الاتفاق الإثيوبي مع أرض الصومال: قراءة في الأبعاد والتداعيات

أبرمت إثيوبيا في الأول من يناير 2024 اتفاقًا مبدئيًّا مع إقليم أرض الصومال، يمنح أديس أبابا حق الوصول إلى البحر الأحمر تمهيدًا لإقامة قاعدة بحرية تجارية إثيوبية بالقرب من ميناء بربرة على مساحة 20 كيلومتر مربع لمدة 50 عام، مُقابل اعتراف الحكومة الإثيوبية بأرض الصومال كدولة مستقلة، ومنحها حصة قدرها 20% من الخطوط الجوية الإثيوبية التي بلغت إيراداتها نحو 6.9 مليار دولار وفقًا لإحصاءات عام 2022. فما هي أرض الصومال؟ وما هي أهمية الاتفاق بالنسبة لكلٍّ من إثيوبيا وأرض الصومال؟ ولماذا تتحفَّظ عليه الصومال؟ وما هي التداعيات المُحتملة للاتفاق على الدول المعنية؟ وكيف يُمكن توقُّع مستقبل الاتفاق؟ تلك هي التساؤلات التي ستسعى تلك الورقة للإجابة عليها..

أولًا: أرض الصومال والحلم الإثيوبي للولوج للبحر..

قبل التعرُّض للاتفاق بين إثيوبيا وأرض الصومال؛ لابد من التعرُّض أولًا لخلفيات نشأة أرض الصومال، ودوافع إثيوبيا لمثل هذه الاتفاقات..

1. كيف نشأت أرض الصومال؟ كانت أرض الصومال، وهي منطقة شبه صحراوية تقع على ساحل خليج عدن، محمية بريطانية ثم حصلت على استقلالها عام 1960 واندمجت مع الصومال، التي كانت تحتلها إيطاليا لتُكوِّنا معًا جمهورية الصومال. ثم انفصلت أرض الصومال وأعلنت استقلالها عن جمهورية الصومال في عام 1991 عقب الإطاحة بالرئيس الصومالي السابق سياد بري. العاصمة: هرجيسا، المساحة: 177,000 كيلومتر مربع، عدد السكان: 5.7 مليون نسمة، اللغات: الصومالية، العربية، الإنجليزية.[1] ورغم أن الإقليم ينتخب حكومته، ويملك عملته الخاصة، ويصدر جوازات سفر، فقد ظل غير معترف به كدولة مستقلة. وترتبط حكومة الإقليم بعلاقات مع عدد من الدول، ولديها مكاتب تمثيلية في الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والإمارات، وتايوان، وتستضيف بعثات قنصلية من المملكة المتحدة، وتركيا وتايوان، وإثيوبيا، وجيبوتي، والإمارات التي وقَّعت اتفاقًا مع أرض الصومال عام 2016 بقيمة 442 مليون دولار، لتشغيل مركز تجاري ولوجيستي إقليمي في ميناء بربرة. كما وقَّعت الإمارات في 2018 مع حكومة الإقليم اتفاقية لتطوير مشروع منطقة اقتصادية حرة تتكامل مع مشروع تطوير ميناء بربرة، وتحتفظ شركة موانئ دبي العالمية بحصة تبلغ 51% من المشروع، الذي تم الانتهاء من المرحلة الأولى منه عام 2021، بجانب 30% حصة أرض الصومال، و19% حصة إثيوبيا.[2]

2. الحلم الإثيوبي للولوج للبحر: لطالما احتل الوصول إلى البحر مكانة مركزية في الوجدان الإثيوبي، ولاسيما بعد استقلال إريتريا عام 1993 الذي حوّل المستعمر السابق إلى أكبر الدول الحبيسة في إفريقيا. هذا الطموح الإثيوبي المُتجدِّد كانت آخر تجلياته الخطاب الذي ألقاه رئيس الوزراء آبي أحمد أمام برلمان بلاده في 14 أكتوبر الماضي. وفي إطار إثبات أحقية بلاده في الحصول على منفذ بحري؛ ساق أحمد العديد من المبررات التاريخية والاقتصادية والديمغرافية والجيوسياسية. وأكد أن أبناء وطنه الذين سيبلغ عددهم 150 مليونا خلال أقل من عقد “لا يستطيعون العيش في سجن جغرافي”، وأن “النيل والبحر الأحمر هما الأساس لتطوير إثيوبيا أو فنائها”. واعتماد إثيوبيا على ميناء جيبوتي المجاورة في الاستيراد والتصدير عبر البحر الأحمر، مثّل قلقا دائمًا لأديس أبابا مما دفعها إلى العمل على إستراتيجية لتنويع الموانئ، بعقد اتفاقيات مع جيرانها كالصومال وكينيا وغيرهما، لكن التطور الأخير كان في الرغبة في الحصول على منفذ بحري سيادي خاص بها.[3]

ثانيًا: تفاصيل الاتفاق بين إثيوبيا وأرض الصومال..

