تحت شعار “تعزيز الوحدة والتضامن من خلال الحوار للتنمية المستدامة”، سلَّطت القمة الخامسة عشرة لمنظمة التعاون الإسلامي الضوء على القضايا الراهنة والمُلحة في القدس وغزة، في مُحاولة لصياغة رد إسلامي مُوحَّد وفعَّال، وذلك بمُشاركة 57 دولة، وبعد تجاوُز الحرب على قطاع غزة 200 يوم. وبمناسبة استضافة غامبيا للقمة؛ نسعى من خلال هذا التقرير إلى إلقاء الضوء على المواقف الإفريقية من القضية الفلسطينية وتطورها، ثم التعرُّض إلى القمة الإسلامية الخامسة عشر بغامبيا، وقراءة في مُخرجاتها عبر إعلان بانجول.
أولًا: المواقف الإفريقية من القضية الفلسطينية وتطورها..
أدَّى فرض الكيان الصهيوني في منطقة الشرق الأوسط إلى خلق نظام إقليمي صراعي، حيث أضحى سمة لازمة للتفاعلات العربية الصهيونية، يعني ذلك أن تحرُّك الكيان الصهيوني في تفاعلاته الخارجية، وخصوصًا مع القارة الإفريقية، يرتبط بهذه الوضعية التي أخرجت علاقاته مع دول المنطقة عن مصاف العلاقات الطبيعية بين الدول. وقد ارتبطت العلاقات الصهيونية الإفريقية بالعلاقات العربية الإفريقية، وهو ما أدى إلى النظر إلى القارة الإفريقية بوصفها ساحة للتنافس والصراع بين الكيان الصهيوني والدول العربية. كما تأثَّرت العلاقات بين هذه المجموعات بإرادة النظام العالمي وتوجهاته، سواء القديم أو الجديد.
1. مسارات المواقف الإفريقية من القضية الفلسطينية واتجاهاتها: يُمكن التمييز بين مراحل ثلاث تُشير إلى تباين المواقف الإفريقية إزاء كلٍّ من الكيان الصهيوني والقضية الفلسطينية: أولها؛ الاتجاهات الإفريقية المُبكرة تجاه الكيان الصهيوني: رأى كثير من القادة الأفارقة في النموذج الصهيوني للتنمية، ولاسيما الزراعية، مجالًا للتعاون المشترك، كما أنه في الوقت نفسه لم تساورهم أدنى الشكوك في أن هذا الكيان الصغير يُمكن أن يسعى للهيمنة السياسية للقوى الاستعمارية السابقة. إلا أنه رغم ذلك؛ كان الموقف الإفريقي على المستوى الشعبي خلال عقدي الخمسينيات والستينيات مؤيدًا للقضية الفلسطينية بشكل صريح وواضح، وقد زاد من خطر هذا الموقف على الكيان الصهيوني عدة اعتبارات أهمها: موجة استقلال الدول الإفريقية في الستينيات وهو ما يعنى زيادة قدرتها التصويتية في الأمم المتحدة، وإنشاء منظمة الوحدة الإفريقية عام 1963 وهو ما كان يُمثِّل تحديًا أمام الكيان الذي لا يتمتع بالعضوية في هذا التجمع الأفروعربي، وعضوية مصر ودول عربية أخرى في كلٍّ من جامعة الدول العربية ومنظمة الوحدة الإفريقية، وهو ما أسهم في إقامة تحالفات عربية إفريقية. وثانيها؛ التحول في الموقف الإفريقي: اتسمت الفترة بين عامي 1967 – 1973 بوجود تغيُّر مُلاحظ في مدركات الأفارقة تجاه القضية الفلسطينية، وربما يُعزى ذلك إلى نجاح الجهود العربية في منظمة الوحدة الإفريقية وفي الأمم المتحدة في استصدار قرارات بإدانة الكيان الصهيوني وسياساته التوسعية. وثمَّة مجموعة من العوامل أسهمت في دعم الموقف العربي في مواجهة الكيان الصهيوني خلال عقد السبعينيات، مثل: الدعم الصهيوني للحركات الانفصالية الإفريقية على شاكلة بيافرا في نيجيريا وجنوب السودان، وكذلك دعم نظام التفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا وتأييده. وثالثها؛ تراجُع المواقف الإفريقية وعودة التأييد للكيان الصهيوني: حيث شهدت هذه المرحلة إعادة تأسيس العلاقات بين الكيان الصهيوني وإفريقيا مرة أخرى، وخصوصًا خلال عامي 1991 و1992، وربما يُعزى ذلك إلى: توقيع معاهدة السلام