تُعد قوات فاغنر ذراع فلاديمير بوتين الضاربة خارج الحدود الروسية، حتى أنها باتت أداة التأثير الروسي الأكثر فاعلية والتي لا تُبارى بالتحديد في إفريقيا، حيث نشرت قواتها في ليبيا وإفريقيا الوسطى، وأبرمت علاقات وثيقة مع ميليشيات خليفة حفتر في ليبيا، وقوات الدعم السريع في السودان، وتتورط في تهريب الذهب بالمنطقة وتوريد السلاح.
ويبدو أن مجموعة فاغنر أسَّست لروسيا إمبراطورية في إفريقيا بأرخص التكاليف إن لم تكن، مع تحقيق مكاسب مادية عبر دورها في القارة في حروب القارة ونهب مواردها.
والعلاقة بين قائدها بريغوجين والرئيس بوتين تعود إلى تسعينيات القرن الماضي، عندما كان الأخير عمدة مدينة سان بطرسبرغ حيث وُلد الشخصان. ونتيجة هذه العلاقة الخاصة بين بريغوجين وبوتين، فقد حظيت قوات فاغنر منذ تأسيسها وظهور نشاطها بشبه جزيرة القرم عام 2014 بثقة الكرملين وتمتَّعت بوضع خاص داخل أروقته، الأمر الذي أثار فيما يبدو خلافات بين زعيم فاغنر، وجنرالات الروس، وعلى رأسهم سيرغي شويغو وزير الدفاع، ورئيس الأركان فاليري غيراسيموف، وأذكى صراعًا على النفوذ.
ومنذ دخول قوات فاغنر معركة مدينة باخموت الأوكرانية لم يتوقف قائدها عن توجيه السباب لقادة الجيش الروسي، بل اتهمهم بالخيانة، وشكَّك في قدرتهم على حماية روسيا، في مسلك غريب على دولة عظمى اشتُهرت بحكمها المركزي الاستبدادي.
واحتدَّت الأزمة بين مجموعة فاغنر والجيش الروسي مُنذرةً بتعقيد الأوضاع في أوكرانيا، وبالتبعية في الدول الإفريقية والمناطق التي تسعى موسكو لتوسيع نفوذها بها. فكيف نشب الخلاف بين فاغنر والحكومة الروسية حتى وصل إلى تمردها؟ وكيف يُمكن أن يؤثر ذلك على إفريقيا في المستقبل؟ تلك هي التساؤلات التي سنسعى للإجابة عليها خلال هذا التقرير…
أولًا: الخلاف بين فاغنر والحكومة الروسية..
أعلن قائد فاغنر يفغيني بريغوجين في 5 مايو الحالي عن أن مقاتليه مضطرون إلى الانسحاب من جبهة باخموت في إقليم دونيتسك الأوكراني، بحلول 10 مايو الماضي، وذلك بسبب عدم قيام وزارة الدفاع بتزويده بالذخائر اللازمة.
وعلى الرغم من تراجع قائد فاغنر بعد يومين عن تهديده بالانسحاب من باخموت، وتأكيده بأنه تلقى وعودًا من وزارة الدفاع الروسية بتزويده بالذخائر اللازمة، فإن تصريحاته السابقة قد كشفت عن تفكك في العلاقة بين القوى العسكرية الروسية المنخرطة في معارك أوكرانيا، مع مؤشرات على خلافات داخل الحلقة الضيقة المحيطة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين.[1]
وكانت التوترات المستمرة منذ فترة طويلة بين مجموعة فاغنر والجيش تُنذر بقرب الانفجار في الأسابيع الأخيرة. فقد اختطفت المجموعة قائدًا بارزًا للجيش على الجبهة وهو العقيد رومان فنيفيتين، بعد اتهامه بفتح النار على سيارة تابعة لمجموعة فاغنر بالقرب من مدينة باخموت.
وقد أطلق سراح فنيفيتين لاحقًا، وفي مقطع فيديو تداوله مدونون عسكريون روس، اتهم المجموعة بتأجيج الفوضى على خطوط الجبهة الروسية من خلال سرقة السلاح وإجبار الجنود الذين يخدمون بموجب التعبئة العسكرية على توقيع عقود مع المجموعة، ومحاولة ابتزاز الأسلحة من وزارة الدفاع. ووصف بريغوجين ذلك بأنه “محض هراء”.
