سوريا بين اسقاط بشار وتحديات المستقبل

في مشهد يعيد للربيع العربي فعالياته في المنطقة بأكملها، نجحت الثورة السورية في اسقاط حكم آل الأسد وحكم البعث الذي استمر في سوريا لأكثر من 54 عاما، وبعد 12 عاما من القتل والحرب التي شنها نظام بشار الأسد على الشعب السوري، جاء الهروب الكبير من قبل الأسد ومقربيه وعائلته مخزيا، بعدما  اذاق فيها الشعب السوري اسوأ انواع التعذيب والقمع الديكتاتوري مما اسفر عن استشهاد قرابه المليون مواطن

واعتقال اكثر من مليوني اخرين، وهروب ملايين السوريين والعيش في المنافي..

وفي الساعات الأولى من صباح يوم الأربعاء 27 نوفمبر الماضي ، شنت فصائل المعارضة السورية، عملية عسكرية مفاجئة ضد قوات النظام السوري وحلفائه باسم “ردع العدوان”، هي الأولى من نوعها منذ اتفاق مارس 2020. خلال اثني عشر يوما تالية، حققت قوات المعارضة انتصارات مذهلة، أفضت إلى إسقاط نظام بشار الأسد، الذي فار هاربا إلى موسكو إذ منحه الرئيس بوتين حق اللجوء الإنساني، فيما دخل قائد إدارة العمليات العسكرية في المعارضة السورية، أحمد الشرع  يوم 8 ديسمبر إلى دمشق، وأعلن من الجامع الأموي أن “النصر الذي تحقق هو نصر لكل السوريين”، وتعهّد بأن الفصائل لن تتراجع وستواصل الطريق الذي بدأته في عام 2011، قائلا إن “المستقبل لنا”.

انطلاق عملية ردع العدوان

وفي الساعات الأولى من صباح يوم الأربعاء 27 نوفمبر ، شنت فصائل المعارضة السورية، عملية عسكرية ضد القوات الحكومية السورية وحلفائها باسم ردع العدوان، عقب مواجهات عنيفة شهدتها مناطق الاشتباك في ريف حلب الغربي وريف إدلب الشرقي، تعد الأولى من نوعها منذ اتفاق مارس 2020.

خلال الساعات الأولى من هجومها المفاجئ، حققت المعارضة المسلحة تقدما كبيرا وظهرت في ثوب أكثر تماسكا وتنظيما من خلال “غرفة عمليات عملية ردع العدوان”، حيث سيطرت على 20 بلدة وقرية في ريفي حلب وإدلب، إلى جانب قاعدة الفوج 46، النقطة الإستراتيجية الأهم في الطريق إلى حلب.

وفي اليوم التالي، 28 نوفمبر سيطرت المعارضة على قرى إضافية في ريف إدلب الشرقي، ما جعلها على بُعد كيلومترات قليلة من طريق M5 السريع، الرابط بين شمال سوريا وجنوبها والواصل بين مدن إستراتيجية أهمها حلب وحمص وحماة. وفي الصباح التالي، استمر تقدم القوات في ريفي إدلب وحلب، مستحوذة على قرى ومدن جديدة، أهمها مدينة سراقب في ريف إدلب الواقعة على ملتقى طريقين دوليين.

حلب أولى المحطات

في اليوم نفسه، 29 نوفمبر شنت المعارضة هجوما مكثفا على مدينة حلب، وخلال ساعات  نجحت في السيطرة على عدة أحياء رئيسية، منها الحمدانية، والجميلية، وصلاح الدين، وبحلول نهاية اليوم وصلت القوات إلى الساحة الرئيسية وسط المدينة.

وفي الساعات الأولى من يوم 30 نوفمبر تمكنت المعارضة من السيطرة على قلعة حلب ومقر المحافظ، وأمام هذا التقدم انسحبت القوات الحكومية إلى معاقل محدودة في إدلب، بينما تراجعت في حلب أيضا.

في غضون ذلك، تم الإعلان عن استيلاء المعارضة على كميات كبيرة من الأسلحة التي تركها النظام خلفه، شملت دبابات من طراز T-90A، وبطارية نظام الدفاع الجوي S-125 Neva، وأنظمة Pantsir-S1 وBuk-M2، إضافة إلى مروحيات وطائرات مقاتلة كانت رابضة في قواعد حلب ومنغ الجوية.

