انتخابات ليبيريا وتجربة ديمقراطية جديدة في إفريقيا

جاءت انتخابات ٢٠٢٣ في ليبيريا لتكون نقطة تحول رئيسية لمعرفة ما إذا كانت البلاد تواصل تقدمها نحو توطيد الديمقراطية، أو تنزلق مرة أخرى نحو نموذج الحكم الاستغلالي والإفلات من العقاب في العقود السابقة. لا يزال الليبيريون يعانون من الصدمة من ممارسات الحكم العدواني للانقلاب العسكري الذي أوصل صمويل دو ثم تشارلز تيلور إلى السلطة. وقد كانت إساءة استخدامهم للسلطة هي التي أدت إلى اندلاع الحروب الأهلية الكارثية وإدامتها من عام ١٩٨٩ إلى عام ٢٠٠٣، مما أدى إلى مقتل ٢٥٠ ألف شخص من بين السكان الذين يبلغ عددهم ٥ ملايين نسمة. فكيف يُمكن فهم الحياة السياسية في ليبيريا؟ وماذا كانت خلفيات الانتخابات الأخيرة؟ وكيف كانت نتائجها؟ وكيف يُمكن تقييمها؟ تلك هي التساؤلات التي سنسعى للإجابة عنها خلال هذا التقرير الموجز..

الحياة السياسية في ليبيريا: يتميز النظام السياسي الليبيري بكونه نظامًا رئاسيًا مكونًا من مجلسين (مجلس الشيوخ الليبيري مُكوَّن 30 مقعد، ويتم انتخاب الأعضاء مباشرة في 15 دائرة مُكوَّنة من مقعدين عن طريق التصويت بالأغلبية البسيطة، وتتم الانتخابات كل 9 سنوات). ومعه مجلس النواب (مكون من 73 مقعد؛ الأعضاء المنتخبون مباشرة في دوائر ذات مقعد واحد، عن طريق تصويت الأغلبية البسيطة للخدمة لفترات مدتها 6 سنوات؛ مؤهلون لولاية ثانية). عٌقدت انتخابات النواب آخر مرة في 10 أكتوبر 2017 وتمت إعادتها في أكتوبر 2023. أما الأحزاب السياسية المشاركة في الانتخابات فهي 14 حزب سياسي؛ أشهرهم حزب الكونغرس من أجل التغيير الديمقراطي CDC وهو الحزب الحاكم، وحزب المؤتمر الوطني البديل ANC، وحزب الحرية LP، وحزب الوحدةUP .[1] وعلى الرغم من أن سكانها كانوا جميعًا من ذوي البشرة السمراء، إلا أن تمييزًا عنصريًّا بين الليبيريين الوافدين والسكان الأصليين ساد المجتمع الليبيري؛ كنتيجة طبيعية لسيطرة الأفرو- أمريكان على الثروة والسلطة، ما خلق حالة مستدامة من التوتر السياسي، حتى قام مجموعة من العسكريين من السكان الأصليين، بقيادة الرقيب “صمويل دو”، بانقلاب عسكري عام 1980، أطاحوا فيه بالرئيس “ويليام تولبرت”، وقتلوه وحاكموا حكومته، وأعدموا ثلاثة عشر وزيرًا ومسؤولًا.

