تتابعت الجولات والزيارات الدولية للقارة الإفريقية منذ بداية العام الحالي 2024. وكان على رأس تلك الجولات جولتي وزيري الخارجية الصيني (وانغ يي) ثم الأمريكي (أنتوني بلينكن)، واللتان عكستا تنامي التنافس الدولي على القارة في تلك الفترة، لاسيما في ظل الأزمات الدولية والإقليمية المُتتابعة خلال الفترة الأخيرة. فماذا كانت دوافع وأهداف كلتي الجولتين؟ وما هي الرسائل التي حرصت كلٌّ من بكين وواشنطن من خلال تلك الجولات؟ وكيف يُمكن قراءتها في السياقين الإقليمي والدولي الحاليين؟ تلك هي التساؤلات التي سنسعى للإجابة عليها خلال تلك الورقة..
أولًا: جولة وزير الخارجية الصيني..
أجرى وزير خارجية الصين، وانغ يي، جولة شملت أربع دول إفريقية، في الفترة من 13 إلى 18 يناير 2024، وقد بدأت الزيارة بمصر، مرورًا بتونس وتوجو وساحل العاج؛ من أجل تدعيم الوجود الصيني السياسي والاقتصادي في المنطقة. وجاءت هذه الزيارة في ظل توترات كبرى تشهدها المنطقة؛ منها الحرب على قطاع غزة، والتوترات في البحر الأحمر، وتطرح الجولة العديد من التساؤلات فيما يتعلق بدلالتها وتوقيتها، وأبرز مخرجاتها ومستقبل النّفوذ الصيني في القارة الإفريقية، لاسيما في ظل التطورات الدولية والإقليمية الراهنة.
1. الصين في إفريقيا: منذ بدء سياسة الإصلاح والانفتاح في الصين قبل 45 عام، كانت إفريقيا موردًا موثوقًا به للمعادن والمواد الخام. وفي المُقابل استثمرت الصين في البنية التحتية والمجال الاجتماعي مثل التعليم والصحة في تلك البلدان. وقد موَّلت الصين في سبعينيات القرن الماضي، سكة الحديد التي يبلغ طولها 1860 كيلومتر بين ميناء دار السلام في تنزانيا ومدينة كابيري مبوشي في زامبيا. تمر هذه السكة الحديدية عبر أهم مناجم النحاس في إفريقيا. وهكذا حصلت الصين على النحاس من زامبيا عبر شبكة سكة الحديد التي أقامتها هي. واليوم هناك العديد من مشاريع البنية التحتية الأخرى التي أقامتها الصين في إفريقيا على غرار سكة الحديد الرائدة هذه قبل نحو نصف قرن. وفي إطار مبادرة الرئيس الصيني شي جينبينغ ومشروع الحزام والطريق[1]، تمَّ تكثيف التعاون الاقتصادي مع إفريقيا. ويمر طريق الحرير البحري عبر سواحل شرق إفريقيا على المحيد الهندي. وفي جيبوتي على القرن الإفريقي أقامت الصين عام 2016 أولى قواعدها العسكرية فيما وراء البحار. وكل ثلاث سنوات تعقد قمة صينية- إفريقية يُشارك فيها العديد من قادة الدول الإفريقية، والمعروفة باسم منتدى التعاون الصيني- الإفريقي، القمة الأخيرة كانت عام 2021 في السنغال. وحينذاك قال الرئيس الصيني في رسالته عبر الفيديو: إن العلاقات الصينية- الإفريقية مثال يُحتذى للمجتمع الدولي، لأن “الطرفين أقاما علاقات صداقة وأخوة لا تتزعزع في الكفاح ضد الإمبريالية والاستعمار”.[2]
2. خلفيات الجولة: في يناير من عام 1991 قام وزير الخارجية الصيني آنذاك تشيان تشي تشن، بزيارة رسمية ودية إلى إثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا. ومنذ ذلك الحين، دأب وزراء الخارجية الصينيون المتعاقبون على زيارة القارة الإفريقية في بداية كل عام. هذا وأفردت وسائل إعلام رسمية صينية مساحة كبيرة للحديث عن جولة وانغ يي الخارجية، وارتباطها بالظروف والتوترات الراهنة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، خاصةً أن الزيارة سوف تشمل دولتين عربيتين في شمال إفريقيا هما مصر وتونس. ويرى هؤلاء أن زيارة هذا العام للدول الأربع تُسلِّط الضوء على اهتمام الصين المُتزايد بالوضع الأمني في شمال إفريقيا على خلفية التداعيات المُحتملة للصراع الفلسطيني- الصهيوني. وأن اختيار زيارة شمال إفريقيا على وجه التحديد يعكس أيضًا قلق الصين المُتزايد بشأن الوضع الأمني في الشرق الأوسط والبحر الأحمر، حيث يُهدِّد استمرار تصاعُد التوترات في المنطقة الممر الآمن لشريان حياة مهم للاقتصاد الدولي، ويُنذر بامتداد الصراع.[3]
3. دلالات الجولة وتوقيتها: تُعتبر هذه الزيارة هي الأولى من نوعها لوزير الخارجية الصيني، وانغ يي، منذ تولِّيه المنصب في يوليو 2023، وتوضح أهمية إفريقيا بالنسبة للصين؛ لأن الصين مُحاطة بقوى كبرى في آسيا، وبالتالي يصعب منافستها؛ لذلك تُمثِّل إفريقيا المجال الحيوي بالنسبة للصين، كما تأتي هذه الزيارة في ظل توترات كبرى تشهدها المنطقة؛ منها الحرب على قطاع غزة، والتوترات في البحر الأحمر، والذي يمثِّل شريانًا مهمًا للتجارة للعديد من دول العالم؛ على رأسها الصين، وتأمل الصين في لعب دورٍ كبيرٍ في حلِّ القضايا الدولية. ومن المُرجَّح أن اختيار هذه الدول ليس من قبيل الصدفة، فقد بدأت الجولة بمصر، باعتبارها تُمثِّل بوابة إفريقيا والشرق الأوسط والمنطقة العربية، وتأتي هذه الزيارة بعد انضمام مصر للبريكس، وبالتالي فإن مصر أصبحت دولة مجاورة للصين في التجمع، وتتزامن الزيارة مع الاحتفال بالذكرى الـ 20 لإقامة منتدى التعاون الصيني– العربي. وتم اختيار تونس؛ لرغبة الصين في تزويد استثماراتها مع تونس؛ لتصل إلى شراكة استراتيجية، وبحث فرص انضمام تونس إلى مبادرة الحزام والطريق، وتتصادف هذه الزيارة مع الذكرى الـ60 لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، أما بالنسبة لتوجو وساحل العاج؛ فهناك انعطاف صيني في منطقة غرب إفريقيا وعلى الدول الفرانكفونية تحديدًا، وقد يحمل ذلك العديد من الدلالات؛ منها الفراغ الفرنسي في منطقة غرب إفريقيا، والتمدُّد الصيني في القارة؛ فالصين لها تمدُّد في الشرق والجنوب والوسط، والوقت الحالي، تتمدَّد في الغرب. وتنطوي الزيارة على ملفات كثيرة، تتركز على الأبعاد الاقتصادية والتنموية والاستثمارية والسياسية، كما أن الشراكة الصينية– الإفريقية تُمثِّل أهمية كبرى بالنسبة للصين؛ من أجل تنشيط اتفاقيات التجارة والاستثمار والاتفاقيات البينية والاتفاق على حوار إفريقي– صيني، ففي أغسطس 2023، حظِي حوار قادة الصين وإفريقيا، الذي انعقد في جوهانسبرغ بجنوب إفريقيا بقبولٍ وترحيبٍ واسعٍ، ومن المُقرَّر أن تُعقد الدورة الجديدة لمنتدى التعاون الصيني– الإفريقي في الصين في هذا العام.[4] ويُمكن قراءة ذلك من منظور التنافس الصيني الأميركي، خاصةً بعد أن أصبحت الصين اليوم الشريك التجاري الرئيسي للدول الإفريقية، حيث شهد العام الماضي نموًا في حجم التبادل التجاري بين الجانبين بنسبة 7.4%، كما بلغ التبادل التجاري بينهما 1.14 تريليون يوان أي ما يُعادل 160 مليار دولار، وذلك فقط خلال النصف الأول من العام الماضي. كما أن الصين لديها مشاريع ضخمة في عدة دول إفريقية وهي مُستثمر رئيسي في مشاريع البنية التحتية والتعدين، وقد وقَّعت 52 دولة إفريقية على الأقل ومفوضية الاتحاد الإفريقي اتفاقيات تعاون في إطار مُبادرة الحزام والطريق مع الصين.[5]
