الانتخابات الفرنسية وتداعياتها على السياسة الفرنسية تجاه إفريقيا

في نتيجة مُخالفة لكل التوقعات، أظهرت نتائج التصويت في الانتخابات التشريعية في فرنسا يوم 7 يوليو 2024 تصدُّر تحالف اليسار في الجولة الثانية واحتلال معسكر الرئيس إيمانويل ماكرون المرتبة الثانية، مُتقدمًا على اليمين المُتطرف الذي حلَّ ثالثًا. وهكذا يدخل التجمع الوطني (حزب مارين لوبان) بقوة إلى الجمعية الوطنية الجديدة إلا أنه يبقى بعيدًا عن السلطة مع تسجيله نتيجة مُخيبة لتطلعاته مُقارنةً مع ما سجله خلال الدورة الأولى. وبهذا تجد فرنسا نفسها غارقة في المجهول قبل ثلاثة أسابيع على افتتاح دورة الألعاب الأولمبية في باريس. فمع وجود برلمان مُعلق وعدم وجود طريق واضح نحو ائتلاف حاكم، لا يزال الجمود السياسي في باريس يُلقي بظلال من الشك على قدرة فرنسا على ممارسة نفوذها في الاتحاد الأوروبي. وقد وضعت النتائج النهائية تحالف الجبهة الشعبية الجديدة اليساري في المقدمة، وهذا يعني حكومة ذات ميول يسارية تتقاسم السلطة مع الرئيس الوسطي إيمانويل ماكرون. فكيف يُمكن قراءة تأثير نتائج الانتخابات وتداعياتها سواء على الداخل الفرنسي أو على القارة الإفريقية؟ هذا هو التساؤل الرئيس الذي سيدور حوله هذا التقرير..

أولًا: قراءة في نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية..

فاز ائتلاف اليسار المنضوي تحت “الجبهة الشعبية الجديدة”، الذي توحَّد بشكل غير مُتوقع قبل الانتخابات المبكرة في فرنسا، بأكبر عدد من المقاعد البرلمانية في التصويت بالانتخابات التشريعية. وجاء تحالف الرئيس إيمانويل ماكرون الوسطي في المرتبة الثانية واليمين المتطرف في المرتبة الثالثة.

1. نتائج الانتخابات وشعبية ماكرون: حصلت الجبهة الشعبية الجديدة على المركز الأول في الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية المبكرة التي أعقبت حل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للجمعية الوطنية، لا يزال التحالف اليساري بعيدًا عن الأغلبية المُطلقة بعد أن حاز على 182 مقعد بدلًا من 289. وفي مشهد سياسي مُعقَّد، تتواصل في الوقت الراهن المفاوضات داخل مختلف مكونات الجبهة لتعيين مرشحها لمنصب رئيس وزراء الحكومة الجديدة، بينما يتطلَّع حزب الجمهوريين إلى إنشاء تحالف مع ماكرون لحكم البلاد. وفي ظل عدم اليقين بشأن تشكيل ائتلاف حكومي وبناء العمود الفقري لأغلبية برلمانية جديدة، يضغط بعض قادة الأغلبية السابقة من أجل التوافق مع حزب اليسار، مُعرِّضين أنفسهم لخطر تمزيق ما تبقى من المعسكر الرئاسي. وفيما يبدو أن التحالف اليساري نجح في توحيد صفوفه خلال 4 أيام فقط بعد إعلان حل البرلمان، لم تتمكَّن نشوة النصر بهذه الانتخابات من محو التوترات العميقة التي شهدتها الأحزاب السياسية الأشهر الأخيرة، فضلًا عن أن الكتل الثلاث الرئيسية، وهي الجبهة الشعبية اليسارية وحزب ماكرون والتجمع الوطني من اليمين المتطرف، لم تحصل على الأغلبية الكافية للحكم بمفردها.وبحسب استطلاع أجرته مؤسسة “إيلاب” ومعهد “مونتين” بعد الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية، يعتقد 76% من الفرنسيين أن ماكرون لم يفِ بوعوده بتغيير الحياة السياسية منذ توليه الرئاسة عام 2017، وهو موقف يؤيده بقوة ناخبو ميلانشون (89%) وكذلك زعيمة التجمع الوطني مارين لوبان (88%) فضلا عن العديد من ناخبي ماكرون نفسه (50%). وعلى الرغم من عدم استبعاد سيناريو تحالف الجمهوريين مع ماكرون إلا أن التحدي يتمثَّل في تداعيات هذا الأمر مع وجود احتمال كبير في أن يتسبَّب هذا الاتفاق في انقسام الماكرونية مع رحيل نوابها اليساريين، أو حدوث انقسام بين الجمهوريين مع نزف جديد لاصطفاف رئيس الحزب إريك سيوتي في صف التجمع الوطني (أقصى اليمين). وفي هذه الحالة، فإن هذا الائتلاف سيُشكِّل خطرًا على ما تبقَّى من المعسكر الرئاسي، خاصةً وأن ماكرون قام بتحركات فشلت كل مرة في إعادة الاستقرار والشرعية لحكومته وشخصه، وكان آخرها حل البرلمان.[1]

