أعلنت مجموعة عسكرية في الجابون صباح 30 أغسطس الماضي، في بيان تُلي عبر محطة “جابون 24″، استيلاءها على السلطة، وإغلاق حدود البلاد حتى إشعار آخر، ووضع الرئيس علي بونغو قيد الإقامة الجبرية بعد ساعات قليلة من إعلان لجنة الانتخابات فوزه بولاية رئاسية ثالثة، في حين خرجت في شوارع العاصمة ليبرفيل تظاهرات مؤيدة للانقلاب.
وشملت المؤسسات التي أُعلن حلها الحكومة ومجلس الشيوخ والجمعية الوطنية والمحكمة الدستورية ولجنة الانتخابات. وبعد انقلاب النيجر الشهر الماضي، أصبحت الجابون الدولة الثامنة التي تشهد انقلابًا عسكريًا في إفريقيا منذ العام 2020.
وبدا أن الانقلاب الذي شهدته الجابون لم يكن مفاجئًا إلا من حيث توقيته، إذ إن معظم المؤشرات الداخلية في البلاد تشير إلى تراجع شرعية الرئيس المخلوع علي بونغو، منذ توليه حكم البلاد عام 2009 خلفًا لوالده عمر بونغو الذي تولى زمام الأمور منذ 1967.
أخفقت جميع الوسائل السلمية في التغيير عبر صندوق الانتخابات، والجولات الانتخابية الثلاث التي خاضها بونغو الابن ترافقت مع تصفية جسدية وسياسية (اعتقالات) لخصومه ومعارضيه.
فما هي أسباب هذا الانقلاب؟
وكيف يُمكن قراءة تداعياته ومآلاته؟
تلك هي التساؤلات التي سنسعى للإجابة عليها خلال هذا التقرير..
أولًا: الجابون وبونغو وتاريخ الانقلابات: الجابون توصف بأنها عملاق النفط في إفريقيا، إذ يبلغ إنتاجها من النفط الخام 181 ألف برميل يوميًا، وتبلغ صادراتها النفطية 4.6 مليار دولار، ولديها احتياطات نفط خام مؤكدة بملياري برميل.
ويصل إجمالي صادرات البلاد النفطية وغير النفطية إلى 6 مليارات دولار، فيما يبلغ إنتاج الغاز الطبيعي 454 مليون متر مكعب يوميًا، واحتياطيات الغاز المؤكدة 26 مليار متر مكعب، وهي من أول منتجي الذهب الأسود في إفريقيا جنوب الصحراء.
ورغم ذلك، يعيش فرد 1 من أصل 3 تحت خط الفقر، بحسب أرقام أُعلنت أواخر عام 2022، وفق البنك الدولي، وبلغت نسبة الشباب العاطلين من العمل 40%، في بلد تعادل مساحته مساحة المملكة المتحدة، وتغطي الغابات 90% من مساحته، ولا يتجاوز عدد سكانه 2،5 مليون نسمة.[1]
1. علي بونغو وحكم البلاد خلفًا لأبيه: سلَّط الانقلاب العسكري الذي قاده ضباط في الجابون الأضواء على الدولة الإفريقية الواقعة غرب إفريقيا، وتصدرت أخبارها كبريات القنوات والصحف العالمية على إثر إعلان الضباط انتهاء العهد السياسي لـ “سلالة بونغو” الذي استمر لأكثر من 55 عامًا بين فترة حكم الأب عمر بونغو (1967 – 2009) والابن علي بونغو (2009 – 2023).[2]
الرئيس على بونجو الذي ترأس البلاد منذ 14 عامًا ويبلغ من العمر (64 عام)، انتُخب رئيسًا للمرة الأولى عام 2009 بعد وفاة والده عمر بونجو أونديما الذي حكم البلاد أكثر من 41 عام، وفى عام 2018 أصيب الرئيس بجلطة دماغية غاب على إثرها عن المشهد عدة أشهر، وقد أعلن فوز على بونجو على منافسه ألبير أوندو أوسا الذي حصل على 30% فيما حصل 12 مرشح آخر على بقية الأصوات، وبلغت نسبة المشاركة في الانتخابات 56%.[3]
وكانت أعلنت لجنة الانتخابات في 30 أغسطس الماضي فوز الرئيس علي بونغو بولاية ثالثة في الانتخابات، وحصوله على 64.27% من الأصوات، بعد اقتراع شهد تأجيلات وطعنت المعارضة في نتائجه.
وقال رئيس لجنة الانتخابات ميشيل ستيفان بوندا إن المرشح ألبرت أوندو أوسا، منافس بونغو الرئيسي، جاء في المركز الثاني بحصوله على 30.77% وتحدّث المرشح المنافس أوندا أوسا عن “عمليات تزوير أدارها الرئيس بونغو” قبل ساعتين من إغلاق مراكز الاقتراع، مؤكدًا فوزه في الانتخابات، مطالبًا الرئيس بونغو “بتنظيم تسليم السلطة من دون إراقة دماء”.
ورفض فريق بونغو مزاعم أوندو أوسا بحدوث مخالفات انتخابية.
شهدت الجابون تصاعد التوتر جراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي أجريت في غياب مراقبين دوليين.