4. الدوافع الرئيسية للجولة: تتعدَّد الدوافع الصينية من إجراء هذه الزيارة إلى إفريقيا، ويُمكن توضيح أهمها في عدة دوافع: أولها؛ تصاعُد حِدّة التنافس الدولي في القارة الإفريقية: أصبحت القارة الإفريقية مسرحًا يتكالب عليه العديد من القوى الدولية والإقليمية؛ في محاولة كلٍّ منها لخلق نفوذٍ متنامٍ لها في القارة السمراء؛ من أجل خلق النفوذ الذي يسهل في مرحلة تالية استنزاف المزيد من الموارد والثروات الطبيعية الإفريقية، ويتصدر التنافس الأمريكي أولوية هذا المشهد، وهذا ما يدفع الأطراف المتنافسة نحو المسارعة؛ من أجل استمالة الأفارقة، من خلال العديد من الأدوات والمحفِّزات؛ من أجل تعزيز الحضور والنفوذ، حتى وإن كان ذلك يعمل على تهديد الاستقرار الإقليمي في بعض المناطق الإفريقية. وثانيها؛ تأكيد النفوذ الصيني في القارة الإفريقية: تسعى الصين إلى تعزيز علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية مع الدول الإفريقية، خاصةً أنها تشعر بالقلق من تحركات منافسيها الاستراتيجيين على الساحة الإفريقية، خاصةً بعد تراجع النفوذ الفرنسي مؤخرًا في القارة الإفريقية؛ ما دفعها لتعزيز تحركاتها في المنطقة، كما تسعى بكين إلى ضمان دعم الحكومات الإفريقية لمبادرة الحزام والطريق الصينية، في إطار اتساع طموحاتها في توسيع البنية التحتية لها، التي تمتدّ بشكلٍ رئيسي من شرق إفريقيا إلى غربها، وهذا ما تظهره الزيارة لكلٍّ من تونس وتوجو وساحل العاج. وثالثها؛ استمرار تداعيات الأزمات الدولية: تتأثَّر القارة الإفريقية تأثّرًا سلبيًّا بتداعيات الأزمات الدولية؛ فهي ما زالت –حتى الآن– تعاني من تداعيات الحرب الروسية– الأوكرانية، وتُعطِّل توريد سلاسل الغذاء والقمح وارتفاع الأسعار؛ الأمر الذي ينعكس بشكلٍ سلبي على معظم الاقتصادات الإفريقية، التي تشهد ارتفاعًا في معدلات التضخم وتراجع النمو الاقتصادي، وفي الوقت الحالي، تتأثَّر العديد من الدول الإفريقية بتداعيات الحرب في السودان، لاسيما في تزايد أعداد اللاجئين المتدفقين إلى العديد من الدول الإفريقية، وزيادة التوتّرات في البحر الأحمر، وتأثيراتها الشديدة على حركة الملاحة العالمية، جميع هذه الأزمات تسهل مهمة القوى الدولية في الانخراط داخل إفريقيا؛ من أجل الاعتماد على حاجة الدول الإفريقية إلى المساعدات والاستثمارات والقروض. ورابعها؛ تأمين الوصول إلى الموارد الإفريقية: تتطلع بكين إلى ضمان الحصول على الموارد والثروات؛ لدعم اقتصادها وصناعاتها المختلفة على خلفية الأزمات الدولية الراهنة؛ إذ تستورد الصين من الدول الإفريقية النفط وخام المنجنيز والخشب ومنتجاته والقطن وفول الصويا والكاجو؛ وهذا ما يبرر المساعي الصينية خلال هذه الجولة لتعزيز علاقاتها بالدول الإفريقية، في ظل تصاعد التنافس الدولي.[6]
5. محطات ومُخرجات الجولة: حقَّقت هذه الزيارة العديد من المخرجات على مستوى الجانبين الصيني والإفريقي؛ حيث..
أ. مصر: اتفق البلدان على شراكة مستمرة واتفاق استراتيجي، يتضمَّن مواصلة البلدين تعميق الثقة الاستراتيجية المتبادلة، ودعم بعضهم البعض في حماية المصالح الأساسية، والعمل المشترك من أجل البناء العالي الجودة لمشروع الحزام والطريق؛ لتحقيق منافع متبادلة ونتائج مربِحة للطرفين على أعلى مستوى. وأعربت الصين عن استعدادها للعمل مع الجانب المصري؛ من أجل تنفيذ خطة الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين للسنوات الخمس المقبلة، وتعميق التعاون العملي في جميع المجالات، ومواصلة دعم مصر لتعزيز بنائها الاقتصادي والاجتماعي، واستيراد المزيد من المنتجات عالية الجودة من مصر، وتشجيع الشركات الصينية على زيادة انخراطها في مجال الاستثمارات في مصر. وناقش الطرفان سبل تعزيز الحوار الحضاري، وتحقيق تبادلات شعبية أعمق بين الجانبين، وتعزيز التعاون في مجالات الثقافة والشباب ومراكز البحوث والتعليم المهني، وتوثيق التعاون بين الدولتين؛ من أجل بناء نموذجٍ للتعاون الجنوبي- الجنوبي عالي الجودة، وتعزيز الحوكمة العالمية بشكلٍ مشترك؛ من أجل بناء عالم مُتعدد الأقطاب، بالإضافة إلى حرص البلدين على ضرورة وقف النار في غزة، وتجنُّب التصعيد، ونزع فتيل التوتر في المنطقة على خلفية العمليات العسكرية الصهيونية في قطاع غزة، ووقَّع الوزير المصري، سامح شكري، مع وزير خارجية الصين في ختام مباحثاتهما في القاهرة على البرنامج التنفيذي للشراكة الاستراتيجية الشاملة بين جمهورية مصر العربية وجمهورية الصين، خلال عام 2024- 2028.[7] وتسعى مصر إلى تدشين اتفاق مبادلة ديون مع الصين، إذ وصلت إلى مرحلة متقدمة في المفاوضات بشأن بقيمة تتراوح بين 100 و120 مليون دولار، والبرنامج يستهدف تحويل ديون مُستحقة للصين إلى مشروعات تنموية خضراء ذات بُعد بيئي، ففي 19 أكتوبر الماضي وعلى هامش فعاليات الدورة الثالثة لمنتدى الحزام والطريق التي أُقيمت في العاصمة الصينية بكين، بحضور رئيس مجلس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، وقَّعت وزيرة التعاون الدولي المصرية، رانيا المشاط، مذكرة تفاهم لمبادلة الديون، مع رئيس الوكالة الصينية للتعاون الإنمائي.[8]
ب. تونس: هيمن الملف الاقتصادي على كافة الأصعدة؛ حيث وقَّع الطرفان الصيني والتونسي اتفاقية، قد تساعد على رفع حجم التبادل الاقتصادي إلى 40%، خلال السنوات القادمة، وبحث الطرفان فرص انضمام تونس إلى مبادرة الحزام والطريق، وتشمل المذكرة استثمار تونس في عدد من المشاريع الكبرى؛ كما اتفق الجانبان على أن العلاقات التونسية تتمتع بآفاق واسعة، وسوف يتم تعزيز التبادلات رفيعة المستوى، وسيعمل الجانبان على تعزيز التضامن والتنسيق؛ من أجل حماية الحقوق والمصالح المشروعة للدول بشكلٍ مشترك، ودعم مبدأ عدم التدخُّل في الشؤون الداخلية.[9] وتسعى تونس فعليًا إلى تطوير الفرص التي تعطيها الصين بسبب الأزمة الاقتصادية التي تعيشها في السنوات الأخيرة، وبكين بالطبع رحَّبت بذلك، وقامت بتطوير البنى التحتية وغيرها في الدولة الشمال إفريقية، ومنها إنشاء مبنى بمبلغ 21 مليون يورو، جعلت منه السلطات التونسية مقر أكاديمية في العاصمة مخصصة لتدريب الدبلوماسيين التونسيين والأفارقة. الأكاديمية الدبلوماسية المُقدمة إلى تونس، تأتي إضافةً إلى تسليم الصين لمركز المستشفى الجامعي بصفاقس شرقي تونس، والمركز الثقافي والرياضي في بن عروس بضواحي تونس، وهذه الخطوات هي جزء من استراتيجية التأثير التي تتضح أيضًا من خلال افتتاح معهد كونفوشيوس في عام 2018 في جامعة قرطاج، حيث تضاعف عدد الطلاب الذين يتعلمون لغة الماندرين هناك بشكل واضح في عامي 2021 و2022. إضافةً إلى ذلك، هناك مشاريع صينية أخرى في تونس مثل تطوير منطقة لوجستية حول ميناء جرجيس، في جنوب شرق تونس، مُخصصة لخدمة ليبيا المجاورة، وبناء جسر يربط جزيرة جربة بالساحل الشرقي وخط سكة حديدية بين قابس وجرجيس، ناهيك عن مشروع صيني آخر لإنشاء ميناء المياه العميقة في النفيضة، وهي مدينة تقع على بُعد 100 كيلومتر جنوب تونس العاصمة.[10]