حماة المحطة التالية

بحلول مساء 30 نوفمبر، حققت المعارضة تقدما سريعا نحو محافظة حماة، وسيطرت على عشرات البلدات والقرى الرئيسية، كما تمكنت المعارضة من الاستيلاء على مطار حلب الدولي الذي وقع في البداية تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية.

في مقابل ذلك، عُززت القوات النظامية حول حماة، ونُشرت تعزيزات كبيرة في مناطق مثل جبل زين العابدين كما شنت روسيا عدة غارات جوية عنيفة، بما في ذلك غارة على مخيم للاجئين في إدلب أسفرت عن مقتل تسعة مدنيين وإصابة العشرات، وأخرى استهدفت مستشفى جامعة حلب أسفرت عن مقتل 12 شخصًا.

وكانت المعارك حول حماة ضمن الأشرس في هذه الموجة من المواجهات، لكن المعارضة نجحت في حسم الأمور مستفيدة من تردي حالة القوات النظامية. وبحلول 5 ديسمبر ، أعلنت المعارضة سيطرتها على حماة والانطلاق نحو سجنها المركزي وتمكنت من إخراج مئات السجناء، بينما أعلن النظام تموضع قواته خارج المدينة.

كان سقوط حماة بمثابة شهادة وفاة مبكرة للنظام الذي لم يفقد السيطرة على المدينة منذ عام 2011، وهو ما فتح الطريق للمعارضة للاستيلاء على بلدتين لهما أهمية رمزية دون قتال، هما محردة التي يقطنها الكثير من المسيحيين والسلمية التي تعد أحد مواطن الطائفة الإسماعيلية والتي دخلتها المعارضة بفضل اتفاق مع شيوخ المدينة ومجلسها الديني الإسماعيلي.

وضعت هذه التطورات المعارضة على مشارف مدينة الرستن حيث استولت على قاعدة عسكرية استراتيجية في شمالها، ولمواجهة هذا التقدم شنت الطائرات الروسية غارة استهدفت الجسر الرئيسي الرابط بين حمص وحماة، في محاولة لعرقلة زحف المعارضة.

وتعد حمص المركز الرئيس لشبكة السكك الحديدية والطرق السريعة في سوريا، مما يجعلها الممر الرئيسي والأسهل لحركة البضائع والأشخاص والقوات العسكرية في جميع أنحاء البلاد.

سقوط حمص في يد الثوار السوريين كان المسمار الأخير في نعش نظام الأسد

ربما جعلت هذه الأسباب دفاع النظام السوري عن حمص مختلفا نسبيا، إذ تدرك قوات الأسد أن خسارتها لحمص بمثابة خسارة ميدانية كبرى لا يمكن تداركها، وأن سيطرة المعارضة عليها تجعلها تتمتع بأفضلية إستراتيجية حاسمة.

سيطرة المعارضة على حمص فتح  الطريق خلال ساعات قليلة للسيطرة على مدينة القصير، واحدة من أهم المدن الحدودية مع لبنان.

ولكن ذلك لم يمنع تقدم المعارضة التي استولت في 6 ديسمبر على مدينة الرستن مع وضعها على طريق مفتوح نحو حمص.

السيطرة على حمص ودمشق وسقوط الأسد

في يوم 7 ديسمبر أيضا، وأمام انسحابات قوات النظام المتتالية أمام تقدم المعارضة تمكنت هذه الأخيرة من التغلب على بقايا قوات النظام في مدينة حمص ودخولها في مساء ذلك اليوم، حيث احتفلت بتأكيد سيطرتها على أبرز ميادينها وجامع الصحابي خالد بن الوليد.

وفي نفس اليوم، تقدمت قوات المعارضة إلى ريف دمشق الجنوبي، ومن جديد انسحبت قوات النظام من عدد من البلدات الهامة لتصبح المعارضة على بعد 10 كيلومترات فقط من ضواحي دمشق، في تطور مثير عَكَس حجم الضغط العسكري الذي واجهته القوات السورية في تلك المناطق، لم تكن هناك مواجهات حاسمة من طرف النظام، لا لضعف قوات النظام فقط، بل لأنه لم يعد هناك من يريد القتال من أجل الأسد. ومن ناحية أخرى، كانت المعارضة السورية تنتصر دبلوماسيًا واستراتيجيًا، لا عسكريًا فحسب. فكما كتب تشارلز لستر، الباحث في الشأن السوري في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، تفاوضت المعارضة مع وجهاء الإسماعيليين، وقيادات عسكرية ومدنية في نظام الأسد، والقبائل السنية، مما أدى إلى سيطرة سلمية من المعارضة في معظم الحالات.