وأشار أيضًا إلى أنه مستعد لنشر قواته على الأرض الروسية لمواجهة القوات المتمردة في منطقة بيلغورود. وفي المُقابل؛ قال نائب وزير الدفاع الروسي نيكولاي بانكوف إن “تشكيلات المتطوعين” سيُطلب منها التوقيع على عقود بشكل مباشر مع وزارة الدفاع، في خطوة اعتبرها الخبراء استهدافًا مباشرًا لقوات فاغنر، لكن وزارة الدفاع قالت إن الخطوة تهدف إلى “زيادة فعالية” الوحدات الروسية التي تقاتل في أوكرانيا.
إلا أن ذلك لم يمنع رئيس مجموعة فاغنر، يفغيني بريغوجين، من إعلانه في بيان غاضب إن قواته ستُقاطع العقود.[2]
1. جذور وأسباب الخلاف بين فاغنر ووزارة الدفاع: كان بريغوجين متورطًا في نزاع علني مع وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس أركان الجيش فاليري غيراسيموف طيلة أشهر. واتهم مرارًا المسؤولين الاثنين بعدم الكفاءة وبتعمد تقليل الإمدادات العسكرية لوحدات فاغنر التي تقاتل في أوكرانيا.[3]
حتى أنه اتهمهما في فبراير الماضي بارتكاب أفعال ترقى إلى الخيانة، هدفها تدمير قوات فاغنر. ويرى البعض أن أسباب تصاعد الخلاف بين الطرفين ترجع من جهة إلى وجود استياء من فاغنر في أوساط قيادتي الأمن والجيش الروسيين، نظرًا إلى تنامي نفوذها، خاصةً أن ضباط الأمن والجيش ينظران إلى بريغوجين على أنه “مجرم وصاحب سوابق”، كونه دخل السجن لعدة سنوات سابقًا.
ومن جهة أخرى إلى محاولات وزير الدفاع ورئيس الأركان المستمرة لعرقلة عمليات التجنيد في فاغنر، والتي تعتمد بدرجة أساسية على سجناء وأصحاب سوابق، يجري استصدار قرار عفو عنهم مقابل القتال مع فاغنر.
والصراع بين قائد فاغنر ورئيس الشيشان قاديروف من جهة، وقادة الجيش الروسي من جهة أخرى، بدأ منذ سبتمبر 2022 عندما هاجم قاديروف القوات الروسية ووزارة الدفاع بعد فقدان مناطق استراتيجية في خاركييف شرق أوكرانيا، إذ ضغط بعدها كل من بريغوجين وقاديروف على بوتين لاستصدار قرار تعيين الجنرال الروسي سيرجي سوروفيكين قائدًا عامًا للعمليات في أوكرانيا.
لكن الجيش الروسي استخدم نفوذه واستفاد من عدم تحقيق سوروفيكين تقدم يُذكر، واستطاع فرض تعيين رئيس هيئة الأركان غيراسيموف قائدًا لعمليات أوكرانيا في يناير 2023، ومنذ ذلك الحين عمد قائد العمليات الجديد للتضييق على فاغنر في أوكرانيا.
بينما يرى البعض الآخر أنه هناك خلافات داخل الطبقة المسماة “أصحاب القوة” ضمن روسيا، وهم الدائرة الضيقة المحيطة ببوتين، حيث يُعد تصعيد قائد فاغنر ضد قادة الجيش الروسي امتدادًا للخلافات ضمن طبقة “أصحاب القوة”.
وهجوم بريغوجين على وزير الدفاع الروسي ورئيس هيئة أركان الجيش، يهدف إلى إعادة التوازنات تلك الطبقة، إذ يدير التصعيد ضد الجيش من الخلف يرجل يدعى يوري كافالشوك المسؤول عن إدارة ثروة بوتين، ولديه تأثير كبير على قائد قوات فاغنر.
ولم يستبعد هؤلاء وجود ضوء أخضر من بوتين للهجوم الإعلامي الذي يشنه بريغوجين على قيادات الجيش الروسي، والهدف المحتمل لذلك هو رغبة الرئيس الروسي بتأديب الجيش بشكل مستمر وعدم ترك المجال أمامه لاستعادة دوره في الحياة العامة، مستفيدًا من أوضاع الحرب الراهنة.[4]
2. تطور الخلاف وتمرد فاغنر: تفاقم الخلاف بين فاغنر ووزارة الدفاع الروسية حتى أعلن قائد فاغنر بشكل مفاجئ في نهاية يونيو الماضي، دخول قواته الأراضي الروسية وتوجههم نحو العاصمة موسكو، معلنًا رفضه التراجع أو الاستسلام.