ج. توجو: كان استقبال الرئيس التوجولي فور جناسينجبي لوزير الخارجية الصيني وانغ يي في 17 يناير دالًّا على الأهمية التي توليها توجو لتمتين علاقاتها مع الصين في ظل مواجهة لومي للعديد من المشكلات الاقتصادية والأمنية بعيدة المدى، وعجز تحالفاتها التقليدية (لاسيما مع الكيان الصهيوني وفرنسا وعدد من الدول الأوروبية) عن ضمان دعم لومي في تلك المواجهة بشكل فعّال؛ مع انتشار مخاوف وقوع تغيرات سياسية عنيفة (انقلاب عسكري أو ما شابه). وكشفت محادثات جناسينجبي مع لي عن رغبة بلاد الأول في المضي قدمًا في تطبيق مخرجات إطار منتدى التعاون الصيني- الإفريقي التي ساهمت خلال السنوات السابقة في تحقيق التنمية لاسيما في قطاع البنية التحتية. كما عزّز الرئيس التوجولي دعم بلاده لمساعي الصين في إعادة ضبط النظام العالمي، وفرض قِيم مثل العدالة ومعارضة التدخل في شؤون الدول الداخلية، لاسيما الإفريقية، ولعب بكين دورًا لا يُمكن الاستغناء عنه في التنمية السلمية في القارة؛ حسب تصريحات جناسينجبي. وفي السياق ذاته، أكّدت رئيسة وزراء توجو فيكتوري سيدميهو دوجبي خلال استقبالها لوزير الخارجية الصيني؛ اتفاق البلدين على العمل بقوة على تطبيق مخرجات منتدى التعاون الصيني- الإفريقي، وكرّرت دعم بلادها لمبدأ الصين الواحدة، ومساعي بكين تحقيق إعادة توحيدها الوطني (استعادة تايوان) في أقرب وقت مُمكن. كما انتهزت بكين ولومي المناسبة لمراجعة التعاون الصيني التوجولي في مجالات الاقتصاد والبنية التحتية والصحة والزراعة والتعليم والثقافة؛ وتعزيز التجارة المتبادلة بين البلدين والتي بلغت في الفترة يناير- يوليو 2023 نحو 2.3 بليون دولار، وحقّقت زيادة سنوية مقارنة بالفترة نفسها عن العام 2022م بنسبة 14%. وكشف هذا التقارب المتزايد عن استعداد توجو للاصطفاف دون مواربة خلف سياسات الصين الدولية والإفريقية، لاسيما أن لومي أعلنت بالفعل دعمها لمنتدى التعاون الصيني- الإفريقي ومساره وما لعبه من دور مهم في الإسراع بالتنمية الإفريقية، وكذلك دعمها لسلسلة من المبادرات العالمية المهمة التي أطلقها الرئيس الصيني بخصوص قضايا السلم والتنمية والأمن العالمية، والتي تعني بالأساس في الوقت الحالي الكثير من دول غرب إفريقيا وإقليم الساحل التي تواجه بدورها تحديات خطيرة في ملفي الأمن والسلم. ومن جهة أخرى كان تأكيد وانغ يي دعم الصين لتوجو في مساعيها لتأمين سيادتها وامنها وتنميتها أمرًا مهمًّا في هذا التوقيت الذي تمر فيه منطقة غرب إفريقيا بتغيرات سياسية وأمنية حادة.[11]
د. ساحل العاج: تمتلك ساحل العاج ثروات طبيعية مُتنوعة وكبيرة غير أن اقتصادها ظل رهنًا بالسياسات الفرنسية الاستعمارية التي ظلت قائمة حتى بعد استقلال البلاد في العام 1960 بعقود ممتدة. وفي مؤشر على متانة الصلة بين بكين وأبيدجان ارتفعت واردات الأخيرة من الصين من 100 مليون دولار في العام 2002 إلى أكثر من 1.57 مليار دولار في العام 2022. وفي مُقابل تراجع الاستثمارات الفرنسية في ساحل العاج ارتفعت نظيرتها الصينية إلى 7.5 بليون دولار أغلبها في مشروعات البنية الأساسية. كما أشار التعاون الأمني بين الصين وساحل العاج في الأعوام الأخيرة، ووصوله لمستويات غير مسبوقة إلى عمق هذا التقارب؛ إذ وقّع الجيش الإيفواري في العام 2023 اتفاقًا عسكريًّا مع نظيره الصيني (عبر شركة China North Industries Corporation، وهي واحدة من أهم مورّدي الأسلحة الصينية) لتوريد 50 عربة مسلحة. كما تستعين أبيدجان بخبرات صينية في مجال مكافحة الإرهاب. وتعمَّقت العلاقات السياسية بين البلدين بشكلٍ واضح منذ قمة الرئيس الصيني شي جينبينج والرئيس الإيفواري السابق الحسن وتارا في ديسمبر 2022، واتفاقهما على توسيع العلاقات الثنائية بين بلديهما، والتزام أبيدجان بسياسة “الصين الواحدة” مقابل التزام الصين بتعميق صِلاتها التجارية مع ساحل العاج بصفتها واحدة من أهم شركاء الصين في غرب إفريقيا. ومثّلت ساحل العاج بالفعل في السنوات الأخيرة بوابة رئيسة للصين في إقليم غرب إفريقيا؛ لاسيما مع تولي شركات صينية مشروعات تجديد ميناء أبيدجان وافتتاحها مرافئ شحن جديدة بالميناء في مارس 2022. وحوّلت هذه التجديدات المهمة في الميناء ساحل العاج إلى بوابة حقيقية للصين ونفوذها في المجالات الاقتصادية والأمنية والسياسية في الإقليم. كما باتت ساحل العاج أهم شريك للصين ومبادرة الحزام والطريق في غرب إفريقيا، والاستعاضة عن توقّف جزء كبير من تجارة الصين إلى أوروبا والأمريكيتين في جنوب إفريقيا للاستفادة من ميناء أبيدجان وقدراته الاستيعابية المتزايدة بفضل الاستثمارات الصينية. وقد مثَّلت الزيارة انطلاقة قوية في العلاقات الاقتصادية بين البلدين؛ حيث تُموّل الصين العديد من مشروعات البنية الأساسية الضخمة؛ مثل مجموعة من السدود الكهرومائية، ومشروع توسعة إضافية لميناء أبيدجان. كما اختتم وانغ يي زيارته لأبيدجان بتوقيع اتفاق لمنح الأخيرة صفقة حافلات كهربائية.[12]
وهكذا؛ فقد استحوذت قضايا الشرق الأوسط والتعاون الثنائي على زيارة وزير الخارجية الصيني وانغ يي لكل من القاهرة في 13 يناير، والذي استهلّ جولته الإفريقية بزيارتها، وتونس قبل توجّهه من الأخيرة إلى غرب إفريقيا ليحطّ رحاله في توجو يوم 16 يناير، وساحل العاج التي اختتم فيها زيارته في 17-18 يناير، ثم بحضور بكين اللافت -لوجستيًّا على الأقل- في قمة تجمع دول “إيجاد” بكمبالا، ثم مشاركته في قمتي حركة عدم الانحياز ومجموعة 77+ الصين في العاصمة الأوغندية في 21 يناير؛ على نحوٍ كاشف عن انخراط الصين بقوة في ملفات القارة الإفريقية، والتي تتقاطع مع الاهتمامات الدولية ممثلة في حركة عدم الانحياز (التي تضم 120 دولة، وتمثل ثاني أكبر منظمة في العالم من حيث عدد الدول الأعضاء)، ومجموعة 77.