2. الجبهة الشعبية الجديدة وتأثير فوزها على المشهد السياسي: والجبهة الشعبية الجديدة هي تحالف انتخابي يساري واسع للأحزاب في فرنسا، لم يتجاوز عمره الشهر. تم إطلاقها في 10 يونيو استجابة لدعوة إيمانويل ماكرون لانتخابات تشريعية مبكرة. تجمع الجبهة الشعبية الجديدة بين أحزاب مثل فرنسا الأبية، والحزب الاشتراكي، وحركة الخضر، والحزب الشيوعي الفرنسي، وحركة الأجيال، وحركة المكان العام، وعدة أحزاب ومجموعات يسارية أخرى. أكبر حزب في الجبهة الشعبية الجديدة هو حزب فرنسا الأبية، بقيادة اليساري المتطرف جان لوك ميلنشون. على الرغم من أن الجبهة الشعبية الجديدة ليس لها زعيم رسمي، إلا أن ميلنشون يُعتبر على نطاق واسع أقرب شخص لقيادتها. ومن المُتوقَّع أن يقودعدم تمكُّن أيٍّ من التحالفات من تحقيق أغلبية في الانتخابات فرنسا إلى اضطرابات سياسية واقتصادية. فوفقًا للنتائج، فقد الرئيس ماكرون الذي لا يحظى بشعبية كبيرة السيطرة على البرلمان، مما يعني أن الرئيس الذي يقود حزب النهضة المنضوي تحت جبهة “معًا” (يمين الوسط) احتمال قيادة البلاد إلى جانب رئيس وزراء يساري يُعارض معظم سياساته الداخلية. وسينتج عن ذلك فترة من التعايش السياسي المُتوتر، ربما يتحوَّل معها الرئيس إلى “بطة عرجاء” لا يُمكِّنه من تنفيذ أجندته السياسية. وتواجه فرنسا احتمال أسابيع من الصراعات السياسية لتحديد من سيكون رئيس الوزراء وزعيم الجمعية الوطنية.[2]

3. أهمية فوز اليسار لأوروبا في الوقت الحالي: تُعتبر الحكومة القوية في باريس ركيزة أساسية لاستقرار الاتحاد الأوروبي. وفي ظل وجود فرنسا الآن في منطقة سياسية مجهولة يلفها الغموض بشأن مستقبلها السياسي، يدعو البعض إلى حل براجماتي يسمح لفرنسا بتحقيق الأولويات الملحة مع درء تهديد اليمين المتطرف. فالهزيمة غير المُتوقعة لليمين المُتطرف في الجولة الثانية تعني أن تتجنَّب فرنسا الارتداد إلى نوع من السردية السيادية والقومية التي من الواضح أنها تتعارض مع أوروبا. حيث لا تزال فرنسا في الوقت الحالي أحد المعاقل الرئيسية في أوروبا ضد صعود اليمين المتطرف، وضد نفوذ روسيا.فكان من شأن فوز حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف في الجولة الثانية من الانتخابات، والذي تصدَّر الجولة الأولى من التصويت قبل أسبوع، أن يُشكِّل تهديدًا إضافيًا للدعم الذي يُقدِّمه الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا. حيث يتمتَّع حزب مارين لوبان بعلاقات تاريخية مع روسيا وتعهَّد بكبح جماح المساعدات الفرنسية لأوكرانيا. وقد حصل الحزب على قرض مُثير للجدل بقيمة 9 مليارات يورو من أحد البنوك الروسية في عام 2014، على الرغم من فرض عقوبات على موسكو بسبب الاحتلال غير القانوني لشبه جزيرة القرم.[3]

