الفتاوى المسيسة حول طوفان الأقصى والإبادة في غزة

عن الخيال الاستبدادي لرجال الدين وصراع المرجعية

تقرأ كثير من الفتاوى المعاصرة، خاصة في الشؤون السياسية، التي تشغل الرأي العام، تدرك أنها اختيارات سياسية لأصحابها، مغلفة في لغة دينية. وعادة ما تجد هذه الفتاوى تكشف عن أمرين؛ الأول: أن أصحابها يستخدمون النصوص الدينية بصورة متعسفة لتبرير تحيزاتهم السياسية. الثاني: أن إدراك أصحابها للواقع وتعقيداته ضعيف للغاية، وفي أحيان كثيرة يتسم بالسطحية والسذاجة.

ينجم عن هذا المسلك أن تصير الفتاوى الدينية مادة للاستقطاب وتصفية الحسابات، كما تصبح مادة دعائية لصاحبها وفريقه، بدل من كونها خطاب الشرع للمكلفين. كما أنها تغلق الطريق أمام أي نقاش حقيقي بخصوص الواقع وأحداثه ومقترحات التعامل معه، إذ أن ما يقدمه المفتي هو خطاب الشرع ومن ثم التشكيك فيه والخروج عليه هو ردة أو على الأقل بدعة أو سوء تقدير وقلة دين. وفي ظل فوضى الفتاوى، وتناقضها مع بعضها البعض، تفقد الفتوى السياسية مصداقيتها، ويتراجع تقدير الشارع لها واستنادهم إليها في تحديد مساراتهم السياسية.

الفتاوى المسيسة والمزاج السلفي:

نستشهد في هذا السياق بفتوى1 أطلقها باحث سلفي ينتمي لسلفية الإسكندرية، عن موقفه “الشرعي” من طوفان الأقصى؛ بمعنى “كيف يقيم حدث الطوفان من منظور شرعي؟”.
في البداية يبني الكاتب فتواه على فرضيتين: الأولى: أن الفتوى تتغير بـ (تغير الواقع، تغير العلم بالواقع، تغير رؤيتك للواقع). الثانية: أن المقاومة حق وواجب. لكنه يعود ويقيد ممارسة هذا الحق وتحمل هذا الواجب بشرطين، هما: ميزان القدرة والعجز، ومعيار المصلحة والمفسدة.

بعد هذه المقدمات النظرية يؤسس رفضه لقرار الطوفان بالاستناد إلى 4 أسباب: (1) أن قرار الطوفان كان من نتائج تضييق دائرة الشورى داخل حركة حماس. (2) ظهور أصوات علماء من غزة تنكر ما حدث. (3) ظهور أصوات مثقفين وطلاب وناس عاديين من فلسطين تنتقد الطوفان. (4) أن قرار الطوفان نجم عنه نتائج كارثية وكشف عن خلل هائل في موازين القُوَى بين المقاومة والاستعمار الإسرائيلي.

لا يكتفي الباحث بالقول أن قرار الطوفان كان فيه تسرع دون اعتبار للمصالح والمفاسد وموازين القوى، وفق حسابات واقعية خالصة، إنما يسعى إلى نزع الغطاء الديني عنه بالكلية؛ عبر الإشارة إلى أن “العهد المطلق” لا يجوز الابتداء بنقضه، وفي حال نقضه الطرف المعاهد، يصبح الأمر للحاكم المسلم، أن ينقض العهد، أو أن يستبقيه؛ إذا رأى في ذلك مصلحة للمسلمين؛ كأنه يقول أن المعاهدة مع إسرائيل هو عهد مطلق لا يصلح البَدَء بنقضه، وفي حال نقضته دولة الاحتلال، يصبح للحاكم الخِيار إما الرد بالمثل أو الإبقاء على المعاهدة القائمة.

