شهدت بلدان بنغلاديش جنوبي آسيا، كينيا شرق أفريقيا، ونيجيريا غرب أفريقيا، شهدت هذه البلدان رغم تباعدها الجغرافي، احتجاجات متزامنة تقريبا؛ إذ بدأت الاحتجاجات الكينية في منتصف يونيو، فيما اندلعت الاحتجاجات البنغالية في الأول من يوليو، وجاءت احتجاجات نيجيريا في الأول من أغسطس.
جاءت الاحتجاجات كردة فعل وانعكاس على تدهور الأوضاع الاقتصادية، وارتفاع تكلفة المعيشة، وهي الأوضاع التي صاحبها غياب الشفافية وتفشي الفساد وغياب العدالة في توزيع الثروة، فضلا عن الاعتماد على القروض الخارجية، خاصة صندوق النقد، في تمويل العجز، ومن ثم الالتزام بوصفة الصندوق، القائمة بشكل رئيسي على تبني سياسات تقشفية، وعلى تحرير سعر العملة المحلية في مقابل الدولار.
وقد اتسمت الاحتجاجات التي شهدتها هذه البلدان بأن المكون الشبابي، مجموعات غير مسيسة، لم تتحرك وفق ولاءات قبلية أو عرقية أو ايديولوجية، كانت هي المحرك الرئيسي، فيما جاءت القوى السياسية التقليدية متأخرة، بما فيها الأحزاب السياسية؛ فقد كان الطلاب والحركات الاجتماعية هما نقطة الانطلاق. كما شهدت هذه الحالات الثلاث استخدام مكثف لوسائل التواصل الاجتماعي، في شرعنة الخطاب الاحتجاجي، وفي تسويقه بين فئات المجتمع، كما في الحشد والتعبئة، بل وفي التنسيق بين الفاعلين على الأرض وتنظيم تحركاتهم؛ وبصورة عامة في مختلف مراحل العمل الاحتجاجي.
جاءت الاحتجاجات بشكل مفاجئ، حتى وإن سبقتها موجات احتجاج أخرى خلال السنوات الماضية، لذلك عادة ما تتشكل الأطر المنظمة للاحتجاج في الشارع ومن الميادين، وتتسم هذه الأطر عادة بأنها ذات طابع شبكي وليس هيراركيًا، كما يغلب عليها غياب القيادة.
لكن ينبغي أيضا أن نشير إلى ملمح أخر مهم، وهو أن هذه البلدان تمتلك مجال سياسي نشط، ولديها فاعلين سياسيين يمتلكوا قوة حقيقية وفعالية على الأرض، بالتالي جاءت الاحتجاجات في بيئة مواتية، حتى وإن كان يعاني من بعض جوانب القصور.
ملمح أخير، يتعلق باستجابة الحكومات لمطالب المحتجين، التي تأتي عادة متأخرة، وبعد استنفاذ الحلول الأمنية، مع المماطلة بقصد كسب مزيد من الوقت[1]، ما يقود بدوره إلى رفع سقف مطالب المحتجين، واتساع رقعة الاحتجاجات؛ فالاحتجاجات تبدأ اعتراضا على قرار بعينه لكن سرعان ما تكتسب منضمين جدد؛ هذه المجموعات والشرائح الجديدة الملتحقة بالمشهد الاحتجاجي تأتي بمطالبها ومظالمها، ما يوسع من حجم المطالب ويرفع سقفها، ويغذي آمال التغيير لدى المتظاهرين الشباب، ويقلل من قدرة السلطة على المناورة.