4. لماذا تراجع اليمين في الجولة الثانية؟ يعزوها البعض إلى تصريحات ذات طابع عنصري لبعض قياديه بعد الفوز الذي حقَّقه الحزب في الجولة الانتخابية الأولى، مما أثار مخاوف شريحة كبيرة من الشعب الفرنسي ذات الأصول العربية والإفريقية والإسلامية، مخاوف وظفّتها الاحزاب اليسارية والاشتراكية المُنضوية تحت راية التجمع الشعبي والذي فاز بالمرتبة الأولى في الجولة الثانية للانتخابات. ومن بين الأسباب أيضًا التفاهم والاتفاق الذي أُبرم بين التجمع الشعبي وحزب الرئيس ماكرون والأحزاب الأخرى للحيلولة دون فوز اليمين المتطرف، اتفاق على آلية سحب مُرشحين من كلا الطرفين لضمان عدم تشتُّت الأصوات ولضمان فوز المُرشحين الذين اعتمدوا من كلا الطرفين. وما تجدر الإشارة إليه هو سرعة ردود فعل واتفاق التجمع الشعبي اليساري وحزب النهضة (حزب الرئيس ماكرون)، على آلية العمل والترشيح والتأثير على القواعد وعلى الرأي العام من أجل منع حزب التجمع الوطني من الفوز بالجولة الثانية. نجحوا في مهمتهم، وفي غضون أسبوع واحد، يفصل بين الجولة الأولى والجولة الثانية للانتخابات، تغيَّر مسار التصويت وتوجه من صالح التجمع الوطني اليميني المتطرف إلى صالح التجمع الشعبي اليساري. ولكن يبقى السؤال هل سيستمر هذا التفاهم والتوافق بين التجمع الشعبي اليساري، والذي يضّمُ شريحة كبيرة من المستضعفين، وحصته في الجمعية الوطنية (مجلس النواب) 190 مقعد، وحزب النهضة (حزب الرئيس ماكرون) الوسطي الأرستقراطي، وحصته في الجمعية الوطنية 165 مقعد؟[4]

5. ماذا بعد الانتخابات؟ قد يكون ائتلاف الجبهة الشعبية الجديدة في طريقه ليصبح أكبر قوة في البرلمان الفرنسي، لكن التحالف الذي يضم فرنسا الأبية والحزب الاشتراكي والخضر والشيوعيين، لا يزال بعيدًا عن 289 مقعد، وهو العدد المطلوب للحصول على الأغلبية المُطلقة، مما يضطر الكتلة اليسارية إلى التفاوض. يسمح الدستور الفرنسي للرئيس باختيار من يريد رئيسًا للوزراء. من الناحية العملية، ولأن البرلمان قادر على فرض استقالة الحكومة، فإن رئيس الدولة يختار دائمًا شخص يكون مقبولًا لدى المجلس. في العادة يكون ذلك الشخص من أكبر كتلة في البرلمان، لكن تعيين رئيس وزراء يساري من شأنه أن يتعرَّض لخطر تكرار تصويت حجب الثقة، بدعم ليس فقط من يمين الوسط واليمين المتطرف، ولكن ربما من معسكر الرئيس أيضًا. وخلافًا للعديد من الدول الأوروبية، لم يكن لدى فرنسا أي خبرة في تشكيل ائتلافات واسعة منذ الجمهورية الرابعة، لكن العديد من الشخصيات من اليسار والوسط أشارت في السابق إلى أن ذلك قد يكون حلًا لبرلمان مُعلق. ومع ذلك؛ يرى البعض الآخر أن تشكيل ائتلاف رئيسي، رغم أنه ممكن من حيث المبدأ، لكنه سيكون من الصعب بناءه نظرًا لتباين مواقف الأحزاب بشأن قضايا مثل الضرائب ومعاشات التقاعد والاستثمار في الطاقة النظيفة. ويرى البعض الآخر أنه بدلًا من محاولة تشكيل حكومة ائتلافية رسمية، يُمكن للأحزاب الرئيسية أن تُشكِّل تحالفات مختلفة مُخصصة للتصويت من خلال التشريعات الفردية. وقد جرب ماكرون هذه الإستراتيجية منذ خسارته أغلبيته في عام 2022 ولكن بنجاح محدود، حيث اضطر إلى اللجوء في مناسبات عديدة إلى صلاحيات دستورية خاصة مثل المادة 49.3 التي لا تحظى بشعبية لدفع التشريعات دون تصويت برلماني. كما يُمكن للرئيس أيضًا أن يُفكر في تعيين حكومة تكنوقراط، من النوع المألوف في دول مثل إيطاليا، وتتكوَّن من خبراء مثل الاقتصاديين وكبار موظفي الخدمة المدنية والأكاديميين والدبلوماسيين وقادة الأعمال أو النقابات العمالية.[5]

ثانيًا: إفريقيا والانتخابات الفرنسية..