وقطعت خدمة الإنترنت وفرض حظر التجول ليلًا في جميع أنحاء البلاد، في إطار إجراءات اتخذتها الحكومة قبل إغلاق مراكز الاقتراع، للحيلولة دون “نشر أنباء كاذبة” وحصول “أعمال عنف” محتملة. وبلغت نسبة المشاركة في الاقتراع 56.65%، وفقًا لما أعلنته لجنة الانتخابات.[4]
2. الجابون وتاريخ الانقلابات: التاريخ الجابوني شهد محاولات انقلابية عدة منذ الاستقلال لعل أهمها انقلاب عام 1964 على الرئيس الأول للبلاد بات ليون مبا الذي تمت الإطاحة به بعد ثلاثة أعوام من الحكم، لكن التدخل العسكري الفرنسي أعاده لاحقًا للسلطة، ولم تعرف البلاد محاولات أخرى مشابهة حتى عام 2019، إذ وقعت المحاولة الانقلابية الثانية في تاريخ البلاد مستفيدة من غياب الرئيس علي بونغو بعد تعرضه لجلطة دماغية، لكنها لم تنجح في إزاحته من السلطة. والانقلاب الذي وقع في الـ 30 من أغسطس يُعد المحاولة الأولى الناجحة حتى الآن.[5]
وعقب إعلان الانقلاب، ظهر الرئيس المعزول علي بونغو في تسجيل مصور من مقر إقامته الجبرية، حيث وجه رسالة إلى “كل العالم والأصدقاء للتحرك” ضد من قاموا باعتقاله. وقال إنه موجود في مقر إقامته ولا يدري ما يحدث”، وأضاف أن ابنه محتجز في مكان ما، وأن زوجته “مفقودة”.[6]
ثانيًا: عوامل ومُبررات الانقلاب: بموجب الدستور الجابوني الرئيس هو رئيس السلطة التنفيذية ويُعين رئيس الحكومة، كما أنه يهيمن على السلطة القضائية من خلال تعيين القضاة، بالإضافة إلى تعيين 3 من قضاة المحكمة الدستورية، في حين يعين مجلس الشيوخ والجمعية الوطنية، اللذان يخضعان لهيمنة حزبه 4 من أعضائها.
هذه الهيمنة على المؤسسات والأجهزة السيادية جعلته يستغلها لتمرير ما يشاء من قوانين وتشريعات عبر آلة إعلامية تخضع له تمامًا. حتى أن المحكمة الدستورية -التي يرأسها أحد المقربين منه- رفضت إرسال بعثة مراقبة من الاتحاد الإفريقي لإعادة فرز أصوات الانتخابات الرئاسية لعام 2016 بعد طعن المعارضة فيها.
والمفارقة هي أن أصوات الرئيس زادت بعد الفرز بنسبة تزيد على 1%. قبيل الانتخابات الأخيرة لعام 2023، سعى بونغو إلى الإطاحة بخصومه باستخدام قوانين انتقائية. ففي عام 2021، اقترحت الحكومة قانونًا جديدًا يُلزم المرشحين للرئاسة بالعيش في البلاد لمدة 6 أشهر على الأقل قبل عامين من موعد الانتخابات.
وتم تفسير هذا القانون في حينه بأنه استهدف أفرادًا من عائلته الذين يقيمون في الخارج والذين قد يرغبون في الترشح ضده.
أجرى أيضًا استفتاءً في أبريل الماضي للسماح له بالترشح لفترات رئاسية متعددة من دون حد أقصى، مع تقليص مدة الرئاسة من 7 سنوات إلى 5 سنوات فقط. هذه الممارسات القمعية التي تضمنت قمع المعارضة والخصوم من خلال حظر التجمعات وتحميل المنظمين المسؤولية الجنائية عن أي عنف يحدث خلالها، تزامنت مع ممارسات فاسدة من قِبل عائلة بونغو.
واستغل العسكر هذه الظروف، بقيادة قائد الحرس الجمهوري، للإطاحة بالرئيس من دون مواجهة مقاومة مدنية أو شعبية قوية.[7]
1. عوامل قيام الانقلاب: قبل وقت قصير من إعلان الانقلاب، أعلنت هيئة الانتخابات فوز بونجو في الانتخابات العامة بنسبة 64.27% من الأصوات، وقالت إن منافسه الرئيسي ألبرت أوندو أوسا، حصل على 30.77%.[8]
وفي قراءة للعوامل الرئيسة التي دفعت الضباط لاتخاذ قرار الإطاحة ببونغو الابن، فإن هناك مجموعة من الظروف الموضوعية والذاتية توافرت لقيام هذا الانقلاب ونجاحه، لعل أهمها: العوامل الاقتصادية: حيث الفساد الاقتصادي والمالي الذي وضع الجابون في قائمة أكثر الدول التي استشرى فيها الفساد حتى أصبح هو النظام الساري.
وهو ما بدا في فضيحة ما يعرف بـ “وثائق باندورا” التي نشرها الاتحاد الدولي للصحافة الاستقصائية عام 2021 حول فساد عائلة بونغو التي استولت على ثروات ومقدرات الدولة الغنية بالنفط لأكثر من خمسة عقود ونيف، إذ كشفت تلك الوثائق مدى تورط أبناء الرئيس السابق عمر بونغو، ومن بينهم الرئيس المطاح به، في عمليات فساد واسعة.
والتحقيق الاستقصائي كشف للعالم ما ظل يعرفه الجابونيون ويرددونه في مجالسهم الخاصة عن فساد هذه العائلة المستولية على السلطة والثروة، فيما يقبع غالبية الشعب في فقر مدقع على رغم الثروات النفطية والمعدنية التي تتمتع بها البلاد.
وثمَّة أسبابًا تتعلَّق بطول فترة حكم ما عُرف بـ “سلالة بونغو”، مما دفع الأجيال الشابة التي تشعر بالانتماء الوطني إلى اختيار أسماء أخرى بعيدًا من الحكم المتوارث للعائلة الحاكمة، في حين ظلت المعارضة السياسية التي نشأت بعد اضطرابات عام 1990 تطالب بالتعددية السياسية وتكريس “الطابع الجمهوري للدولة” بحيث لا يصبح الانتماء للعائلة معيارًا للحكم.
والعوامل السياسية: ومن ضمنها التزوير الشامل للانتخابات التي جرت خلال أغسطس الماضي، إذ تم تسجيل مخالفات واسعة بشهادة الملاحظين الدوليين ومن بينهم ممثلو الاتحاد الأوروبي، إضافةً إلى الراهن الإقليمي الذي تشهده القارة السمراء لاسيما الانقلابات العسكرية التي شهدتها وكان آخرها في النيجر.