تُعد مذكرة التفاهم بيان نوايا، وليست اتفاقًا مُلزمًا قانونيًا، لكن ما يبدو واضحًا من المذكرة هو أن أرض الصومال مستعدة لمنح إثيوبيا إمكانية الوصول إلى البحر من أجل حركة مرور سفنها التجارية عبر أحد الموانئ في البلاد. حيث سيوفر الميناء مجالًا لإثيوبيا للوصول إلى البحر الأحمر وقناة السويس، مما يُتيح لها الوصول إلى أوروبا. وأفادت تقارير بوجود جانب عسكري في الاتفاق؛ إذ قالت أرض الصومال إنها قد تؤجِّر جزءًا من الساحل للبحرية الإثيوبية، وأكَّدت هذا أديس أبابا. ويمنح الاتفاق، الذي وُقِّع في أديس أبابا، إثيوبيا عقد إيجار لمدة 50 عام لقاعدة بحرية مع إمكانية الوصول إلى ميناء بربرة في أرض الصومال للعمليات البحرية التجارية. ووعدت إثيوبيا في المقابل ببحث عميق لسعي أرض الصومال إلى الحصول على الاعتراف الرسمي بوصفها دولة مستقلة، كما ستحصل أرض الصومال على حصة في الخطوط الجوية الإثيوبية، وهي خطوط جوية ناجحة في البلاد.[4]

1. ملاحظات أولية حول الاتفاق: جاء الإعلان عن الاتفاق بعد فترة زمنية قصيرة من تصريحات آبي أحمد في أكتوبر 2023 حول ضرورة إيجاد موطئ قدم لبلاده في البحر الأحمر، والتي انطوت على تحذيرات بإمكانية استخدام القوة في حالة فشل التفاوض مع دول المنطقة. مما يوحي بأن الاتفاق قد يتجاوز طرفيه ليضم أطرافًا إقليمية وربما دولية أخرى تختفي عن المشهد، لكنها تديره برمته لتحقيق أهداف استراتيجية خاصة بها. ولا يُمكن إغفال أيضًا الأطراف التي ستتأثر بتداعيات هذا الاتفاق مثل الصومال ودول القرن الإفريقي التي تنظر إلى الاعتراف الإثيوبي بـأرض الصومال كسابقة قد تُعزِّز عدم الاستقرار الإقليمي في المنطقة خلال السنوات المقبلة. كذلك، يُمثِّل الاتفاق تحديًّا دبلوماسيًّا للقرن الإفريقي، في ضوء التنافس الإقليمي والدولي على المنطقة من أجل حماية مصالحها الاستراتيجية هناك، فهناك تنافس تاريخي بين إثيوبيا وبعض القوى الإقليمية الأخرى، مثل مصر، إلى جانب وجود العديد من القوى الفاعلة التي تمتلك استثمارات ضخمة في المنطقة مثل الصين وتركيا كمستثمرين رئيسيين في مجال الموانئ البحرية والبنى التحتية، الأمر الذي يُسهم في تعقيد المشهد الإقليمي خلال الفترة المقبلة في ضوء تضارب المصالح الإقليمية والدولية إزاء توقيع الاتفاق الإثيوبي مع أرض الصومال. وقد يعكس توقيت إبرام هذا الاتفاق مناورة من جانب كلٍّ من آبي أحمد وموسى عبدي لاستغلال فرصة انشغال المجتمع الدولي إثر اندلاع معركة طوفان الأقصى، وما تبعها من تداعيات في المحيطين الإقليمي والدولي.[5]