حظي فوز تحالف اليسار الفرنسي (الجبهة الشعبية الجديدة) في الانتخابات النيابية ضد اليمين الفرنسي بقيادة مارين لوبان، بترحيب شعبي إفريقي واضح في قلب فرنسا، وفي أرجاء مُتفرقة من القارة، تزامن معها إعلان التحالف اليساري الفائز عزمه قيادة البلاد في مرحلة جديدة من تاريخها، ورفض التعاون مع معسكر الرئيس إيمانويل ماكرون، ربما في إشارة إلى أن ذلك سيشمل توجهات جديدة في سياسات باريس الخارجية، بما فيها نحو إفريقيا.

1. تدوير السياسة الفرنسية في إفريقيا: لفرنسا تاريخ استعماري تليد في القارة الإفريقية، يعود رسميًّا إلى القرن التاسع عشر، عندما أسَّست فرنسا مستعمراتها في غرب ووسط إفريقيا؛ حيث اتسمت إدارتها بالاستغلال، والقمع، والغزو الثقافي، واستغلال موارد المستعمرات الإفريقية، وتركت تلك الفترة آثارًا مُستدامة على العلاقات الفرنسية- الإفريقية. وتظل “إفريقيا الفرنسية” حاضرةً واقعًا في القارة الإفريقية بعد مرور عقود على الاستقلال في ظل ما تُعرَف بمجموعة منروفيا التي تزود عن مصالح فرنسا في القارة حتى اللحظة الراهنة. ومع استمرار عوامل كثيرة تقود أغلب قطاعات الشعوب الإفريقية (لاسيما في غرب إفريقيا) إلى رفض الوجود الفرنسي، مع تراجع مقبولية فرنسا بشكل واضح بين هذه القطاعات؛ فإن جهود قادة فرنسا المتعاقبين لـ “تدوير” سياساتهم الإفريقية، والتعهُّد في كل مرحلة بتبنّي سياسات جديدة؛ باتت تُعبِّر أكثر فأكثر عن جمود حقيقي في رؤية باريس لتطورات الأوضاع السياسية والاجتماعية في القارة. ويرجع ذلك الجمود إلى تاريخ علاقات فرنسا بالدول الإفريقية بعد استقلالها، ومواصلة عدد من السياسيين الفرنسيين النظر للرق والاستعمار بشكل إيجابي وقابل للتفسير كعمليات اقتصادية مقبولة حسب عصرها. كما واصلت فرنسا بمقتضى سياستها “إفريقيا الفرنسية” إحكام هيمنتها الاقتصادية والمالية مع استمرار استخدام فرنك الجماعة الإفريقية الفرنسية الذي تُصدره الخزانة الفرنسية. كما واصلت باريس هيمنتها العسكرية مع تمركُز القوات الفرنسية في كلٍّ من الجابون والسنغال وكوت ديفوار وتشاد وجيبوتي، كما رصد مؤرخون تشابُك هذا الوجود العسكري الفرنسي مع ظاهرة الانقلابات في القارة الإفريقية في حالات كثيرة مع قيام القوات الفرنسية بعمليات تدخل عسكري في دول إفريقية كثيرة تجاوزت 60 عملية منذ استقلال إفريقيا (ومن أكبرها التدخل العسكري الفرنسي في ليبيا عام 2011، وقاد إلى تدهور الأوضاع في إقليم الساحل وتراجع هائل في النفوذ الفرنسي فيه، كما لا يزال تورُّط فرنسا في جريمة الإبادة الجماعية بحق مجموعات التوتسي في رواندا ماثلة في الأذهان.[6]