ولا شك في أن هناك عوامل موضوعية متوافرة منذ فترة للإطاحة بحكم سلالة بونغو، لكن غياب العامل الذاتي ظل يقف عائقًا، فضلًا عن التجارب الانقلابية السابقة التي فشلت نتيجة التدخلات الخارجية (فرنسا عام 1964)، أو نتيجة قدرة أجهزة الأمن على إحباطها، وتلك التجارب ظلت تُمثِّل تحديًا مهمًا أمام القادة العسكريين في الإقدام على أية خطوة للانقلاب على النظام.[9]
2. مُبررات الانقلاب وفقًا لبيانه الأول: قرأ البيان الأول من القصر الرئاسي ضابط برتبة عقيد، ووقفت خلفه مجموعة من الضباط، بينهم عناصر من الحرس الجمهوري المكلف بحماية الرئاسة، فضلًا عن عناصر من الجيش والشرطة. وجاء في البيان: “نحن قوات الدفاع والأمن المجتمعة ضمن لجنة المرحلة الانتقالية وإعادة المؤسسات، قررنا باسم الشعب الجابوني الدفاع عن السلام… من خلال إنهاء النظام القائم”، وأضافوا: “لهذه الغاية، ألغيت الانتخابات العامة التي جرت في 26 أغسطس 2023، فضلًا عن نتائجها”.
وبرّر الضباط انقلابهم بأن الانتخابات افتقرت إلى المصداقية، وأن نتائجها باطلة، مشددين على أنهم يمثلون جميع قوات الأمن والدفاع في هذا البلد الغني بالنفط، وأكدوا أنهم يتحدثون باسم “لجنة المرحلة الانتقالية وإعادة المؤسسات”.
وانتقد الضباط إدارة الرئيس بونغو والأساليب “التي قد تدفع البلاد إلى الفوضى”، ورأوا أن تنظيم الانتخابات “لم يحترم شروط اقتراع يتمتع بالشفافية والمصداقية ويشمل الجميع، كما كان الشعب الجابوني يأمل”. وحمل مئات الجنود في الجابون على أكتافهم رئيس الحرس الرئاسي في الجابون برايس أوليغي نغويما، بعد ساعات من إعلان ضباط متمردين عزل الرئيس علي بونغو، بحسب صور بثها التلفزيون الرسمي.
وتم عرض اللقطات التي أظهرت الجنود وهم يهتفون: “أوليغي الرئيس” بشكل متكرر. وأظهرت الصور ومقاطع الفيديو انتشار قوات من الجيش في شوارع العاصمة ليبرفيل، واحتشاد المتظاهرين حولهم، مرددين هتافات تؤيد خطوة الضباط. ووُضع رئيس الجابون علي بونغو “قيد الإقامة الجبرية” محاطًا بعائلته وأطبائه، فيما أوقف أحد أبنائه بتهمة “الخيانة العظمى”.[10]
ثالثًا: علاقات فرنسا وروسيا وانقلاب الجابون: لطالما شكّلت الجابون، في حقبة الاستعمار وما بعده، ركنًا أساسيًا في سياسة فرنسا الإفريقية، أو ما يعرف بـ”فرانس أفريك” بعد الاستعمار. ولكن شهدت علاقات فرنسا بالجابون تدهورًا خلال الفترات الأخيرة بالتزامن مع الصعود الروسي بالمنطقة؛ فهل تنجح روسيا في استيعاب الجابون بعد الانقلاب.
1. الجابون وفرنسا من الصعود للهبوط: خلال حكم عمر بونغو، ترسخت علاقة مميزة بين باريس وليبرفيل، والتي تلخّص بالمفهوم البعيد عن الدبلوماسية، هذا النسيج من العلاقات بين فرنسا ومستعمراتها السابقة، الذي يقوم في أغلب الأحيان على تبادل المصالح، والمحسوبيات، والفساد. وتكرّست العلاقة المميزة بين باريس وليبرفيل، بعد استقلال الجابون عام 1960، بسبب الثورة الجزائرية.
ومنذ عام 1961، في عهد سلف عمر بونغو، ليو مبا، اشتهرت الجابون بالنسبة لفرنسا، اختصارًا، بالدولة “بوم”، أي دولة البترول واليورانيوم والمنغنيز، ليُضاف إليها بأنها دولة الأخشاب، حين كانت فرنسا من الدول المشترية الرئيسية (الثانية بعد الصين)، لأخشاب الجابون الخام، قبل أن تحظره ليبرفيل، حفاظًا على ثروتها الطبيعية في عام 2010. وبعد تبوئه للحكم؛ قوبل علي بونغو بالترحيب من قِبل باريس، في ذلك العام، قبل أن تظهر مواقف متضاربة، وغير حماسية بعد الاحتجاجات الدموية التي رافقت فوزه الثاني، في 2016.
منذ ذلك الوقت، بدا التباعد واضحًا بين الطرفين، علمًا أن هولاند كان أول رئيس جمهورية فرنسي لا يزور الجابون خلال ولايته، وترافق هذا الوضع مع احتقان اجتماعي ضد عائلة بونغو، تزامن مع فتح القضاء الفرنسي لملفات فساد تخص أفراد العائلة، وهو ما اعتبر حينها رسالة إلى السلطة الحاكمة في الجابون، وإلى علي بونغو الذي كان يقترب أكثر من العالم “الأنجلوفوني”، وتوالت المؤشرات قبل ذلك وبعده إلى أن التباعد بين بونغو وباريس يتسع.[11]
2. فرنسا وانقلاب الجابون: رغم حرص بونغو على توطيد هذه العلاقة، وحرص باريس من جهتها على عدم فقدان حليف، فإن استمرار الحديث داخل الأوساط الفرنسية عن تهم الاختلاس الموجهة لعائلة بونغو، والانتقادات الموجهة لماكرون بشأن دعم هذه النظم الاستبدادية، دفع بونغو إلى التوجه نحو لندن ومحاولة الانضمام للكومنولث البريطاني العام الماضي.