نستعرض في السطور التالية مشهد الاحتجاجات في الدول الثلاث، ونسأل في النهاية عن مدى إمكانية تكرار هذا السيناريو في مصر؛ مع تشابه المقدمات، سواء على صعيد ارتفاع تكلفة المعيشة، ومعدلات التضخم غير المسبوقة، خاصة فيما يتعلق بالسلع الأساسية والمواد الغذائية، أو على مستوى غياب الشفافية وتفشي الفساد وغياب العدالة في توزيع الثروة، وبالتأكيد الاستناد إلى القروض في تمويل العجز، ومن ثم تبني روشتة صندوق النقد الدولي، القائمة على تبني سياسات تقشفية، وعلى تحرير سعر العملة المحلية، والخصخصة.
احتجاجات بنغلاديش:
شهدت بنغلاديش احتجاجات طلابية وشعبية بدأت في الأول من يوليو 2024، بعد 6 شهور من انتخاب الشيخة حسينة واجد للمرة الرابعة على التوالي.
مشهد الاحتجاجات في بنغلاديش جاء للتنديد بارتفاع معدلات البطالة، التي وصلت نسبتها إلى أكثر من 18 مليون شاب عاطل عن العمل، هذا في الوقت الذي ينجم عن نظام المحاصصة المتبع هناك، أن تذهب 56% من الوظائف الحكومية إلى فئات مختلفة، حيث تخصيص 30% لأفراد عائلات المقاتلين الذين شاركوا في حرب الاستقلال عن باكستان عام 1971، و10% للنساء و10% للأشخاص من المناطق المتخلفة في النمو و5% للسكان الأصليين و1% لذوي الإعاقة[2]، وهو ما ترى فيه قوى الاحتجاج قسمة غير عادلة؛ وقد جاءت الاحتجاجات الأخيرة ردًا على قرار المحكمة العليا في بنغلاديش، في الخامس من يونيو الماضي، بعودة العمل بنظام الحصص، بعد تجميده في 2018 بعد احتجاجات منددة حينها[3].
ليست البطالة وحدها، ومتلازماتها من فقر وجوع وحرمان وتفاوت طبقي، هي التي دفعت المجتمع البنغالي للانفجار؛ فإن إطلاق يد الشرطة والجيش في ملاحقة خصوم النظام، توسع القضاء في استصدار أحكام الإعدام والسجن، فضلا عن شيطنة المعارضين، كلها عوامل أسهمت في دفع المشهد السياسي في بنجلاديش إلى الانفجار.
رد فعل الحكومة على السخط الشعبي والاحتجاجات التي تشعل الشارع لم يتخلف عن المسار الذي تتبعه السلطويات عادة؛ حيث استخدام العنف المكثف والسافر في قمع المحتجين، وهو ما أسفر عن مقتل أكثر من 300 شخص، إصابات بالآلاف، فضلا عن حملات الاعتقال المكثفة للنشطاء، التي طالت ما لا يقل عن 5500 شخص، “وقد نشرت الحكومة 27 ألف جندي في جميع أنحاء البلاد، مع فرض حظر التَّجْوال وقطع خدمات الإنترنت”، فضلا عن الاستجابة الجزئية للمطالب بهدف امتصاص غضب الشارع وإجهاض حراكه؛ كل هذه الممارسات ألقت بالمزيد من الزيت على نار السخط الشعبي. وقد أسفرت الاحتجاجات عن تنحي الشيخة حسينة، على أن تتولى حكومة مؤقتة تضم جميع الأحزاب السياسية إدارة البلاد، حسبما أعلن قائد الجيش، واكر الزمان[4].
الاحتجاجات التي بدأت بحراك طلابي مناهض لنظام الحصص الوظيفية، تطور فيما يشبه كرة الثلج، واستقطب معظم فئات المجتمع، من مهنيين ومنظمات مجتمع مدني وأحزاب سياسية، كما اتسعت رقعة انتشاره جغرافيا، وقد استخدم المحتجين “أدوات اقتصادية” في الضغط على الحكومة؛ إذ تم دعوة المغتربين -عبر وسائل التواصل الاجتماعي- إلى تجميد التحويلات المالية، وتقدر بـ 2 مليار دولار شهريا، فضلا عن الدعوة إلى العصيان المدني والإضراب عن العمل[5].