ثانيًا: جولة وزير الخارجية الأمريكي..
تأتي جولة أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي، في أربع دول إفريقية على ساحل المحيط الأطلسي هي: الرأس الأخضر، ساحل العاج، نيجيريا، وأنجولا، خلال الفترة من 21- 25 يناير 2024، لتعكس استمرار استعادة زخم الاهتمام الأمريكي بالقارة السمراء في ظل تنامي النفوذين الصيني والروسي بإفريقيا، وهو الزخم الذي بدأ منذ أن استضاف الرئيس الأمريكي جو بايدن، القمة الأمريكية- الإفريقية الثانية بواشنطن ديسمبر 2022، إذ تعهَّد بتعزيز ركائز التعاون الاستراتيجي مع دول القارة، إدراكًا منه بأن إفريقيا هي المستقبل، حيث أعلنت إدارة بايدن أنها تنوي استثمار 55 مليار دولار في الدول الإفريقية على مدى 3 أعوام، أي مع نهاية عام 2025، بعد فترة من التجاهل خلال فترة ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب.
1. استراتيجية أمريكا- بايدن في إفريقيا: أصدرت الولايات المتحدة استراتيجية جديدة تجاه إفريقيا، أعلن عنها وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن، أثناء جولته الإفريقية في أغسطس 2022. وقد حدَّدت هذه الاستراتيجية لنفسها أربعة أهداف: أولها؛ تعزيز مجتمعات عادلة ومنفتحة؛ تدعو الاستراتيجية إلى مزيد من المساءلة بين الدول الإفريقية، من خلال دعم الضوابط والتوازنات التي تتراوح من استقلال القضاء إلى الصحافة الاستقصائية، ومن خلال تشجيع الشفافية، بما في ذلك مكافحة الفساد والقمع الرقمي. وثانيها؛ تعزيز الجهود الديمقراطية ومعالجة التحديات الأمنية؛ تؤكد الاستراتيجية على دعم الولايات المتحدة للديمقراطيات في القارة من خلال دعم منظمات المجتمع المدني (CSOs)، وتمكين الفئات المُهمشة، ودعم الانتخابات العادلة، ونشر مزيج من الأدوات لمعالجة التراجع الديمقراطي. وتؤكد الاستراتيجية أيضًا على النهج ثلاثي الأبعاد (الدفاع والتنمية والدبلوماسية) لجهود بناء السلام، مثل استراتيجية الهشاشة العالمية ومعالجة دوافع الصراع في إفريقيا. وتعطي الاستراتيجية الأولوية لمقاربات مكافحة الإرهاب غير الحركي بقيادة مدنية حيثما أمكن، واستخدام القوة المباشرة عندما يكون ذلك قانونيًا ويكون التهديد أكثر حدة. وثالثها؛ دعم برامج تنموية؛ مثل الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية والاستثمار، وهي مبادرة استثمار في البنية التحتية من قِبل مجموعة الدول الصناعية السبع، بهدف تمويل بقيمة 600 مليار دولار لمنافسة مبادرة الحزام والطريق الصينية. ورابعها؛ تشجيع التكيف مع المناخ وتحولات الطاقة الخضراء؛ ستدعم الولايات المتحدة الدول الإفريقية في بناء البنية التحتية المقاومة للمناخ، وجهود التكيف مع المناخ، والحفاظ على النظم البيئية في إفريقيا، حيث تدعم الاستراتيجية برامج الطاقة الخضراء كوسيلة لتلبية الطلب المتزايد على الطاقة في القارة. ولتحقيق ذلك؛ وضعت الاستراتيجية الأمريكية الجديدة لإفريقيا ستة مداخل لتنفيذ تلك الأهداف، هي: زيادة الانخراط الدبلوماسي الأمريكي في المنطقة، ودعم التنمية المستدامة والصمود الاقتصادي، ومراجعة أدوات التعامل مع الجيوش الإفريقية، وتعزيز العلاقات التجارية مع دول المنطقة، وقيادة عملية التحول الرقمي في المنطقة، ومساندة جهود التجديد الحضري بالمنطقة.[13]
2. دوافع الجولة: هناك العديد من الدوافع التي تعكس أهمية جولة بلينكن الإفريقية: أولها؛ استعادة زخم الاهتمام الأمريكي بإفريقيا: جاءت جولة أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي، بالتزامن مع جولة تجريها ليندا جرينفيلد، السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، في ثلاث دول أخرى غرب إفريقيا هي غينيا بيساو وسيراليون وليبيريا، لتُشكِّل مثل تلك الجولات امتدادًا لاستعادة زخم الاهتمام الأمريكي بالقارة، فقد شهد عام 2023 ذروة ذلك الزخم، من خلال الزيارات المتتالية لكبار مسؤولي إدارة بايدن، أبرزهم نائبة الرئيس كاميلا هاريس، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، وسفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة ليندا جرينفيلد، بالإضافة إلى قرينة الرئيس الأمريكي جو بايدن السيدة جيل بايدن. وثانيها؛ تعزيز المصالح الأمريكية في القارة: ناقش أنتوني بلينكن النمو الاقتصادي وكيفية تعزيز الشراكات الأمنية القائمة على القيم المشتركة مثل احترام حقوق الإنسان وتعزيز الديمقراطية وتوسيع نطاق القانون، كما يبحث الوفد الأمريكي خلال الجولة شراكات في التجارة والمناخ والبنية التحتية والصحة والأمن، والتحديات الأمنية في غرب إفريقيا، ونفوذ الصين وروسيا، وغيرها من القضايا التي تقع في إطار الاهتمام المشترك بين الجانبين الأمريكي والإفريقي. وثالثها؛ مواجهة النفوذ الصيني: تأتي جولة وزير الخارجية الأمريكي عقب جولة لوزير الخارجية الصيني وانج يي، التي زار خلالها كلًا من مصر، توجو، وساحل العاج، في الفترة من 13- 18 يناير 2024، لذلك تمثَّلت أحد دوافع جولة بلينكن في مواجهة النفوذ الصيني المتنامي بإفريقيا، إذ تُعد الصين أكبر شريك تجاري لقارة إفريقيا، وهو ما تعتبره الولايات المتحدة تهديدًا لنفوذها بالقارة السمراء. ورابعها؛ الحدّ من التمدُّد الروسي في إفريقيا: تهدف الجولة في أحد أبعادها لمواجهة التمدد الروسي بإفريقيا، في ظل توالي أزمات الحكم في عدد من دول الغرب الإفريقي، التي تتجه نحو التعاون الاستراتيجي مع روسيا. وعبّرت الولايات المتحدة الأمريكية علنًا عن قلقها الشديد من التزايد السريع للنفوذ الروسي في إفريقيا، خصوصًا بالبلدان التي سعت للاستعانة بمجموعة فاجنر من أجل الحصول على خدماتها الأمنية مقابل امتيازات واسعة في مجال استخراج وتجارة الذهب وعدد من المعادن الثمينة والصناعية الأخرى، ونقل وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، للقادة الأفارقة الذين شاركوا في القمة الأمريكية- الإفريقية الثانية ديسمبر 2022، قلق بلاده من الوجود الروسي في عدد من دولهم، مشيرًا إلى أن مقاتلي فاجنر يُهدِّدون استقرار الدول الإفريقية، ويسرقون الثروات المعدنية وينتهكون حقوق الإنسان.[14]