المصرية مع دولة الكيان واتفاق أوسلو مع الفلسطينيين واتفاق السلام مع الأردن، وخيبة أمل الأفارقة من العون العربي وعدم فعالية حركة التعاون العربي الإفريقي بعد النتائج الهزيلة التي أفرزتها القمة الأفروعربية عام 1977، والتغيرات في جنوب إفريقيا وانضمام دولة الكيان للأمم المتحدة في حملتها من أجل فرض عقوبات على نظام الفصل العنصري هناك، وتفكُّك الاتحاد السوفييتي والذي أثَّر في الدول الإفريقية ذات التوجُّهات الراديكالية الموالية للسوفييت مثل أنجولا وموزمبيق وإثيوبيا وسيشل، وأخيرًا تردِّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في إفريقيا ابتداءً من نهاية السبعينيات.1
2. خريطة المواقف الإفريقية من طوفان الأقصى: تباينت ردود الأفعال الإفريقية ما بين مؤيد لحق الشعب الفلسطيني في حربه العادلة لنيل حريته، وآخر داعم للحكومة الصهيونية “المُعتدى عليها” من قِبل حماس “المنظمة الإرهابية” -وفقًا لمواقفهم-، وثالث متردد كنتيجة لمصالح مع دولة الكيان، أو أوضاع داخلية مُعقدة. وكان على رأس المواقف الداعمة للشعب الفلسطيني؛ الاتحاد الإفريقي: والذي أعلن على لسان رئيس مفوضيته موسى فقي محمد إلى أن رفض مطلب الفلسطينيين بإقامة دولة مستقلة وذات سيادة، هو السبب الرئيسي للأزمة، ودعا المجتمع الدولي إلى تحمّل المسؤولية لضمان أمن شعوب المنطقة، الأمر الذي يعكس دعمًا تقليديًا للقضية الفلسطينية.2 بالإضافة إلى مجموعة من الدول التي أعلنت دعمها لحق الشعب الفلسطيني في أرضه، وحملت الكيان الصهيوني المسئولية الكاملة عما يحدث وكان على رأسها الجزائر، وتونس3، وموريتانيا، وجنوب إفريقيا التي كان لها موقع خاص على خريطة المواقف الإفريقية، كللته بجهودها في محكمة العدل الدولية لإدانة جرائم الكيان الصهيوني في قطاع غزة ووقف الحرب عليها. أما عن المواقف الداعمة للكيان الصهيوني حتى أنها اعتبرت حماس تقوم بأعمال إرهابية إجرامية؛ فكان على رأسها: كينيا: التي يُعد رئيسها ويليام روتو، حليف رئيسي للغرب، وهو ما تضح في قبوله إرسال قوات أمنية إلى هايتي (على البحر الكاريبي)، وقيادة قوة متعددة الجنسيات لمواجهة عنف العصابات في هذا البلد، استجابةً لقرار مجلس الأمن الدولي الصادر مطلع الشهر الجاري بتشكيل القوة.وتوغو، والسنغال، وغانا، ورواندا، والكاميرون، والكونغو الديمقراطية. إلا أن لهجة خطاب معظم تلك الدول لم تجد استحسان قطاعات من الجماهير، التي أعربت عن دعمها لفلسطين، ومن ثمَّ كان من الطبيعي أن تتطرق بعدها إلى دعم وقف إطلاق النار. وبالنسبة للمواقف المترددة نتيجة لتشابك المصالح والأوضاع الداخلية: فقد جاءت بيانات دول تلك المجموعة رافضة للعنف من الطرفين، وداعية لحل الدولتين، وكان ذلك لأسباب تختلف من دولة لأخرى. فالمغرب: الذي يمتلك علاقات الوثيقة مع تل أبيب، قام بتطبيع العلاقات الدبلوماسية مع الدولة الصهيونية في عام 2020 كجزء من اتفاقيات “أبراهام”، كما أن الكيان الصهيوني قد اعترف بسيادة المغرب على الصحراء يوليو الماضي، والتي تُعد محور السياسية الخارجية المغربية.ونيجيريا: التي تحاول الموازنة بين توجهات نظام الرئيس بولا أحمد تينوبو، وطبيعة المواقف الشعبية المتعاطفة مع القضية الفلسطينية تاريخيًّا، لاسيما في الولايات الشمالية ذات الغالبية المسلمة، أو تلك الواقعة في الوسط حيث تقطن الأقلية الشيعية النيجيرية، علمًا أن الأخيرة هي الأكبر عددًا على مستوى إفريقيا.وعلى نفس الطريق سارت أيضًا تنزانيا، وأوغندا، وغينيا بيساو.