2. أبعاد ودلالات الاتفاق: مذكرة التفاهم الإثيوبية مع حكومة أرض الصومال الانفصالية، كشفت عن العديد من الأبعاد والدلالات، التي من المهم الوقوف عليها، وما يمكن أن يترتّب عليها من مآلات. أولها؛ الدور الإثيوبي الممتد في تفكيك الصومال، سواء من خلال دعم احتلال إقليم الأوجادين الصومالي منذ عام 1954، أو في دعم انفصال أرض الصومال منذ منتصف السبعينيات من القرن العشرين، وصولًا إلى هذا الاتفاق الذي يُرسِّخ من الانفصال، ويُعزِّز من الهيمنة الإثيوبية على الأراضي الصومالية. وثانيها؛ الحضور الإماراتي المهم والمؤثر في الاتفاق، والذي كانت بدايته عام 2016، ثم تعزَّز في 2018، وكانت إثيوبيا حاضرة بنسبة 19% من اتفاق ثلاثي ضمَّ إلى جانبها الإمارات وحكومة الإقليم. وثالثها؛ الحضور الأميركي المؤثر في الخلفية، فالولايات المتحدة ترى في إثيوبيا إحدى الأوراق الرئيسية التي تعتمد عليها في تعزيز الدور الأميركي في القرن الإفريقي، وفي عام 2016 دعمت الولايات المتحدة الاتفاق الإماراتي مع حكومة الإقليم، وفي عام 2020، دعمت اتفاق الإقليم مع تايوان التي تدعمها في مواجهة التمدد الصيني في الصومال، وخاصةً بعد رفض الصين الاعتراف بالاتفاق التايواني مع أرض الصومال. ورابعها؛ بُعد يرتبط بالتداخل الكبير بين الإقليمي والدولي في القرن الإفريقي، مع حضور الدور التركي الداعم للحكومة الفدرالية الصومالية، والذي ساهم في تعزيز البنية التحتية لمؤسسات الدولة، وخاصةً في العاصمة مقديشو، ومطارها الدولي، في مواجهة الدور الصهيوني الداعم لسياسات التفكيك والانفصال في دول القرن، بدايةً من إريتريا عام 1993 إلى جنوب السودان عام 2011، وصولًا إلى أرض الصومال، وقوات الدعم السريع في السودان خلال السنوات الخمس الأخيرة. وخامسها؛ أن الرهان على المنظمات الإقليمية والدولية في التعاطي مع الأزمة الراهنة سيكون خاسرًا لعدة اعتبارات: فمن ناحية؛ تعاني الجامعة العربية من حالة كبيرة من الضعف، وسترفض إثيوبيا أن يكون لها دور في الأزمة، كما حدث في أزمة سد النهضة. ومن ناحية ثانية؛ أن الاتحاد الإفريقي مقره الرئيس في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، التي تمارس تأثيرات واسعة على معظم الدول الأعضاء؛ بما يضمن لها تمرير القرارات والمشروعات التي تتفق ومصالحها. ومن ناحية ثالثة؛ أنه لو تم اللجوء إلى مجلس الأمن، فإن الأمر سيصطدم بعائقين؛ الأول: حق الفيتو الذي يمكن أن تستخدمه أي دولة من الدول دائمة العضوية لصالح إثيوبيا، والثاني: أن المجلس يُمكن أن يرد الأمر إلى الاتحاد الإفريقي، كما حدث أيضًا في ملف سد النهضة، وتكون النتيجة مرور الوقت، وتمكين إثيوبيا من تنفيذ مخططاتها في تقسيم الصومال، وتعزيز هيمنتها الإقليمية في منطقة القرن الإفريقي، ومنطقة حوض النيل.[6]

ثالثًا: رؤية الأطراف المختلفة للاتفاق وتداعياته المُحتملة على كل طرف..

يُمكن الإشارة إلى رؤية الأطراف المعنية في المنطقة حول الاتفاق الأخير بين إثيوبيا وأرض الصومال، وكذلك تداعياته المُختلف على كل طرف؛ كالتالي..