3. أهداف الجولة: هناك مجموعة من الأهداف التي سعت إلى تحقيقها الولايات المتحدة من خلال تلك الجولة: أولها؛ شراكة وتضامن: وأولى الرسائل التي أراد بلينكن أن يوصلها لإفريقيا هي سعي الولايات المتحدة للدخول في الشراكة الاقتصادية مع القارة. وتُعتبر منطقة غرب إفريقيا مكانًا غنيًا بالثروات المُتعددة كاليورانيوم والذهب والغاز والنفط، وهي منطقة واعدة للاستثمارات، وتقصدها الشركات العالمية ذات الجنسيات المُتعددة. ولا تريد الولايات المتحدة أن تبقى الصين منفردة بالاستثمارات في منطقة غرب إفريقيا، فبدأت واشنطن تُحاكي نهج بكين في التركيز على العمل في مجال البنية التحتية، وقامت مُؤخرًا بعقد شراكة لبناء توسعة ميناء برايا في عاصمة الرأس الأخضر بمبلغ 150 مليون دولار. وثانيها؛ النفوذ والتنافس: ففي ظل تلاشي النفوذ الفرنسي غرب إفريقيا، والحضور الاقتصادي للصين، وتنامي الوجود العسكري لروسيا، تسعى الولايات المتحدة لتوسيع وجودها في القارة عبر أجندات التسليح والتعاون العسكري والأمني. وثالثها؛ الملاحة الدولية: من اللافت للانتباه أن الدول الأربع التي اختارها بلينكن في جولته كلها مُطلة على المحيط الأطلسي، ولها حدود مائية شاسعة. وتقع أنجولا ونيجيريا وساحل العاج على خليج غينيا الذي يُشكِّل ممرًا حيويًا للطرق البحرية الدولية، وتكثر فيه حوادث الاختطاف والقرصنة. وبحسب تقرير المكتب البحري الدولي الصادر عام 2019، فإن 70% من حالات القرصنة في المياه الدولية تقع في خليج غينيا. ومع تدهور الوضع الأمني في الساحل، أصبح من الأولويات تأمين سواحل نيجيريا التي تخوض معارك دائمة مع الجماعات المسلّحة. وكانت إدارة بايدن أعلنت عام 2023 عن خطة لدعم الاستقرار مدتها 10 سنوات لعدد من الدول المُطلة على خليج غينيا. وفي هذه السياق، قال بلينكن إن زيارته تأتي لدعم الاستقرار ومحاربة الجماعات الإرهابية والحركات المتطرفة. ورابعها؛ مواجهة المد الروسي: كما تسعى الولايات المتحدة لسد الفراغ الذي خلفه خروج فرنسا من دول الساحل التي شهدت موجة انقلابات في الأعوام الثلاثة الأخيرة، مما ترك الباب مفتوحًا أمام المد الروسي في المنطقة. وفي سياق الوجود الروسي في منطقة الساحل، قال بلينكن إن أي مكان توجد فيه مجموعة فاجنر الروسية يعني أنه توجّه للعنف والإرهاب ونهب الموارد، ويزداد انعدام الأمن في كل الأماكن التي تنشط فيها هذه المجموعة الروسية. وللولايات المتحدة قاعدة جوية كبيرة في منطقة أجاديس شمال النيجر أنفقت على إنشائها 100 مليون دولار، وتضم ألف جندي أميركي، وحسب الصحافة الإفريقية، فإن من أهداف جولة بلينكن توطيد العلاقات مع دول غرب إفريقيا المستقرة تمهيدًا لإقامة قواعد عسكرية تُقلِّل من الاعتماد على قاعدة أجاديس.[15]
4. رسائل الزيارة: أولها؛ الديمقراطية والحكم: طوال جولته الإفريقية، أكَّد وزير الخارجية أنتوني بلينكن باستمرار على أهمية الديمقراطية والحكم الرشيد. كما أكَّدت الجولة التزام الولايات المتحدة بتعزيز المُثل الديمقراطية في مواجهة التحديات الإقليمية، وتعزيز أهمية الاستقرار السياسي والحكم التشاركي في الدول الإفريقية. وثانيها؛ الأمن ومكافحة الإرهاب: برز الأمن ومكافحة الإرهاب كموضوعين محوريين خلال الجولة الإفريقية التي قام بها وزير الخارجية أنتوني بلينكن وأبدت واشنطن مخاوفها بشأن التحديات الأمنية في منطقة الساحل وخليج غينيا. وعكست الجولة التزام الولايات المتحدة باتخاذ إجراءات استباقية ضد الإرهاب والتزامها بتعزيز قدرات الدول الإفريقية لضمان الاستقرار في مواجهة التهديدات الإقليمية الناشئة. وثالثها؛ المشاركة الاقتصادية: شكَّلت المشاركة الاقتصادية حجر الزاوية في جولة وزير الخارجية أنتوني بلينكن الإفريقية، حيث سلَّطت الضوء على التطورات الإيجابية منذ القمة الأمريكية- الإفريقية. وأظهرت الولايات المتحدة التزامها بدعم الاستقرار الاقتصادي، مع التركيز الاستراتيجي على مواجهة نفوذ الدول المنافسة، وأبرزها روسيا والصين. وأكَّدت جولة بلينكن رغبة الولايات المتحدة في وضع نفسها بشكل إيجابي في قلب الدول الساحلية، والاستفادة من التعاون الاقتصادي كأداة دبلوماسية والاستجابة للنفوذ المتزايد للمنافسين العالميين في القارة. ورابعها؛ مقارنة مع المشاركة الصينية: جاءت جولة وزير الخارجية أنتوني بلينكن الإفريقية على خلفية المساعي الدبلوماسية الصينية الأخيرة في القارة، ولاسيما زيارة وزير الخارجية الصيني وانغ يي. وتشير الزيارات الموازية إلى منافسة عالمية مُكثَّفة على النفوذ في إفريقيا. وبينما أكَّدت الصين على زيادة التبادلات التجارية، أظهرت جولة بلينكن نهجًا دقيقًا، يجمع بين الاعتبارات الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية.[16]
5. محطات ومُخرجات الجولة: شملت جولة وزير الخارجية الأمريكي، أربعة بلدان تقع على الساحل الإفريقي الغربي المُطل على المحيط الأطلسي، هي:
أ. الرأس الأخضر: جاءت الرأس الأخضر كمحطة أولى في جولة بلينكن الإفريقية، وهي دولة جزرية تتكوَّن من مجموعة من 10 جزر صغيرة، تقع في المحيط الأطلسي غرب القارة الإفريقية، ويبلغ عدد سكانها وفق تعداد عام 2020 نحو 506 آلاف نسمة. وترتبط الرأس الأخضر بعلاقات راسخة مع الولايات المتحدة الأمريكية في مجال إنفاذ القانون والاعتراضات البحرية، إذ وصفها بلينكن خلال الجولة بأنها منارة للاستقرار وصوت قوي في غرب القارة. كما أجرى بلينكن جولة في ميناء العاصمة برايا، الذي جرى توسيعه كجزء من منحة قُدِّمت للرأس الأخضر تبلغ 150 مليون دولار من خلال مؤسسة تحدي الألفية، المعنية بتقديم المساعدات الأمريكية للدول التي تفي بالمعايير الديمقراطية، ومنحت الولايات المتحدة للرأس الأخضر 150 مليون دولار، عبر حزمتين، شملتا توسيع الميناء في العاصمة برايا، وتحسين الطرقات وبناء أنظمة للمياه والصرف الصحي. وتتبنى الرأس الأخضر الموقف الأمريكي من الحرب الروسية الأوكرانية، إذ أدان خوسيه أوليسيس كوريا إي سيلفا، رئيس الوزراء، الهجوم الروسي، كما انتقد التغيير غير الدستوري للحكم في إفريقيا، مؤكدًا أن بلاده تسترشد بقيم الديمقراطية الليبرالية.[17] وقد تمَّ التركيز خلال الزيارة على النموذج الديمقراطي للبلاد والتقدم الإيجابي منذ القمة الأمريكية- الإفريقية، وتم الاعتراف بها كمنارة للديمقراطية، وجرت نقاشات حول التعاون الاقتصادي والتجاري والصحي. كما تناولت الزيارة المخاوف الأمنية، وخاصةً فيما يتعلَّق بالأمن الغذائي، باعتباره من النتائج الرئيسية للقمة الإفريقية- الأمريكية الأخيرة.[18]