احتجاجات كينيا:
اندلعت الاحتجاجات الكينية في 18 يونيو 2024، في نحو 35 مُقاطعة من إجمالي 47 مقاطعة في كينيا، بقيادة الطلاب من أبناء “الجيل زد”، لكنها بدأت تأخذ منحى عنيفا بعد أسبوع تقريبا من اندلاعها؛ مع استخدام الشرطة للعنف المفرط والرصاص الحي في استهداف المتظاهرين، ما أسفر عن مقتل وإصابة العشرات، وما دفع بدوره المحتجين للتصعيد، فقاموا باقتحام مقر البرلمان الكيني وإحراقه[6].
جاءت الاحتجاجات الكينية على خلفية مشروع قانون -قانون المالية- يهدف إلى فرض ضرائب إضافية؛ بقيمة 2.7 مليار دولار، على عدد من السلع والخدمات الأساسية؛ بغرض خفض عبء عجز الموازنة وسداد الديون؛ وهو ما كان سيؤثر بدوره، بالسلب، على التكاليف المعيشية للمجتمع الكيني. خاصة أن مشروع القانون يأتي في وقت شهد تراجع قيمة الشلن الكيني مقابل الدولار الأمريكي، بنسبة 22% منذ عام 2022؛ ما تسبب في ارتفاع أسعار المواد الغذائية والنقل والطاقة، في حين ظل الدخل على حاله إلى حد كبير[7].
شهدت الفترة الأخيرة تراجع الاحتجاجات في كينيا بصورة كبيرة؛ بعد تراجع الرئيس عن التصديق على مشروع القانون، وتشكيل حكومة جديدة ضمت 12 وزيرًا، منهم 4 وزراء من المعارضة و5 من المستقلين التكنوقراط، ووعود الرئيس بـ “تشكيل لجنة لمراجعة الديون وزيادة الوظائف للشباب”، لكن يبقى قوس المستقبل مفتوح الاحتمالات، ونذكر هنا أن في وقت الذي شهد تأدية الحكومة للقسم، في 8 أغسطس 2024، كانت هناك احتجاجات شبابية جديدة، وإن كانت أقل زخما من سابقاتها[8].
احتجاجات نيجيريا:
الأمر ذاته نجده في نيجيريا؛ إذ قادت ارتفاع أسعار السلع الأساسية، وسوء الأحوال المعيشية، ومستوى التضخم الذي وصل نحو 34.2%، فيما وصل تضخم أسعار المواد الغذائية حد الـ 40%، وتضاعفت أسعار البنزين 3 مرات في البلاد.
ومع تبني الرئيس النيجيري، بولا تينوبو، لمشروطيات مؤسسات التمويل الدولية، والتي بموجبها قررت الحكومة تطبيق إجراءات تقشفية تشمل تخفيض دعم الوقود وكذلك خفض قيمة العملة النيجيرية نيارا المثبتة أمام الدولار[9]، قاد ذلك إلى انتشار دعوات النزول للشارع على مواقع التواصل الاجتماعي، مع بداية شهر أغسطس 2024، وهو ما استجاب له الناس.
وقد صاحب الاحتجاجات دعوات إلى تدخل المؤسسة العسكرية، ورفع متظاهرين أعلام روسيا؛ في إشارة إلى دعم موسكو عدد من الانقلابات العسكرية في وَسَط وغرب أفريقيا. وقد أسفرت الاحتجاجات عن مقتل ما لا يقل عن 13 متظاهرًا بأيدي قوات الأمن، فضلا عن القبض على أكثر من 700 متظاهر[10].
