تقع جمهورية الكونغو الديمقراطية في وسط إفريقيا، حيث يحدّها في الغرب الساحل الأطلسي القصير وجيب كابيندا الأنغولي، وجمهورية الكونغو (برازافيل)، وتحدّها من الشمال جمهورية إفريقيا الوسطى وجنوب السودان، ومن الشرق أوغندا ورواندا وبوروندي وتنزانيا، وفي الجنوب الشرقي زامبيا، وفي الجنوب الغربي أنغولا، وإلى الغرب يوجد الساحل الأطلسي القصير للبلاد. وتُعدّ الكونغو الديمقراطية ثاني أكبر دولة في قارة إفريقيا (بعد الجزائر). وتتمتَّع البلاد بموارد طبيعية استثنائية، بما في ذلك المعادن مثل الكوبالت والنحاس، وإمكانات الطاقة الكهرومائية، والأراضي الكبيرة الصالحة للزراعة، والتنوع البيولوجي الهائل، وثاني أكبر غابة مطيرة في العالم. وتشهد الكونغو الديمقراطية منذ استقلالها عن بلجيكا في عام 1960 حالات عدم الاستقرار الناتجة عن المعارك على السلطة، والتي بلغت ذروتها باغتيال “باتريس لومومبا” والحكم العسكري الذي دام ثلاثة عقود تحت قبضة عهد “موبوتو سيسي سيكو”. وفي السنوات الأخيرة تصاعدت أعمال العنف والتي تشمل الاشتباكات بين الجماعات المسلحة على الأراضي والموارد الطبيعية، وعمليات القتل خارج نطاق القضاء على أيدي قوات الأمن، والعنف السياسي. وقد استقطبت الأزمة في شرق الكونغو الديمقراطية أكبر الاهتمام في الشهور الأخيرة، حيث تشارك فيها عدة جبهات مسلحة وأطراف إقليمية، بما في ذلك رواندا وأوغندا المجاورتان. فما هي خلفيات الأزمة التي تشهدها الكونغو الديمقراطية في الوقت الحالي؟ وما هي أسبابها؟ وكيف تطورت؟ وكيف يُمكن احتوائها؟ تلك هي التساؤلات التي سنسعى للإجابة عليها خلال هذا التقرير..
خلفيات الأزمة: تاريخ الكونغو الديمقراطية هو سلسلة من الاضطرابات والنزاعات السياسية والعسكرية المتتالية، والتي يزكّيها البُعد الإثني والتباين الفكري الذي أوقدت جذوته دول المركز، أو القوى الكبرى في العالم. وترجع جذور كل هذه الصراعات إلى التنافس الدولي والإقليمي حول الموارد الهائلة لهذا البلد الساحر، الذي أصبح ثراؤه نقمة ولعنة عليه. لقد كانت حقبة الاستعمار البلجيكي للكونغو واحدة من أسوأ صفحات تاريخ هذا البلد المنكوب، وفي الواقع كانت الكونغو أكثر من مستعمرة، فقد اعتبرها الملك “ليوبولد الثاني” ضيعة خاصة له، وسخر مواردها الهائلة لتعظيم ثروته الشخصية. إلا أن مرحلة ما بعد الاستقلال لم تكن أحسن حالًا، حيث احتدم الصراع بين الشرق والغرب للسيطرة على البلاد، وكان صراعًا بلا رحمة.[1] وتعود أزمة شرق الكونغو الديمقراطية إلى الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، حيث أعمال العنف واسع النطاق وحملة الإبادة ضد توتسي والمعتدلين من الهوتو دفعتا مليوني شخص إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية المجاورة، واستقر معظمهم في مخيمات اللاجئين في مقاطعتي شمال كيفو وجنوب كيفو. وكانت مجموعة صغيرة من الروانديين الذين دخلوا الكونغو الديمقراطية من متطرفي الهوتو وبدءوا تنظيم الميليشيات داخل الكونغو الديمقراطية. أدى ما سبق إلى وقوع حرب الكونغو الأولى في عام 1996، حيث غزت رواندا وأوغندا شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية في محاولة للقضاء على مرتكبي الإبادة الجماعية المتبقين الهاربين. وهذه المحاولة تزامنت مع انهيار الكونغو الديمقراطية نتيجة حكم “موبوتو سيسي سيكو”. وبالفعل تمكّن تحالف مؤلّف من الجيشين الأوغندي والرواندي، إلى جانب زعيم المعارضة الكونغولية “لوران ديزيريه كابيلا”، من هزيمة “موبوتو”، وأصبح المعارض السياسي “لوران كابيلا” في مايو 1997 رئيسًا للكونغو الديمقراطية. وقعت حرب الكونغو الثانية في عام 1998، حيث طلب “لوران ديزيريه كابيلا” من القوات الرواندية والأوغندية مغادرة شرق الكونغو الديمقراطية خوفًا من سيطرتهما على الإقليم الغني بالمعادن وضمّهما إياها إلى أراضيهما. وهذا القرار سمح لجماعات الهوتو المسلحة بتنظيم نفسها على الحدود مرة أخرى، لترد رواندا بغزو الكونغو الديمقراطية بهدف مُعلن مُتمثِّل في إنشاء منطقة في المناطق الحدودية تُسيطر عليها القوات الرواندية الخاصة لخلق مسافة أكبر من مليشيات الهوتو في شرق الكونغو الديمقراطية. وقد شارك في هذه الحرب أنغولا وناميبيا، وزيمبابوي، وإريتريا، والسودان. في عام 2001 اغتِيل الرئيس “كابيلا”، وعُيّن ابنه “جوزيف كابيلا” رئيسًا للكونغو الديمقراطية. ووُضِعت سلسلة من الاتفاقات لتهدئة الأوضاع، بما في ذلك اتفاق إبريل 2002، واتفاق بريتوريا في يوليو 2002 بين رواندا والكونغو الديمقراطية، واتفاق لواندا بين أوغندا والكونغو الديمقراطية والذي أنهى الحرب رسميًا حيث تولَّت الحكومة الانتقالية للكونغو الديمقراطية السلطة في البلاد في يوليو 2003. وتشمل الاتفاقات أيضًا دمج بعض الحركات المسلحة في الجيش الوطني الكونغولي. وفي عام 2008، تعاونت الكونغو الديمقراطية ورواندا للقضاء على “القوات الديمقراطية لتحرير رواندا” في مقاطعتي جنوب وشمال كيفو. كما أن رواندا اعتقلت زعيم “المؤتمر الوطني للدفاع عن الشعب”، ووضعته تحت الإقامة الجبرية كجزء من اتفاق كيغالي مع الكونغو الديمقراطية.[2]
تجدُّد الأزمة: في أواخر عام 2021، وبعد تمكُّن “إم 23” من اجتياح القوات الكونغولية المدعومة من الأمم المتحدة، نشبت الخلافات من جديد بين الكونغو الديمقراطية ورواندا. وتنامت الخلافات في عام 2022، حتى دعا الرئيس الكونغولي فيليكس تشيسكيدي مواطني بلاده إلى التجنيد ضد “العدوان الرواندي” في إقليم روتشورو. وقال تشيسكيدي إن رواندا وضعت نصب عينيها “مصادرة معادننا”. وكان قد طرد السفير الرواندي “فنسنت كاريغا”، وقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، متهمًا رواندا بتنفيذ طموحات توسعية برعاية قوى عظمى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا. واستند تشيسكيدي إلى ما ورد في تقرير لخبراء الأمم المتحدة بأن لقطات بطائرة مسيرة، كشفت عن وجود أفراد يرتدون زي الجيش الرواندي في معسكرات حركة “23 مارس”. ورفضت رواندا هذا الاتهام، وقالت إن طائرة مقاتلة كونغولية انتهكت المجال الجوي الرواندي، عندما هبطت لفترة وجيزة في مطار روبافو غرب رواندا على الحدود الكونغولية، كما وجَّهت اتهامًا لكينشاسا بالتواطؤ مع “حركة تمرد الهوتو” المُتمركزة في الكونغو. وأوردت الحكومة الكونغولية في بيانها أن “الدعم الأجنبي قد يكون مسؤولًا عن حصول مقاتلي حركة 23 مارس على إمدادات ثابتة من الذخيرة والقدرة على إطلاق قذائف الهاون لساعات عدة متتالية”. ولكن حركة “23 مارس” ظلت ترفض تقارير “مفوضية حقوق الإنسان”، ونفت قتلها 29 مدنيًا في روفومو شرق الكونغو الديمقراطية، بل اتهمت جماعة مسلحة