إلا أنه بعد ما يقارب الـ 24 ساعة دخلت بيلاروسيا على خط الوساطة بين بريغوجين وموسكو، لتنتهي تلك المغامرة المفاجئة والقصيرة بنفي قائد فاغنر إلى الأراضي البيلاروسية.
وليعلن من هناك أن هدفه لم يكن الإطاحة بالحكومة الروسية أو حكم الرئيس فلاديمير بوتين بل حماية مجموعة فاغنر. فيما خيّر بوتين عناصر فاغنر إما بالخروج إلى بيلاروسيا، أو الانضمام للقوات الروسية، أو العودة إلى بيوتهم.
وقال قائد فاغنر، يفغيني بريغوجين، قبل الإعلان عن التمرد: “تم استهدافنا بضربة صاروخية وبسلاح المروحيات بالرغم من أننا لم نقم بأي مقاومة.. وقتل قرابة 30 شخصًا من مجموعتنا وأصيب آخرون.. توجهت برسالة حول عدم نيتنا القيام بأعمال عدائية وأننا لن نرد إلا في حالة استهدافنا”.
وأضاف أن “عملية التمرد استمرت 24 ساعة وقافلتنا الأولى توجهت إلى روستوف والأخرى نحو موسكو.. وخلال يوم التمرد قطعت قافلتنا 780 كم ولم نقتل أي جندي على الأرض”.
وأبدى أسفه “لأننا اضطررنا خلال التمرد لتوجيه ضربات لسلاح الجو الذي ألقى القنابل وأطلق الصواريخ علينا.. وصلنا لمشارف موسكو خلال التمرد وكانت تفصلنا عنها 200 والقليل من الكيلومترات.. أغلقنا كافة المباني العسكرية على الطريق نحو موسكو خلال التمرد.. الخسائر البشرية خلال عملية سيرنا نحو موسكو وصلت لعسكريين ممن انضم إلينا وعدد من الجرحى من قواتنا.. توقفنا عن التمرد في اللحظة التي أصبح فيها من الواضح أن الكثير من الدماء ستُراق.. اكتفينا بعرض قوتنا ولم يكن لدينا هدف للإطاحة بالحكومة الحالية أو الرئيس.[5]
3. لماذا سكت بوتين عن تجاوزات بريغوجين؟ كان من اللافت في تصريحات بريغوجين المتتالية؛ التناقض بين ما يتعرض له المواطنون الروس العاديون من أحكام سجن قاسية بتهمة الإساءة للجيش أو انتقاد الحرب، والسماح لبريغوجين بمهاجمة شويغو وغراسيموف وغيرهما من كبار القادة العسكريين. والسبب في ذلك، غالب الأمر، أنه محمي من بوتين، الذي قد يرى أن هذا الشجار يخدم مصالحه في ضمان ألا يكون لأي فصيل منهم القوة اللازمة للانقلاب عليه.
حيث علاقة بوتين بالجيش الروسي تبدو مُعقَّدة إلى حدٍّ بعيد، ففي السنوات الأولى لحكمه، تمثَّل أحد أكبر التحديات بالنسبة لبوتين في مواصلة السيطرة على الجيش. بالنظر إلى أنه أحد أكبر جيوش العالم في بلد شاسع، ولدى الجيش فيه تقليد يتمثَّل في التأكد من أن العالم الخارجي لا يعرف إلا أقل القليل عن أنشطته. كما أن بوتين يعي تمامًا أن الجيش خلال أوقات الحرب يميل إلى كسب مزيد من السلطة داخل الدولة.
ويعلم أنه كلما استمرت الحرب تزايدت هذه السلطة، وزادت صعوبة ممارسة سيطرته عليه. ومن ثمَّ؛ فإن القوة النسبية للجيش تقلقه، حتى أكثر من قلقه من أداء الجيش في أرض المعركة. ونتيجة لذلك، لجأ بوتين إلى طرق غير تقليدية على نحو متزايد لكبح جماح الجنرالات.