وبعد حصار المعارضة للعاصمة وخاصة القادمين من جبهة درعا والسويداء من الجنوب، ومن ريفي دمشق الشرقي والغربي، وبقدوم فجر يوم 8 ديسمبر تمكنت المعارضة من السيطرة على العاصمة دمشق، ودخول كل المؤسسات الإستراتيجية والحيوية مثل مطار المزة العسكري، وقصر الشعب، ومبنى الإذاعة والتلفزيون، ورئاسة الأركان.

أما المشهد الأبرز، فقد كان الخطاب الذي ألقاه أحمد الشرع في الجامع الأموي في قلب دمشق وقال فيه إن “النصر الذي تحقق هو نصر لكل السوريين، وشدد على أن “الرئيس المخلوع بشار الأسد نشر الطائفية واليوم بلدنا لنا جميعا”. لقد تمكنت قوات المعارضة المسلحة من إسقاط نظام بشار الأسد في اثني عشر يوما من القتال، بعد أربعة عشر عامًا من الهتاف الأول!

أسباب انتصار المعارضة:

اثنا عشر يوما كانت كفيلة بأن يسقط نظام بشار الأسد الذي جثم على صدر الشعب السوري لأكثر من خمسة عقود. نظام قام على حكم عائلي اغتصب السياسة في البلاد واحتكر مواردها، واستخدم القوة الغاشمة ضد تطلعات الشعب للحرية في كل وقت، مخلفًا ملايين من الضحايا القتلى والسجناء والمهجّرين والمنفيين على مدار خمسين عاما، الأمر الذي جعل سقوطه السريع مفاجأة لم يتوقعها أكبر الحالمين.

السبب في تلك المفاجأة هو أن الأوضاع في سوريا بدت مجمدة ميدانيا وسياسيا منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار برعاية روسية تركية في محافظة إدلب في مارس 2020، الذي توقفت على إثره العمليات العسكرية الواسعة بين قوات المعارضة والقوات الحكومية في شمال غربي سوريا.

ولكن في غضون ذلك الوقت عملت المعارضة السورية المسلحة على تعزيز قدراتها العسكرية، كما عملت على تحويل هيكلها إلى قوة مسلحة شبه نظامية، وتحسين مستوى التدريب، وهو ما رصده جيروم دريفون، المحلل البارز في مجموعة الأزمات الدولية مؤكدا أن “ما نراه الآن هو نتيجة السنوات القليلة الماضية من تدريب واحتراف قوات هيئة تحرير الشام“.

على الجهة المقابلة، كانت القوات الحكومية تشهدُ تدهورا داخليا متزايدا بفعل انهيار العُملة وضعف الاقتصاد وتفشي الفساد والجريمة، حتى إن الباحث المتخصص في الشأن السوري تشارلز ليستر وصف النظام السوري بأنه “أكبر دولة مخدرات في العالم”، بسبب اعتماده على عائدات تجارة مخدر الكبتاغون لدعم شبكات الفساد، التي تضم قادة عسكريين وميليشيات وأمراء حرب.

ظلت الأمور على ذلك الهدوء المصطنع حتى مع اشتعال المنطقة بفعل الحرب الإسرائيلية على غزة وجنوب لبنان، ولكن في 26 نوفمبرالماضي قامت مدفعية النظام بقصف مدينة أريحا بريف حلب الواقعة تحت سيطرة المعارضة، ما أسفر عن مقتل وإصابة 16 شخصًا، الأمر الذي زاد من تأجيج الوضع الميداني.