من الهوتو “القوات الديمقراطية لتحرير رواندا”[3] بتنفيذ العملية. وبعد إنعاش تجمع دول شرق إفريقيا لتوسيع وتعميق التعاون في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وإقامة كتلة اقتصادية إقليمية كبيرة ذات تأثير اقتصادي في المنطقة، فتحت الكونغو الديمقراطية شرقها لأسواق جديدة ومستثمرين من كينيا وتنزانيا وجنوب السودان. هذا الوضع التكاملي الذي خطَّط لربط مدينة غوما في شرق الكونغو الديمقراطية بالعاصمة الأوغندية كمبالا، سيتجاوز الجارة رواندا ويحد من هيمنتها على طريق التجارة الذي كان يربط كينشاسا بشرق إفريقيا. لذا قامت رواندا بإغلاق معبر جاتونا الحدودي منذ عام 2019، مما عطَّل التجارة الرسمية للدولة، وفاقم نشاط التهريب عبر منافذ أخرى. إلى جانب العاصمة كينشاسا، هناك مدينتان كبيرتان هما لبومباشي ومبوجي مايي تنشطان في التعدين وتصدير خام النفط وغيره خصوصًا إلى الصين، التي تستحوذ على نحو 50% من البضائع المُصدَّرة من جمهورية الكونغو الديمقراطية. وإضافةً إلى تأثير حراك الجماعات المتمردة على الوضع السياسي والاقتصادي والتصدير عبر دول الجوار، فإن الخلافات بين رؤساء هذه الدول ألقت بظلالها أيضًا على مُجمل الأوضاع. فبينما يوجد تقارب ملحوظ بين الرئيسين الكونغولي “فيليكس تشيسكيدي”، والأوغندي “يوري موسيفيني”، فإن هناك عدم توافق ملحوظ بين الرئيسين الأوغندي والرواندي على رغم علاقتهما السابقة كرفيقي سلاح في حقبة الثمانينيات، إلا أن اتهاماتهما المتبادلة بشأن دعمهما الجماعات المنشقة في بلديهما باعدت بينهما، مما أثَّر من ناحية أخرى على علاقة كاغامي بتشيسكيدي. مع ذلك، يُصر الرئيس الكونغولي على المسار العسكري، إذ فرض حالة حصار في منطقة إيتوري وكيفو الشمالية، ووضع المقاطعتين تحت السيطرة العسكرية، ودعا القوات الأوغندية والبوروندية إلى العمل معه، بعد تفجير المتمردين في يومي 24 و25 مايو.[4]
أطراف الأزمة: تتداخل تأثيرات مجموعة من الأطراف للتصعيد من حدة الأزمة في الكونغو الديمقراطية؛ فعلى مستوى الداخل الكونغولي؛ تنشط أكثر من 200 جماعة متمردة مسلحة في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية الغنية بالمعادن، ولكن أربع حركات منها تُعتبر الأكثر نشاطًا في المنطقة: أولها؛ القوات الديمقراطية لتحرير رواندا: وهي جماعة مُتمردة مسلحة تنشط في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية ومُكونة من إثنية الهوتو التي تُعارض نفوذ التوتسي في رواندا. وتأسَّست نتيجة اندماج مجموعات من اللاجئين الروانديين في سبتمبر 2000، بما في ذلك “جيش تحرير رواندا”، وكانت نشطة في أواخر حرب الكونغو الثانية والصرعات اللاحقة في كيفو. وثانيها؛ قوات المؤتمر الوطني للدفاع عن الشعب: والتي تأسَّست من قِبل مقاتلين سابقين من “التجمع الكونغولي من أجل الديمقراطية”. ومن خلال “المؤتمر الوطني للدفاع عن الشعب” خرجت حركة “إم 23” التي تتكوَّن بشكل رئيسي من إثنية التوتسي، وتقاتل الجيش الكونغولي بعنف من أجل السيطرة على غوما والمنطقة المُحيطة بها منذ سنوات عديدة. وثالثها؛ القوات الديمقراطية المتحالفة: وهي منظمة إرهابية تابعة لتنظيم داعش، وقد تأسَّست في عام 1996 في غرب أوغندا وزعمت في البداية أنها تقاتل من أجل إقامة دولة إسلامية في أوغندا حيث تتراوح نسبة بين 15 