على سبيل المثال، بداية من خريف 2022، شجَّع مراسلي الحرب على نشر المشاكل التي تحدث داخل الجيش. لكن الأهم هو الدور الذي تضطلع به مجموعة فاغنر، بوصفها قوةً تحافظ على التوازن بالنسبة للجيش. حيث يرى بوتين يرى أنه طالما يملك القوة الكافية والقدرة على حفظ التوازن بين مختلف المجموعات المؤثرة، فإن بريغوجين لن يكون خطيرًا، ولذا يسمح بوتين بظهور الصراع بين مرتزقة فاغنر والجيش الروسي للعلن.[6]
4. مستقبل فاغنر بعد إعلان التمرد: حتى وقتٍ قريب، كان يُنظر إلى بريغوجين على أنه حليف وثيق للرئيس بوتين، لكن مستقبله الآن لا يزال غير واضح -لاسيما بعدما أعلن في تسجيل صوتي نُشر لاحقًا إن الحكومة الروسية أرادت حل مجموعته- لذلك من الصعب معرفة ما سيحدث لمقاتلي فاغنر في جميع أنحاء العالم.
ومؤخرًا دعت السلطات الروسية مقاتلي فاغنر للانضمام إلى الجيش النظامي من أجل احتواء الأزمة. وكان أحد الخيارات التي قدمها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأعضاء مجموعة فاغنر؛ هو توقيع عقد مع القوات المسلحة الروسية.[7]
ويرى البعض أنه إذا تم حل مجموعة فاغنر، فلن يتم إعادة تزويد وحداتها في المتواجدة في عدة دول إفريقية وعربية من قِبل السلطات الروسية. وقد يُترك المقاتلون دون أجر، ودون دعم سياسي أو عسكري، وتحديدًا في الدول الإفريقية مثل جمهورية إفريقيا الوسطى وليبيا والسودان ومالي.
وهذا يعني أن مقاتلي فاغنر المنتشرين حاليًا في تلك البلدان يُمكن أن يكونوا عاطلين عن العمل ومؤهلين للتأجير، ما يُشكِّل خطرًا كبيرًا في البلدان التي تتصارع مع عدم الاستقرار والحروب الأهلية وحركات التمرد. وذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية نقلًا عن مصادر دبلوماسية واستخبارية أن الكرملين يتجه للسيطرة على كامل عمليات مجموعة فاغنر في العالم.
كما نقلت عن مصادر لم تكشف عنها أن موسكو أبلغت الرئيس السوري بشار الأسد أن قوات فاغنر في سوريا لن تعمل هناك بشكل مستقل بعد الآن، مضيفة أن مقاتلي فاغنر في سوريا امتثلوا للأوامر بالتوجه إلى القاعدة الروسية في اللاذقية.[8] فكيف سيكون الوضع بالنسبة لإفريقيا؟؟
ثانيًا: فاغنر في إفريقيا وتأثير التمرد عليها..
في إطار سعي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لطمأنة الدول التي تستعين بخدمات مرتزقة فاغنر بعد تمردها إلى أن الأمور ستسير كالمعتاد؛ قام وزير خارجيته سيرجي لافروف بمقابلة تلفزيونية استهدفت الجمهور الأجنبي قال فيها أن تلك الأحداث، في إشارة إلى تمرد مجموعة فاغنر على السلطات الروسية، لن تؤثر على العلاقات مع “الشركاء والأصدقاء”.
ورسالة لافروف بدا أنها استهدفت بشكل أساسي قادة دولتي مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى، الذين يعتمدون على مقاتلي فاغنر لحماية أنظمة حكمهم. لكن حكام الدولتين سيحتاجان إلى ما هو أكثر من الكلمات المهدئة لكي يشعروا بالاطمئنان؛ فهؤلاء القادة يدركون أن بوتين سيقوم بعملية تطهير لجيش بريغوجين الخاص بعد التمرد الأخير.