1. رؤية الأطراف المختلفة للاتفاق: بالنسبة لإثيوبيا؛ يُسهم الحصول على منفذ بحري إثيوبي دائم في البحر الأحمر في تعزيز شعبية آبي أحمد، وتحسين صورته لدى الرأي العام الإثيوبي في إطار سياق داخلي مضطرب أمنيًّا وسياسيًّا. بالإضافة إلى تهدئة الداخل الإثيوبي الذي يتسم بمزيد من التعقيد في ظل استمرارية النزاعات والصراعات العرقية والسياسية لاسيما في إقليم أمهرا. ومن شأن هذا الاتفاق -حال تنفيذه- أن يُسهم في تقليل اعتماد إثيوبيا على ميناء جيبوتي، وما يعنيه من تخفيف الأعباء الاقتصادية بما في ذلك أعباء الرسوم التي وصلت إلى ملياري دولار سنويًّا والتي شكَّلت عبئًا على ميزانية الدولة الإثيوبية التي تبلغ حوالي 14.7 مليار دولار، وتحدّ من نمو حجم التجارة الدولية لإثيوبيا. وتدرك إثيوبيا أن حصولها على منفذ بحري من شأنه استعادة نفوذها في البحر الأحمر، ويفتح المجال لها للانخراط بقوة في المعادلة الإقليمية الأمنية هناك، بما يعني إعادة تشكيل العلاقات الإقليمية في القرن الإفريقي. أما أرض الصومال؛ فتبحث حكومة إقليم أرض الصومال منذ سنوات عن مقايضة استراتيجية بمنح امتيازات على ساحل البحر الأحمر تشمل إقامة قاعدة عسكرية على أراضيها، في مقابل نيل الاعتراف الدولي بها، لتُحفِّز المجتمع الدولي تجاه قضيتها. وقد استغلت في هذا الإطار حاجة إثيوبيا لمنفذ بحري، في خطوة تعتبرها هرجيسا هي الأخرى بمثابة نجاح دبلوماسي لها على الصعيد الإقليمي، ربما تُشكِّل دافعًا للمُضي قُدمًا نحو إقناع أطراف إقليمية ودولية أخرى بتبنِّي نفس الموقف الإثيوبي تجاهها خلال الفترة المقبلة. كما أن الاتفاق يحمل فوائد اقتصادية مُحتملة بما في ذلك حصة مُحتملة في الخطوط الجوية الإثيوبية، والاستثمار في البنية التحتية وتطوير الطرق والموانئ البحرية، إضافةً إلى تعزيز صناعة السياحة في أرض الصومال اعتمادًا على الخطوط الجوية الإثيوبية.وبالنسبة للصومال؛ فتتمسَّك الصومال بوحدة أراضيها بما في ذلك إقليم أرض الصومال، ويظل مبدأ الحفاظ على وحدة وتماسك الدولة الصومالية أولوية لجميع الحكومات المتعاقبة في البلاد، لاسيما الرئيس الحالي حسن شيخ محمود الذي تعهَّد عقب وصوله للسلطة في مايو 2022 بالحفاظ على وحدة الأراضي الصومالية، والتفاوض مع أرض الصومال للانخراط مجددًا في النظام الفيدرالي الصومالي. وبرغم الانفراجة في العلاقة بين مقديشو وهرجيسا بعدما تم الاتفاق بوساطة جيبوتية على استئناف المفاوضات بين الطرفين لتسوية الخلافات بينهما والتي توقفت في عام 2020، إلا أن توقيع الاتفاق الأخير بين إثيوبيا وأرض الصومال قد يُعرقل إقامة هذا الحوار، في ظل الموقف الصومالي المُتشدِّد ضد طرفي الاتفاق.[7]

2. التداعيات المُحتملة حال إتمام الاتفاق: يحمل توقيع هذا الاتفاق مجموعة من التداعيات المُحتملة على المستويات الداخلية والإقليمية للدول المعنية؛ حيث..

أ. التداعيات المُحتملة على أرض الصومال: في حال مضت هرجيسا قُدُمًا في التحالف مع آبي أحمد، فإن ما يتبع ذلك من توترات جيوسياسية في المنطقة قد يؤدي إلى عدة تداعيات: أولها؛ إحجام حلفاء الإقليم عن المشاركة في اتفاقات ثنائية استثمارية واقتصادية معها. وثانيها؛ يُعزِّز الاتفاق من الأزمة الداخلية التي يواجهها عبدي منذ أوائل العام الماضي، المُتمثِّلة في دعوات الانفصال التي أعلنها عدد من العشائر المحلية، في مقدمتها عشيرة “دولبهنتي” بسبب ما سمّته سياسات التطهير والتهميش التي مارستها عشيرة “آل إسحاق” المسيطرة على مقاليد الحكم في إقليم أرض الصومال. فقد أعلنت العشائر أنها تتبع جمهورية الصومال، وأنها لم يستشرها أحد في الانفصال مطلع التسعينيات. وتسبَّبت الاشتباكات المسلحة بين الطرفين، خاصةً في منطقة “لاسعانود” الإستراتيجية، في فرار ما يزيد على 150 ألف شخص حسب تقديرات الأمم المتحدة، علاوةً على مقتل المئات، كما نوقشت القضية في مجلس الأمن في فبراير الماضي. وثالثها؛ يُعرقل الاتفاق مباحثات السلام مع جمهورية الصومال، التي عُقِدَت في جيبوتي بصفتها رئيس الدورة الحالية لتجمُّع الإيجاد، وذلك قبل ثلاثة أيام من توقيع الاتفاق بين هرجيسا وأديس أبابا.[8] ورابعها؛ قد تتعرَّض أرض الصومال لهجمات إرهابية من حركة الشباب المجاهدين التي اتهمت قادة الإقليم بالتواطؤ مع إثيوبيا، الأمر الذي قد يزيد من تعقيد الاستقرار الإقليمي في القرن الإفريقي.[9]