و35% من السكان. وتوسَّعت لاحقًا إلى الكونغو الديمقراطية المجاورة، حيث تنشط في مقاطعة شمال كيفو بالقرب من الحدود مع أوغندا. انقطعت الأخبار عن الحركة من عام 2001 حتى عام 2013 عندما عادت إلى الساحة لتواصل هجماتها الدامية إلى اليوم رغم جهود الجيش الأوغندي وحملات الجيش الكونغولي ضد مقاتليها. ورابعها؛ قوات تعاونية تنمية الكونغو: التي تأسَّست في عام 1999 خلال حرب الكونغو الثانية، وتنشط في مقاطعة إيتوري بشرق جمهورية الكونغو الديمقراطية. وقد بدأت كتعاونية زراعية قبل أن تنخرط في الدفاع عن إثنية ليندو بدعوى أن الإثنية خاضعة لهيمنة غير عادلة من إثنية هيما. وسكنت الأخبار عن الجماعة قبل أن تعود في عام 2017 بشن هجمات، حيث واصلت منذ ذلك الحين مهاجمة المدنيين المحليين وقوات الجيش الكونغولي، إضافةً إلى استهداف مناجم الذهب وغيرها. وعلى مستوى الإقليم؛ اتهمت تقارير كثيرة كلًّا من أوغندا ورواندا بزعزعة استقرار الكونغو الديمقراطية في محاولة للسيطرة على الموارد الطبيعية في المنطقة. وقد كان الذهب في قلب الخلاف عند الحديث عن أزمة شرق الكونغو الديمقراطية والمستفيدين منها خاصةً بين أوغندا ورواندا والكونغو؛ إذ الذهب مصدر مهم للعملة الأجنبية لرواندا، والنسبة الكبرى من ذلك الذهب يأتي من شرق الكونغو. وقد أشار الكثير من الكونغوليين إلى أن تصرُّفات رواندا في شرق الكونغو الديمقراطية توحي بأن كيغالي تعتبر المنطقة جزءًا من منطقة نفوذها. وفي خطوة مفاجئة لرواندا أرسلت أوغندا قواتها إلى شرق الكونغو الديمقراطية في هجوم مشترك مع الجيش الكونغولي ضد متمردي القوات الديمقراطية المتحالفة في نوفمبر 2021. وفي وجهة نظر الكثير من المحللين كانت هذه العملية وخاصةً تدخُّل أوغندا ما أدى إلى ظهور حركة “إم 23” (وليس عدم تنفيذ اتفاقية السلام من قِبل الحكومة الكونغولية كما تزعم الحركة).[5]
نشأة حركة 23 مارس: شهدت جمهورية الكونغو الديمقراطية حربين أهليتين الأولى من 1993 إلى 1996 مُتأثرة بالإبادة الجماعية في رواندا، والثانية من 1997 إلى 1999. وعلى رغم انتهاء الحرب الأهلية هناك، فإنها خلفت أكثر من 100 حركة متمردة، برزت منها ثلاث هي “تحالف القوى الديمقراطية لتحرير الكونغو” و”التجمع من أجل الديمقراطية الكونغولية” و”المؤتمر الوطني للدفاع عن الشعب”، ونتجت عن تحالفها حركة “23 مارس” التي تُعرف باسم “الجيش الثوري الكونغولي”. تكوَّنت حركة “23 مارس” من “اتحاد الوطنيين الكونغوليين”، وهي جماعة سياسية بميليشيا تابعة لها سيطرت على منطقة شمال شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، أسَّسها “توماس لوبانغا” في عام 2001، ثم تزعمها “بوسكو نتاغاندا”، وفي الفترة من 2002 إلى 2005، قالت تقارير “مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان” إن قوات هذه الجماعة ارتكبت كثيرًا من الانتهاكات ضد قوات حفظ السلام ومعارضين سياسيين. تمكَّنت حركة “23 مارس” التي تُهيمن عليها إثنية التوتسي، وأسَّستها عام 2006 من الفوز بثلاثة مقاعد في الانتخابات العامة لذلك العام، إلا أن خلافاتها مع الحكومة لم تنته. وبعد توقيع اتفاق سلام في 23 مارس 2009 اتخذت الحركة من تاريخ الاتفاقية اسمًا لها، وكان الاتفاق ينص على دمج الحركة في الجيش الكونغولي، ولكن الحركة ركَّزت وجودها في مناطق النفط