خلفيات الانتخابات في ليبيريا: عانت ليبيريا خلال السنوات الأخيرة من مجموعة من الإشكاليات على رأسها؛ الفساد: حيث انتقدت وزارة الخارجية الأمريكية وكبار مسؤولي البيت الأبيض مرارًا وتكرارًا سجل الفساد وحقوق الإنسان في إدارة واياه، بما في ذلك العنف ضد الصحفيين والقتل التعسفي على أيدي الشرطة. فرض مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على ثلاثة من كبار المسؤولين في إدارة واياه في أغسطس ٢٠٢٢، كما انتقد البنك الدولي وسفراء تسع حكومات الحكومة بسبب إساءة استخدام أموال المانحين. في غضون ذلك، أصبح أمراء الحرب من حقبة الحرب الأهلية أكثر ظهورًا داخل إدارة واياه. فقد أعطى الأمير جونسون تأييدًا مبكرًا لواياه. وزعم آخر، وهو أوغسطين ناجبي، أنه كان يُكوِّن ميليشيا خاصة لحماية واياه. حتى تشارلز تيلور يواصل فرض نفوذه من زنزانته مشددة الحراسة في المملكة المتحدة على الرغم من إدانته بارتكاب جرائم حرب في لاهاي. وتعد زوجته السابقة، جويل هوارد تايلور، هي نائبة للرئيس واياه. كما أنها أيضًا زعيمة في الحزب الوطني القومي، الذراع السياسي للجبهة المسلحة لتايلور. والفقر: حيث اندلعت احتجاجات دورية في مونروفيا كاستجابة للصعوبات الاقتصادية المتزايدة في بلد يعيش نصف سكانه تحت خط الفقر. كان الدافع وراء ذلك هو الارتفاع الحاد في أسعار المواد الغذائية والوقود نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا. يواجه الليبيريون أيضًا قوة شرائية متناقصة حيث ضعف الدولار الليبيري بشكل مطرد. ضعف المؤسسات الديمقراطية: بعيدًا عن شخصيات المرشحين، كانت القضية المركزية محل الأنظار في انتخابات ٢٠٢٣ في ليبيريا هي مدى قدرة المؤسسات الديمقراطية الناشئة في البلاد على مقاومة الضغوط لاستيعاب وإعادة إنشاء نموذج الرجل القوي للسلطة التنفيذية. التعديلات الدستورية: في استفتاء ديسمبر ٢٠٢٠، اقترح واياه ثمان تعديلات على الدستور، أهمها تقصير فترة الرئاسة من ٦ سنوات إلى ٥ سنوات (في محاولة لاستخدام واياه التعديل كذريعة للسماح له بشغل المنصب لفترتين لمدة ٦ سنوات ثم فترتين لمدة ٥ سنوات).[2]

نتائج الانتخابات وإرساء قواعد الممارسة الديمقراطية: تنافس في هذه الانتخابات 26 حزب سياسي، بالإضافة إلى 3 ائتلافات وتحالفين، ورشح هؤلاء 18 مرشح رئاسي، بالإضافة إلى مرشحين مستقلين، وكان أبرز المرشحين الرئيس المنتهية ولايته الأولي واياه، و”جوزيف بواكاي”، وفاز بواكاي في جولة الإعادة بفارق ضئل جدًّا، وحققت هذه الانتخابات أعلى نسبة مشاركة في الانتخابات الليبيرية حيث وصلت إلى 78,88%. وكانت النتائج في مجلس النواب، استمرار ائتلاف واياه “التحالف من أجل التغيير الديمقراطي”، في المركز الأول بأكثرية 25 مقعد، وتلاه حزب الوحدة في المركز الثاني بـ11 مقعد، وتلاهما ائتلاف الأحزاب السياسية المتعاونة بـ6 مقاعد، وتلاهم حزب حركة الديمقراطية وإعادة الإعمار بـ4 مقاعد، ثم توزع الـ8 مقاعد المتبقين على 7 أحزاب أخرى، أحدها بمقعدين، والباقون بمقعد واحد، و19 مستقلين. وفي مجلس الشيوخ، جرى التصويت على 15 مقعد للتجديد النصفي، ومن خلال النتائج تقدم ائتلاف واياه “التحالف من أجل التغيير الديمقراطي”، إلى المركز الأول بأكثرية 9 مقاعد، وتلاه حزب الوحدة في المركز الثاني بـ3 مقاعد، وتلاهما ائتلاف الأحزاب السياسية المتعاونة بـ3 مقاعد، وتلاهم حزب الحركة الديمقراطية وإعادة الإعمار بمقعدين، ثم ثلاثة أحزاب كل منهم مقعد واحد، و10 مقاعد للمستقلين. ومن خلال نتائج هذه الانتخابات الأخيرة، يُلاحظ أن صاحب منصب الرئاسة واياه خسر أمام منافسه بواكاي، وعلى الرغم من خسارة واياه للرئاسة، احتل حزبه وتحالفه المركز الأول في مجلسي النواب والشيوخ، وعلى الرغم من فوز بواكاي بالرئاسة، احتل حزبه المركز الثاني في مجلسي النواب والشيوخ، وبفارق كبير عن حزب وتحالف واياه. [3]