3. تصويت الدول الإفريقية فيما يخص القضية الفلسطينية بالأمم المتحدة: سلَّطت عملية طوفان الأقصى 7 أكتوبر وما تلاها من ردود أفعال، الضوء على الموقف المختلط لدول إفريقيا الواقعة جنوب الصحراء الكبرى، في الصراع الفلسطيني الصهيوني. حيث نظرة سريعة على تصويت الأمم المتحدة، تعطي فكرة واضحة عن مواقف الدول الإفريقية بشأن هذه المسألة. ففي عام 2017 صوَّتت معظم الدول الإفريقية ضد قرار الولايات المتحدة بفتح سفارة في القدس، خلال اجتماع طارئ للأمم المتحدة. وبعد مرور عام، عندما دعت الولايات المتحدة إلى إدانة حماس في أعقاب الهجمات الصاروخية من قطاع غزة، صوَّتت 7 دول فقط من أصل 54 لصالح القرار. وفي عام 2012، كان التصويت على القرار 67/19 الذي يمنح فلسطين وضع مراقب غير عضو في الأمم المتحدة هو الذي كشف مدى ضآلة الدعم الذي يُقدِّمه الأفارقة للكيان الصهيوني، حيث صوَّتت 47 دولة إفريقية لصالح تبنِّي القرار، بينما لم تُصوِّت أي دولة ضده وامتنعت 4 دول فقط عن التصويت. وينطبق الشيء نفسه على حرب غزة عام 2009. فقد استشهد أكثر من 1400 فلسطيني نتيجة للعنف الذي ارتكبته القوات الصهيونية. وصوَّتت معظم الدول الإفريقية في الأمم المتحدة لصالح إنشاء لجنة تحقيق يرأسها قاضٍ من جنوب إفريقيا، في حين لم تُصوِّت أي دولة ضد التحقيق فيما امتنعت 8 دول عن التصويت، وتغيَّبت 8. وتجدر الإشارة إلى أن ردود أفعال الدول الإفريقية على هجوم 7 أكتوبر على الكيان الصهيوني تختلف باختلاف تاريخها وعلاقاتها الثنائية واهتماماتها الداخلية. وهي تتأرجح في الأساس بين 3 أنواعٍ من ردود الفعل: إما الصمت أو الدعوة إلى وقف التصعيد والتي قد تتجه نحو إدانة الكيان الصهيوني، أو إدانة حماس. ولم تُسفر العلاقات الدبلوماسية الحالية عن أي نوع من الدعم للكيان الصهيوني. وبشكلٍ عام، فإن دول جنوب الصحراء الكبرى التي أعربت عن موقفها، اتَّبعت بشكل أساسي تصريحات الاتحاد الإفريقي التي ترفض وصف تصرفات حماس بأنها تهديد، وتُروِّج لحل الدولتين باعتباره مخرجًا. ويعكس هذا الرد الفاتر العلاقة المُعقدة بين الكيان الصهيوني والقارة الإفريقية.4 وهو ما اتضح أيضًا في الدعم الكبير للدول الإفريقية لقرار الجمعية العامة الذي دعم طلب عضوية فلسطين ومنحها امتيازات إضافية بعد مرور سبعة أشهر على بدء عملية طوفان الأقصى.
ثانيًا: القمة الخامسة عشر لمنظمة التعاون الإسلامي في غامبيا..