والذهب، ونشبت الخلافات بينها وبين الجيش مرة أخرى، واتهمت كينشاسا بعدم احترام الاتفاق حول تسريح مقاتليها وإعادة دمجهم. وعلى إثرها اتهمت الحكومة الجنرال “بوسكو نتاغاندا” زعيم الحركة بقيادة تمرد ضدها وزعزعة استقرار البلاد. مما دفع بجنوده المدمجين في الجيش الكونغولي إلى قيادة انقلاب مدعوم من رواندا، وشن هجمات عدة ضد القوات الحكومية من منطقة روتشورو وبوناغانا على الحدود مع أوغندا في يونيو 2012. تقدَّمت حركة “23 مارس” المعروفة اختصارًا باسم “إم 23” إلى شرق البلاد، ونشرت قواتها في مقاطعة كيفو. ومن عاصمة المقاطعة غوما التي تُعد من أكبر مدن الجمهورية، استولت الحركة على مساحات شاسعة من الأراضي وأجَّجت التوتر على طول بحيرة كيفو في المنطقة. وشنَّت هجماتها على القوات الأمنية بالقرب من القاعدة العسكرية رومانجابو التي تُشكِّل لها رمزية تاريخية، إذ كانت المقر الرئيس للمتمردين بعد استيلائهم عليها خلال موجة التمرد في عامي 2012 و2013.[6]
عودة الحركة إلى الواجهة: حول عودة الحركة إلى النشاط بعد توقف دام 10 سنوات، قال المتحدث باسم الحركة “لوارنس كانيوكا”: “إننا لم نتحول إلى حركة غير نشطة، أوقفنا القتال فقط لأننا كنا ننتظر تنفيذ الإعلان المُوقَّع في 12 ديسمبر 2013 في نيروبي، لكن بعد 14 شهر من التفاوض في كنشاسا مع حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية تعرضنا لهجوم مُباغت من قِبل قوات الحكومة”. وعن أهم نقاط الخلاف في تلك المفاوضات قال كانيوكا “نحن اقترحنا على الحكومة المساعدة في تحييد مجموعات من قوات التحالف الديمقراطية والقوات الديمقراطية لتحرير رواندا ومليشيا الماي ماي المسؤولة عن انعدام الأمن، وعرضنا تعاونًا عسكريًا وسياسيًا، وبينما نحن في حالة التفاوض فوجئنا بقوة هاجمت مقراتنا وقتلت 50 من حركتنا، وعندما حاولنا التواصل مع الحكومة لمعرفة التفاصيل لم نجد رد، وقررنا البدء في الرد على الهجمات”. وقاد الحركة في طورها الجديد “سلطاني ماكينغا” الذي تحرك من أوغندا ومعه مجموعة كبيرة من أتباعه، وتمركز في المثلث الحدودي بين أوغندا ورواندا والكونغو الديمقراطية. وبحلول عام 2022 أصبحت الحركة واحدة من 120 جماعة مسلحة في شرق الكونغو، وكان لرفض الجيش الكونغولي أي تفاوض مع الحركة وقيادتها بشأن هجوم مضاد دور في تصاعد حدة المواجهات العسكرية وتعثّر الحلول التفاوضية على الرغم من الجهود التي بذلتها مجموعة شرق إفريقيا. واستمرت حالة الكر والفر حول مدن شرق الكونغو بين الحركة والجيش الكونغولي، ولكن ما أثبتته التقارير الدولية هو أن “إم 23” حقَّقت تقدُّمًا كبيرًا ونجاحات بارزة، ووصفت كبيرة مسؤولي الأمم المتحدة في جمهورية الكونغو الديمقراطية “بينتو كيتا” الحركة بأنها “جيش تقليدي وليست مجموعات مسلحة”، في إشارة إلى المستوى الاحترافي الذي وصلت إليه الحركة. كما أن المسؤولة حذرت من أن تتجاوز قدرات الحركة إمكانية بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في الكونغو الديمقراطية. ومنذ بداية عام 2024 وفي تقارير وثَّقتها عدد من الجهات المُختصة شنت الحركة أكبر عدد من المعارك في تاريخها، ووسَّعت مساحات سيطرتها بشكل غير مسبوق. ومع تصاعُد العدائيات بين الجيش الكونغولي والحركة اتهم الجيش كيغالي بإرسال قوات خاصة إلى مناطق النزاع في المناطق