شهدت الفترة الماضية وقوع توترات بين جهاز الشرطة ومجتمع النجيلة في مطروح، وقبلها، مع أهالي قرية العفاردة بساحل سليم في أسيوط بصعيد مصر؛ هذه التوترات حدثت بشكل أساسي من جرّاءِ العنف العاري من أية شرعية الذي مارسته قوات شرطة بحق أفراد بهذه المجتمعات، وهو ما قاد بالضرورة إلى عنف مضاد. أنكرت الداخلية كما هو معتاد تورط أفرادها في عمليات قتل خارج إطار القانون، لكن شهادات المواطنين أكدت حدوث ذلك. نحاول في هذه السطور استعراض هذه الحوادث مع محاولة طرح تفسيرات لها.
الصدام بين الشرطة والمجتمع في مطروح:
في مطروح، في 9 أبريل الماضي، قتل ثلاثة أمناء شرطة، هم: عمر المصري، ومحمد حسن سلامة، وكريم محمد خليفة، وجميعهم من قوة المباحث في قسم شرطة النجيلة بمحافظة مطروح، خلال تبادل لإطلاق النار، مع شخص محكوم عليه بالسجن 35 عامًا. فمَا كان من قوات الشرطة هناك إلا احتجاز نحو 20 سيدة من أقارب المشتبه به، بغرض استخدامهن كرهائن في الضغط عليه وعلى أقاربه من أجل تسليم نفسه1.
بعد تدخل عدد من الأعيان بالمنطقة، جرى الاتفاق على إطلاق سراح السيدات، مقابل تسليم الشابين يُوسُف عيد فضل السرحاني، وفرج رباش الفزاري (17، 18 عام) كبديل عن السيدات المحتجزات لحين ضبط المتهم، بالرغم من عدم تورطهما في الواقعة الأصلية، فمَا كان من الشرطة هناك إلا تصفية الشابين -حَسَبَ شهود- على طريق مطروح – السلوم، فيمَا أعلنت وزارة الداخلية2 في بيان تصفية الشابين خلال تنفيذ حملة أمنية بهدف اعتقالهما، مع وصفهما بـ “العناصر الإجرامية شديدة الخطورة”3، وهو ما نفاه شهود عيان4، ثلاثة منهم كانوا ضمن المجلس الذي اتفق على تسليم الشابين للحكومة بهدف إخلاء سبيل السيدات5.
كما نفت الوزارة في بيان لها، صادر في 11 أبريل 2025، “احتجاز سيدات على خلفية استشهاد أفراد من المديرية أثناء تنفيذهم لأحكام قضائية ضد عناصر إجرامية شديدة الخطورة6“، على الرغم أن خبر احتجاز السيدات ذكره كثير من شهود العيان بالمنطقة، كما ذكره نقيب المحامين الأسبق وأحد أعضاء هيئة الدفاع عن سيدات مطروح ممدوح دربالة، وأشار إليه بيان مجلس العمد والمشايخ في محافظة مطروح.
ردًا على ما حدث، عقد مجلس العمد والمشايخ في محافظة مطروح اجتماعًا طارئًا، في 12 أبريل 2025، أسفر عن قرار المجلس بـ (1) تعليق جميع أشكال التعاون مع أجهزة الشرطة بالمحافظة. (2) المطالبة بلقاء عاجل مع رئيس الجمهورية لتوضيح الموقف ونقل صوت أبناء مطروح. (3) الإدانة التامة والمطلقة لأي شكل من أشكال احتجاز النساء أو استخدامهن كرهائن في أي نزاع7.
كما أسفر الاجتماع عن تشكيل لجنة (14) بمشاركة نقِابة المحامين هناك، وقد خلصت اللجنة إلى استكمال المسار القضائي ورفض كل الحلول والمسارات الأخرى، والدعم الكامل لهيئة الدفاع، والتعاون الكامل معها، في كل الإجراءات القانونية التي تتخذ حفاظًا على حقوق أولياء الدَّم وشباب الصحراء المغدور بهم، وفي كشف كل التجاوزات والانتهاكات التي وقعت من قٍبل جهاز الشرطة في محافظة مطروح أمام قيادات الدولة ومؤسساتها8.