2. فوز اليسار الفرنسي وإفريقيا: حظيت هزيمة اليمين المتطرف في الانتخابات الأخيرة بحفاوة إفريقية كبيرة، لاسيما في الدول التي باتت تُناصب فرنسا عداءً سافرًا في إقليم الساحل الإفريقي، وعمَّق من هذا التوجه: الفشل الفرنسي في مواجهة المشكلات الجذرية المُسبِّبة للإرهاب والعنف في إقليم الساحل (وصولًا إلى تواطؤ مع جماعات العنف بحسب تقارير محلية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر)، وتجاهُل النزاعات المحلية على الأراضي والمياه، وبين المزارعين والرعاة، كأسباب رئيسية لنجاح الجماعات المسلحة في كسب عناصر جديدة في صفوفها. كما أن موجة الانقلابات التي تلت فشل حكومات دول الساحل في القيام بمهامها في مواجهة المشكلات المزمنة عزَّزت من الحشد الشعبي الإفريقي بشكل واضح ضد فرنسا وسياساتها؛ حيث ظهر قادة الانقلابات في مالي وبوركينا فاسو والنيجر باعتبارهم قادة إنقاذ لتلك الشعوب من الهيمنة الاستعمارية الفرنسية وسياسات نظم الحكم التابعة لها. وهكذا فقد برهنت التجارب السابقة (منذ نهاية الثمانينيات على الأقل) على عدم أولوية إفريقيا في سياسات فرنسا الخارجية “المؤسساتية”، واستمرار إدارة هذا الملف من زاويتين: عسكرية واقتصادية (استغلالية). مع ملاحظة إقدام الحكومة الفرنسية بالفعل في نهاية العام الماضي على إعادة هيكلة فريق الشؤون الإفريقية في وزارة الداخلية تفاديًا لمزيد من الفشل الفرنسي في القارة، كما اتضح من الأزمة في الساحل، وهو الأمر الذي لم يُؤدِّ إلى الحد الأدنى من النتائج المرجوة. وربما تكون توقُّعات تغيير جذري أو حقيقي في سياسات فرنسا الإفريقية بعد نتائج الانتخابات الأخيرة محض مبالغات وقتية بالنظر إلى عدة اعتبارات: أولها؛ أن ملف هذه السياسات يظل بعيدًا عن أولويات باريس في المرحلة المقبلة بشكل كبير مع انشغالها شبه الكامل بتطورات الأزمة الأوكرانية. وثانيها؛ أن الرابطة الاقتصادية التي تربط دول الجماعة الفرنسية بباريس تظل بشكل كبير مُمثلة في استدامة منطقة الفرنك الفرنسي[7] في غرب إفريقيا ووسطها؛ الأمر الذي يعني رسوخ استغلال فرنسا لموارد الدول الأعضاء كوسيلة لا يُمكن الاستغناء عنها أو مراجعتها جذريًّا من قِبَل اليسار الفرنسي الفائز في الانتخابات. وثالثها؛ إن وصول اليسار جاء بالفعل بعد تراجعات كبيرة في نفوذ فرنسا في إفريقيا، على الأقل خارج نقاط ارتكازها في غرب إفريقيا والجابون، وهو الأمر الذي تدل عليه تصريحات مُتعددة من مسؤولين فرنسيين بعدم اهتمام بلادهم بقضايا الحوكمة والديمقراطية في الدول الإفريقية، ومن ثَمَّ فإن مهمة الحكومة الفرنسية الجديدة ستكون عسيرة للغاية على المديين القريب والمتوسط. ورابعها؛ التوجه التقليدي لليسار الفرنسي، وبحسب البرنامج الانتخابي الذي فاز به في الانتخابات الأخيرة، سيكون مؤكدًا على القضايا الداخلية لفرنسا بشكلٍ كبير، لاسيما خفض سن التقاعد، وإعادة النظر في ضريبة الثروة، وتحقيق مكاسب في قطاع الإسكان للطبقات المتوسطة والدنيا، ورفع أجور القطاع العام. وخامسها؛ لا يُتوقع تغيير يُذكر في المقاربة العسكرية والأمنية الفرنسية تجاه القارة الإفريقية في ظل الحكومة اليسارية الجديدة؛ إذ يُلاحَظ أن الحكومة الفرنسية أقدمت نهاية شهر يونيو الماضي على تكوين ما عُرفت بـ “القيادة الإفريقية” داخل القوات المسلحة الفرنسية؛ بغرض القيام بمهام متعددة؛ منها مراجعة الوجود العسكري الفرنسي في إفريقيا (أو إعادة توزيعه). وتؤكد هذه الخطوة، مع تفهُّم دوائر عمل القيادة الإفريقية من أجل تنشيط الوجود العسكري الفرنسي في دول جوار مالي والنيجر وبوركينا فاسو على وجه الخصوص، على مواصلة حكومة اليسار المتوقعة لسياسات القوات المسلحة الفرنسية في إفريقيا دون تعديلات تُذكَر، بينما تؤكد تقارير أخرى عزم القوات المسلحة الفرنسية خفض عدد جنودها في كوت ديفوار والجابون وتشاد في الشهور المُقبلة بناءً على طلب عدد من الدول. وسادسها؛ رغم نيل الجبهة الشعبية الجديدة الكتلة الأكبر في البرلمان الفرنسي؛ فإن حدود حرية حركتها تظل قائمة لاسيما في مجال صياغة سياسات إفريقية، فيما تظل للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون صلاحياته (ومن بينها: اختيار رئيس للوزراء من بين أكثر من مرشح)، ودوره في صياغة سياسات باريس بشكل واضح.[8]