في الوقت نفسه فإن التطورات الأخيرة تُقدِّم للدول الغربية فرصة ذهبية لاقتلاع مجموعة فاغنر وعناصرها من الدول الإفريقية التي تنشط فيها وبخاصة مالي وإفريقيا الوسطى.[9]
1. فاغنر في إفريقيا: كشفت وثائق استخباراتية أميركية مُسربة أن مجموعة فاغنر الروسية تعمل جاهدة على إنشاء كونفدرالية تضم بلدانا معادية للغرب بالقارة الإفريقية، وفق تقرير حصري نشرته صحيفة “واشنطن بوست”؛ قالت الصحيفة إن الوثائق المُسربة تشير إلى أن مرتزقة فاغنر يعملون على إذكاء الصراعات في بعض الدول الإفريقية، مستخدمين في ذلك إمكاناتهم العسكرية، ومستعينين بنشر المعلومات الكاذبة لتقوية شوكة حلفاء موسكو في القارة السمراء. وكشفت الوثائق أيضًا أن فاغنر حصلت على موطئ قدم استراتيجي في 8 دول إفريقية على الأقل، من بين 13 دولة كانت تنشط فيها.[10]
وأوضح مُحللون أميركيون، في مقال جماعي نشرته مجلة “فورين أفيرز”، أن مجموعة فاغنر كرَّست -خلال السنوات الماضية- وجودها في عدد من الدول الإفريقية، مُستغلة انسحاب القوات الفرنسية منها، وخاصةً في إفريقيا الوسطى ومالي وليبيا، علمًا أنها أرسلت مقاتليها إلى موزمبيق أيضًا ودول أخرى تعاني من مشاكل في أمنها السياسي والاقتصادي.
وأبرز المقال أنه كان للمجموعة الروسية المسلحة أيضًا دور مهم في الصراع المسلح في السودان، حيث كانت لها علاقات ثابتة مع قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي). وبحسب المقال، فإن فاغنر تُمثِّل مشكلة حقيقية للولايات المتحدة ليس فقط لدعمها للمجموعات المحلية المسلحة التي تتسبَّب في زعزعة استقرار دول إفريقية، ولكن لأنها تعمل على ترسيخ الوجود الروسي في القارة السمراء، وتحقيق مصالحه، والترويج لخطابه السياسي المعادي للغرب.[11]
2. تأثير تمرد فاغنر على إفريقيا ومستقبل التواجد الروسي هناك: قد يكون من المستحيل التأكيد بقوة على سيطرة وزارة الدفاع الروسية على قوات فاغنر العاملة في ليبيا وأماكن أخرى في إفريقيا، حيث يكون وجود فاغنر أكبر بكثير من أي وجود عسكري روسي نظامي.
قوات فاغنر في هذه المناطق لديها العديد من الحوافز لعدم التعاون. قد يكون أولئك الموجودون في الشرق الأوسط وإفريقيا يقاومون بشكل خاص من أجل حماية الدخل الذي يدرونه من حماية الحكومات وأمراء الحرب. ويعتمد الجنرال خليفة حفتر في ليبيا ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) في السودان بشكلٍ أكبر على دعم فاغنر.
وفي إبريل، كشفت شبكة “سي إن إن” أن شركة فاغنر كانت تسلح قوات الدعم السريع التابعة لحميدتي في حربها ضد القائد العسكري السوداني، الجنرال عبد الفتاح البرهان، عبر الأراضي التي يسيطر عليها حفتر في ليبيا المجاورة.
ومن ثمَّ فإن إضعاف أو تقليل قدرة فاغنر على دعم حفتر وحميدتي سيكون غير مُرحب به، خاصةً أنهما لا يملكان أي ضمانات بأن وزارة الدفاع الروسية ستكمل من حيث انتهت قوات فاغنر.
وهكذا يتضح أنه على عكس سوريا التي قد يُسهِّل الحضور العسكري الروسي فيها على الكرملين إيقاف أنشطة فاغنر هناك؛ فإن الأمر سيكون أصعب على موسكو إذا أرادت تصفية المجموعة في ليبيا وغيرها من الدول الإفريقية التي تنتشر فيها فاغنر، ولا توجد فيها قوات نظامية روسية.
فالأنظمة المحلية هناك تتعامل مباشرةً مع فاغنر، وليس مع الهياكل الروسية الرسمية، ومن ثمَّ لا يُمكن استبعاد الاحتمال القائل بأنه إذا قُمع التمرد، فقد تتحول فروع فاغنر في إفريقيا إلى مجموعات منفلتة من المرتزقة، وتتولى هي بناء علاقات مع الحكومات المحلية دون أن تحسب حسابًا لموسكو.
أي قد يصل الأمر إلى وضع تختفي فيه فاغنر في روسيا وأوكرانيا وسوريا، ولكنها تواصل الوجود في ليبيا والسودان وإفريقيا الوسطى ومالي وغيرها من الدول الإفريقية المجاورة.