وقد يفسر هذا تحفظ باريس وعدم تفاعلها بشكل قوي مع الانقلاب الذي وقع ضده، خلافًا لموقفها من انقلاب النيجر. بل إن الإليزيه صرَّح بأن ما يحدث في الجابون هو شأن داخلي، مما يعني أن باريس لن تتدخل عسكريًا.[12]
ولا تزال وجهات نظر وسياسات النظام العسكري الجديد غير معروفة، ومن المُرجَّح أن يؤدي الانقلاب إلى مزيد من حالة عدم اليقين بشأن الوجود الفرنسي في المنطقة، وتمتلك فرنسا نحو 400 جنديًا في الجابون. ومن الممكن أن يكون انقلاب الجابون حاسمًا في إعادة رسم خريطة التحالفات الإقليمية والدولية في المنطقة.[13]
ولا تبدو باريس حتى اللحظة مهمومة كثيرًا بخسارة علي بونغو، ولا بالانقلاب، سوى لناحية مشهد دومينو الانقلابات العسكرية، الذي يصيب منذ 3 سنوات مستعمراتها السابقة، من مالي إلى النيجر إلى الجابون.
وفي البلدان الثلاثة، تبدو الهيبة الفرنسية في إفريقيا على المحك، وهو أكثر ما يزعج باريس. ذلك أنه في الحالة الجابونية، ظل علي بونغو، منذ سنوات، يشكّل عبئًا أكثر منه حليفًا موثوقًا، عكس أبيه، الذي كان التواطؤ بينه وبين باريس موصوفًا، ويتفاخر حتى بدوره في تشكيل الوزارات الفرنسية.
ورأت صحيفة “لوباريسيان” بما معناه أن رب ضارة نافعة، فقد أعاد الانقلابيون أمس، بثّ الإذاعات والقنوات الفرنسية، التي كان أوقفها بونغو، مع عملية الانتخابات الرئاسية التي أعلن فيها فوزه (قبل رفض النتائج من قبل الانقلابيين).
كما رأت الصحيفة أن قائد الانقلاب، قائد الحرس الجمهوري الجنرال بريس أوليغي نغيما، قد يكون أقرب للفرنسيين من علي بونغو، وأن الإليزيه الذي دان الانقلاب، لم يطالب كما في النيجر بعودة الرئيس “فورًا” إلى السلطة (نفى أي اتصال بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وعلي بونغو بعد الانقلاب).[14]
3. هل تنجح روسيا في استيعاب الجابون بعد الانقلاب؟ لم يتضح بعد ما إذا كان انقلاب الجابون سيبتعد عن النفوذ الفرنسي ويقترب من روسيا مثلما يحدث في النيجر وقبله انقلابا مالي وبوركينا فاسو، أم أنه سيختار النموذج الغيني الذي لا يعادي فرنسا رغم تحفظه على بعض ممارساتها.
لكن المؤشرات الأولية توحي بأن الانقلابيين في الجابون هواهم فرنسي، لكن ذلك قد يتغير تحت ضغط الظروف إذا ما اتخذت باريس مواقف متشددة ضدهم، وهو أمر مُستبعد في ظل تركيزها على النيجر.
فأول حوار أجراه قائد الحرس الجمهوري الجنرال أوليغي نغيما، الذي يقود الانقلاب في الجابون، كان مع جريدة “لوموند” الفرنسية. كما أن باريس ورغم إدانتها للانقلاب إلا أنها لم تطالب بعودة بونغو إلى الحكم مثلما تعاملت مع انقلاب النيجر.
وباريس تتبنى موقف المعارضة الجابونية المطالب بمواصلة العملية الانتخابية والانتهاء من إحصاء الأصوات.
بينما عيّن قادة الانقلاب قائد الحرس الرئاسي الجنرال نغيما، رئيسًا انتقاليًا للجابون، ما يُرجِّح أن المجلس العسكري الانتقالي سيتولى الحكم لفترة انتقالية لم تُحدَّد بعد قبل إجراء انتخابات رئاسية جديدة، ولن يعيدوا إحصاء أصوات الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي وصفوها بالمزورة.
وهذا الخلاف بين رؤية فرنسا لحل أزمة الجابون دون إطالة، وتوجه قادة الانقلاب نحو مرحلة انتقالية غير محددة قد تستغرق سنوات، من شأنه أن يتعمَّق إذا تمسَّك كل طرف بموقفه، ومن هنا يُمكن لروسيا أن تملء الفراغ.
ولكن روسيا -على عكس فرنسا التي تعرضنا لعلاقتها بالجابون سابقًا- لا تملك نفوذًا بارزًا في الجابون التي لا تعاني من نشاط للجماعات الإرهابية مثل النيجر ومالي وبوركينا فاسو، وبالتالي فهي ليست بحاجة إلى خدمات شركة فاغنر العسكرية الروسية، المنتشرة في بعض بلدان إفريقيا الوسطى. لكن الصين تملك بعض النفوذ إذ أنها الزبون الأول للنفط الجابوني، وكانت إلى وقت مضى الزبون الأول لأخشابها، ولها استثماراتها التي تزاحم الشركات الفرنسية.
وهذا الوضع يُصعب من مهمة روسيا للتغلغل في البلاد، خاصةً أن شعب الجابون لم يُبدِ نفس العداء لباريس، ولم يتظاهر أمام سفارتها أو قاعدتها العسكرية، ولم يرفع الأعلام الروسية كما حدث في النيجر.
فانقلاب الجابون أقرب إلى انقلاب غينيا منه إلى انقلاب دول الساحل الثلاثة (النيجر ومالي وبوركينا فاسو).