دلالات النصر

ولا يمكن تجاهل مغزى انتصار قوات المعارضة السورية وإسقاط نظام بشار الأسد بعد كل هذه السنوات. فقد سيطر النظام السوري على مدينة حلب في ديسمبر 2016، أي قبل ثماني سنوات، وتبنت قوات النظام وحلفاؤها، خاصة من الميليشيات التابعة لإيران، نهجا عسكريا متوحشا ضد قوات المعارضة والمدنيين على حد سواء، وخلال السنوات الأخيرة طوى النظام الإقليمي العربي صفحة القطيعة مع نظام الأسد وتبنى إجراءات لإعادة دمجه والتسليم بالأمر الواقع. الآن، يمثل انتصار المعارضة رسالة مزعجة للنظام الإقليمي العربي، مفادها أن الوضع الإقليمي الراهن، والذي دافعت عنه حكومات عربية بشراسة عقب الثورات العربية، لا يزال بالغ الهشاشة فضلا عن كونه محل رفض من قبل قوى الثورات التي لم تستسلم وتعتبر أن تحديه ممكن.

تقاطع  ذو مغزى مع  طوفان الأقصى

و يتقاطع “ردع العدوان” مع “طوفان الأقصى” استراتيجيا، ليؤكدا على أن المنطقة لن تشهد استقرار في الأجل القريب، ما لم تكن هناك معالجة لأسباب اضطرابها المديد.

وبنفس القدر الذي يمثلان فيه إلهاما لقوى التغيير في المنطقة، فإن كلاهما يحفز مخاوف الأنظمة العربية التي تشعر أنها مهددة وأن شبح موجات الثورات الشعبية لا يزال يطاردها بعد كل هذه السنوات.

ومن ضمن دلات المشهد، هو انحسار النفوذ الايراني، وتراجع تأثيرها في المنطقة، في أعقاب الحرب الاسرئيلية على حزب الله اللبناني، وتوديه ضربات اسرائيلية وامريكية للعمق الايراني .

ووشعت المواجهة الأخيرة، بين حزب الله واسرائيل، النفوذ الإيراني الإقليمي تحت استهداف إسرائيلي وأمريكي مكثف. يشمل ذلك الخسائر الواسعة التي تلقاها حزب الله والتي جعلته غائبا تقريبا عن الساحة السورية، والاستهداف المتواصل لضباط وخبراء الحرس الثوري والبنية التحتية اللوجستية الإيرانية في سوريا، وخطوط الإمداد القادمة من العراق عبر الأراضي السورية، فضلا عن تعرض الداخل الإيراني لتهديد شن هجوم إسرائيلي واسع تدعمه الولايات المتحدة.

ويمثل هذا التطور مؤشرا على مدى ترابط الوضع الإقليمي وتفاعل مكوناته بصورة معقدة، تجعل من الصعب التحكم في تداعيات التطورات الجارية بصورة دقيقة، خاصة كلما طال مداها الزمني. فقد كانت بعض دول المنطقة تشجع الاحتلال الإسرائيلي على إضعاف حزب الله وإيران، وعملت على إقناع نظام الأسد بالتخلص من النفوذ الإيراني، لكنّ محصلة ذلك خلقت فرصة مواتية لتحرك المعارضة السورية وتركيا

كما ساعد الاستنزاف الروسي المتواصل في حرب أوكرانيا،  من تضعضع موقف الاسد وروسيا في سوريا، ما سهل مهمة ثوار سوريا..

الحسابات الأمريكية:

ووفق تقديرات استراتيجية، فإن الولايات المتحدة  غير راضية تماما بهذه التطورات؛ في ظل أنها استهدفت مناطق نفوذ حلفائها الأكراد غرب نهر الفرات، كما أن واشنطن لا تعتبر أن المعارضة السورية
“الإسلامية” هي البديل المقبول لنظام الأسد. لكنّ واشنطن، كما
إسرائيل، لديها مصلحة أكثر استراتيجية تتمثل في إضعاف إيران في سوريا بما يؤدي لقطع خطوط الإمداد عن حزب الله في لبنان كضرورة لاستكمال أهداف الحرب الإسرائيلية على لبنان وتحقيق أمن بعيد المدى للاحتلال إسرائيلي على جبهته الشمالية
.

لذلك؛ ستوازن واشنطن بين الأمرين، الاستفادة من إبعاد النفوذ الإيراني ومراقبة سلوك النظام الجديد في دمشق، وستكون تحت ضغط من قبل حلفائها العرب، خاصة السعودية والإمارات ومصر والأردن، الذين يعتبرون المعارضة السورية مجرد “تهديد إسلامي” يجب التخلص منه، وكانوا يفضلون إعادة تأهيل الأسد وإدماجه عربيا ودوليا.