وفي هذه الحالة هناك سيناريوهان: الأول؛ أن ينفرط عقدها وتتحوَّل إلى مجموعات مقاتلين منفلتة وهائمة على وجوهها، والثاني؛ أن تقيم كيانات مستقلة في إفريقيا اعتمادًا على علاقتها بالقوى المحلية والموارد المالية المنهوبة من المنطقة.
وقد يكون السيناريو الثالث أن تُعيد مجموعات فاغنر في إفريقيا الروابط مع الكرملين، بعيدًا عن قائد المجموعة يفغيني بريغوجين، الذي قيل إنه ذهب لبيلاروسيا، ولكن يظل هذا الاحتمال أقل في ظل الهوة العميقة التي تشكَّلت بين مرتزقة فاغنر والرئيس الروسي فلاديمير بوتين والأجهزة الروسية المعنية.[12]
ويُمكن رصد وجود فاغنر في الدول الإفريقية، وتأثير التمرد عليها؛ كالتالي..
أ. ليبيا: تم رصد وحدات فاغنر في ليبيا لأول مرة في خريف عام 2019، عندما انضموا إلى صفوف الجنرال المُنشق خليفة حفتر في هجومه للسيطرة على العاصمة طرابلس، حيث مقر الحكومة المُعترف بها من قِبل الأمم المتحدة. تم استخدامهم كقوة قتالية مُتخصصة لكسر دفاعات العاصمة بعد توقُّف هجوم الجنرال حفتر.
أحدثت خبرتهم في القتال في الخطوط الأمامية والقنص وجمع المعلومات الاستخبارية العسكرية فرقًا على الأرض، وبمساعدتهم تمكَّنت قوات الجنرال حفتر من التقدُّم إلى بعض الضواحي الجنوبية لطرابلس قبل أن يتم هزيمتها.
ولكن كان هناك أيضًا جانب مظلم لتورطهم. في عام 2021، كشف تحقيق أجرته البي بي سي أدلة على تورط أعضاء من الجماعة في إعدام مدنيين والاستخدام غير القانوني للألغام المضادة للأفراد والأفخاخ المُتفجرة في منازل العائلات حول طرابلس.
ولمَّا كانت وحدات فاغنر في ليبيا تعتمد بشكل كبير على الدعم من وزارة الدفاع الروسية، فقد يكون لفقدان هذا الدعم تأثير كبير على وجودها وقوتها في ليبيا.[13]
ب. مالي: تأكيدات لافروف بأن عمليات المدربين العسكريين ستستمر في مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى بعد تمرد فاغنر تؤكد الأهمية الاستراتيجية للبلدين في طموحات روسيا في إفريقيا.
على المدى القصير، ربما كان لتمرد بريغوجين تأثير ضئيل على 1000 من مرتزقة فاغنر الذين يُقدر أنهم كانوا يعملون في مالي منذ أواخر عام 2021 بدعوة من المجلس العسكري هناك.
وتتشابك أنشطتهم مع المصالح الدبلوماسية والأمنية والاقتصادية الروسية المتنامية في البلاد منذ استيلاء العقيد عاصمي غويتا على السلطة في أغسطس 2020.
فقد أدى وجود فاغنر إلى رحيل متسرع لآلاف القوات الفرنسية والأوروبية الذين كانوا يدعمون الجيش المالي في قتاله ضد مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة منذ عام 2013.
أصبح اعتماد مالي المتزايد على الدعم الروسي واضحًا في 16 يونيو، عندما دعا وزير الخارجية عبد الله ديوب إلى الانسحاب الفوري لبعثة الأمم المتحدة.
وبالرغم من كون عمليات الجيش التي شاركت فيها مجموعة فاغنر قد أدَّت إلى ارتفاع عدد القتلى المدنيين؛ إلا أنه إذا أدى عدم اليقين بشأن مستقبل فاغنر إلى فقدان التركيز في مالي، فلا شك أن الجماعات الجهادية ستكون حريصة جدًا على الاستفادة.[14]
ج. جمهورية إفريقيا الوسطى: كما هو الحال في مالي، لم يكن هناك رد فعل رسمي من جمهورية إفريقيا الوسطى على تمرد بريغوجين، على الرغم من احتضان البلاد لمجموعة متنوعة من أنشطة فاغنر منذ أواخر عام 2017. أدى اتفاق تعاون أمني بين موسكو وبانغي إلى نشر مئات ممن أسموهم بـ “المدربين العسكريين” الروس للقتال ضد المتمردين الذين حاصروا جمهورية إفريقيا الوسطى منذ عقود. بمرور الوقت، توسَّعت مجموعة فاغنر لتشمل مشاريع اقتصادية، يُزعم أنها تتاجر في معادن وأخشاب النزاع، بالإضافة إلى الفودكا.