ب. التداعيات المُحتملة على إثيوبيا: ترتبط المصالح الإثيوبية ارتباطًا وثيقًا بالصومال، وإذا ما طُبِّق هذا الاتفاق بالفعل، فقد تنتج عنه عدة تحديات. أولها؛ إحياء النزاع التاريخي بين إثيوبيا والصومال على إقليم أوجادين الصومالي. وثانيها؛ قد يؤدي الاتفاق إلى فقدان التعاون والتنسيق الأمني مع مقديشو، وهو ملف مهم للأمن القومي الإثيوبي، حيث تمتد الحدود بين البلدين إلى 1640 كيلومتر، وهي الأطول بين إثيوبيا وباقي جيرانها. وثالثها؛ الخسائر الاقتصادية المُحتملة؛ حيث يُعَدُّ الصومال من أبرز الشركاء الاقتصاديين لإثيوبيا، حيث تتجاوز قيمة التبادل التجاري بين البلدين المليار دولار، بالإضافة إلى المشاركة الإثيوبية في عمليات التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي، خاصة في مناطق الحدود البحرية الصومالية الكينية، وهو أمر تبدت أهميته بعد توقيع حكومة أديس أبابا لعقود التنقيب عن النفط والغاز مع إحدى الشركات الصينية، وتبنّيها مُخططًا لإنشاء خط أنابيب لتصدير الغاز الطبيعي من إقليم أوجادين إلى موانئ التصدير عبر جيبوتي. وقد وقَّعت إثيوبيا 16 اتفاقية لتعزيز التعاون الاقتصادي مع الصومال في يونيو 2018، كما اتُّفِقَ في العام نفسه على استئناف الرحلات الجوية بين إثيوبيا والصومال، بعد قطيعة استمرت 41 عامًا، وذلك بتنظيم أربع رحلات أسبوعيًا بين أديس أبابا ومقديشو. ورابعها؛ سيكون الاتفاق دعمًا لإقليم انفصالي، ومن ثمَّ تكون إثيوبيا بذلك تُقوِّض الأساس القانوني نفسه الذي تدافع به عن وحدة أراضيها، كما أنه يهُز الصورة التي يحاول آبي أحمد ترويجها عن بلاده بوصفها القائد لمبادرات ترتيب الأوضاع بالقرن الإفريقي، لاسيما وهي الدولة المضيفة للاتحاد الإفريقي والملتزمة بقرارته فيما يتعلق باحترام الحدود السيادية للدول، وصاحبة النفوذ الأكبر داخل الإيجاد. وخامسها؛ يُمثِّل الاتفاق خصمًا من الموقف الإثيوبي في ملف سد النهضة لصالح الموقف المصري والسوداني، حيث استطاعت أديس أبابا في السابق تحييد الصومال بأهميته الإستراتيجية، ونجحت في انتزاع تحفظ حكومة مقديشو على قرار جامعة الدول العربية الداعم لموقف مصر والسودان في 4 مارس 2020، وهو موقف من المتوقع أن يتغير لصالح عودة الانحياز الصومالي لمصر والسودان.[10] وسادسها؛ من المُرجَّح أن تواجه أديس أبابا موجة من التوترات الإقليمية مع بعض دول المنطقة لاسيما جيبوتي التي تعتمد بشكل أساسي على التجارة الإثيوبية عبر مينائها، إضافةً إلى أنها تنظر لميناء بربرة باعتباره منافسًا استراتيجيًّا لها، وربما يتطور الأمر إلى شبه عزلة إقليمية لنظام آبي أحمد في المنطقة، خاصةً في ضوء المخاوف من زعزعة استقرار المنطقة بتشجيع بعض القوميات والحركات الانفصالية لمحاكاة نموذج أرض الصومال. وسابعها؛ ربما تتعرَّض العلاقات الإثيوبية لمرحلة فتور مع بعض القوى الدولية الفاعلة في القرن الإفريقي مثل الصين التي تشهد علاقاتها مع أرض الصومال توترًا بسبب اعترافها بتايوان، في الوقت الذي ترتكز فيه السياسة الصينية بإفريقيا على حشد التأييد الإفريقي لمبدأ “صين واحدة”.[11]

رابعًا: المواقف المختلفة من الاتفاق..