ب. ساحل العاج: جاءت ساحل العاج المحطة الثانية في جولة بلينكن الإفريقية، التي وصل إليها 22 يناير 2024، والتقى الرئيس الإيفواري الحسن وتارا، إذ أشار بلينكن خلال المؤتمر الصحفي، إلى أنه تمَّت مناقشة التحديات الأمنية المُشتركة، ومُثمنًا دور أبيدجان في الحرب ضد التطرف والعنف، لذلك تمَّ تعزيز التدريب العسكري 15 مرة، فضلًا عن الاستثمار في الحماية المدنية بساحل العاج. ووعد بلينكن بتعزيز التعاون مع ساحل العاج، مُشيرًا إلى تدريب قواتها الأمنية، وقال إن بلاده ستُقدِّم مبلغ 45 مليون دولار إضافية لدول بغرب إفريقيا، في إطار خطة لمحاربة عدم الاستقرار ما يرفع إجمالي التمويل بموجب البرنامج الذي بدأ قبل عام إلى 300 مليون دولار تقريبًا، كما أشاد بلينكن بالنهج الذي اتبعته ساحل العاج في العمل مع المجتمعات المحلية، والإصغاء إليها، والتأكد من أن قواتها الأمنية تتفهَّم احتياجات واهتمامات المجتمعات المحلية. وسعى بلينكن لإظهار الجانب الودي خلال الزيارة بحضوره مباراة كرة القدم بين ساحل العاج وغينيا الاستوائية على هامش منافسات كأس الأمم الإفريقية التي تستضيفها ساحل العاج، وللمفارقة فإن الاستاد الذي أقيمت المباراة على أرضه وتابعها بلينكن شيدته الصين بتكلفة تصل 200 مليون دولار.[19] ويُمكن القول أن المُحادثات بين بلينكن ووتارا قد تركَّزت على الالتزام المشترك بتعزيز المبادئ الديمقراطية في المنطقة، مع الإشارة على وجه التحديد إلى الحاجة إلى إحراز تقدُّم في مالي وبوركينا فاسو والنيجر التي صارت مناطق نفوذ روسية في غرب إفريقيا.[20]
ج. نيجيريا: جاءت نيجيريا المحطة الثالثة في جولة بلينكن الإفريقية، إذ التقي الرئيس النيجيري بولا تينوبو، ووصف بلينكن الولايات المتحدة الأمريكية في تصريحات له بأنها الحليف الاقتصادي والتنموي والأمني الرئيسي للقارة في أوقات الأزمات الإقليمية والدولية، كما تعهَّد بتقديم تمويل إضافي بقيمة 45 مليون دولار للمساعدة في مكافحة النزاعات، وإحلال الاستقرار في منطقة الساحل، حيث تنشط الجماعات المتطرفة والإرهابية.[21] وقد دارت المناقشات هناك حول معالجة التحديات الأمنية في البلاد ومنطقة غرب إفريقيا خاصةً مع تصاعُد العملية الإرهابية بالمنطقة. وشدَّد بلينكن على التعاون مع الجهات الفاعلة المحلية، واعترف بالدور المحوري الذي تلعبه المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) في الأمن الإقليمي. وتمَّ التأكيد على أهمية نيجيريا في الحرب ضد الإرهاب حيث التزمت الولايات المتحدة بتعزيز التعاون والدعم. وأشارت الزيارة إلى التركيز الاستراتيجي للولايات المتحدة على التعامل مع الشركاء المحليين والهيئات الإقليمية لمعالجة المخاوف الأمنية المشتركة. كما هدفت الجولة إلى تعزيز العلاقات الدبلوماسية وتعزيز الاستقرار في مواجهة التهديدات الإقليمية الناشئة.[22]
د. أنجولا: جاءت أنجولا المحطة الأخيرة في جولة بلينكن الإفريقية، إذ التقى الرئيس الأنجولي جواو لورنسو، كما زار أحد المتاحف العلمية بأنجولا والمُشيَّدة في إطار البرنامج الأمريكي للتعاون في مجال الفضاء، والمبادرة الجديدة التي تهدف إلى جلب البذور المُعدلة جينيًا إلى الدول النامية. وتكتسب أنجولا أهميتها بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، إذ تُشكِّل مُشاركًا رئيسيًا في أحد أهم مشروعات البنى التحتية في القارة الإفريقية، من خلال ممر لوبيتو الذي يربط بين زامبيا غير الساحلية، التي تعدها الولايات المتحدة نموذجًا ديمقراطيًا، والكونغو الديمقراطية الغنية بمواردها المعدنية، اتصالًا بميناء أنجولي مطل على المحيط الأطلسي، كما لعبت أنجولا دورًا محوريًا في التوسط لوضع حدّ للاضطرابات بالكونغو المجاورة لها.[23] وتعكس الزيارة الامتنان تجاه التزام الحكومة الانجولية بالاستقرار الإقليمي. ومن المُرجَّح أن مناقشات بلينكن تطرَّقت إلى الأهمية الجيوسياسية لأنجولا، خاصةً أنها تعتبر معقلا للنفوذ الروسي. وشدَّدت الزيارة على أهمية المشاركة والتعاون الدبلوماسي في الحفاظ على الاستقرار في منطقة وسط إفريقيا. ورغم عدم تقديم تفاصيل مُحدَّدة عن المناقشات، فإن اللهجة العامة أشارت إلى الاعتراف بجهود أنجولا والرغبة في تعزيز العلاقات من أجل المصالح الإقليمية المشتركة.[24]
ثالثًا: إفريقيا في مواجهة الاستقطاب الخارجي..
في سياق تنافس بكين وواشنطن على زيادة حضورهما في غرب إفريقيا والساحل، تُوظِّف الدولتان مجموعة متنوعة من الآليات والأدوات، لتحقيق أهدافهما ومصالحهما في المنطقة: أولها؛ الدعم السياسي للنظم الحاكمة: تحرص الصين والولايات المتحدة، في سياق تنافسهما على الزعامة والنفوذ في منطقة غرب إفريقيا، على إبداء التأييد الواضح للنظم الحاكمة في هذه الدول. فمن جانبها، حرصت بكين خلال الجولة الأخيرة لوزير خارجيتها، وانج يي، إلى كلٍّ من توجو وساحل العاج، على إبداء دعمها ومساندتها للدولتين. فقد أكَّد يي على دعم بلاده لتوجو في مساعيها لتأمين سيادتها وأمنها وتنميتها، وهو الأمر الذي يعكس وجود رغبة متبادلة لدى الدولتين في تعميق العلاقات الثنائية، التي تمتد لخمسة عقود، بينهما في المرحلة المُقبلة. وثانيها؛ تعميق التعاون التجاري والاقتصادي: يُمثِّل الجانب الاقتصادي والتجاري أحد الأبعاد المهمة في سياق العلاقات بين الصين ومنطقة غرب إفريقيا، وتتعدَّد الآليات والأدوات التي توظفها الصين في هذا الإطار. إذ تعمل بكين على توطيد علاقاتها الاقتصادية مع هذه الدول، من خلال التبادلات التجارية والاستثمارية، علاوةً على مشاركة هذه الدول في مبادرة الحزام والطريق الصينية. وثالثها؛ تعزيز التعاون الأمني والعسكري: تُعوِّل الصين على دور أكبر للمجتمع الدولي في العمل على استتباب الأمن والاستقرار في منطقة غرب إفريقيا والساحل. فقد دعا داي بينج، نائب المندوب الدائم للصين بالأمم المتحدة، في 11 يناير 2024، إلى تحقيق السلام والاستقرار ومكافحة الإرهاب والتنمية الاقتصادية في دول غرب إفريقيا ومنطقة الساحل، من خلال بذل المجتمع الدولي جهوده لدعم هذه الدول في تحقيق هذا الهدف. كما تعمل الصين على تعزيز وجودها البحري والعسكري في منطقة غرب إفريقيا، من خلال زيارات أساطيلها البحرية إلى المنطقة. وفى هذا الإطار، وصل أسطول بحري صيني بقيادة المدمرة ناننينج، في 2 يوليو 2023، إلى نيجيريا، بهدف مواجهة التهديدات التي تعترض الأمن البحري والحفاظ على الاستقرار في خليج غينيا، وذلك بالتعاون مع القوات البحرية النيجيرية.[25]
أما الولايات المتحدة، فتعمل على ترسيخ وجودها في المنطقة من خلال إقامة القواعد العسكرية. إذ تحاول واشنطن تعميق علاقاتها مع دول غرب إفريقيا التي تتمتَّع بدرجة كبيرة من الاستقرار، تمهيدًا لإقامة قواعد عسكرية جديدة تُقلِّل من اعتمادها على قاعدة أجاديس. كما تسعى واشنطن مؤخرًا لمحاكاة النموذج الصيني في الاختراق الاقتصادي للقارة. حيث تتوجَّس واشنطن من التمدُّد العسكري الروسي عبر فاجنر في وسط القارة ودول الساحل الحبيسة، وهي مُنزعجة أيضًا من التوسُّع الاقتصادي والاستثماري الصيني في القارة، عبر مبادرة الحزام والطريق، التي موَّلت مشاريع للبنى التحتية في مجموع القارة، ومنها بناء مرافئ على المحيط الأطلسي قد تستفيد منها بكين لاحقًا، وتحويلها إلى ورقة تجارية في صراع التنافس على مُستقبل الملاحة البحرية بين القارات.[26]