إن نجاحهم ضد تحالف الوطنيين من أجل التغيير الذي شن تمردًا ضد الرئيس فاوستين تواديرا في عام 2020، واعتماد حكومته على مجموعة فاغنر في توفير الحراس الشخصيين وحماية المنشآت الحكومية الرئيسية شجَّعهم على ارتكاب فظائع واسعة النطاق ضد المدنيين خلال العمليات ضد المتمردين.
ومن شأن عدم وضوح مصير مجموعة فاغنر نتيجة تمرد بريغوجين أن تزيد من خطر فقدان السيطرة على العمليات المربحة والمستقلة إلى حدٍّ كبير من قِبل المرتزقة في جمهورية إفريقيا الوسطى.
كما أن هناك مخاوف من التحالف بين المتمردين والمرتزقة، لاسيما في المناطق النائية الغنية بالمعادن، من شأنها أن تؤدي إلى زعزعة استقرار البلدان المجاورة مثل تشاد والسودان المُعرَّضة بالفعل لأنشطة فاغنر. ومع ذلك، فإن تأكيدات لافروف تُقلِّل من تلك المخاوف.[15]
د. السودان: باشرت قوات فاغنر نشاطها، منذ عام 2017، تحت غطاء شركات عدة للتنقيب عن الذهب، بحسب وسائل إعلام سودانية وغربية.
وتولَّت تدريب أفراد من الجيش السوداني وأيضًا من قوات الدعم السريع في إقليم دارفور. ويرى البعض أن التمرد الأخير بقدر ما يعكس الوضع الصعب الذي تعيشه القيادة الروسية، فإنه ينذر بتراجع نفوذ فاغنر في عديد من المناطق خصوصًا في ظل التشبث بملاحقة قائدهم يفغيني بريغوجين قضائيًا.[16]
الأمر الذي قد يُنذر بتعقيد الوضع على الأراضي السودانية، مع إمكانية تحول قوات فاغنر إلى ميليشيات عسكرية تسعى لنهب الثروات السودانية ويصعب السيطرة عليها من أحد الأطراف.
3. تأثير تمرد فاغنر على التنافس في إفريقيا: أزمة فاغنر الأخيرة لا تؤثر فقط على الدول التي تتواجد فيها، بل في جميع المنطقة، حيث إن العديد من القادة الاستبداديين هناك لا يرغبون في رؤية تكرار ما جرى مع بوتين في بلدانهم. كما أن تمرد فاغنر يثير التساؤلات حول قدرة بوتين على التصرف خارج روسيا، لاسيما أن الوضع الداخلي يُعد محور تركيزه. ويرى البعض أن تركيا قد تنتهز هذا كفرصة لممارسة قدر أكبر من الحرية في الأماكن التي تدعم فيها روسيا وتركيا أطرافًا متعارضة (مثل ليبيا في إفريقيا).
وقد يؤدي تركيز بوتين على الشؤون الداخلية والحرب في أوكرانيا إلى تسريع التوجُّه بين حكومات بعض الدول الإفريقية للنظر إلى الصين، وليس روسيا، على أنها قوة موازنة للولايات المتحدة[17] -لاسيما بعد سعيها للانخراط العسكري في الفترة الأخيرة-. ومن ثمَّ فإن تمرد فاغنر سيجبر الحكومات الإفريقية على خفض توقعاتها حول ما يُمكن لروسيا بوتين أن تفعله لهم، وتعديل سياساتهم الخارجية وفقًا لذلك.
كما سيُمهِّد الطريق لكلٍّ من الولايات المتحدة الأمريكية وربما فرنسا لمعاودة العمل في الدول التي كانت أحكمت روسيا سيطرتها عليها بعد أن كانت ضمن مناطق النفوذ لتلك الدول.