ويعيب هذا الطرح أمور؛ الأول: أنه احتكم في قراءة الواقع إلى مفاهيم قديمة لا تعبر بالضرورة عن الواقع، دون أن يتساءل إن كان معجم مفاهيم جهاد الدفع وجهاد الطلب ينطبق على حال أهل فلسطين مع الكيان الإسرائيلي، وهل معطيات من قبيل الإبادة والتهجير والاستعمار الاستيطاني الإحلالي يصلح التعامل معه باستخدام هذا المعجم. هذا الاستخدام بدوره يكشف عن أمرين؛ أولهما: ضعف التكوين الفقهي للباحث، إذ يستخدم مفاهيم متقادمة دون أن يفكر لحظة في مساءلة نفسه عن مدى صلاحيتها في محاكمة واقع شديد الاختلاف عن البيئة التي ظهرت فيها هذه المفاهيم. وثانيهما: أنه لم يتوقف لحظة أمام حجم الإجرام الإسرائيلي بحق أهل فلسطين وغزة، الذي لا يصح وصفه بأنه صراع تقليدي بين احتلال ومقاومة، إنما هي عملية إبادة وتهجير للسكان، وتصفية ممنهجة للوجود الفلسطيني؛ فإن ما يجري في غزة ليس “معركة بالمعنى الذي تعنيه كلمة المعركة، بل هو عدوان من جهة واحدة على شعب أعزل؛ إبادة وتدمير ومحو أحياء ومدن بأكملها من الخارطة”2.

الثاني: أن تقييم الباحث بشكل سلبي لقرار الطوفان يستند إلى معايير واقعية ومصلحية، ما يعني أن الأمر يقبل تعدد وجهات النظر، بالتالي من غير الرشيد أن تقدم رأيك في الطوفان باعتباره موقف شرعي، في حين أنه مبني على قراءتك أنت للواقع وتقييمك له، فأين الشرعي هنا. وكان من الضروري أن يحاول الوقوف على المبادئ والمقدمات التي استندت إليها المقاومة في اتخاذ قرار الطوفان. هذا فضلا عن كون قراءة الباحث للواقع، التي استند إليها في بناء فتواه، اتسمت بالانهزامية والسطحية والسذاجة.

أن الفتوى التي أعلنها الباحث، وتتفق مع ما أفتى به زعيم الدعوة السلفية السكندرية الشيخ ياسر برهامي عن طوفان الأقصى وسبل التعاطي معه عربيًا وإسلاميًا على مستوى الشعوب والحكومات، جاءت كاشفة عن المِزَاج السلفي المحافظ؛ فهو محافظ من جهة تماشيه مع الموقف السعودي من الطوفان، ومن جهة أنه جاء محكومًا بمنطق صفري، أبيض أو أسود، إما نقض المعاهدة والدخول في حالة حرب، أو الإبقاء عليها مهما تغيرت الظروف وتبدلت السياقات، دون أن يعي أن هناك مسارات لدعم الشعب المحاصر دون نقض المعاهدة، إنما بالضغط على الكيان الإبادي في تل أبيب، عبر استخدام أدوات دبلوماسية واقتصادية وشعبية.

الفتاوى المسيسة عند جماعات الإسلام السياسي:

الفتوى المسيسة لم يفلت منها أحد، فهي لدى كل ألوان الطيف الإسلاموي3، بل هي ممارسة قديمة، “حتي رصد الجلال السيوطي عددا منها، وحذر النووي والتاج السبكي وغيرهما الفقهاء من تسييس الفتوى، ووقع فيها عدد من الفقهاء بغية مصالحهم السياسية أو المادية، مثل العلامة الجلال البلقيني (ابن شيخ الإسلام سراج الدين)! وأهم من كتب فيها الجويني في غير موضع!”، وهي تكشف اليوم عن أزمة فقهية؛ من جهة أولى، فإن الفقيهُ المستقلّ عن المصالح اليوم غير موجود، الفقيه المستقل عن الحزب/ الطائفة/ الفرقة/ الجماعة/ الدولة، غير موجود، الفقيه المستقل ماديًا يأكل من عمل يده غير موجود!، ومن جهة أخرى، فإن الجميع يسعى إلي التكلم باسم الشريعة وحصرها في جماعته أو دولته، ويرى عيوب غيره وخِلال نفسه، فهو معصوم وخصمه مأفون!4“.

في 9 أبريل 2025، أصدر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، فتوى5 بشأن “استمرار العدوان على غزة ووقف الهدنة”، يصح اعتبارها خطابًا تعبويًا أكثر من كونها فتوى؛ فقد جاءت مغرقة في المثالية، وأبعد ما تكون عن الواقع؛ فهي تضع الجميع أمام مسؤوليته، لكن أصحابها أنفسهم لا يتوقعون تحققها ولا ينتظرون ذلك، وهذا يعيبها بالضرورة.