اختتمت الدورة الخامسة عشرة لمؤتمر القمة الإسلامي أعمالها يوم الأحد 5 مايو 2024 في بانجول بجمهورية غامبيا5، واعتمدت “إعلان بانجول”. وعُقدت القمة على مدى يومي 4-5 مايو 2024، بحضور رؤساء وقادة الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي. وقال رئيس القمة الإسلامية الرئيس الغامبي آداما بارو في كلمته في ختام أعمال القمة إن الدورة الخامسة عشرة للقمة تُمثِّل بداية جديدة لغامبيا للتعامل مع الدول الأعضاء والجهات المعنية لتعزيز السلام والعدالة والحوار المستمر داخل الأمة الإسلامية وخارجها. وأكَّد أنَّ المسؤولية الجماعية تقع على عاتق منظمة التعاون الإسلامي للبحث عن حلول دائمة لمحنة الأشخاص الذين يعانون من الشدائد، الناجمة عن أي شكل من أشكال الصراع أو الحرب أو التحدي الذي يواجه البشرية. وحثَّ بارو جميع الدول الأعضاء على التعاون مع غامبيا خلال فترة رئاستها للقمة والتي تمتد لثلاث سنوات لتعزيز وتحقيق مُثُلنا واتخاذ خطوات ملموسة لتعزيز الوضع الاجتماعي والاقتصادي للأمة الإسلامية.
1. غامبيا ومنظمة التعاون الإسلامي: تُتوِّج جمهورية غامبيا، الدولة الصغيرة في غرب إفريقيا، سنوات من العمل في منظمة التعاون الإسلامي باستضافة الدورة الخامسة عشرة لمؤتمر القمة الإسلامي على مدى يومي (4-5 مايو 2024). ومنذ انضمامها للمنظمة في عام 1974، أسهمت غامبيا بفعالية في برامج ومبادرات المنظمة وتحركاتها الدولية لخدمة قضايا العالم الإسلامي على مختلف المستويات. وارتبط اسم غامبيا خلال السنوات الأخير بمواقفها في دعم حقوق أقلية الروهينجا المسلمة في ميانمار، حيث رفعت في نوفمبر 2019 وبتكليف من الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي قضية أمام محكمة العدل الدولية ضد حكومة ميانمار، بتهمة انتهاك الأخيرة لاتفاقية الإبادة الجماعية، وذلك في ظل الانتهاكات الخطيرة التي يتعرض لها الروهينجا في ميانمار. ونتيجة لهذا التحرك من غامبيا، أمرت محكمة العدل الدولية حكومة ميانمار باتخاذ إجراءات معينة لحماية الروهينجا من خلال “تدابير مؤقتة” أثناء استمرار القضية. كما استضافت غامبيا أيضًا عددًا من المؤتمرات والاجتماعات الدولية التي عقدت في إطار منظمة التعاون الإسلامي، بما في ذلك الدورة الثامنة للمؤتمر الإسلامي لوزراء السياحة التي عقدت في بانجول في 6 ديسمبر 2013، وأسفرت عن قرارات مهمة لتعزيز السياحة البينية بين الدول الأعضاء في المنظمة. ومنذ اختيارها لاستضافة الدورة الخامسة عشرة للقمة الإسلامية، بذلت غامبيا بقيادة الرئيس آداما بارو جهودًا كبيرة في التحضير لهذه القمة، حيث أنشأت أمانة عامة خاصة لهذا الغرض، كما نفَّذت العديد من المشاريع في مجال البنية التحتية والطرق والخدمات اللوجيستية. وتُمثِّل قمة بانجول فرصة فريدة للدول الأعضاء لتعزيز تعاونها في سبيل تعزيز العمل الإسلامي المشترك، والانخراط في حوار بناء حول القضايا العالمية والتحديات التي تواجه الأمة الإسلامية. وخلال اجتماع وزراء الخارجية التحضيري للقمة الذي عُقد في بانجول 2 مايو 2024، أكَّد وزير الخارجية والتعاون الدولي والغامبيين في الخارج مامادو تانغارا على دور منظمة التعاون الاسلامي في مواجهة مختلف التحديات التي تواجهها الدول الاعضاء. كما أكَّد وكيل وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي والغامبيين في الخارج، لانغ يابو، أنَّ القمة تأتي في وقت يشهد فيه العالم الإسلامي تحديات ذات أبعاد غير مسبوقة لا يمكن الاستمرار في تجاهلها، داعيًا إلى اتخاذ إجراءات حاسمة وجريئة وشاملة تسترشد بالأبعاد الإنسانية والتنموية. وستتولى غامبيا رئاسة المنظمة للسنوات الثلاث المقبلة خلفًا للمملكة العربية السعودية.6