كما أن قائد الانقلاب نغيما، رجل تخرج من المدرسة العسكرية بمكناس المغربية، وعمل ملحقًا عسكريًا في المغرب والسنغال، ولديه أملاك وعقارات في الولايات المتحدة، وفق إعلام فرنسي، وبالتالي ميوله غربية وليس له ارتباطات معروفة بروسيا.
ومن المُرجَّح ألا تغامر باريس بممارسة ضغوط شديدة على الانقلابيين في الجابون تدفعهم مُكرهين إلى حضن موسكو، إذا لم تفرض عقوبات على الانقلابيين، ولم تحرض على عمل عسكري ضدهم مثلما تفعل في النيجر، ولو أن الأمر ما زال سابقًا لأوانه.[15]
رابعًا: تداعيات الانقلاب وانعكاساته الإقليمية: يحمل هذا الانقلاب في الجابون مجموعة من التداعيات؛ سواء على المستوى الداخلي في الجابون أو على المستويين الإقليمي والدولي..
1. تداعيات الانقلاب: أولها؛ التداعيات الاقتصادية: حيث تبع الانقلاب إغلاق للشركات الفرنسية؛ فقد أعلنت مجموعة “إيراميت” الفرنسية للتعدين، في نفس يوم الانقلاب، أنها “توقفت” في الجابون.
وأوضحت أنه “في أعقاب الأحداث الأخيرة، أوقفت المجموعة أنشطتها في الجابون وذلك لحماية سلامة أفرادها وسلامة منشآتها”.
وتوظف شركة “إيراميت” حوالي 8000 شخص في البلاد، معظمهم من الجابون. بورصة باريس.
وتوجد هذه المجموعة الفرنسية في الجابون من خلال شركتين تابعتين: الأولى، شركة تعدين “كومولوج” المتخصصة في استخراج المنجنيز.
كما تتولى شركة “ستراج” (شركة الاستغلال العابرة للجابون)، وهي الشركة الثانية التابعة للمجموعة الفرنسية، تشغيل السكة الحديدية للخط الذي يربط ساحل المحيط الأطلسي بالجنوب الشرقي للبلاد الغنية بالمعادن عبر غابة الجابون الاستوائية. وتقوم الشركة بنقل المعادن والركاب لمسافة تزيد عن 650 كم.
وثانيها؛ التداعيات الأمنية: حيث إن صعود الجماعات المتطرفة والصراعات الأهلية، مثل الصراع في مالي أو بوكو حرام في نيجيريا، يميل إلى التغذية على مثل هذه الأحداث كما في الجابون. فثمَّة صراعات مستمرة في جمهورية إفريقيا الوسطى، وهناك مخاوف من أن المشاكل في دول مثل مالي قد تتجه جنوبًا نحو غانا ودول أخرى، وربما تنضم الجابون التي تُعد حليفًا فرنسيًا إلى النيجر التي كانت هي الأخرى حليفًا مهمًا لفرنسا والولايات المتحدة، وتنظم العمليات ضد المتطرفين من النيجر وحوض بحيرة تشاد.
وثالثها؛ التداعيات الجيوسياسية: بغض النظر عن مآلات انقلاب الجابون ومن قبله النيجر، فإننا أمام ظاهرة إعادة الهندسة الجيوسياسية للمنطقة من خلال صياغة التحالفات الإقليمية والدولية.
ربما تشهد المنطقة بوادر حرب باردة جديدة، حيث تحاول كل من الصين وروسيا ملء الفراغات الأمنية التي يُخلِّفها رحيل القوات الفرنسية والغربية.
وعلى سبيل المثال، تقيم دول مثل مالي وإفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو روابط أمنية قوية عبر مجموعة فاغنر مع روسيا. وعليه، فإن على الأوروبيين والولايات المتحدة اتخاذ قرارات حاسمة فيما يتعلق بمصالحهم الأمنية والاستراتيجية في القارة الإفريقية.[16]
2. انعكاسات إقليمية للانقلاب: من شأن انقلاب الجابون أن يخلف عدة انعكاسات على أكثر من جبهة إقليمية، أولها المجموعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا “إيكاس” التي انتظرت يوما كاملًا لإدانة انقلاب الجابون، وطالبت بـ”عودة النظام الدستوري سريعًا”، دون الإشارة إلى عودة بونغو إلى السلطة، ما يعني أن أوراقه احترقت، ولا أحد استجاب لاستغاثته.
والرئيس الكاميروني بول بيا الذي يحكم البلاد منذ 1982، أجرى تعديلات بوزارة الدفاع بعد ساعات من انقلاب الجابون، ما يعكس قلقًا من انتشار عدوى الانقلابات وسط إفريقيا على غرار غرب القارة.
ورغم أن تشاد سبقت بقية دول “إيكاس” في تجميد نظامها الدستوري بعد مقتل الرئيس إدريس ديبي في 2021، إلا أن وضعها في منطقة الساحل بعيدًا عن المنطقة الاستوائية جعل تأثيرها أقل من تأثير انقلاب الجابون.
أما بالنسبة لمجموعة “إيكواس” فانقلاب الجابون يشتت التركيز على انقلاب النيجر، ويربك العملية العسكرية المرتقبة التي تلقى معارضة جزائرية وروسية ومن دول الساحل الثلاثة.
نيجيريا التي كان يفترض أن تقود العملية العسكرية ضد انقلاب النيجر، اقترحت فترة انتقالية من 9 أشهر، بينما المبادرة الجزائرية لحل الأزمة دبلوماسيًا تحدثَّت عن مرحلة انتقالية من 6 أشهر. وهذا يعني أن انقلاب الجابون خفَّف الضغط على النيجر، لكن بونغو فقد فرصته للعودة إلى السلطة.[17]
خامسًا: ردود الفعل على الانقلاب ومآلاته: من خلال قراءة إحداثيات هذا الانقلاب والتشكيلة العسكرية المتصدرة يتضح أن ثمَّة تنسيقًا محكمًا وترتيبات قد تم العمل عليها منذ فترة لإنجاح خطة الإطاحة ببونغو الابن. والانقلاب كان متوقعًا منذ فترة طويلة، بخاصة في ظل واقع الفساد المستشري في البلاد الغنية بالنفط، علاوةً على الاستياء الشعبي الكبير من طول فترة حكم عائلة بونغو.