الخُلاصة؛ بينما كان الوسطيون يخشون من أن يؤدي الصعود المُحتمل لليمين المُتطرف إلى الحكومة في فرنسا -ثاني أقوى اقتصاد في الاتحاد الأوروبي- إلى زعزعة الاستقرار الاقتصادي والسياسي وتقويض الدعم القوي الذي يقدمه الاتحاد لأوكرانيا؛ تنفس هؤلاء الصعداء بعد نتائج الانتخابات. ولكن على الرغم من إعلان النتيجة وحسم ملف الانتخابات التشريعية، إلا أن التحديات، التي يُمكن أن تواجه فرنسا لم تنتهِ بعد، فلا يزال خطر نجاح اليمين فيما فشل فيه هذه المرة واردًا، خاصة وأن مقاعده البرلمانية، حتى في ظل فشله في الحصول على ما كان يتمناه، في تزايد. من ناحية أخرى، لن تخلو الحكومة، التي سيتم تشكيلها وفقًا لهذه الظروف عبر ائتلاف واسع، من تناقضات أو اختلافات في وجهات النظر، ما يجعل البلد الذي يتطلع إلى تجربة حكم اليساريين يعيش حالة من عدم الاستقرار.

وبالنسبة لإفريقيا؛ فرغم أن فوز اليسار الفرنسي بالنصيب الأكبر في الانتخابات النيابية في فرنسا يُشير إلى احتمالات تغيير فرنسا سياساتها تجاه القارة الإفريقية، اتساقًا مع المبادئ المُفترضة في الحركة اليسارية الفرنسية (بأطيافها الشيوعية والاشتراكية)، ضد الاستغلال الدولي وممارسات فرنسا المعروفة داخل القارة؛ إلا أن التغيير في سياسات باريس يظل مسألة بالغة التعقيد ومحكومة باعتبارات عسكرية وأمنية (واستخباراتية) إلى جانب طائفة من الاستثمارات والمصالح الخاصة؛ الأمر الذي يُحتِّم خفض حجم التوقعات في هذا المسار لحدوده الدنيا في واقع الأمر.


[1] حفصة علمي، “من رئيس حكومة فرنسا القادم؟ محللون يعددون السيناريوهات المحتملة”، الجزيرة نت، 12/7/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/FXPjfVzs

[2] “صفعة لماكرون وبارديلا.. ماذا يعني زلزال اليسار الفرنسي؟”، عربية Sky News، 7/7/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/jh4HVp5r

[3] “ماذا يعني الفوز المدوي لتحالف اليسار في الانتخابات التشريعية الفرنسية بالنسبة لأوروبا؟”، euronews، 8/7/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/6pHIWcLN

[4] جواد الهنداوي، “قراءة أُخرى لنتائج الانتخابات الفرنسية: مَنْ الخاسر ومَنْ الفائز ولماذا؟، ساحة التحرير، 11/7/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/ckll2Nr5

[5] “المشهد الفرنسي بعد تقدم اليسار.. خيارات وتحالفات متوقعة”، عربية Sky News، 8/7/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/QXVV6oQs

[6] د. محمد عبد الكريم أحمد، “فوز اليسار الفرنسي وإفريقيا: تداعيات جديدة”، قراءات إفريقية، 14/7/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/DMvqgzaO

[7] تشمل 14 دولة ترتبط كلّ منها إما بالاتحاد الاقتصادي والنقدي الغرب إفريقي UEMOA أو بالجماعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا CEMAC.

[8] د. محمد عبد الكريم أحمد، مرجع سبق ذكره.

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022