مستقبل الوضع السياسي في مصر:
هل يمكن أن نشهد تكرار ذات المشهد الاحتجاجي في مصر، في ظل تشابه الأوضاع المعيشية والاقتصادية، وحالة السخط الشعبي على السياسات الحكومية وتداعياتها السلبية؟
تتشابه مصر مع دول الاحتجاجات في الأوضاع الاقتصادية الصعبة والمتدهورة، والوضع السياسي الخانق، وتتشابه معها في الطبيعة الشابة للمجتمع المصري؛ إذ طبقًا لبيانات وإحصاءات السكان في مطلع عام 2023، بلغ عدد الشـباب في مصر في الفئة العمرية من 18 إلى 29 عامًا 21.9 مليون نسمة[11].
لكن تختلف عنها من حيث البنية الاستبدادية للنظام السياسي المصري، فالنظام في مصر يجمع بين نخبة حكم عسكرية، ويستند إلى منظومة بوليسية، وحلول أمنية، في التعامل مع مشكلات السياسة والاقتصاد والاجتماع. فقد تم خنق المجال العام، وإسكات كل الأصوات المعارضة، وتهميش القُوَى السياسية، وتفريغ المجال السياسي من فاعليه، وتجريم كل النشاطات السياسية وصور التعبير الحر، حي تم تجريم التظاهر بدون تصريح، واستخدام قوانين الإرهاب في استهداف المعارضين.
يظل التغيير في مصر ممكن؛ لكن تكلفته عالية، وسيتعامل معه النظام القائم بكل عنف؛ عنف يقود إلى سيناريو من إثنين؛ إما إجهاض محاولات التغيير، أو انقسام النظام على نفسه؛ جراء ضغط قوى التغيير.
[1] عمار ياسين، إرهاصات جيل ما بعد الألفيّة: قراءة في موجة الاحتجاجات الشعبيّة في كينيا وأوغندا ونيجيريا، قراءات إفريقية، 29 يوليو 2024، في: https://tinyurl.com/275zdrcz
[2] أمين حبلا، الشيخة حسينة.. رحلة امرأة حكمت بنغلاديش بالنار والحديد ودماء العلماء، الجزيرة نت، 5 أغسطس 2024، في: https://tinyurl.com/2bzmucmh
[3] محمد عزت، هل تُسقط ثورة طلاب بنغلاديش عرش المرأة الحديدية؟، الجزيرة نت، 28 يوليو 2024، في: https://tinyurl.com/2a7q5xnt
[4] مدى مصر، 5 أغسطس 2024، أنظر: https://tinyurl.com/25kyjl4u
[5] محمود قاسم، المشهد الأخير! وقائع وتداعيات السقوط السريع لـ”سيدة بنغلاديش الحديدية”، مركز المستقبل، 7 أغسطس 2024، في: https://2u.pw/ealVKHch
[6] مركز المستقبل، “الجيل زد”: لماذا تستمر الاحتجاجات في كينيا رغم التراجع عن زيادة الضرائب؟، 8 يوليو 2024، في: https://2u.pw/m1UNqYxK
[7] الجزيرة نت، في 5 أسئلة.. لماذا تستمر احتجاجات كينيا رغم التراجع عن زيادة الضرائب؟، 27 يونيو 2024، في: https://2u.pw/Ztmmved8
[8] أمينة محمد حسين، كيف غير “جيل زد” كينيا إلى الأبد؟، الجزيرة نت، 12 أغسطس 2024، في: https://2u.pw/M0XjEfLL
[9] الموقف المصري (فيس بوك)، **نيجيريا على خطى كينيا.. الشعب يدافع عن حقوقه في مواجهة “الإصلاح الاقتصادي”**، 8 أغسطس 2024، في: https://tinyurl.com/2xpvgz73
[10] الجزيرة نت، رئيس نيجيريا يدعو لوقف الاحتجاجات والشرطة تعتقل عشرات المتظاهرين، 4 أغسطس 2024، في: https://tinyurl.com/28md2gsb
[11] معاذ زكريا، الشباب يمثلون 21% فقط من المصريين وليس 67%، تفنيد، 6 أبريل 2024، في: https://tinyurl.com/273uu2sw