وجاءت ردود الفعل اللإقليمية والدولية أيضًا عاكسة لهذا الوضع..
1. ردود الأفعال الدولية على انقلاب الجابون: توالت ردود الأفعال الدولية على الانقلاب في الجابون، وصدر أولها عن الاتحاد الأوروبي، إذ قال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إن وزراء دفاع دول التكتل سيناقشون الموقف في الجابون، واصفًا ما يحدث في غرب إفريقيا بأنه مشكلة كبيرة لأوروبا. بدوره، أعلن الكرملين أنه يتابع الوضع في الجابون “بقلق شديد”.
وقال الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف: “الوضع في الجابون يثير قلقًا شديدًا، ونحن نراقب ما يحصل من كثب”.
أمميًا، دان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بشدّة ما وصفها “بمحاولة الانقلاب الجارية” في الجابون، ودعا قادة الانقلاب في الجابون إلى الدخول في محادثات والحفاظ على الاستقرار وضمان احترام سيادة القانون. إفريقيًا، قال رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى فقي إنه “يدين بشدة” ما وصفها بمحاولة انقلاب في الجابون، ودعا في بيان إلى ضمان سلامة الرئيس علي بونغو وعائلته.
وقال رئيس مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي ويلي نياميتوي إنه عقد اجتماعًا طارئًا مع بوروندي والسنغال والكاميرون لتحليل الوضع في الجابون بعد التطورات الأخيرة.
وقال المتحدث باسم الرئيس النيجيري بولا تينوبو، الذي ترأس بلاده المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس”، إن الرئيس يعمل من كثب مع رؤساء دول إفريقية أخرى بشأن سبل الرد على محاولة الانقلاب في الجابون. وفي واشنطن، أعلن البيت الأبيض أنه يتابع الوضع في الجابون من كثب، معتبرًا أن “ما يحدث أمر يبعث على القلق”.
ودعت الخارجية الصينية الأطراف المعنية في الجابون “للعودة إلى النظام الطبيعي فورًا” وضمان سلامة الرئيس علي بونغو.
وقال الناطق باسم وزارة الخارجية وانغ وينبين في تصريحات صحافية: “تتابع الصين من كثب تطورات الوضع في الجابون، وتدعو الأطراف المعنية إلى العمل لمصلحة الشعب الجابوني والعودة فورًا إلى النظام وضمان الأمن الشخصي لعلي بونغو”.
فرنسا دانت الانقلاب في الجابون، وقال متحدث باسم الحكومة الفرنسية: “فرنسا تأمل احترام نتائج انتخابات الجابون”.
وقالت رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن في كلمة أمام مؤتمر للسفراء الفرنسيين إن باريس تتابع الوضع في الجابون من كثب.[18]
2. مآلات الانقلاب: المؤسسة العسكرية الجابونية تاريخيًا لم تكن بعيدة من السياسة والسلطة، بل ظلت طوال الوقت قريبة منها ومؤيدة لسياسات النظم الحاكمة، لكن تنامي الاستياء الشعبي جراء فساد العائلة الحاكمة، إضافةً إلى التطورات الأخيرة في غرب القارة الإفريقية وبخاصةً في مالي وبوركينافاسو ثم أخيرًا في النيجر، حفز النخبة العسكرية على الإطاحة بحلفائها في الحكم.[19]
ومن ثمَّ؛ فيبدو أن الأوضاع تسير في صالح الانقلابيين إلى حدٍ كبير. لاسيما في ظل الترحيب الداخلي من جهة، واكتفاء المجتمع الدولي بالإدانة من جهة أخرى، وعدم وجود رغبة من الدول الإفريقية في التدخل، سواء من قِبل الاتحاد الإفريقي، الذي اكتفى في حالات مماثلة بتعليق عضوية البلاد في مؤسساته حتى إجراء انتخابات ديمقراطية حتى لو أتت بقادة الانقلاب وهم بزي مدني، أو من قِبل المجموعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا (إيكاس) المنوط بها، وفقًا لقوانينها، التدخل لاستعادة النظم المنتخبة ورفض قيام العسكر بالإطاحة بهذه النظم.
ويعود عدم إقدام إيكاس على اتخاذ موقف صارم مما حدث في الجابون إلى اعتبارات عدة، من بينها أن كثيرًا من الدول الأعضاء فيها إما أن تحكمها قيادات ذات خلفيات عسكرية انتقلت إلى الحكم عبر انقلابات، كما هي الحال في غينيا الاستوائية والكونغو برازفيل وتشاد، أو تعاني أوضاعًا أمنية سيئة، مثل الكونغو الديمقراطية وإفريقيا الوسطى وغيرهما.
ولذلك، انعكست هذه الوضعية على قرارها بالتدخل، الذي اتخذته منذ نحو 10 سنوات في إفريقيا الوسطى لحفظ السلام هناك، والذي اضطرت للعدول عنه لاحقًا، ومن ثمَّ انسحبت وتولى الاتحاد الإفريقي بالتعاون مع الأمم المتحدة المهمة في تلك المنطقة.
كما أنه من المفارقات أن مقر قيادة إيكاس يقع حاليًا في الجابون، وهو ما يجعل من الصعب عقد اجتماعات أو اتخاذ قرارات فاعلة، مثل فرض عقوبات اقتصادية ضد الانقلابيين، على نمط ما قامت به إيكواس في النيجر.