فالدعوة إلى وجوب جهاد الكيان، والتدخل العسكري ضده، والتوقف عن إمداده بالسلع وعدم تسهيل وصولها إليه، وبناء تحالف من الدول الإسلامية كافة لـ “حماية بلاد الإسلام والدفع عن دينها ودمائها ومقدراتها وقرارها وأعراضها”، ومراجعة المعاهدات معه من طرف الدول الإسلامية، مع تحريم التطبيع، معروف أنها مطالب يستحيل تحققها على الأقل في المدى المنظور، في ظل الواقع العربي الراهن بمشكلاته وتعقيداته وحالة الانهيار في جميع دوله البادية للعيان؛ فالمنطقة والعالم في مرحلة انتقالية، يصعب معها توقع اتخاذ سياسات جذرية وحاسمة في ملفات دقيقة وخطرة.
ثم أن مطالبة العلماء بوجوب جهاد العدو، والضغط على حكوماتهم بذلك، ومطالبة الشعوب المسلمة بإمداد إخوانهم في غزة بكل ما يقدرون عليه من الدواء والغذاء والكساء والوقود ونحوها، حتى في حال رفض حكوماتهم، يفتح بابًا واسعًا للعنف الدولتي في مواجهة العلماء والشعوب، عنف قد يقود بدوره إلى عنف مضاد، في دائرة عنف لا تنتهي وقد تقود للفوضى والحرب الأهلية.

فتوى الاتحاد في حقيقتها، تبدو عمل سياسيًا، غرضه الضغط على الشعوب والحكومات، لمواجهة الأولى بضعفهم والأخيرة بأن مجتمعاتهم قابلة للاشتعال، وتقود إلى خلط الأوراق أكثر مما تقود إلى دفع المشهد إلى مسار إيجابي.

فتوى دار الإفتاء المصرية بين الثورية والمحافظة:

في مواجهة فتوى الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أصدرت دار الإفتاء المصرية فتوى6 بديلة، جاءت أقرب للمواقف العربية الرسمية، فقد اعتبرت أن الجهاد وقرار الحرب تأخذه الحكومات الشرعية، وأن الدعوة إلى الجهاد دون مراعاة لقدرات الأمة وواقعها السياسي والعسكري والاقتصادي، هي دعوة غير مسؤولة وتخالف المبادئ الشرعية، وأن دعم الشعب الفلسطيني وإن كان واجب شرعي وإنساني وأخلاقي، إلا أنه يشترط أن يكون تحقيقًا لمصالحهم وليس لخدمة أجندات معينة أو مغامرات غير محسوبة العواقب، وأن تحريض الأفراد على ولي الأمر دعوة للفوضى، وأن الأجدى من إعلان الجهاد هو “العمل الجاد من أجل إيقاف التصعيد ومنع التهجير”.

فتوى دار الإفتاء وإن جاءت ردًا على فتوى الاتحاد العالمي، ونصرة لمواقف الحكومات العربية المتخاذلة عن نصرة مجتمع يتعرض للإبادة في غزة، إلا أنها كانت الأكثر واقعية، والأقل تطرفًا في التعاطي مع ما يجري في غزة وفلسطين، لكن هذا لا ينفي في النهاية أنها جاءت إعلان لموقف سياسي مما يحدث أكثر من كونها خطاب شرعي موضوعي يقترح طريقة للتعاطي مع الإبادة في غزة.

السمات العامة للفتوى المسيسة حول غزة:

يلاحظ في كل الفتاوى المسيسة حول غزة، أنها قد تكون من الناحية الشكلية ذات بناء منطقي، وتستند إلى أدلة جزئية تخدم غاياتها النهائية، لكنها من الناحية الجوهرية تكشف عن نفعية أصحابها. وهي إلى ذلك تكشف عن تقادم الفقه السياسي في بلادنا، فهو لا يدرك التحولات التي يشهدها الواقع، لذلك فالمصطلحات التي يستخدمها لا تناسب الواقع وتعقيداته، وجزء كبير من قياساته تبدو فاسدة، كما يظهر في هذه الفتاوى.