2. إعلان بانجول والوضع في غزة: في “إعلان بانجول” الصادر عن القمة، أكَّد قادة ورؤساء دول منظمة التعاون الإسلامي تضافُرهم في مواجهة الكارثة الإنسانية الواقعة على قطاع غزة وأهله بسبب العدوان الصهيوني المُتواصل لأكثر من ستة أشهر دون هوادة أو مراعاة لأبسط القيم الأخلاقية والانسانية، داعين إلى وقف إطلاق النار الفوري وغير المشروط للعدوان الشامل على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. ودعوا دول العالم إلى ضرورة التحرك لوقف جريمة الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وإلى تنفيذ الإجراءات الاحترازية التي أمرت بها محكمة العدل الدولية، مؤكدين على بذل كافة الجهود لتعجيل وصول كافة المساعدات الإنسانية ورفض أي محاولات لتهجير الشعب الفلسطيني عن أرضه. وشدَّد القادة على ضرورة تمكين الشعب الفلسطيني من إحقاق حقوقه الوطنية المشروعة على النحو الذي اعترف به المجتمع الدولي، بما في ذلك من خلال اعترافه بالدولة الفلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشريف، وتقديم الدعم لنيل دولة فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة. وأشاد القادة بتضامُن الشعوب والحكومات الإفريقية مع نضال الشعب الفلسطيني، وتحديدًا الدول الاعضاء في المنظمة، ومواقفها الثابتة لإنهاء الظلم التاريخي الذي طال الشعب الفلسطيني، من واقع تجربتها المريرة مع إنهاء الاستعمار والتمييز العنصري. وأشادت القمة في بيانها الختامي بمُخرجات المنتدى الدولي الذي نظَّمه اتحاد وكالات أنباء دول منظمة التعاون الإسلامي (يونا) بعنوان “الإعلام ودوره في تأجيج الكراهية والعنف: مخاطر التضليل والتحيز” في مدينة جدة بتاريخ 26 نوفمبر 2023، وذلك بالتعاون مع رابطة العالم الإسلامي وبمشاركة جميع وكالات الأنباء الرسمية في الدول الأعضاء بالمنظمة، وعدد من وسائل الإعلام الدولية والمؤسسات الفكرية والدينية. ونوَّهت القمة الإسلامية بالمحور الخاص الذي تضمَّنه المنتدى عن “التحيز والتضليل في الإعلام الدولي: القضية الفلسطينية أنموذجًا”، والذي سعى إلى التصدِّي لما تتعرَّض له القضية الفلسطينية من تحيُّز في بعض وسائل الإعلام الغربية يحول دون كشف انتهاكات الاحتلال الصهيوني وتمكين الشهب الفلسطيني من نيل حقوقه. كما أصدرت القمة أيضًا قرارًا مُستقلًا بشأن “قضية فلسطين والقدس الشريف”، وذلك في ظل ما تشهده هذه القضية من تطورات خطيرة وغير مسبوقة بسبب جرائم العدوان العسكري الصهيوني الغاشم على الشعب الفلسطيني، لاسيما في قطاع غزة.7
3. قراءة في إعلان بانجول: ورغم أن إعلان بانجول المُكون من 34 توصية خصَّ القضية الفلسطينية بثماني توصيات، إضافةً إلى قرار خاص بقضية فلسطين والقدس مُكوَّن من 50 توصية، فإن توصياتها قد سارت على النهج المعتاد بين الإدانة والإدانة بأشد العبارات، ومُطالبة دول العالم بالتحرك لتنفيذ ما تُطالب به توصيات القمة، ولم تُحدِّد القمة أيّ تكليف مُحدَّد تُنفّذه الدول الأعضاء سوى دعم مشروعات القدس وإنشاء وقفيات بالدول الإسلامية لدعم القدس وأبنائها. لكن التوصيات لم تخلُ من تناقض حين دعت إلى مُقاطعة الاحتلال، وطلبت من جميع الدول والمؤسسات والشركات والأفراد وقف كافة أشكال التعامل المباشر وغير المباشر مع الكيان الصهيوني، وطردها من المنظمات والمحافل الدولية، بينما تقوم دول أعضاء بالمنظمة بإمداد الكيان الصهيوني خلال الحرب