سيناريوهات مستقبلية:

ولا تزال سوريا أمام سيناريوهات متعددة؛ وذلك نتيجة أساسية لعامل المفاجأة الذي عصف بحسابات كافة الفاعلين في الملف السوري، بما في ذلك روسيا وإيران والولايات المتحدة، وحتى تركيا وقيادة المعارضة السورية المسلحة، الذين بات عليهم التعامل مع واقع جديد له استحقاقات لا يتوفر لديهم بعد كافة الإجابات عليها.

أولا: أبرز التحديات الداخلية:

مدى نجاح المعارضة في الحفاظ على وحدة موقفها وتنسيقها وتوزيع الأدوار فيما بينها. لا يشمل ذلك فقط الشراكة وتوزيع الأدوار بين المعارضة السياسية في الخارج والقيادة العسكرية في الداخل، ولكن أيضا بين المجموعات المسلحة نفسها التي أظهرت قدرا لافتا من العمل المشترك في عملية ردع العدوان. التحدي الأساسي هنا هو نجاح عملية التحول من حالة مجموعات ثورية مسلحة إلى مأسسة هذه القوات في جيش وطني جديد وأجهزة أمنية تحقق الاستقرار الداخلي، بدلا من أن تكون صراعات هذه المجموعات مصدر اضطراب وتوترات.

احتواء التباين المرجح بين المعارضة المنتصرة في دمشق، بقيادة أحمد الشرع، وبين المجموعات الكردية، ممثلة في قوات سوريا الديمقراطية (قسد). إذ ليس من المرجح أن يكون هناك اتفاق قريب بين الجانبين على صيغة حكم مستقبلية توحد الأراضي السورية، وستعمل قسد على الضغط عبر أدوات قوتها المتمثلة في الدعم الأمريكي والسيطرة على حقول النفط.

إحكام السيطرة على مؤسسات الحكم القديمة، وضمان عدم إعاقتها لعملية بناء نظام حكم جديد. فعلى الرغم من هشاشة بعض تلك المؤسسات، فإن بعضها يظل أقوى من الحالة التنظيمية لجبهة المعارضة المنتصرة، ومن ثم لا تزال قادرة على إثارة تحديات داخلية، بعضها له طابع أمني، والآخر سياسي وتنظيمي.

ثانيا: أبرز التحديات الخارجية

1.حلفاء النظام القديم (روسيا وإيران):

على الرغم من فشل طهران وموسكو في وقف هجوم المعارضة وحماية نظام الأسد، إلا أن سوريا تظل مهمة بالنسبة للجانبين. وإذا كان عامل المفاجأة والظروف الخاصة بكل طرف منهما (حرب أوكرانيا، والحملة الإسرائيلية الأمريكية على إيران) تحد من قدرتيهما على ممارسة نفس التأثير السابق في سوريا، فإن مصالح الطرفين تجعلنا نتوقع أن تظل سوريا مهمة لهما، وأن يكون هناك تحرك لكلٍ منهما للحفاظ على بعض الحضور في مستقبل البلاد، رغم الشعور بالمرارة والغضب جرّاء التحرك التركي الذي قوّض نفوذهما في سوريا.

تبدو فرص روسيا أفضل؛ إذ يحتاج النظام الجديد إلى الاحتفاظ بهامش واسع للاستفادة من تباين مصالح القوى الدولية، وهو ما يجعل روسيا مفيدة دوليا في مواجهة الضغوط الغربية المحتملة على دمشق. وعلى الرغم من أن روسيا كانت داعما رئيسا للنظام القديم، فإن الرأي العام السوري أقل عداءً لموسكو مقارنة بطهران التي يحمّلها السوريون الحظ الأكبر من جرائم الإبادة والتهجير. وفي ظل انهيار مقدرات سوريا العسكرية، فإن النظام الجديد قد يرى في وجود قاعدة روسية بعض الحماية المؤقتة ضد الاستهداف الخارجي.