المتاخمة لرواندا، زاعمًا أن الجارة نشرت جنود روانديين في إقليم شمال نورد كيفو الذي يقع على الحدود. وصرَّح الرئيس الكونغولي “فيليكس تشيسيكيدي” عبر الفضائية الرسمية بأنه “ليس هناك شك في أن رواندا دعمت حركة إم 23 لتأتي وتُهاجم جمهورية الكونغو الديمقراطية”. وفي نهاية 2022 اتهمت الكونغو رواندا مُجددًا عبر بيان أصدره باتريك موبايا وزير الإعلام والمتحدث الرسمي باسم الحكومة اتهم فيه الرئيس الرواندي “بول كاغامي” شخصيًا، إذ قال إن “كاغامي يتبنّى موقفًا يُوضح بشكلٍ كافٍ إستراتيجيته المُتمثِّلة في التدخل الدائم بالشؤون الداخلية لجمهورية الكونغو الديمقراطية للحفاظ على مناخ الرعب في شرق هذه الدولة الشاسعة”.[7]
وهكذا يُمكن تلخيص أسباب الأزمة الحالية في الكونغو الديمقراطية في مجموعة من الأسباب الداخلية والخارجية. أسباب داخلية: وتتلخص في مجموعة من الأسباب. أولها؛ النزاع على الأرض؛ حيث تفاقم الوضع بسبب الضغط الديموغرافي الذي نشأ عن التهجير القسري بعد أعمال الإبادة الجماعية الناتجة عن أعمال العنف التي حدثت عام 1994. فمازال العديد من اللاجئين القادمين من روندا وبوروندي مقيمين في الإقليم مما يخلق نزاعات بين بعضهم البعض من جهة؛ وبينهم وبين الجماعات المحلية من جهة أخرى. الأمر الذي يسفر عن أعمال عنف تنعكس على العلاقات بين الدول. وثانيها؛ الانتخابات؛ تتمتع حركة “إم 23” بدعم شعبي في إقليم كيفو؛ لذا هناك تخوف من استخدام الرئاسة في الكونغو هذا الاضطراب كحجة لتعليق الانتخابات الرئاسية عام 2023 في الإقليم، حيث يفضل الناخبون هناك المعارضة إلى حدٍّ كبير. وثالثها؛ الثروات المعدنية؛ فشمال كيفو غنية بالمعادن مثل الذهب والكولتان والنفط؛ لذا يتم تهريب ما يصل إلى 90% من ذهب الكونغو إلى دول الجوار. وتتمركز الجماعات المسلحة بما في ذلك الشبكات الإجرامية المتصلة بالجيش الكونغولي لتستفيد أحيانًا من التجارة ومن تسهيل التهريب. ورابعها؛ السعي للانتقام؛ الذي تزايد حدته بعد إغلاق رواندا المفاجئ لمعبر جاتونا الحدودي في فبراير 2019 مما تسبَّب في وقف التجارة في شرق إفريقيا كله. أسباب خارجية: وتشمل أيضًا مجموعة من الأسباب: أولها؛ عدم الوضوح في مسألة تواجد القوات الأوغندية في شمال الكونغو حيث قدَّمت السلطات الكونغولية والأوغندية العملية كتمرين عسكري مشترك. ونفس الحال حدث مع بوروندي التي صاحب توغل جنودها في جنوب كيفو السرية التامة. وبالتالي استشعر الرئيس كاجامي الخطر من تحركات جيرانه على حدوده دون الإفصاح لا عن الهدف ولا المدة ولا الأسباب. وثانيها؛ عدم التوافق بين الرئيسين الأوغندي والرواندي أثر جزئيًا على علاقة كاجامي بتشيسيكيدي؛ نظرًا للتقارب بين تشيسيكيدي ويويري موسيفيني، فالرئيسان الرواندي والأوغندي زملاء سلاح منذ الثمانينيات تفرقت بهم السبل لاحقًا. وثالثها؛ الظهور المفاجئ لحركة “إم 23″، وعلاقات الحركة السابقة بكلٍّ من كمبالا وكيجالي. ورابعها؛ إصرار الرئيس الكونغولي على المسار العسكري وسعيه إلى إخضاع الجماعات المسلحة بالقوة؛ فرض حالة حصار في إيتوري وكيفو الشمالية، ووضع المقاطعتين تحت السيطرة العسكرية؛ بالإضافة لدعوته القوات الأوغندية والبوروندية للعمل معه. الأمر الذي يستفز رواندا.[8]
