تحقيق السلام في المنطقة خلال العقدين الماضيين
فيما اعتبر عضو الجمعية معروف الحسيني، أن فوز تحالف الجمهور في الانتخابات سيكون انتصاراً للعالم الإسلامي[8].
أولى ملامح البيانات الصادرة عن هذه الجهات في سياق دعمها لتحالف الشعب وعلى رأسه أردوغان، أن هذه البيانات، سواء في الداخل التركي أو خارجه، لم تستخدم اللغة الفقهية المعتادة، فلم تستخدم مصطلحات حلال أو حرام، وإنما استعانت بمفردات “المصلحة” و”المنفعة” في تبرير تأييدهم لـ “أردوغان”.
ثاني الملامح أن خطاب الدعم الصادر عن هذه الجهات، رغم كونه صادر عن مؤسسات دينية وعلمائية، إلا أن مسوغات التأييد التي دفع بها تتعلق بالأداء السياسي والاقتصادي للرئيس التركي، ولا تستند إلى مقولات دينية أو نصوص شرعية.
حتى وإن أشارت البيانات إلى إنجازات الحكومة المتعلقة بحماية القيم الوطنية والأخلاقية، وحماية الأسرة والمجتمع، وفتح المجال أمام المحجبات، وإزالة التضييقات التي كانت تحول دون التحاق خريجي المدارس الدينية بالجامعات، وحماية وتطوير المراكز الدينية ومراكز تحفيظ القرآن، وإدخال دراسة القرآن والسيرة للمناهج التعليمية، وتقديم مأوى في تركيا للإسلاميين المضطهدين في بلادهم، تبقى العوامل التي ساقوها لتبرير دعمهم لـ “أردوغان” متعلقة بأدائه السياسي، ولا تستند إلى مقولات دينية، بمعنى لا تشرعن موقفها من انتخاب أردوغان لكونه واجب ديني، وكون انتخاب غيره محرم شرعاً[9].
لكن يبقى هذا الموقف الذي يستند إلى المصلحة والمنفعة في تبرير دعمهم لـ “أردوغان”، ليس موقف جامع للعلماء، إذ ثمة من يفتي بأن دعم الرئيس التركي واجبا وجوباً عينياً؛ على قاعدة أن الأخير “يقاوم العلمانية بقدر الوسع، بمقابل الفريق الذي يؤمن بالعلمانية ويحرسها”، وبحسب هذا الطرح، فإن انتخاب أحد مرشحي المعارضة غير جائز شرعاً؛ كونها “تتبنى العلمانية وتدعم المثليين والشذوذ الجنسي”[10].
وبالتأكيد هذا التعاطي مع الشأن السياسي بموجبه يفقد المجال السياسي معناه وفاعليته ودوره. وإن كان هذا لا ينفي أن ثمة خطاب علمائي آخر، يبدو أنه أعلى صوتاً يبرر دعمه للرئيس التركي بالحديث عن إنجازاته السياسية في داخل تركيا وخارجها[11].
الملمح الأخير، أن خطاب المؤسسات العلمائية التركية يبدو أكثر انفتاحاً ومرونة من خطاب مؤسسات العلماء العرب، وإن كان خطاب العلماء العرب في دعمهم لأردوغان لا يمكن فهم أبعاده بمعزل عن تصريحات قوى المعارضة، التي استخدمت الخطاب الشعبوي الكاره للأجانب في تحشيد المؤيدين.
كما لا يمكن فهمه في معزل عن الاعتداءات العنصرية التي تعرض لها عرب مقيمين في تركيا فقط لكونهم يتكلمون العربية[12]، والوعود التي قدمها مرشح المعارضة كيليشدار أوغلوا بـ “إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم خلال عامين”، وإعادة توجيه مسار السياسة الخارجية التركية، حيث ستكون الأولوية للعلاقات مع الغرب، فضلا عن تشابه مرشحي المعارضة في الوعد بالتوجه غرباً على صعيد السياسة الخارجية التركية، وترحيل اللاجئين السوريين، وإبراز اللغة والهوية القومية التركية، وكلها وعود معادية للأجانب، ومعاكسة للسياسات التركية خلال سنوات حكم العدالة والتنمية[13].
كذلك لا يفهم إلا في ضوء كون تجربة العدالة والتنمية آخر تجارب الإسلام السياسي الباقية، والوحيدة التي قدمت نموذج ناجح وجذاب.