كما أن هذه الفتاوى المسيسة جاءت كمحاولة لتعويض استبعاد المجتمعات من المجال السياسي وتصفير تأثيرها على صنع السياسات العامة في دولها، لذلك دارت حول نفس الجدالات التي شغلت الوَسْط الثقافي العربي، عن المقاومة المسلحة وجدواها مقارنة بتكلفتها العالية، عن الشعوب ودورها في التعاطي مع ما يحدث، عن الحكومات ودورها، عن الشعوب وعلاقتها بحكوماتها في حال تباينت مواقفهم حيال الأحداث، عن الثورات والتغيير والديمقراطية… إلخ.

فوضى الفتاوى وصراع المرجعية:

الفتاوى والفتاوى المضادة لا تكشف فقط عن حالة الفوضى في المجال الديني المصري والعربي، إنما تكشف عن غياب مرجعية شرعية محل اتفاق في المجال الإسلامي السني.

حالة الانقسام والصراع حول المرجعية تفاقمت بصورة كبيرة بعد الربيع العربي، الذي كان من تدعياته سقوط كثير من الرموز الإسلامية السنية ذات الشعبية الطاغية، ما نتج عنه فراغ لم يجد من يملأه طوال السنوات الماضية.

فراغ فاقم من وجوده التوجهات المنفتحة لولي العهد السعودي، الذي قلص من دعم المملكة للتوجهات السلفية، بل واعتقلت سلطات الرياض عديد من الدعاة ذات الشعبية، فيمَا سقط البعض الآخر من دعاة المملكة من جرّاءِ التأييد المفتوح والمطلق للمملكة في سياساتها، مهما جاءت هذه السياسات تصادم ما درج عليه المتدينين.

فيمَا استطاع شيخ الأزهر خلال هذه الفترة نفسها مراكمة قدر من الشعبية والمصداقية لا بأس بها؛ راكمها عبر تبنيه خطاب شرعي معتدل؛ قريب من المِزَاج الشعبي، ولا يصادم المواقف الرسمية.

الخلاصة:

كل هذه التفاصيل يمكن أن نخلص منها إلى أن الكثير من القضايا السياسية “النوازل” التي تشهدها المنطقة، لا تستلزم من الأساس خروج فتاوى تقرر للناس أي مسلك يأخذون، فقط تحتاج إلى أن تأتي السياسات والمواقف محكومة بالمبادئ الكُلِّيَّة للدين ودستوره الأخلاقي، أما الهوس بإصدار الفتاوى عند الملمات، والهوس بالبحث عنها، إنما هو نتيجة مخيال سياسي7 استبدادي مريض يجعل من الشريعة حكرًا لرجال الدين، ويقود هذا الإدراك في حال تحققه إلى أن تبتلع المؤسسات الدينية الدنيا والدين معًا، وينتج عنها نموذج في الاجتماع الحكم لا يقل سوءًا عن حال أوروبا العصور الوسطى تحت سطوة الكنيسة.

1 شريف طه، لماذا كنتم تؤيدون (ح م ا س) قبل ذلك وفي أول طوفان الأقصى ثم انتقدتم فعلهم بعد ذلك؟، فيس بوك، 17 أبريل 2025، في: https://tinyurl.com/bdd76yb9

2 محمد عياش الكبيسي (تويتر)، 7 أبريل 2025، في: https://tinyurl.com/436n9zht

3 وائل عواد، عن الشيخ القرضاوي والحزبية والأدلجة اللعينة…، فيس بوك، 15 أبريل 2025، في: https://tinyurl.com/5cc4nbw9

4 محمد الصياد (فيس بوك)، 8 أبريل 2025، في: https://tinyurl.com/4ufdjwez

5 فتوى لجنة الاجتهاد والفتوى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بشأن “استمرار العدوان على غزة ووقف الهدنة”، 9 أبريل 2025، في: https://tinyurl.com/mr3uc52p

6 دار الإفتاء – المركز الإعلامي، 7 أبريل 2025، في: https://tinyurl.com/y7d5ccyb

7 يشير المخيال السياسي إلى الرؤى والأفكار التي تحكم سلوك الفاعلين السياسيين في الممارسة، فخلف كل قرار وتحرك من جانب دولة أو حزب أو جماعة ما تكمن مجموعة من المعتقدات التي تشكل رؤيتهم عن العالم وما يسعون لتحقيقه لإصلاح واقعهم السياسي.

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022