على غزة بالوقود والخضراوات وغيرها من السلع في ضوء استمرار التجارة بين إسرائيل والعديد من دول المنظمة حتى الآن. وإذا كانت التوصية الحادية والعشرين من القرار الخاص بفلسطين قد نصَّت على دعم الدول الأعضاء للقرارات المُتعلِّقة بالقضية الفلسطينية بما فيها القدس في كافة المحافل الدولية، ودعت إلى اتخاذ إجراءات قانونية تجاه الدول غير المُلتزمة بما فيها تجميد العضوية بالمنظمة، ودعت إلى عقد اجتماع لمُناقشة هذه المسألة الحساسة، فإن هذا الاجتماع على الأغلب لن يتم عقده، ولن تحدث أي إجراءات تجاه تلك الدول الأعضاء في المنظمة، ولعل تصريحات وزير الخارجية الأمريكي المُتكرِّرة خلال الحرب على غزة، عن استمرار المُباحثات لتطبيع العلاقات بين الكيان الصهيوني ودولة المقر (المملكة العربية السعودية) خير شاهد. وتفادى الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي في كلمته بالقمة الإشارة إلى ما أسفرت عنه مهمة اللجنة الوزارية التي شكَّلتها قمة الرياض، من وزير الخارجية السعودي ونُظرائه من الأردن ومصر وقطر وتركيا وإندونيسيا وفلسطين، وعضويته هو والأمين العام للجامعة العربية، للتحرُّك الدولي لوقف العدوان على غزة، أو حتى ذكر الصعوبات التي أدَّت إلى إخفاقها، لكن التوصية الثالثة بقرار فلسطين دعت هذا الفريق الوزاري العربي الإسلامي برئاسة السعودية إلى مواصلة جهده لإنهاء الإبادة الجماعية وتحقيق حل الدولتين. ورغم أن لجنة الصياغة قد تجنَّبت ما حدث بقمة الرياض في توصيتها السادسة عشرة بالمساواة بين الضحايا الفلسطينيين والضحايا من الصهاينة عند إدانة قتل المدنيين، وهو ما تحفَّظت عليه العراق وتونس حينذاك، فقد استمرَّت تونس في التحفُّظ على ما جاء في التوصيات من حل الدولتين والقدس الشرقية على أساس حدود الرابع من يونيو 1967، حيث ترى تونس حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المُستقلة على جميع أرض فلسطين وعاصمتها القدس.8
4. بين قمة الرياض وقمة بانجول: لم تُنشر قرارات القمة، واقتصرت التغطية الإعلامية للقمة على موقع Google وتغطية بعض وكالات الأنباء الوطنية لمشاركة وفود بلادها بالقمة، وحتى من نشروا توصيات القمة كان نشرهم محدودًا، الأمر الذي يدعو إلى المقارنة بين الصخب الإعلامي الذي رافق القمة العربية الإسلامية التي عُقدت بالرياض في شهر نوفمبر الماضي وهذه القمة الأخيرة. حيث حفلت قمة الرياض بحضور العديد من رؤساء وملوك وأمراء الدول الإسلامية الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، بينما قمة غامبيا حضرها عدد قليل من رؤساء الدول مثل رئيسي السنغال وموريتانيا، وكانت مشاركة غالبية الدول عبر وزراء خارجيتها مثل السعودية ومصر وإيران وتركيا وبنغلاديش وماليزيا ومالي والنيجر واليمن والغابون وغيرها، وشاركت كلٌّ من المغرب وسلطنة عمان عبر وزير الأوقاف، حتى الرئيس الفلسطيني لم يحضر القمة وكذلك الأمين العام للجامعة العربية. وربما كانت حالة الإحباط التي ألمّت بشعوب العالم الإسلامي مع عدم تحقُّق شيء من قرارات قمة الرياض، المُتعلِّقة بمهمة اللجنة الوزارية لبلورة تحرك دولي لوقف الحرب على غزة، التي زارت بالفعل عددًا من العواصم الرئيسية، أو كسر الحصار عن غزة وفرض إدخال قوافل مساعدات إنسانية تشمل الغذاء والدواء والوقود بشكل فوري، وتأكيد دخول المنظمات الدولية للمشاركة في إدخال المساعدات إلى غزة وحماية طواقمها ودعم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا). فربما كان ذلك سببًا في التعتيم على القمة الأخيرة تجنّبًا لمزيد