تنوعت المواقف من الاتفاق على المستويات الداخلية والخارجية؛ كالتالي..

1. على المستوى الداخلي؛ رفضت الصومال، التي تُعد أرض الصومال جزءًا من أراضيها، الاتفاق. وسارع الرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود، إلى توقيع قانون يلغي بمقتضاه مذكرة التفاهم. وقد اجتمعت الحكومة الصومالية وأصدرت بيانًا اعتبرت فيه أن الاتفاق بلا أساس قانوني، وأنه اعتداء سافر على سيادة جمهورية الصومال، كما أعلنت استدعاء سفيرها لدى أديس أبابا للتشاور، وقال رئيس الصومال حسن شيخ محمود إنه لا يمكن لأي شخص أن يتصرف في شبر واحد من أراضي الصومال. وبالنسبة للنخب السياسية الصومالية أعلن حليف آبي أحمد والرئيس الصومالي السابق محمد عبد الله فرماجو رفضه للاتفاق، وهو ما أكَّده أيضًا محمد حسين روبلي رئيس الوزراء الصومالي السابق.[12]

2. على المستوى الخارجي؛ دعت الصومال الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والاتحاد الأوروبي وتكتل الإيجاد لاجتماع طارئ لبحث التدخل الإثيوبي. وكان أول الأطراف استجابة لدعوة مقديشو الاتحاد الأوروبي الذي أصدر بيانًا يؤكد أهمية احترام وحدة الصومال، ثم جاء بيان جامعة الدول العربية بعد ساعات مُعلنًا التضامن مع حكومة الصومال وإدانة المذكرة المُوقَّعة بين إثيوبيا وأرض الصومال باعتبارها انتهاكًا لسيادة الدولة الصومالية، ثم أتى بيان الإيجاد دبلوماسيًا إلى حدٍّ بعيد، حيث عبَّر التكتل فيه عن القلق العميق، ودعا قادة البلدين للحوار وضبط النفس، وهو ما اعتبرته مقديشو بيانًا مُخيبًا للآمال ومُنحازًا للطرف الإثيوبي. كما تأخر بيان الاتحاد الإفريقي الذي صدر بعد 72 ساعة من الاتفاق، ورغم ما جاء فيه من صيغة دبلوماسية دعت لضبط النفس والهدوء والتحاور، فإنه أكد ضرورة احترام وحدة وسيادة أراضي الصومال.[13] ودعمت الولايات المتحدة موقف الصومال، حيث قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية “ماثيو ميلر”: “إننا ننضم إلى الشركاء الآخرين في التعبير عن قلقنا البالغ بشأن تصاعد التوتر في القرن الإفريقي، وأيضًا نحث جميع أصحاب المصالح على الدخول في حوار دبلوماسي”. وأعلنت تركيا، التي تؤدي دورًا مهما في الصومال، “التزامها بوحدة الصومال وسيادته وسلامة أراضيه”.[14]

3. الموقف المصري من الاتفاق: بالنسبة لمصر، فإن الصومال بما يُمثِّله من موقع إستراتيجي في منطقة القرن الإفريقي وحدوده الممتدة مع منابع نهر النيل يُمثِّل أهمية كبرى للأمن القومي المصري. وتحتفظ مصر بعلاقات تاريخية وثيقة مع الصومال، وكانت المرحلة الذهبية للتقارب المصري الصومالي في الستينيات في مواجهة التحالف الأميركي الإثيوبي، وبالأخص بعد تدشين المشروع الأميركي لاستصلاح الأراضي حول النيل الأزرق في إثيوبيا ردًا على بناء مصر السد العالي في أسوان. وقد شهدت العلاقات المصرية الصومالية في عهد الرئيس السابق محمد عبد الله فرماجو نوعًا من الفتور لصالح التحالف مع آبي أحمد، لكن تغير الأمر بعد تولِّي حسن شيخ محمود الحكم وزيارته للقاهرة. وتبع الإعلان عن الاتفاق اتصال هاتفي مُعلن بين حسن شيخ محمود وعبد الفتاح السيسي لبحث توابع الاتفاق مع الأطراف الخارجية، وأعقبه بيان من الخارجية المصرية أكدت فيه ضرورة احترام سيادة الصومال على أراضيه وفقًا للقانون التأسيسي للاتحاد الإفريقي، مُحذِّرة من الإجراءات التي من شأنها أن تُقوّض استقرار القرن الإفريقي.[15] ورغم ذلك؛ يُمكن القول أنه في مقابل الحضور الصهيوني والإماراتي والإثيوبي في القرن الإفريقي بشكلٍ عام والصومال بشكلٍ خاص؛ هناك غياب كبير للدور المصري رغم التأثير الكبير للقرن الإفريقي ودول حوض النيل كعمق إستراتيجي للدولة المصرية، وتاريخيًا كانت الموانئ الصومالية في زيلع وهرر وبربرة، والمدن المركزية، مثل: هرجيسا، ومقديشو محطات تجارية إستراتيجية لمصر عبر عشرات القرون. وهو ما يتطلب تحركًا عاجلًا من الدولة المصرية لمواجهة تداعيات التمدُّد الإثيوبي في ظل الطموح الكبير الذي تحدَّث به رئيس الوزراء الإثيوبي في أكتوبر 2023، عمَّا أسماه حق بلاده في أن يكون لها حضور عادل على البحر الأحمر، حتى لو كان ذلك على حساب باقي دول المنطقة، وعلى حساب وحدتها وسلامة أراضيها كما يفعل الآن بعد اتفاقه مع الحكومة الانفصالية في أرض الصومال.[16]