خط الصعيد… المجتمع والشرطة خارج القاهرة:
شهدت قرية العفاردة بمركز ساحل سليم بمحافظة أسيوط، في يومي 15 – 16 فبراير 2025، اشتباكات بين قوات الأمن وعائلة هناك، استعانت خلالها الشرطة بوحدة “بلاك كوبرا” المختصة بالعمليات الخطرة، “كما استُخدمت خلال الاشتباكات الأسلحة الثقيلة مثل القذائف المضادة للدروع، ما أسفر عن تدمير جزء من البنية التحتية للقرية”، كما أسفر عن سقوط قتلى من الجانبين9؛ إذ سقط ضابط من قوات الشرطة في أثناء المواجهات، إضافة إلى إصابة 6 آخرين بينهم جنود، من جانب المدنيين سقط محمد محسوب كبير إحدى العائلة التي اشتبكت مع الأمن، وشقيقه، وأحد أولاده، وخمسة من معاونيه، كما قتل 4 من الأهالي، إما لتصادف وجودهم في مواقع الاشتباك أو من جراِء الرَّصاص العشوائي10.
وفقًا لبيان وزارة الداخلية فإن القوات داهمت مجموعة من الخارجين على القانون، يتزعمهم محمد محسوب، لكن المجموعة بادرت بإطلاق النار تجاه القوات كما فجروا أسطوانات غاز للحيلولة دون تمكين القوات من الوصول إليهم11. أما الرواية التي يطرحها محمد محسوب، في أكثر من فيديو، فهي أنه بريء من القضايا التي لفقت له، وأن استهدافه وأخوه وأقاربه إنما هي جزء من ممارسات انتقامية يرتكبها ضباط فاسدون12، وأنه متهم في قضايا ملفقة13.
الدولة والمجتمعات المهمشة… غياب التنمية وغلبة منطق العنف:
تصبح الشرطة خارج القاهرة أكثر تحررًا من القانون، وتستند في تعاملها مع المواطن إلى قواعد عرفية، منها: أن جهاز الشرطة ذات طبيعة قبلية؛ فإذا استهدف أحد أفرادها ثأرت له حتى على حساب الابرياء وخارج إطار القانون. أنها في حالة صراع مفتوح مع المطلوبين للعدالة، فلا مانع من القبض على أقربائه لإجباره على تسليم نفسه، أو هدم منزله ومنازل أقربائه، وتدمير زراعته، وقد شهدنا وقوع بعض هذا الممارسات في أحداث النجيلة الأخيرة في مرسى مطروح، كما شهدناه بصورة سافرة في الأحداث التي انتهت بمقتل محمد محسوب إبراهيم، بمركز ساحل سليم بمحافظة أسيوط، في فبراير الماضي.
خلال كل حالات القتل خارج إطار القانون، تحرص وزارة الداخلية على تقديم رواية رسمية، تتجنب فيها الحديث عن أية انتهاكات يمكن أن يكون أفرادها قد تورطوا فيها؛ فتنفي احتجاز سيدات للضغط على المطلوبين وأهلهم، وتنفي تصفية مواطنين خارج القانون، وتنفي أن يكون الأفراد الذين تم تصفيتهم سلموا أنفسهم بشكل طوعي، فيمَا يحرص الإعلام الرسمي وشبه الرسمي على ترويج الرواية الرسمية فـ “الشرطة لا تقتل المدنيين المسالمين”، وأن وزارة الداخلية تحرص بشدة على ألا يصاب طفل أو سيدة من أهله خلال الاشتباك»، وأن المواطن المقتول هو عنصر شديد الخطورة، وأن التصفية نهاية «حتمية لأي حد يرفع السلاح في وش الدولة»14.
في حين تؤكد شهادات الأهالي على شيوع الممارسات العنيفة للشرطة في الصعيد، التي تدور بين التصفية والاعتقال والإجبار على شراء السلاح وتسليمه للشرطة، وهدم المنازل وتدمير الأراضي الزراعية، وإجبار الأهالي على تسليم ذويهم، بل واستهداف هؤلاء الأهالي في حال رفضهم الانصياع، عنف الشرطة في الصعيد خلال السنوات الأخيرة تؤيده الأرقام؛ إذ تَبَعًا لِرصد أجراه «مدى مصر» في 12 يناير الماضي، قُتل نحو 42 مواطنًا في صعيد مصر خلال 45 يومًا، في أثناء حملات «الداخلية» على «البؤر الإجرامية»15.