أما إيران؛ فسيكون عليها الاختيار بين طريقين، كلاهما يواجه صعوبات وتحديات. الطريق الأول، أن تتبنى نهجا عدائيا ضد النظام الجديد ومن ثم تعمل على تقويضه من الداخل عبر حلفائها القدامى في مؤسسات الحكم السورية، بما فيها العسكرية والأمنية، وعبر ميليشيات شيعية يمكن إعادة تنظيمها وتوجيهها إلى سوريا. لكن، يحد من هذا الاحتمال الاستهداف الإسرائيلي والأمريكي المتوقع لأي تحركات إيرانية جديدة في سوريا، فضلا عن مستوى الانهيار الفادح لمؤسسات النظام القديم العسكرية والأمنية. بالإضافة لأن إضعاف حزب الله في لبنان يحد بصورة كبيرة من قدرة إيران على إعادة التدخل بمستوى كبير في سوريا.

الطريق الثاني، يتمثل في السعي للتطبيع مع النظام الجديد، والعمل على بناء تفاهمات ومصالح مشتركة على المدى الطويل. سيتطلب ذلك اعتراف إيراني “مذل” بجرائمها خلال الحقبة الماضية، وربما تقديم تعويضات للنظام الجديد بحيث تطوي صفحة دعم نظام الأسد. ولا توجد مؤشرات أن مثل هذا الاحتمال مرجحا، وإن كان من المحتمل أن تمضي فيه طهران بنسبة ما في ظل اعتبار خسارة سوريا تمثل هزيمة بعيدة المدى للاستراتيجية الإيرانية في المنطقة.

2.الولايات المتحدة والغرب و”إسرائيل

على الرغم من المواقف الإيجابية التي عبرت عنها الولايات المتحدة ودول أوروبية، إلا إن من المبكر الجزم بالانفتاح على النظام الجديد. فما زالت واشنطن في مرحلة تقييم الواقع الجديد، ويخيم عليها شكوك واسعة إزاء نوايا القيادة السورية الجديدة التي تصنفها على قوائم الإرهاب، وتعتقد أن مواقفها الإيجابية الراهنة ليست إلا مناورة مؤقتة. وفي ظل الوضع الإقليمي المرتبط بطوفان الأقصى، فإن مسألة أمن “إسرائيل” ربما تكون هي حجر الزاوية في تحديد موقف الغرب من نظام الثورة في دمشق. ولأن سوريا هي واحدة من دول الطوق، فليس من المتوقع أن تترك الولايات المتحدة و”إسرائيل” عملية بناء نظام حكم جديد، دون أن تكون هناك إجابات وضمانات واضحة إزاء موقف هذا النظام من “إسرائيل”، وإيران، وأمن الحدود السورية اللبنانية، ودعم حركات المقاومة الفلسطينية واحتمال تواجدها في سوريا الجديدة.

3.بيئة إقليمية يخيم عليها العداء

لا شك أن النظام الجديد في دمشق ستمضي خطواته في بيئة إقليمية يغلب عليها العداء. باستثناء تركيا وقطر، فدول المنطقة المؤثرة تنظر للنظام الجديد كمحصلة تهديدين رئيسيين: الثورات العربية والإسلاميين. ستوحد هذه النظرة على الأرجح مواقف أطراف إقليمية مثل مصر والإمارات والسعودية والأردن و”إسرائيل”. ومن المتوقع أن تعمل بعض هذه الأطراف بصورة متسقة معا لإجهاض الحكم الجديد في دمشق.

الدعم الخارجي الذي تتمتع به قوات (قسد) يمثل تحديا كبيرا لمسار الانتقال السوري. فبالإضافة للدعم الأمريكي الأساسي، ستكون قسد هي حليفة “إسرائيل” وأطراف إقليمية أخرى، خاصة الإمارات العربية المتحدة، كوكيل داخلي يوازن نفوذ “الإسلاميين” في دمشق. لا يهدد ذلك فحسب مسألة وحدة سوريا، ولكنّه يبقي على احتمال دعم عمليات عسكرية داخلية لتقويض السلطة الجديدة، خاصة بعد أن مارست الإمارات نفس السياسة في دول أخرى، بما في ذلك ليبيا والسودان واليمن.

بالإضافة لذلك؛ فإن اقتصار النظام الجديد على الشراكة مع تركيا وقطر يزيد من المخاوف الإقليمية؛ فعلى الرغم من التطبيع التركي مع القوى العربية فإن هذه الدول من المؤكد أنها لن ترحب بخروج سوريا من مجال النفوذ الإيراني كي تنتقل ضمن مجال نفوذ تركي جديد. كما أن استمرار التنافس بين دول الخليج سيجعل من موقع قطر كداعم لنظام الثورة في دمشق محل استهداف من قبل السعودية والإمارات.