1. دوافع الاهتمام بمنطقة الساحل الإفريقي: يرجع ذلك لعدة أسباب: أولها؛ الحد من الوجود الاستراتيجي للقوى المنافسة: لا يُعد الحضور الصيني والأمريكي في منطقة غرب إفريقيا والساحل جديدًا، بل يمتد لعقود طويلة. وهو ما يعكس الاهتمام المتزايد من قبل القوتين العظميين بهذه المنطقة ذات الأهمية الجيواستراتيجية لكليهما، وذلك بالنظر إلى ارتباطهما بمصالح عديدة ومتشابكة في المنطقة. وبالتالي، فإنه يُمكن تفسير حرص بكين وواشنطن على زيادة حضورهما في المنطقة برغبتهما في الحد من أو تقليل وجود القوة الأخرى المنافسة لها في المنطقة، ومحاولة الانفراد بالسيطرة والنفوذ على المنطقة. وثانيها؛ الإمكانات الاقتصادية الهائلة: تزخر دول غرب إفريقيا بكميات هائلة من الثروات والموارد الاقتصادية المتنوعة، كاليورانيوم والذهب والنفط والغاز، إذ تحتوي على 40% من الاحتياطيات العالمية للذهب، الذي تنتج 70% من إنتاجه العالمي في الوقت الراهن، كما تحتوي على 9% من إجمالي الاحتياطيات العالمية للنفط. كما تمتلك أيضًا سوقًا استهلاكية ضخمة يصل تعدادها إلى 350 مليون نسمة. فضلًا عن أنها تُعد منطقة ذات مُستقبل واعد للاستثمارات الخارجية، وهي مقصد للشركات الدولية متعددة الجنسيات. وبالتالي، فهي تُعتبر ذات أهمية كبرى للاقتصادين الصيني والأمريكي، في ظل ما تحظى به من إمكانات وموارد اقتصادية ضخمة يُمكن أن يصب توظيفها في مصلحة كلٍّ من بكين وواشنطن.[27]
2. تداعيات تنامي التنافس الصيني- الأمريكي على منطقة الساحل الإفريقي: هناك العديد من التداعيات التي يُمكن أن تترتَّب على تنامى التنافس الصيني- الأمريكي في منطقة غرب إفريقيا والساحل: أولها؛ تزايد الحضور الصيني: من المُتوقع أن تشهد الفترة المُقبلة تزايدًا ملحوظًا في الانخراط الصيني في منطقة الغرب الإفريقي، ولاسيما من الناحية الاقتصادية والتجارية والاستثمارية، وهو الجانب الذي تُركز عليه الصين بدرجة كبيرة في إطار علاقاتها مع دول المنطقة، في ظل حاجة اقتصادها إلى النفط والثروات المعدنية الكبيرة التي تزخر بها المنطقة، وكذلك حاجة الأخيرة إلى الاستثمارات الصينية. وثانيها؛ تراجُع الحضور الأمريكي: على الرغم ممَّا عكسته جولة وزير الخارجية الأمريكي الأخيرة في منطقة غرب إفريقيا والساحل من تجدُّد الاهتمام الأمريكي بالقارة الإفريقية وقضاياها، فإن ثمَّة اتجاهًا يذهب إلى أن تركيز الولايات المتحدة بشكلٍ كبير على التعامل مع الأزمات المُتفاقمة في منطقة الشرق الأوسط، كالحرب الصهيونية في قطاع غزة، والأوضاع المضطربة في البحر الأحمر، علاوةً على أزمة الحرب في أوكرانيا، بجانب انشغالها بالتنافس مع الصين، وعدم وفاء الرئيس الأمريكي جو بايدن بتعهده بزيارة إفريقيا في العام الماضي، يجعلها لا تُبدى اهتمامًا كبيرًا بالتعامل مع الأوضاع في منطقة غرب إفريقيا والساحل، وهو ما يُضعف قدرتها على تحقيق الأمن والاستقرار في غرب إفريقيا، مما يجعل هذه المنطقة ساحة لتزايد النفوذ الصيني والروسي. وثالثها؛ إشكالية الموازنة بين بكين وواشنطن: يفرض التنافس بين الصين والولايات المتحدة على الزعامة والنفوذ في منطقة غرب إفريقيا على دول هذه المنطقة ضرورة الموازنة في علاقاتها بين الدولتين، لتجنُّب الانحياز إلى أحد الجانبين. ومن الواضح أن دول المنطقة تدرك بشكلٍ كبير هذه الإشكالية وتدير علاقاتها مع الدولتين بناءً على حسابات دقيقة تراعى فيها مصلحتها الوطنية بالدرجة الأولى، دونما أي اعتبار لاعتبارات التنافس الاستراتيجي بين بكين وواشنطن في المنطقة.[28]
3. مستقبل النفوذ الصيني في القارة السمراء: تعكس الجولة الصينية في إفريقيا مدى اهتمام الصين بتعزيز حضورها في القارة السمراء، التي تستقطب اهتمامًا دوليًّا متزايدًا، في ظل حالة الصراعات التي تعاني منها معظم دول القارة الإفريقية؛ ما جعل بكين تُوظِّف جميع أدواتها الدبلوماسية والعسكرية في القارة الإفريقية؛ من أجل تحقيق تفوّق استراتيجي ونوعي على القوى الأخرى في المنطقة، ومن المُحتمل تزايد الانخراط الصيني في إفريقيا، بالاعتماد على الأداة الاقتصادية في المقام الأول؛ من تجارة واستثمارات في الموانئ والبنية التحتية والشحن والنقل والتعدين والطاقة ومساعدات وقروض ومشاريع مشتركة، خاصة في مجالات القطاعات الناشئة. وستعمل الحكومات الإفريقية على تنمية علاقاتها مع الصين، في ظل احتياجها لمزيد من المشروعات والاستثمارات والمساعدات الصينية؛ للخروج من تداعيات الحرب الروسية– الأوكرانية، خاصةً أن الصين تحظى بقبولٍ شعبي لدى معظم النخب الإفريقية؛ لتبنيها سياسة عدم التدخُّل في الشؤون الداخلية، وتدفّق المساعدات والاستثمارات إلى الدول الإفريقية، دون وجود أيّ شروط سياسية، وقد تتجه الصين إلى عسكرة في القارة الإفريقية، وتوطيد وتطوير قدراتها العسكرية؛ حتى تتجاوز مرحلة تجارة السلاح؛ لتصل إلى مرحلة إقامة القواعد العسكرية؛ ما يؤدي إلى تحويل ديناميكيات القوة العالمية، وتقويض الهيمنة الأمريكية، ففي الفترة المقبلة، قد تنخرط الصين عسكريًّا في بعض مناطق القارة؛ لحماية وجودها الاقتصادي. وتحمل الجولة الصينية إلى إفريقيا العديد من التداعيات، والتي من المُمكن أن يكون لها انعكاسات على مستقبل التنافس الدولي في القارة الإفريقية، وهذا الأمر سوف يدعم مكانة إفريقيا على الصعيد العالمي؛ الأمر الذي ينذِر بتحوّل القارة الإفريقية إلى ساحة صراعٍ بين القوى الكبرى؛ ما قد يهدِّد الاستقرار الإقليمي.[29]
الخلاصة؛ نجحت جولة وانغ يي الإفريقية في توطيد صلات الصين الإفريقية، كما اتضح في أجندة هذه الجولة في مصر وتونس وتوجو وساحل العاج بالغة التنوع والأهمية والتأثير في السياسات الإقليمية والدولية، من جهة تناول الأوضاع في غزة والبحر الأحمر والعلاقات الإفريقية مع دول الاتحاد الأوروبي والعلاقات الثنائية وتوظيف ميناء أبيدجان كبوابة للصادرات الصينية في إقليم غرب إفريقيا، وحصول بكين على دعم سياسي إفريقي ثُنائي وعلى مستوى اجتماعات منظمة الإيجاد وحركة دول عدم الانحياز ومجموعة الـ77+ الصين في الاجتماعات رفيعة المستوى التي شهدتها العاصمة الأوغندية كمبالا في يناير الماضي بزخم كبير للغاية، وبدعم وحضور سياسي ولوجستي كبير مِن قِبل الصين لهذه الاجتماعات والحكومة الأوغندية على نحوٍ قاد لخروج هذه الفعاليات على نحوٍ سلس ومؤشر إلى تطوّر مهم في الدبلوماسيات الإفريقية وعودة واضحة لصوت الجنوب واصطفافاته خلف سياسات الصين، وعدد من أهم شركائها مثل جنوب إفريقيا في القارة الإفريقية.