وبالتالي، فإن السيناريو المُتوقع في الجابون هو استمرار قادة الانقلاب لفترة انتقالية يقومون بعدها بإجراء انتخابات يتولى بموجبها القائد الحالي أو أي شخص آخر يتم التوافق عليه داخل النخبة العسكرية مقاليد الأمور في الاستحقاقات الانتخابية القادمة.[20]
3. ماذا بعد الانقلاب؟ إن إطاحة حكم علي بونغو وضمان عدم التدخل الفرنسي أو الدولي والإفريقي ليس كافيًا لنجاح التجربة أو الانتقال نحو الديمقراطية في الجابون، فصحيح أن ثمَّة مؤشرات صادرة من بروكسل عن تفهم الاتحاد الأوروبي لدواعي الانقلاب على رغم إدانته، وإقرار بوقوع تزوير كبير في الانتخابات الأخيرة، لكن ذلك غير كاف للاطمئنان على أن المسار المقبل سيقود بالضرورة إلى التحول الديمقراطي.
والضباط الذين يستولون على السلطة الآن، وعلى رأسهم الجنرال بريس كلوتير أوليغي نغويما، متهمون بالتورط في الفساد المالي، إذ كشفت وثائق تحقيق تابعة لمشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد (OCCRP) لعام 2020 عن مراكمته ثروة طائلة وامتلاكه عقارات في فرنسا والولايات المتحدة تتجاوز قيمة كل منها مليون دولار أميركي، كما أن النخبة العسكرية التي استولت على السلطة لم تكشف بعد عن نياتها أو عن خطة واضحة للانتقال الديمقراطي عبر برنامج زمني محدد يضمن الانتقال السلس للسلطة إلى المدنيين في استحقاق دستوري واضح، وليس من المستبعد حدوث نزاعات بينية في أوساط الضباط، بخاصة أن معظمهم ظل يحظى بامتيازات مالية كبيرة.
ومن ثمَّ؛ فمن غير المُستبعد أيضًا حدوث انقلاب آخر على الانقلابيين، بخاصة أن التشكيلة التي تتصدَّر المشهد حتى الآن تضم مجموعة صغيرة من الجنرالات غالبيتها تتشكل من رتب عسكرية أقل، مما يُعزِّز إمكان دفاع الرتب الكبيرة عن مصالحها في السلطة والثروة والنفوذ.[21]
سادسًا: بين انقلاب الجابون وغيره من الانقلابات الأخيرة في المنطقة: المُلاحظ في سلسة الانقلابات التي شهدتها القارة الإفريقية مؤخرًا تشابه الحيثيات؛ فعلى عكس الانقلابات التقليدية، باتت الانقلابات الحاصلة من ضباط الجيش، وتحديدًا الحرس الرئاسي، تحدث بهدوء، مدعومة بتأييد شعبي، ومتوافقة في الدوافع والمبررات. ولا يُمكن عزل ما يحدث عن المتغيرات والحسابات الدولية والتموضع الدولي لجهة التمدد أو الانحسار في القارة الإفريقية، وهو ما يُرجِّح تدحرج دول إفريقية أخرى إلى مسار نظرية الدومينو.[22]
* بين انقلاب الجابون والنيجر: رغم أن انقلاب الجابون جاء بعد 36 يوما من نظيره بالنيجر، إلا أن اختلافات جوهرية بين الانقلابين، أبرزها أن بازوم أول رئيس مُنتخب في النيجر يستلم السلطة سلميًا من رئيس مُنتخب، وكان ذلك في العام 2021، في انتخابات جرت من دورتين، ولم تشكك أي دولة في نزاهتها.
بينما علي بونغو، فاستلم السلطة من والده عمر بونغو (1967-2009)، وحكم البلاد لولايتين رئاسيتين (2009-2023)، ورغم إصابته بسكتة دماغية نهاية 2018 خلال حضوره مؤتمر بالسعودية، ثم تعرضه لمحاولة انقلاب فاشلة في 2019، بسبب “وضعه الصحي”، إلا أنه ترشح في 2023، لولاية رئاسية ثالثة رغم تحفظات داخلية وغربية من ترشحه لأكثر من عهدتين رئاسيتين. ولم تحظ انتخابات الجابون التي أُجريت في 26 أغسطس برضى المجتمع الدولي، على عكس انتخابات النيجر، إذ لم يُدعَ إليها مراقبون دوليون ولا صحفيون أجانب، وتم وقف خدمات الإنترنت بعد غلق صناديق الاقتراع، كما وقعت اعتقالات، ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى وصفها بـ”المعيبة”.
فانقلاب النيجر قام على رئيس منتخب لم يحكم سوى أقل من عامين ونصف، بينما انقلاب الجابون قام على رئيس حكم وعائلته البلاد أكثر من نصف قرن، وكان يجهز نفسه لولاية رئاسية ثالثة رغم “مرضه”، وكان يحضر ابنه نور الدين، ليخلفه في الحكم، بدعم من رئيس الحرس الرئاسي الذي انقلب عليه. وهذه المرة الأولى التي ينجح فيها انقلاب عسكري في الجابون التي لم يحكمها منذ الاستقلال سوى ثلاثة رؤساء، أولهم ليون إمبا (1960-1967)، الذي غادر الحكم بعد وفاته، واستلم عمر بونغو، الحكم من بعده بصفته نائب الرئيس وبقي في السلطة إلى غاية وفاته بأزمة قلبية في 2009، ليخلفه ابنه علي بونغو.
أما النيجر فلها تاريخ طويل مع الانقلابات، حيث وقع بها أربع انقلابات ناجحة، ناهيك عن انقلابات فاشلة عديدة. فثقافة البلدين مع الانقلابات مختلفة، فبينما لا تُعد شيئًا غريبًا أو مفاجئا في النيجر، فإنها في الجابون الوسيلة الوحيدة “للتداول على السلطة”.