في المقابل؛ فإن تركيا ستعمل على حشد بعض الدعم الإقليمي للنظام الجديد، أو في الحد الأدنى احتواء بعض المخاوف منه مستفيدة من اتصالاتها الوثيقة مع الولايات المتحدة والإمارات ومصر. وسيكون سلوك حكومة دمشق في الأسابيع القليلة القادمة إزاء دول المنطقة، مؤثرا في توجيه سياسة بعض تلك الدول وتحديد موقفها النهائ

إلىجانب، تبرز تحديات اقتصادية وادارية عدة ، ستحدد مسار المستقبل ومدى القدرة على الانتقال الآمن، وصولا لانتخابات وكتابة دستور جديدة، قد يصل لمدى زمني من 3 إلى 4 سنوات، بحسب تصريحات الشرع، السبت 28 ديسمبر ..

اجمالا، فإن الانتقال السوري لن يكون عملية خطية تمضي دون معوقات أو تحديات. إذ تمثل سوريا عربيا، أهمية جيوسياسية خاصة في المنطقة ربما لا تضاهيها إلا مصر. وكما مثل الصراع الروسي التركي الإيراني على النفوذ في سوريا ملمحا بارزا لأهمية البلاد الجيوسياسية، فإن سرعة التحرك الإسرائيلي عقب انهيار نظام الأسد تشير إلى ثقل وزن الجغرافيا السورية في معادلة الصراع الواسعة في فلسطين المحتلة. وهو نفس الثقل الشعبي والمعنوي الذي تتمتع به سوريا عربيا منذ تشكل النظام الإقليمي العربي، ومن ثم فإن نجاح ثورتها هو حدث إقليمي لن تقف تداعياته الشعبية والسياسية على حدود الجغرافيا السورية.

وكما كانت سوريا، وعلى الأرجح ستظل في الأجل القريب، ساحة صراع بالوكالة بين الدول المتنافسة، فإن سوريا الآن من المرجح أن تكون أيضا ساحة صراع بالوكالة بين قوى التغيير الشعبية في المنطقة وبين النظام الإقليمي العربي الرسمي، وهو صراع قد تحدد نتائجه مستقبل المنطقة الذي ما زال قيد التشكل منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية وانهيار نظام الإجماع الإقليمي.

وسوف يتمثل التحدي الرئيس في هذا المجال في التعامل مع الفصائل والجماعات المسلحة المنظمة، بما فيها قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، و”جيش سورية الحرة” الذي يدعمه الأميركيون في منطقة التنف، وفصائل الجنوب التي يقودها أحمد العودة، وفصائل الجيش الوطني التي تدعمها تركيا في الشمال. فبذلك، ترتبط مواجهة تحدي آخر يتمثل في عملية توحيد البلاد، واستعادة الدولة سيادتها على أراضيها كاملة؛ فالسيادة لا تتجزأ. ويبرز تحدي ضبط التهديدات التي تمثلها الفصائل الجهادية والتعامل معها، بما فيها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش“.

علاوة على ذلك، تحتاج السلطات الجديدة إلى تحييد أي تهديدات يمكن أن تمثلها قوى النظام السابق وفلوله، ومنع تنظيمها، ولا سيما أن جميع القيادات الأمنية والعسكرية ما زالت طليقة. وسوف يحتاج الأمر في مرحلة لاحقة إلى وضع أسسٍ لنظامِ عدالة انتقالية، وسن قانون ينظم عملية محاسبة المسؤولين عن ارتكاب جرائم، وتعويض المتضررين بما يسمح به اقتصاد الدولة السورية.

ومن واجب دول الإقليم عدم عرقلة هذه الجهود، بل عليها مساندتها، فمن يعرقلها يتحمل مسؤولية إفشال تحقيق الاستقرار على مستوى سورية والإقليم.