من الإحباط الشعبي خاصة بعد مواقف التخاذل العربي والإسلامي اتجاه عمليات الإبادة الجماعية، وتصدّي إحدى الدول الأعضاء للمُسيّرات الإيرانية المُتجهة إلى الكيان الصهيوني، وتصدّي دولة أخرى لمُسيّرات الحوثيين المُتجهة إلى إيلات، ولقد جاءت قرارات قمة غامبيا أقل حدة من قرارات قمة الرياض وإن كانت قد كرَّرت ذكر غالبية قرارات الرياض، وإذا كانت قمة الرياض قد عُقدت تحت عنوان: بحث العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، فقد جاءت القمة الأخيرة تحت شعار: تعزيز الوحدة والتضامن عبر الحوار من أجل التنمية المُستدامة.9
الخُلاصة؛ جاءت القمة الإسلامية الخامسة عشر ومُخرجاتها التي ركَّزت بشكل أساسي على حرب غزة التي تجاوزت المائتي يوم وقت انعقاد القمة؛ امتدادًا للجهود الدبلوماسية المستمر لوقف تلك الحرب التي أودت بحياة الآلاف من سكان قطاع غزة وتعرُّض حياة البقية لخطر المجاعة نتيجة الحصار. إلا أنه رغم تركيز القمة على تلك القضية العربية والإسلامية الهامة، وخروجها بالعديد من التوصيات في هذا الصدد، إلا أنه لا يبدو هناك حل أو خطوات عملية من شأنها العمل على حل حقيقي للأزمة، لاسيما بعد إخفاق قمة الرياض في تحقيق توصياتها السابقة لقمة بانجول. الأمر الذي من شأنه العودة للتساؤل عن مدى فعالية المنظمات الإقليمية في مواجهة التحديات التي قد تواجه دولها. ويبقى الثابت الوحيد في خضم هذه الأحداث؛ هو الدعم الإفريقي الكبير للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية تحرُّر وطني تتوافق في مضمونها مع نضال الأفارقة التاريخي لنيل حريتهم من الاستعمار.
1 د. حمدي عبد الرحمن، “المواقف الإفريقية من القضية الفلسطينية.. الدوافع والمسارات”، كتابات، 21/12/2017. متاح على الرابط: https://2u.pw/74YqqByC
2 محمد ج.، “كيف هي مواقف الدول الإفريقية من عملية “طوفان الأقصى” ولماذا؟”، الجزائرالآن،10/10/2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/AFOIa
3 امتنعت تونس عن التصويت على مشروع القرار العربي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بشأن وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وأرجعت ذلك لاعتبارها أن مشروع القرار منقوصًا ويساوي بين الضحية والجلاد.
4 “ما هو موقف الدول الإفريقية من القضية الفلسطينية؟”، Daily Sabah، 6/12/2023. متاح على الرابط: https://2u.pw/RlVWiRpP
5 غامبيا الواقعة في غرب إفريقيا، التي تعد أصغر الدول الإفريقية من حيث المساحة البالغة 11300 كيلومتر لتحتل المركز 165 بين دول العالم من حيث المساحة، وهي تطلّ على المحيط الأطلسي، وتتخذ أرضها شكل شريط عرضي تحيط به السنغال من الشمال والجنوب والشرق، وبلغ عدد سكانها 2.5 مليون لتقع بالمركز 144 عالميًا من حيث السكان، ويعتنق 96% منهم الإسلام بجانب 3.5% من المسيحيين. ويقع 53% من سكان غامبيا تحت خط الفقر.
6 “غامبيا تتوج جهودها في منظمة التعاون الإسلامي باستضافة مؤتمر القمة الإسلامية”، اتحاد وكالات أنباء دول منظمة التعاون الإسلامي، 3/5/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/dzxcDh71
7 “القمة الإسلامية بغامبيا تختم أعمالها وتصدر “إعلان بانجول””، اتحاد وكالات أنباء دول منظمة التعاون الإسلامي، 5/5/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/NDB9OOPi
8 ممدوح الولي، “قراءة في قرارات قمة إسلامية جرى التعتيم عليها”، الجزيرة نت، 9/5/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/AfbluDRx
9 ممدوح الولي، مرجع سبق ذكره.