الخاتمة:
تبقى تركيا في النهاية كغيرها من دول المنطقة، ودول العالم العربي، غير قادرة بعد على الوصول إلى المعادلة التي تحقق من خلالها المصالحة بين الإسلام والحداثة؛ فلا يزال الإسلاميون يشعرون بوحشة تجاه صيغ الاجتماع الحديثة، وفي القلب منها الدولة الوطنية، ولا يزال التيار الحداثي يرى في الإسلاميين، خاصة الإسلام السياسي، قوى متربصة بما أنجزته بلدانهم من إنجاز على صعيد التقدم والتحديث.
هذا التوجس المتبادل وغياب الثقة، يجعل التنافس الديمقراطي بين الجانبين كأنه معركة صفرية، في حين أن الممارسة الديمقراطية لا تعرف المعارك الصفرية، ما دام هناك قانون ذات سيادة لا يمكن تجاوزه من جانب أياً من الطرفين، وما بقيت هناك “حقوق إنسان” لا يمكن انتهاكها أياً كانت هوية أو قناعات القائمين على الحكم.
لكن جزء معتبر من هذا التوتر الإسلامي العلماني، الذي شهدته تركيا خلال فاعليات الانتخابات الأخيرة، يرجع إلى الدور التحريضي الذي لعبته وسائل إعلام أجنبية، ضد الرئيس التركي وحزبه.
وإن كان من الضروري أن نؤكد أن هذا التوتر ظل بصورة كبيرة يدور في فضاء الرأي العام غير الرسمي، أما على الصعيد الرسمي فقد بدت القوى السياسية التركية، بمختلف انتماءاتها، ذكية ومرنة ومنفتحة، في التعاطي مع مسألة الدين والعلمانية؛ فالرئيس التركي يلتزم بالطبيعة العلمانية للدولة التركية، والمعارضة التركية أبدت حرصاً على احترام مشاعر المتدينين، كما ضمت في صفوفها قوى محسوبة على الإسلاميين.
[1] محمد مختار الشنقيطي، الانتخابات التركية ومخاض الاستقلال الثاني، الجزيرة نت، شوهد في: 17 مايو 2023، في: https://tinyurl.com/2fcwuvl5
[2] خير الدين الجابري، إسلاميون وعلمانيون وقوميون.. ما خلفية أحزاب المعارضة التركية المنضوية تحت “الطاولة السداسية”؟، عربي بوست، شوهد في: 16 مايو 2023، في: https://tinyurl.com/2p8a8cul
[3] سمير العركي، الدين والهوية في قلب الانتخابات التركية، الجزيرة مباشر، شوهد في: 16 مايو 2023، في: https://tinyurl.com/2m9q2glz
[4] عامر عبد المنعم، ما كل هذا الصراخ خوفا من فوز أردوغان؟!، الجزيرة مباشر، شوهد في: 17 مايو 2023، في: https://tinyurl.com/2ktjzcwg
[5] صالحة علام، الانتخابات التركية وخطورة ترسيخ مبدأ أكون أو لا أكون، الجزيرة مباشر، شوهد في: 16 مايو 2023، في: https://tinyurl.com/2gs87hhl
[6] منتدى العلماء، مؤسسات عُلمائية تركية تعلن دعمها للرئيس التركي أردوغان في الانتخابات الرئاسية المقبلة، شوهد في: 15 مايو 2023، في: https://tinyurl.com/2no8fv76
[7] منتدى العلماء، علماء الأمة يدعون إلى انتخاب أردوغان، شوهد في: 15 مايو 2023، في: https://tinyurl.com/2zckm7cn
[8] علي ديمير، جمعية تركمانية تدعم أردوغان في الانتخابات: رمز للسلام في العالم الإسلامي، وكالة أنباء تركيا، شوهد في: 15 مايو 2023، في: https://tinyurl.com/2knjyncg
[9] المرجع السابق.
[10] عارف بن أحمد الصبري، الموقف الشرعي من الانتخابات التركية، منتدى العلماء، شوهد في 15 مايو 2023، في: https://tinyurl.com/2pw63nfa
[11] محمد الصغير، هل سأمنح صوتي لأردوغان؟، منتدى العلماء، شوهد في: 15 مايو 2023، في: https://tinyurl.com/2hynephh
[12] صالحة علام، هل يكون العرب أول ضحايا الانتخابات التركية؟!، الجزيرة مباشر، شوهد في: 12 مايو 2023، في: https://tinyurl.com/2o9t28dt
[13] وسام الدين العكلة، بنقاط سريعة.. إليك أهم الوعود الانتخابية لمرشحي الرئاسة التركية، نون بوست، شوهد في: 16 مايو 2023، في: https://tinyurl.com/2gkupckn