تقييم التجربة الانتخابية الأخيرة في ليبيريا: خلت العملية الانتخابية البرلمانية والرئاسية، التي أُجريت بين أكتوبر ونوفمبر من العام الجاري 2023 في ليبيريا، مما يشوب الانتخابات الإفريقية بصفة عامة، من خروقات ديمقراطية جسيمة. وبهذا تكون الديمقراطية الليبيرية الناشئة، قد قطعت شوطًا لا بأس به على الطريق الصحيح. وتتسم التجربة الديمقراطية الليبيرية بقدر كبير من الخصوصية؛ كونها نشأت في أعقاب حربين أهليتين متعاقبتين، كادتا أن تقضيا على أقدم جمهورية في إفريقيا. ففي نهاية المرحلة الانتقالية، التي أعقبت الحرب الأهلية الليبيرية الثانية، أجريت انتخابات رئاسية وتشريعية عام 2005، وصفها جُلّ المراقبين بالحرة والنزيهة، وأسفرت عن فوز “إلين سيرليف”، لتكون أول رئيسة منتخبة ديمقراطيًّا، بعد الصراع الطويل الدامي في ليبيريا، وأول امرأة تترأس دولة في إفريقيا، ثم أُعيد انتخابها عام 2011، وبعد انتهاء ولايتيها الرئاسيتين طبقًا للدستور، انتقلت السلطة سلميًّا إلى أيقونة كرة القدم الإفريقية “جورج واياه”، بعد فوزه في انتخابات عام 2017، فيما سعى واياه في انتخابات هذا العام 2023، إلى ولاية رئاسية ثانية، وعلى الرغم من فوز حزبه “المؤتمر من أجل التغيير الديمقراطي” على رأس ائتلاف حزبي “التحالف من أجل التغيير الديمقراطي” بأكثرية المقاعد في البرلمان بمجلسيه، إلا أن واياه خسر الرئاسة. ويُمكن تقييم التجربة الديمقراطية في ليبيريا من خلال عنصرين رئيسيين: أولهما؛ العملية الانتخابية والمعايير الديمقراطية:فالتقارير الأولية للانتخابات الأخيرة لعام 2023، وعلى الرغم من رصد بعض الخروقات أو الانتهاكات الديمقراطية؛ إلا أن كل التقارير أجمعت، على أن هذه الخروقات أو الانتهاكات، غير مُؤثِّرة بدرجة كبيرة، ولا تنال من سلامة حرية الناخبين ونزاهة وشفافية العملية الانتخابية، وقد دأبت أن الأطراف السياسية على تنفيذ توصيات الجهات القائمة على مراقبة الانتخابات، ولو بشكل نسبي ومرحلي. وثانيهما؛ مُخرجات العمليات الانتخابية وشروط الديمقراطية:فقد جرت الانتخابات في أجواء سلمية، وخلت بدرجة كبيرة من العنف الانتخابي، مقارنةً بما شهدته البلاد من صراع سياسي مُسلح، خلال المدة الطويلة (14 سنة) التي استغرقتها الحربان الأهليتان. ويُعد تداول السلطة من أهم مُخرجات هذه الانتخابات حيث انتقلت الرئاسة من صاحب المنصب “جورج واياه”، إلى مرشح حزب الوحدة “جوزيف بواكاي”، مع ملاحظة أنه وعلى الرغم من أن أيًّا من الأحزاب السياسية المتنافسة، لم يحقق الأغلبية المطلقة في مجلسي البرلمان، إلا أن أكبر حزبين تناوبا على تحقيق الأكثرية في مجلسي البرلمان.[4]

الخُلاصة؛ بالنظر إلى ما شهدته ليبيريا من صراع سياسي مسلح، يُمكن القول بأن التجربة الديمقراطية الليبيرية، تسير بخطى ثابتة تتقدم بها تدريجيًّا على طريق الديمقراطية. فالمجتمع الليبيري، على المستوى الجماهيري وعلى مستوى النخب السياسية، بدأ في التخلص من ثقافة العنف، التي سادت فيه زمنًا طويلًا، وأن الالتزام بقواعد الممارسة السياسية الديمقراطية، بدأ في الترسخ في الثقافة السياسية للنخب والجماهير، وهي مؤشرات قوية على أن التجربة الديمقراطية الليبيرية، أصبحت إحدى التجارب الإفريقية القليلة الواعدة، وأنها سوف تحقق -وفي وقت قياسي- ما أخفقت في تحقيقه، كثير من الأنظمة السياسية الإفريقية.


[1] رشا رمزي، “انتخابات ليبيريا 2023: الحاجة إلى تجنب سياسة الانقسام للمرور الآمن لانتخابات سلمية”، المرصد المصري، 30/3/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/Sz3cC

[2] جوزيف سيجل، كانديس كوك، “انتخابات ٢٠٢٣ في إفريقيا: المرونة الديمقراطية في مواجهة المحاكمات”، Africa Center for Strategic Studies، ١٥/3/٢٠٢٣. متاح على الرابط: https://cutt.us/odjYy

[3] د. سعيد ندا، “انتخابات ليبيريا 2023م: خطوة جديدة على طريق الديمقراطية”، قراءات إفريقية، 23/11/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/ZIzkA

[4] د. سعيد ندا، “انتخابات ليبيريا 2023م: خطوة جديدة على طريق الديمقراطية”، مرجع سبق ذكره.

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022