اما عن الاذمات الاقتصاديه فستكون التحدي الاصعب نتيجة سنوات من الصراع المسلح وعقود من نهب مقدرات الدولة، تواجه سورية تحديات اقتصادية هائلة تفرض على أي نظام جديد في دمشق استنفار كل الطاقات لمواجهتها. وبحسب منظمات دولية، يعيش 90 في المئة من السوريين تحت خط الفقر الأدنى، في حين تصل نسبة الدمار في المساكن والممتلكات العامة إلى نحو 27 في المئة. وللأزمة الاقتصادية في سورية أوجه متعددة، تبدأ بالافتقار إلى أبسط مقومات الحياة اليومية وصولًا إلى توفير التمويل اللازم لإعادة الاعمار الذي تقدره جهات دولية عديدة بمئات مليارات الدولارات. ولأن كسب ثقة الناس يُعدُّ أساسيًا لنجاح المراحل الانتقالية، فسوف يبرز أمام الحكومة الجديدة تحدي إحداث تغيير واضح في حياة الناس، يستطيعون تلمسه سريعًا؛ وهذا لا يتم إلا من خلال حلحلة الأزمات المعيشية المرتبطة بحياتهم اليومية، بما يشمل توفير المواد الغذائية، والسلع الأساسية، والوقود، والمواصلات، والاتصالات، والكهرباء، والمياه، وغيرها. ويحتاج الأمر إلى إعادة تفعيل عمل مؤسسات الدولة وأجهزتها المختلفة، من وزارت ودوائر خدمات، وتشجيع الناس على العودة إلى حياتهم الطبيعية في أسرع وقت ممكن واستعادة النشاط الاقتصادي العام والخاص في أنحاء البلاد، وتشجيع الشركات ورؤوس الأموال الوطنية التي غادرت سورية على العودة التدريجية، وتقديم التسهيلات للمبادرين السوريين للعودة والعمل في وطنهم. وسوف تحتاج البلاد إلى استثمارات خارجية مباشرة كبيرة للتعامل مع هذه التحديات؛ وهو ما يتطلب استقرارًا أمنيًا، وسياسيًا.

خاتمة

يتقاطع “ردع العدوان” مع “طوفان الأقصى” استراتيجيا، ليؤكدا على أن المنطقة لن تشهد استقرارا قريبا، مالم تكن هناك معالجة لأسباب اضطرابها المديد.

إلا أن مسار الانتقال السوري يواجه  تحديات داخلية، أبرزها:  مدى نجاح المعارضة في الحفاظ على وحدة موقفها وتنسيقها وتوزيع الأدوار فيما بينها، واحتواء التباين المرجح بين المعارضة المنتصرة في دمشق، وبين المجموعات الكردية، وكذا إحكام السيطرة على مؤسسات الحكم القديمة، وضمان عدم إعاقتها لعملية بناء نظام حكم جديد.

وخارجيا، تتمثل أبرز التحديات في مواقف الأطراف الداعمة للنظام، روسيا وإيران، وإلى أي مدى ستميل إلى التطبيع مع الوضع الجديد أو العمل على تقويضه. وبينما تبدو فرص روسيا أفضل؛ إذ يحتاج النظام الجديد إلى هامش واسع للاستفادة من تباين مصالح القوى الدولية، فإن خيارات إيران تبدو أكثر تعقيدا وهي على الأرجح ما زالت محل تشكل.

و على الرغم من المواقف الإيجابية التي عبرت عنها الولايات المتحدة، إلا إن من المبكر الجزم بانفتاحها على النظام الجديد. وفي ظل الوضع الإقليمي المرتبط بطوفان الأقصى، فإن مسألة أمن إسرائيل ربما تكون هي حجر الزاوية في تحديد موقف الغرب من نظام الثورة في دمشق.

 ستمضي خطوات النظام الجديد في دمشق في بيئة إقليمية يغلب عليها العداء. فباستثناء تركيا وقطر، تنظر دول المنطقة المؤثرة للنظام الجديد كمحصلة تهديدين رئيسيين: الثورات العربية والإسلاميين. وستوحد هذه النظرة على الأرجح مواقف أطراف إقليمية، من المتوقع أن تعمل بعضها بصورة متسقة معا لإجهاض الحكم الجديد في دمشق.

وعلى الأرجح فإن الانتقال السوري لن يكون  عملية خطية دون معوقات، نتيجة أهمية دمشق الجيوسياسية. وكما كانت سوريا، وعلى الأرجح ستظل، ساحة صراع بين دول متنافسة، فإنها الآن من المرجح أن تشهد صراعا بالوكالة بين قوى التغيير الشعبية في المنطقة وبين النظام الإقليمي العربي الرسمي.

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022