الخُلاصة؛ بعد تفجُّر الخلافات مع مجموعة فاغنر التي كانت تُعد الذراع العسكري الضارب لبوتين خارج الأراضي الروسية؛ يتجه الكرملين إلى السيطرة على كامل عمليات المجموعة في العالم؛ فموسكو تعلم جيدًا أنها أمام أفضل توقيت لتعزيز علاقاتها مع الدول التي كانت تستخدم فاغنر بها، لاسيما الإفريقية منها، خاصةً في ظل التراجع الكبير للتأثير الفرنسي، ومع بروز الحس القومي لدى الأفارقة وتصاعد مشاعر الكراهية ضد المستعمر القديم.
والأكيد أن المستجدات التي طرأت على مجموعة فاغنر، ستكون حاسمة في رسم السياسة الخارجية لموسكو مستقبلًا، فالفرنسيون والأمريكان والأتراك والصينيون؛ كل تلك القوى ستسعى لاستغلال هذا الوضع الهش لمجموعة فاغنر وغياب قيادة على رأسها للاستحواذ على بعض النفوذ في القارة السمراء بشتى الطرق المُمكنة.
بينما تعلم موسكو أنها ستكون أمام سباق مع الزمن للحفاظ على المكتسبات المُحقَّقة في الفترة الماضية، من خلال تكثيف الزيارات الرسمية للبلاد الإفريقية، وتأكيد وقوف روسيا معهم سواء من خلال توريد السلاح أو القمح أو زيادة الاستثمارات لتخفيف وطأة الأزمات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية.
[1] فراس فحام، “ما سر الخلاف بين فاغنر والقوات الروسية؟ وهل يصب في مصلحة أوكرانيا؟”، TRT عربي، 10/5/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/4s6Lo
[2] مات ميرفي، “روسيا وأوكرانيا: موسكو تتحرك لفرض سيطرتها المباشرة على مجموعة فاغنر العسكرية”، عربي BBC News، 11/6/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/GR6SO
[3] مات ميرفي، مرجع سبق ذكره.
[4] فراس فحام، مرجع سبق ذكره.
[5] “قائد فاغنر يروي القصة الكاملة: لهذه الأسباب حاولت اقتحام موسكو”، العربية، 29/6/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/Cz7RG
[6] ““تفاصيل الصراع بين فاغنر والجيش الروسي من الألف للياء.. وكيف يؤثر على أداء موسكو في أوكرانيا؟”، عربي بوست، 6/6/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/wXhLu
[7] محمد ش.، “أي مستقبل للنفوذ الروسي في إفريقيا بعد تمرد “فاغنر”؟”، الخبر، 1/7/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/glj7O
[8] “روسيا: لا علاقة لنا بنشاط فاغنر في إفريقيا وقرار التعامل معها يرجع إلى القادة الأفارقة”، الجزيرة نت، 28/6/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/eYK6j
[9] “بلومبرغ: تمرد فاغنر في روسيا فرصة لمحاصرتها في إفريقيا”، القدس العربي، 1/7/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/hqdoi
[10] “وثائق مسرّبة: فاغنر تعمل على إنشاء “كونفدرالية” معادية للغرب في إفريقيا”، الجزيرة نت، 23/4/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/CccVc
[11] “فورين أفيرز: فاغنر قد تعود للتركيز على إفريقيا بعد نكسات أوكرانيا لذا على واشنطن أن تتحرك”، الجزيرة نت، 11/5/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/DDuON
[12] ““إمارة المرتزقة”.. هل يمتد تمرد فاغنر إلى إفريقيا والعالم العربي؟ إليك شكل الكيانات التي قد تقيمها”، عربي بوست، 25/6/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/N0JmE
[13] نادر إبراهيم وبيفرلي أوتشينج، “روسيا وأوكرانيا: ماذا يمثل تمرد فاغنر لمقاتليهم في إفريقيا؟”، عربية BBC News، 27/6/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/9Oqi4
[14] نادر إبراهيم وبيفرلي أوتشينج، مرجع سبق ذكره.
[15] نادر إبراهيم وبيفرلي أوتشينج، مرجع سبق ذكره.
[16] صغير الحيدري، “هل يهدد تمرد “فاغنر” النفوذ الروسي في إفريقيا وسوريا؟”، عربية Independent، 27/6/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/kl4Vh
[17] بلال ياسين، “كيف ينعكس “تمرد فاغنر” على موسكو في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؟”، عربي 21، 30/6/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/6ECPP