حرب وشيكة وجهود إقليمية لحل الأزمة: وإزاء هذا التوتر البالغ بين الجارتين -الكونغو ورواندا- بدأت الأطراف الدولية التحذير من حرب قد تندلع بينهما، وجاء الأول من المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى جمهورية الكونغو، إذ حذَّر من تدهور الأوضاع في شرق البلاد جراء نشاط حركة “إم 23″، والذي حقَّقت فيه تقدمًا كبيرًا وتوسَّعت في مناطق جديدة أدَّت إلى نزوح قياسي وغير مسبوق. وفي فبراير الماضي 2023 أبلغت الولايات المتحدة الأميركية البلدين بأنهما على “شفا حرب” ويجب الابتعاد عنها، وصُنف هذا التحذير بأنه الأكثر حدة. وفي اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة دعت إليه فرنسا من أجل مناقشة العنف المتزايد في شرق الكونغو الديمقراطية، قال السفير الأميركي روبرت وود إن رواندا والكونغو إلى جانب الجهات الإقليمية الفاعلة يجب أن تستأنف على الفور المحادثات الدبلوماسية، باعتبار أن الجهود الدبلوماسية الإقليمية وليس الصراع العسكري هي السبيل الوحيد نحو حل تفاوضي وسلام مُستدام. وفي محاولة لإنهاء الاضطراب المزمن في شرق الكونغو بادرت مجموعة شرق إفريقيا (إي إيه سي) -والتي تتكوَّن من 7 دول- بتشكيل قوة عسكرية إقليمية قوامها بين 6500 و12 ألف جندي، ووجَّهت دعوة للجماعات المُسلحة المحلية للانضمام إلى عملية سياسية لحل مظالمها، لأن الخيار الآخر هو “المواجهة العسكرية معها”. وتم نشر القوة العسكرية الإقليمية في شمال نورد كيفو بمهام تصل إلى المشاركة في القتال إلى جانب القوات الكونغولية ضد “إم 23″، لكن بعد مرور عام من وجودها في الكونغو سحبت الحركة قواتها، وسط اتهامات من الحكومة للقوات الإقليمية بالتقاعس وعدم جديتها في مواجهة الحركة المتمردة. ومن جهة أخرى، اتهم مواطنون كونغوليون قوات شرق إفريقيا بأنها بدت متعايشة مع الحركة التي كان يُفترض أن تواجهها بالحرب، كما انتقد الرئيس الكونغولي عدم رغبة القوات في مواجهة التمرد، وهو ما دفع الكونغو إلى الطلب من المجموعة بالانسحاب. وبعد فشل مجموعة شرق إفريقيا في مهمتها ومع تصاعد هجمات الحركة وتعاظم مكاسبها العسكرية على الأرض دعا الرئيس تشيسيكيدي مجموعة تنمية دول جنوب إفريقيا (سادك) -التي تتكوَّن من 16 دولة في الجنوب الإفريقي- إلى نشر قواتها في الإقليم. ووافقت 3 دول من بين أعضاء المجموعة لنشر نحو 5 آلاف جندي، مما شكَّك في جدواها، خاصةً وأن قوات مجموعة شرق إفريقيا كانت ضعف هذه القوة، ولكن لم تحقق أي إنجاز يُذكر، مما خفض سقف التوقعات لما يُمكن أن تقوم به هذه القوة.[9]
كيف يُمكن احتواء الأزمة؟ يُمكن احتواء الأزمة في الإقليم من خلال مجموعة من الخطوات: أولها؛ تفعيل القوة الإقليمية التي كان قد تمَّ الاتفاق عليها من قبل والتي سُميت “آلية الرقابة الإقليمية التابعة لصندوق السلام والأمن والتعاون”، حيث تكون مسؤولة عن محاربة الجماعات المسلحة في الإقليم والتحقيق في الانتهاكات التي تحدث في الإقليم. وثانيها؛ وضع الكونغو قواعد واضحة للعمليات العسكرية الأجنبية على أراضيها، علاوةً على أهمية الشفافية بشأن ما اتفقت عليه الكونغو مع جيرانها. وثالثها؛ على أوغندا وبوروندي تقديم المزيد من الوضوح بشأن أنشطتهما في إقليم كيفو. ورابعها؛ تشكيل شركات تعدين وإنشاء طرق وتعمير ذات ملكية مشتركة ما بين الدول الأربع. وخامسها؛ وضع خطط إعادة دمج للجماعات المسلحة بشكل أفضل من الخطط السابقة، مع وضع ضمانات أمنية وإشراك المجتمع المحلي في هذه الخطط. وسادسها؛ على كل الدول التعهد بعدم مساعدة الجماعات المعارضة لأنظمة الدول المجاورة لها، مع وضع شروط واضحة لدعوة الجماعات المنشقة.