هذا وتمتلك بكين فرصًا واعدة لزيادة نفوذها داخل القارة الإفريقية، لاسيما بعد تراجُع النفوذ الغربي، ومن المُرجحَّ أن تنتقل الصين قريبًا إلى مرحلة جديدة، تستخدم فيها جيشها تحت ستار العمليات الأمنية أو الشراكات؛ من أجل التأثير على الحكومات، وفقًا لمصالحها، ويبدو أن عام 2024، سوف يكون مليئًا بالأنشطة الدبلوماسية المُكثّفة للقوى الدولية الفاعلة في إفريقيا؛ ما يعني أن القارة السمراء أضحت أداةً استراتيجيةً يتنافس عليها الجميع؛ من أجل تعظيم الحضور والنفوذ فيها؛ ومن المستحيل أن تكون القارة الإفريقية فرصة للتعاون بين القوى الكبرى، بل ستكون مسرحًا تنافسيًّا بامتياز بين تلك القوى، في ضوء تضارب المصالح الدولية في كثير من الأحيان؛ ما يُثير المخاوف من آثار التكالب الدولي على أمن واستقرار وثروات القارة الإفريقية.
وتعكس جولة أنتوني بلينكن الإفريقية التزام الولايات المتحدة بتعزيز العلاقات وتعزيز الديمقراطية ومواجهة التحديات الأمنية. وتؤكد المنافسة الاستراتيجية مع اللاعبين العالميين الآخرين، وخاصة الصين وروسيا، أهمية القارة الإفريقية في سياق الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في المنطقة. وتُعد الجولة أيضًا بمثابة أداة دبلوماسية لمواجهة نفوذ المعارضين، خاصةً في مناطق مثل أنجولا، التي تُعتبر معقلًا تاريخيًا لروسيا. وأيضا تركيز الزيارة على منطقة الساحل والغرب الإفريقي مالي، النيجر، بوركينافاسو التي أصبحت في الآونة الأخيرة منطقة نفوذ روسية، وتزامنت مواعيد الجولة مع كأس الأمم الإفريقية، بهدف توفير فرصة للتواصل مع الدول على المستويين السياسي والثقافي.
ويُمكن القول إن الفترة الأخيرة شهدت بروز العديد من العوامل التي دفعت الصين والولايات المتحدة إلى زيادة حضورهما في منطقة غرب إفريقيا والساحل، بما يعكس تجدُّد التنافس بين القوتين الكبريين على النفوذ والهيمنة في هذه المنطقة الجيواستراتيجية من إفريقيا والعالم، عبر توظيف كل طرف منهما لما يمتلكه من آليات وأدوات دبلوماسية واقتصادية وعسكرية، لتحقيق أقصى استفادة مُمكنة، بما يصب في زيادة نقاط القوة لطرف على حساب الآخر. ومع ذلك، فإن الواقع يُشير إلى أن الصين تمضي بخُطى واثقة نحو ترسيخ وجودها في الغرب الإفريقي والساحل، ارتكازًا إلى دبلوماسيتها الاقتصادية والتجارية، في الوقت الذي يتضاءل فيه نسبيًا الاهتمام الأمريكي بالفعل بأزمات المنطقة، رغم زيارات كبار دبلوماسييها، بسبب انشغالها بأزمات إقليمية وعالمية أخرى تحظى بالأولوية لدى واشنطن على حساب إفريقيا. وهو ما يترك المجال مفتوحًا أمام بكين لزيادة حضورها في القارة من بوابة قيادتها لما يُسمى بـ “الجنوب العالمي”.
[1] تقوم مبادرة الحزام والطريق -التي تعرف أيضا باسم طريق الحرير الجديد أو طريق الحرير للقرن الـ21- على ضخ استثمارات ضخمة لتطوير البنى التحتية للممرات الاقتصادية العالمية، لربط أكثر من 70 دولة، وكان قد أطلقها الرئيس الصيني عام 2013، وتهدف إلى إنشاء حزام بري من سكك الحديد والطرق عبر آسيا الوسطى وروسيا، وطريق بحري يسمح للصين بالوصول إلى أفريقيا وأوروبا، بكلفة إجمالية تبلغ تريليون دولار.
مريم التايدي، “ما خطة “الحزام والطريق” الصينية وكيف يستفيد منها المغرب؟”، الجزيرة نت، 8/1/2022. متاح على الرابط: https://2u.pw/ewWB6jt
[2] دانغ يوان، عارف جابو (مترجم)، “فك “شيفرة” الصين.. كيف تعزز بكين نفوذها في إفريقيا؟”، DW، 5/2/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/8j5IWjN
[3] علي أبو مريحيل، “جولة وزير خارجية الصين في إفريقيا: الأجندة وأبرز الملفات”، العربي الجديد، 12/1/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/Mvqo3AO
[4] شيماء ماهر، “رسائل عدة: قراءة في جولة وزير الخارجية الصيني إلى إفريقيا”، مركز شاف للدراسات المستقبلية وتحليل الأزمات والصراعات، 22/1/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/o3P5fZ4
[5] علي أبو مريحيل، مرجع سبق ذكره.
[6] شيماء ماهر، مرجع سبق ذكره.
[7] شيماء ماهر، مرجع سبق ذكره.
[8] علي الكرملي، “جولة مكوكية للصين في إفريقيا: أهداف توسعية في مصر وتونس؟”، الحل، 12/1/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/yTSQcWa
[9] شيماء ماهر، مرجع سبق ذكره.
[10] علي الكرملي، مرجع سبق ذكره.
[11] د. محمد عبد الكريم أحمد، “في تداعيات جولة وزير الخارجية الصيني في إفريقيا: ما الجديد؟”، قراءات إفريقية، 30/1/2023. متاح على الرابط: https://2u.pw/iU4ruub
[12] د. محمد عبد الكريم أحمد، مرجع سبق ذكره.
[13] نورة الحبسي، خالد أحمد محمد فياض، “القمة الأمريكية الإفريقية في ضوء الاستراتيجية الأمريكية الجديدة”، Trends، 13/12/2022. متاح على الرابط: https://2u.pw/mihktT
[14] د. مبارك أحمد، “أبعاد جولة بلينكن الإفريقية”، القاهرة الإخبارية، 26/1/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/ustiJjt
[15] حبيب الله مايابي، “ما وراء جولة وزير الخارجية الأميركي بإفريقيا؟”، الجزيرة نت، 26/1/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/UAc726x
[16] “جولة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الإفريقية: توطيد الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في إفريقيا”، المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات، 8/2/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/gp0ucnY
[17] د. مبارك أحمد، مرجع سبق ذكره.
[18] “جولة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الإفريقية: توطيد الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في إفريقيا”، مرجع سبق ذكره.
[19] د. مبارك أحمد، مرجع سبق ذكره.
[20] “جولة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الإفريقية: توطيد الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في إفريقيا”، مرجع سبق ذكره.
[21] د. مبارك أحمد، مرجع سبق ذكره.
[22] “جولة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الإفريقية: توطيد الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في إفريقيا”، مرجع سبق ذكره.
[23] د. مبارك أحمد، مرجع سبق ذكره.
[24] “جولة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الإفريقية: توطيد الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في إفريقيا”، مرجع سبق ذكره.
[25] “دوافع التنافس الصيني الأمريكي على النفوذ في غرب إفريقيا”، مرجع سبق ذكره.
[26] محمد الشرقي، “بلينكن في غرب إفريقيا: رسائل أميركية لحماية التجارة البحرية”، المجلة، 27/1/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/0OPWktR
[27] “دوافع التنافس الصيني الأمريكي على النفوذ في غرب إفريقيا”، الشروق، 13/2/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/QKaDPRK
[28] “دوافع التنافس الصيني الأمريكي على النفوذ في غرب إفريقيا”، مرجع سبق ذكره.
[29] شيماء ماهر، مرجع سبق ذكره.