خامسًا: سيناريوهات ومآلات الاتفاق..

في ضوء ذلك، هناك ثلاثة سيناريوهات لما يُمكن أن يؤول إليه هذا الاتفاق، أولها؛ التصعيد الدبلوماسي من الصومال انطلاقًا من حقه في ممارسة أعمال السيادة على أراضيه، ووفقًا لحدوده المُعترف بها دوليًا، يُعزِّزه دعم المنظمات والأطراف الدولية والإقليمية ودول الجوار الساعية لمنع تصاعد التوترات الجيوسياسية في منطقة القرن الإفريقي، بالإضافة إلى الأطراف التي تعتبر الوجود الإثيوبي العسكري على مدخل مضيق باب المندب تهديدًا لها. وثانيها؛ نجاح آبي أحمد في تمرير الاتفاق مع إكمال الاعتراف الرسمي بإقليم أرض الصومال، وتفاقم الأزمة الجديدة في المنطقة بشكلٍ تُصبح فيه كل الاحتمالات مفتوحة بما فيها العمل العسكري. وثالثها؛ عدم إكمال الاتفاق بسبب عدم التزام أديس أبابا بما يتعلَّق بالاعتراف الرسمي للإقليم، حيث إن إثيوبيا لم تُصدر تأكيدًا رسميًا حتى الآن حول هذا الجزء من الاتفاق، واكتفت بالإشارة إلى سعيها إجراء تقييم مُتعمِّق حول المسألة. وقد صدرت تصريحات مؤخرًا من بعض المسؤولين في أديس أبابا وصفت الاتفاق بأنه مجرد مذكرة تمهيدية فقط، وأن الاتفاق النهائي لم يُوقَّع بعد، فيما بدا أنه رضوخ للضغط الإقليمي والدولي ضد المُضي في اتفاق مُخالف للقانون الدولي والحدود الصومالية المُعترف بها.[17]

– احتمالات نشوب نزاع مسلح: هناك مخاوف من حدوث خلاف دبلوماسي طويل الأمد بين إثيوبيا والصومال، لكن من غير المحتمل نشوب نزاع مسلح بينهما. وقد اندلع في الماضي صراع إقليمي بين البلدين. ففي عام 1977، غزت الصومال منطقة أوجادين، وهي منطقة حدودية متنازع عليها تقع الآن في إثيوبيا، وفازت إثيوبيا في الحرب آنذاك. ولا تُقارن قوة الصومال العسكرية بما تتمتَّع به إثيوبيا في الوقت الحالي؛ فبينما يبلغ تعداد الجيش الصومالي 20 ألف جندي، يصل عدد أفراد الجيش في إثيوبيا إلى أكثر من 130 ألف جندي. ويعاني البلدان بالفعل من عدم الاستقرار داخليًا. وتخوض مقديشو حربًا طويلة مع حركة الشباب المسلحة، بينما تتعامل إثيوبيا مع تبعات حرب تيجراي بالإضافة إلى صراع جديد في منطقة أمهرا.[18] ولذا فمن غير المُرجَّح نشوب نزاع مسلح بين الطرفين؛ إلا أن ذلك لا ينفي احتمال حدوث هجمات من جماعة الشباب في الداخل الإثيوبي.