وجغرافيًا تطل الجابون على خليج غينيا والمحيط الأطلسي غرب القارة الإفريقية، ويحدها من الشمال الكاميرون وغينيا الاستوائية ومن الشرق والجنوب الكونغو (برزافيل)، لكنها سياسيًا تنتمي إلى المجموعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا التي تضم 10 دول.
أما النيجر، فرغم موقعها وسط الصحراء الكبرى إلا أنها سياسيًا محسوبة على “إيكواس” التي تعتبر أقوى وأكثر حيوية وتماسكًا من الأولى. واللافت للنظر، أن الانقلابين في البلدين قادهما رئيسا الحرس الجمهوري، الذي يمتلك أكثر العسكريين ولاءً وتدريبًا وربمًا تسليحًا، لحماية الرئيس من أي انقلاب.[23]
الخُلاصة: انقلاب الجابون الذي أعقب سلسلة من الانقلابات العسكرية في منطقة وسط وغرب إفريقيا يشير إلى أن المواطن الإفريقي، في الأساس، يبحث عن تلبية احتياجاته المعيشية قبل الاهتمام بالشؤون السياسية، إذا اعتبرنا أن السياسة أو الديمقراطية ليست أولوية لمن يعيش في ظروف معيشية صعبة.
وبالتالي، قد يتقبَّل المواطن النظام الاستبدادي إذا ما قدَّم له الحد الأدنى من متطلباته الأساسية.
ويُمكن الإشارة هنا إلى نموذج بول كاجامي في رواندا، فرغم أنه يحكم البلاد وفق نظام استبدادي منذ عام 1994، فقد حقَّقت رواندا تقدمًا اقتصاديًا ملحوظًا، مما يدعم موقف كاجامي. كما يؤكد انقلاب الجابون أيضًا على معضلة السياسات الغربية وفي القلب منها الفرنسية في المنطقة.
ومكمن الخطورة هنا يتمثَّل في أن نجاح أي انقلاب عسكري غالبًا ما يدفع مجموعة عسكرية في دولة مجاورة إلى القيام بانقلاب آخر، وهو ما يُطلق عليه ظاهرة العدوى أو دومينو الانقلابات. ولعل ذلك قد يدفع إلى تحولات أمنية وجيوسياسية واسعة النطاق.
وقد عكس انقلاب الجابون الازدواجية التي يتعامل بها المجتمع الدولي مع مثل تلك الحالات؛ فليس فقط ظروف الانقلاب وأسبابه؛ وإنما كانت هناك عوامل مهمة دفعت المجتمع الدولي إلى إيلاء أهمية خاصة للوضع في الجابون قياسًا إلى تجارب الانقلابات الإفريقية الأخرى، لجهة توافر مصالح جوهرية للقوى الكبرى في الجابون باعتباره بلدًا منتجًا للنفط ويتمتَّع بثروات معدنية مهمة، مما يُرجِّح تعاطي القوى الدولية مع الوضع بصورة مختلفة، فقد لا تتمسك بمطلب عودة بونغو وتمنح الانقلابيين فرصة كافية لتحقيق الانتقال الديمقراطي مع ضمان عدم ملاحقتهم.
إلا أن التساؤل المطروح هل سيُسلِّم الجيش السلطة للمدنيين بعد مرحلة انتقالية قصيرة؟ أم أنه سيُفضِّل الاحتفاظ بها والاصطدام بفرنسا والغرب، وبالتالي التحالف مع روسيا يصبح اضطراريًا؟ وهل بالأساس ستدفع فرنسا في اتجاه التصعيد حتى مع طول المرحلة الانتقالية؟ تلك هي التساؤلات التي ستتضح الإجابة عليها خلال الفترة القادمة..
[1] ثابت العمور، “الجابون: من صناديق الانتخابات إلى الانقلاب”، الميادين، 31/8/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/cLY1f
[2] محمود أبو بكر، “معركة المرفوض والحتمي.. ماذا بعد انقلاب الجابون؟”، عربية Independent، 31/8/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/vjqXL
[3] كاترين فرج الله، “بعد النيجر.. هل يكون انقلاب الجابون هو الأخير؟!”، السياسة الدولية، 31/8/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/RQNPD
[4] ثابت العمور، مرجع سبق ذكره.
[5] محمود أبو بكر، مرجع سبق ذكره.
[6] ثابت العمور، مرجع سبق ذكره.
[7] د. بدر حسن شافعي، “انقلاب الجابون.. الأسباب والمآلات”، الجزيرة نت، 1/9/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/EcvGc
[8] د. حمدي عبد الرحمن حسن، “انقلاب الجابون وموت رابطة فرانس/أفريك”، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 31/8/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/AuMOS
[9] محمود أبو بكر، مرجع سبق ذكره.
[10] ثابت العمور، مرجع سبق ذكره.
[11] “انقلاب الجابون ومحطات التباعد السياسي مع فرنسا”، العربي الجديد، 1/9/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/WigvU
[12] د. بدر حسن شافعي، مرجع سبق ذكره.
[13] د. حمدي عبد الرحمن حسن، مرجع سبق ذكره.
[14] “انقلاب الجابون ومحطات التباعد السياسي مع فرنسا”، مرجع سبق ذكره.
[15] “الجابون والنيجر.. انقلابان بظروف وحيثيات مختلفة (تحليل)”، وكالة الأناضول، 5/9/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/W5g2T
[16] د. حمدي عبد الرحمن حسن، مرجع سبق ذكره.
[17] “الجابون والنيجر.. انقلابان بظروف وحيثيات مختلفة (تحليل)”، مرجع سبق ذكره.
[18] ثابت العمور، مرجع سبق ذكره.
[19] محمود أبو بكر، مرجع سبق ذكره.
[20] د. بدر حسن شافعي، مرجع سبق ذكره.
[21] محمود أبو بكر، مرجع سبق ذكره.
[22] ثابت العمور، مرجع سبق ذكره.
[23] “الجابون والنيجر.. انقلابان بظروف وحيثيات مختلفة (تحليل)”، مرجع سبق ذكره.