[10] هذا ويُعد الالتزام الدولي بعملية سلام طويلة الأمد وتقنين العلاقات الاقتصادية والسياسية والقانونية في جمهورية الكونغو الديمقراطية عناصر أساسية لمنع عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي على المدى الطويل في منطقة البحيرات العظمى. ويجب على كينيا وفرنسا والولايات المتحدة والأطراف المعنية الأخرى العمل على نزع فتيل هذه التوترات، لتجنُّب حدوث تورط صيني أو روسي أو متطرف (الدولة الإسلامية) إذا استمر الوضع الراهن على ما هو عليه. [11]
الخُلاصة؛ منذ بداية العام الجاري 2024 شهدت جمهورية الكونغو الديمقراطية تصاعُدًا في العمليات العسكرية لحركة “إم 23” المتمردة التي توسعت مساحة سيطرتها بشكل ملحوظ في الأعوام السابقة. وقد أدى تمكُّن الحركة من قطع الطرق المؤدية إلى غوما عاصمة إقليم نورد كيفو واستيلائها على مناطق غنية بالثروات المعدنية إلى تجدُّد الاتهامات بين الكونغو ورواندا وتصاعُد التوتر بينهما، الأمر الذي دفع المؤسسات الدولية والقوى الغربية الفاعلة إلى التحذير من أن البلدين على شفا حرب قريبة. ويُعاني إقليم شرق إفريقيا من مجموعة من التوترات والنزاعات المتشابكة بين دوله، وعلى رأس هذه النزاعات في الوقت الحالي هو النزاع بين الكونغو الديمقراطية ورواندا، والذي يمس بدوره أمن المنطقة ككل. ونظرًا لتشابك المصالح الإقليمية والدولية في تلك المنطقة، فإن هذا النزاع يحمل أيضًا نموذج آخر لتضارب مصالح القوى الكبرى للصراع على النفوذ في الداخل الإفريقي. وهو ما يمثِّل خطرًا حقيقيًا على تصاعد حدة الصراع في تلك المرحلة، الأمر الذي قد يودي بنتائج وخيمة على مستقبل دول المنطقة ككل.
[1] عطا المنان بخيت، “صراع الكونغو الديمقراطية يهدد الاستقرار الهش في البحيرات العظمى”، الجزيرة نت، 26/3/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/4dGhF07e
[2] حكيم نجم الدين، “أزمة شرق الكونغو الديمقراطية: أسبابها وأطرافها وجهود حلّها”، الأفارقة للدراسات والاستشارات، 12/5/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/XMCsC8Dt
[3] جماعة متمردة على الحكومة الرواندية تنشط في الكونغو، ومتحالفة مع جماعة مسلحة كونغولية من إثنية الهوتو وهي”نياتورا”.
[4] منى عبد الفتاح، “التداعيات الإقليمية لصراع شرق الكونغو الديمقراطية”، عربية Independent، 19/11/2022. متاح على الرابط: https://2u.pw/W9GQI0kS
[5] حكيم نجم الدين، مرجع سبق ذكره.
[6] منى عبد الفتاح، مرجع سبق ذكره.
[7] محمد صالح عمر، “هل تدفع حركة “إم 23” في الكونغو المنطقة إلى حرب إقليمية؟”، الجزيرة نت، 11/8/2024. متاح على الرابط: https://2u.pw/xHdEpJZO
[8] رشا رمزي، “تصاعد الأزمة الكونغولية الرواندية يهدد الإقليم”، المرصد المصري، 31/5/2022. متاح على الرابط: https://cutt.us/mjKTO
[9] محمد صالح عمر، مرجع سبق ذكره.
[10] رشا رمزي، مرجع سبق ذكره.
[11] Raphael Parens, “Conflict In Eastern Congo: A Spark Away From A Regional Conflagration – Analysis”, Eurasia Review, 12/9/2022. At: https://cutt.us/ghTuA