الخُلاصة؛ يُمثِّل الاتفاق الإثيوبي مع أرض الصومال جزء من مجموعة من الصفقات التي يحاول أن يبرمها آبي أحمد، من أجل توسيع شبكة الموانئ التي يستهدف تدشينها بهدف ضمان وجود أكثر من بديل استراتيجي، لكي يُعزِّز اتصاله بالعالم الخارجي عبر البحر الأحمر. ومن المُرجَّح أن يواجه آبي أحمد سياقًا إقليميًّا متوترًا فيما يتعلَّق بعلاقاته مع بعض دول المنطقة مثل الصومال وجيبوتي، بما قد يُعزِّز عزلته الإقليمية، ما لم يستعن ببعض الأطراف الإقليمية لتسكين تلك الخلافات مستقبلًا. ومن جانبها؛ من المُرجَّح أن تبدأ الحكومة الصومالية حربًا دبلوماسية ضد إثيوبيا، تتحصَّن فيها بحشد إقليمي واسع من أجل الضغط عليها للتراجع عن الاتفاق الأخير واعترافها بـأرض الصومال، لاسيما بعدما أعلنت كلٌّ من كينيا وجيبوتي عن تحفظاتهما بشأن شرعية الاتفاق وأعربتا عن قلقهما من تقويض سيادة دولة الصومال. وقد يتبنى الرئيس حسن شيخ محمود سياسة اللعب على المتناقضات الإقليمية بالتقارب مع بعض الأطراف الإقليمية التي تعتبرها أديس أبابا مناوئة لها في القرن الإفريقي، في رسالة لإدارة آبي أحمد أن استمراره في الاتفاق من شأنه خسارة الصومال وتحولها من شريك إقليمي مهم إلى عامل رئيسي في زعزعة الاستقرار بالداخل الإثيوبي والمنطقة.

هذا ولدى دول القرن الإفريقي تخوف من تكرار نموذج أرض الصومال في المنطقة، وصعود النزعات الانفصالية التي ربما تدفع نحو المزيد من التفتيت، وتفاقم التدهور الأمني الإقليمي هناك. وهو ما يجعل دول المنطقة تتحفَّظ على منح الاعتراف الدولي لأرض الصومال، بما يُسهم في تفكيك وحدة وتماسك الدولة الصومالية، وما قد ينعكس سلبًا على المنطقة ككل جراء هذه الخطوة. وفي هذا الإطار؛ لابد لمصر من العمل على تقوية روابطها بالدولة الصومالية وباقي دول القرن الإفريقي باعتبارهم عمقًا إستراتيجيًا لها.


[1] “ماذا نعرف عن أرض الصومال ومذكرة التفاهم بينها وبين إثيوبيا؟”، عربي BBC News، 9/1/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/ihMCNlS

[2] د. عصام عبد الشافي، “التمدّد الإثيوبي ومخططات تفكيك الصومال”، الجزيرة نت، 13/1/2023. متاح على الرابط: https://2u.pw/CR6RoI6

[3] عبد القادر محمد علي، “اتفاق إثيوبيا وأرض الصومال.. وصفة لإشعال التوتر بالقرن الإفريقي”، الجزيرة نت، 3/1/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/HrAIvox

[4] “ماذا نعرف عن أرض الصومال ومذكرة التفاهم بينها وبين إثيوبيا؟”، مرجع سبق ذكره.

[5] أحمد عسكر، “قراءة أوّلية في اتفاق إثيوبيا وأرض الصومال، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 5/1/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/9Y1RAf0

[6] د. عصام عبد الشافي، مرجع سبق ذكره.

[7] أحمد عسكر، مرجع سبق ذكره.

[8] مصطفى أحمد، “اتفاق إثيوبيا وأرض الصومال.. هل يشعل آبي أحمد القرن الإفريقي؟”، ميدان، 11/1/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/J874zo4

[9] أحمد عسكر، مرجع سبق ذكره.

[10] مصطفى أحمد، مرجع سبق ذكره.

[11] أحمد عسكر، مرجع سبق ذكره.

[12] مصطفى أحمد، مرجع سبق ذكره.

[13] مصطفى أحمد، مرجع سبق ذكره.

[14] “ماذا نعرف عن أرض الصومال ومذكرة التفاهم بينها وبين إثيوبيا؟”، مرجع سبق ذكره.

[15] مصطفى أحمد، مرجع سبق ذكره.

[16] د. عصام عبد الشافي، مرجع سبق ذكره.

[17] مصطفى أحمد، مرجع سبق ذكره.

[18] “ماذا نعرف عن أرض الصومال ومذكرة التفاهم بينها وبين إثيوبيا؟”، مرجع سبق ذكره.

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022