ليس هناك ما يبرر عنف الشرطة بحق مجتمعات الأطراف، لكن يفهم فقط في إطار حرص الدولة على إبقاء هذه المناطق تحت السيطرة، في ظل غياب التنمية وتفشي الفقر، وغياب الخِدْمَات، وغياب الدولة نفسها إلا عبر وجهها العنيف؛ إذ أن غياب التنمية وتفشي الفقر يقود إلى شيوع الجريمة وانتشار العنف، ومن ثم فإن السعي لإبقاء الأمور تحت السيطرة إما بتنمية هذه المجتمعات أو استبدال التنمية بالقمع والعنف وهو ما يحدث.
الخاتمة:
بالتأكيد في دائرة العنف تكون الغلبة لأجهزة الدولة، لكن مع انتصارها تفقد الدولة شرعيتها وهويتها وتصبح مجرد ميلشيا احتكارها هو السبيل الوحيد لبقائها واستمرار سيطرتها؛ وهو ما يجعلها هشه في مواجهة أية تحديات حقيقية.
ما ينقذ الدولة والمجتمع من دائرة العنف الجهنمية، هو تطوير المجتمعات أدوات توثيق ونشر الانتهاكات التي تقع بحق أفرادها، ووجود مجتمع مدني قوي يستطيع أن يلعب دور الوساطة بين الدولة والمجتمع بصورة تحمي الأخير من بطش الدولة ويغلب منطق العقل، ووجود رأي عام واعي لما يحدث. كل ذلك من شأنه تقليص العنف الذي تشهده مجتمعات الأطراف. وبالتأكيد قبل ذلك ضرورة وجود تنمية حقيقية لمجتمعات الأطراف بصورة تحميها من السقوط في براثين العنف والتفكك.
1 زاوية ثالثة، احتجاز نساء وتصفية شباب: ما نعرفه عن أحداث “النجيلة” بمطروح، 11 أبريل 2025، في: https://tinyurl.com/ythmckru
2 الصفحة الرسمية لوزارة الداخلية (فيس بوك)، 11 أبريل 2025، في: https://tinyurl.com/mpvfrp7d
3 العربي الجديد، “أحداث النجيلة” في مصر: مقتل شابين من مطروح، 12 أبريل 2025، في: https://tinyurl.com/4dn3mud4
4 محمد نابليون، قبيلة الضحية الثانية لواقعة مطروح تتسلم جثمانه.. والدفاع يطلب تفريغ المكالمات وتحريات “أجهزة مستقلة”، المنصة، 13 أبريل 2025، في: https://tinyurl.com/zu8chbfc
5 زاوية ثالثة، احتجاز نساء وتصفية شباب: ما نعرفه عن أحداث “النجيلة” بمطروح، مرجع سابق.
6 الصفحة الرسمية لوزارة الداخلية (فيس بوك)، 11 أبريل 2025، في: https://tinyurl.com/2ff57bcj
7 عبد الله بكر، قبائل مطروح تعلّق التعاون مع الشرطة: أزمة ثقة غير مسبوقة على الحدود الغربيّة، 15 أبريل 2025، في: https://tinyurl.com/2tpwz3vd
8 مطروح اليوم (فيس بوك)، 16 أبريل 2025، في: https://tinyurl.com/uk3csuuy
9 العربي الجديد، الأمن المصري يقتل كبير عائلات قرية في أسيوط وسط اشتباكات مسلحة، 17 فبراير 2025، في: https://tinyurl.com/mpxxr4yt
10 طارق السباعي، 3 أيام من الرعب في أسيوط.. اشتباكات بالأسلحة الثقيلة تسقط قتلى وجرحى (شاهد)، 18 فبراير 2025، في: https://tinyurl.com/5n97xyh9
11 الصفحة الرسمية لوزارة الداخلية (فيس بوك)، 17 فبراير 2025، في: https://tinyurl.com/3demffjx
12 فيديو (1): https://tinyurl.com/6937rp2b فيديو (2): https://tinyurl.com/2p8m62ux
13 المرجع السابق.
14 معتز حجاج، الخُط والشرطة والصعيد.. كلّ يطبق قانونه، مدى مصر، 9 أبريل 2025، في: https://tinyurl.com/2bpu8dfn
15 مدى مصر، «المبادرة»: إضرابات عن الطعام في «العاشر 6» لتردي أوضاع الاحتجاز | 42 قتيلًا في حملات أمنية على الصعيد منذ نوفمبر، 12 يناير 2025، في: https://tinyurl.com/hyt8mruj