تشكيل«لجنة مواجهة الأحداث الطائفية» وذ مستقبل الأزهر
فأجأ جنرال الانقلاب عبدالفتاح السيسي جموع المصريين يوم الأحد 30 ديسمبر 2018م بإصدار القرار رقم 602 لسنة 2018، بتشكيل لجنة مركزية تسمى «اللجنة العليا لمواجهة الأحداث الطائفية»، برئاسة مستشاره لشئون الأمن ومكافحة الإرهاب، وزير الداخلية الأسبق اللواء أحمد جمال الدين، وعضوية كل من ممثلى هيئة عمليات القوات المسلحة، والمخابرات الحربية، والمخابرات العامة، والرقابة الإدارية، والأمن الوطنى. ووفقا للقرار، الذى نشر بالجريدة الرسمية في ذات اليوم، فإنه يحق للجنة أن تدعو لحضور اجتماعاتها من تراه، من الوزراء أو ممثليهم وممثلى الجهات المعنية، عند نظر الموضوعات ذات الصلة. ومهمة هذه اللجنة أن تتولى وضع الإستراتيجية العامة لمنع الأحداث الطائفية ومواجهتها ومتابعة تنفيذها، وآليات التعامل مع الأحداث الطائفية حال وقوعها. كما ستعد اللجنة تقريرا دوريا بنتائج أعمالها وتوصياتها وآليات تنفيذها، يعرضه رئيسها على زعيم الانقلاب.[1]
وتباينت ردود الفعل تجاه هذا الكيان الجديد، حيث رحبت الكنائس المختلفة بالقرار، ورأت فيه انحيازا لما أسمتها بالمواطنة، بينما التزم الأزهر الصمت، في الوقت الذي رحبت فيه دار الإفتاء بالقرار، كما هللت له الأوساط الموالية للنظام ومنعت الصحف والمواقع والفضائيات الموالية للسلطة من أي انتقاد للقرار خصوصا في تشكليته الأمنية الغالبة واستبعاد المؤسسات الدينية وتهميش دور الأزهر تحديدا. وفي معسكر الرفض للانقلاب والمعارضة قلل محللون من هذه الخطوة واعتبروها مجرد إصدار جديد من اللجان التي ينشئها السيسي تم تمضي دون دور ملموس، وسيكون مصير هذه اللجنة الأمنية مثل مصير المجلس القومي لمكافحة الإرهاب الذى صدر بقرار جمهوري رقم 355 لسنة 2017 ، والذى لم يقدم أي إضافة على أرض الواقع.
لكن يبقى السؤال مطروحا: لماذا أقدم الجنرال على تشكيل هذه اللجنة رغم وجود "بيت العائلة" الذي يقوده الأزهر والكنيسة منذ 2011م لنفس الغرض؟ ولماذا تم استبعاد المؤسسات الدينية وخصوصا الأزهر عل وجه التحديد؟ وما الرسائل التي يريد النظام إرسالها من وراء هذه اللجنة الجديدة بتشكيلتها ومهامها؟ وما انعكاسات ذلك على طبيعة العلاقة بين النظام والمؤسسة الدينية على وجه الخصوص في ظل التزام الأزهر الصمت حيال هذه اللجنة الأمنية الجديدة؟
ملاحظات فاصلة
بمجرد الإعلان الرسمي عن تشكيل هذه اللجنة تم رصد عدة ملاحظات جوهرية تعكس الهدف من القرار.
أولا، الاكتفاء بالتشكيل الأمني واستبعاد المؤسسات الدينية والعلمية والاجتماعية والمجتمع المدني ما يؤشر لتكريس تعظيم الدور الأمني على حساب باقي الأبعاد والجوانب، كما أن مجرد تشكيل هذه اللجنة هو اعتراف صريح بتعاظم الأزمة الطائفية وإن كان العنوان حاول التخفيف من وقعها بوصفها "الأحداث الطائفية" وليست "الفتنة الطائفية" وإن كان ذلك لا يؤثر في طبيعة الواقع المأساوي.
ثانيا، يمثل القرار استرضاء للكنيسة والأقباط بعد حادثتين مروعتين: الأولى التي نفذها تنظيم "ولاية سيناء" بقتل 7 أقباط بعد الاعتداء على حافلتين في طريق دير الأنبا صموئيل. والثاني مقتل أب وابنه الشاب على يد عناصر الشرطة المكلفة بحراسة إحدى كنائس المنيا. كما يأتي قبل أيام من بروباجندا افتتاح ما تسمى بأكبر كاتدرائية في الشرق الأوسط بالعاصمة الجديدة للسيسي حيث يشارك الجنرال في احتفالات الكنيسة الأرثوذوكسية بعيد الميلاد مساء 06 يناير الجاري2018 ولا يريد أن يجد معارضة من جانب الأقباط الغاضبين من فشله في توفير الحماية لهم. كما يستهدف النظام ترضية أقباط المهاجر الذي علا صوتهم احتجاجهم مؤخرا على وقع هاتين الحادثتين.
ثالثا، الهدف الأكبر من عملية ترضية الكنيسة وأقباط المهجر تأتي في سياق محاولات النظام مساعدة قيادة الكنيسة في لم شمل رعاياها لتقف خلف توجهات جنرال الانقلاب عبدالفتاح السيسي الرامية لإجراء تعديلات دستورية تفضي إلى بقائه في الحكم مدى الحياة، أو أن يبقى على رأس السلطة وفق نظرية "ولاية الفقيه" الإيرانية. وتشكيل اللجنة من قيادات أمنية ومؤسسات الدولة المخابراتية إنما يبعث رسالة للأقباط أنه لا دور لما يسمى بالعرف بعد ذلك في أحداث الفتنة الطائفية وهو ما يطالب به قطاع كبير من الأقباط وإن كان لذلك أضرار كبرى تتعلق بإشعال مزيد من النار في الأحداث الطائفية وسوف تشغل الأمور أكثر مما هي قائمة على المستويين المتوسط والبعيد.
رابعا، الأجهزة التي تتشكل منها اللجنة الجديدة هي ذاتها التي تفشل حتى اليوم في مواجهة أحداث الفتنة الطائفية وتفشل كذلك في مواجهة الاعتداءات المسلحة التي تقع فكيف تكون عاملا من عوامل العلاج وهي أصل المرض وأساس الداء؟! بل إن هذه الأجهزة بظلمها وبطشها وقمعها تؤجحح مشاعر الكراهية باتباع سياسات تعتمد على التمييز وتمارس الاغتيال خارج إطار القانون ضد شباب المسلمين وبذلك فإنها تؤفر أجواء مواتية للعنف المقابل ولا يجد المسلحون سوى الأقباط والسياحة باعتبارهم الحلقة الأضعف من جهة التأمين وبذلك تبقى البلاد في دائرة من العنف والعنف المقابل وهي دائرة لن تنتهي أبدا بتشكيل مثل هذه اللجان الأمنية ولن تنتهي ما بقيت هذه السياسات قائمة وما بقيت هذه الأشخاص تتحكم في مفاصل البلاد السياسية والأمنية.
خامسا، تتصادم الأدوار المنوطة بهذه اللجنة "العليا" بوضوح مع الأدوار التي كانت مسندة إلى هيئة تشكلت بعد ثورة 25 يناير 2011، هي "بيت العائلة المصرية" بقرار من رئيس الوزراء الأسبق، عصام شرف، في عهد المجلس الأعلى للقوات المسلحة. وتم تشكيل "بيت العائلة" للمرة الأولى برئاسة مشتركة بين شيخ الأزهر، أحمد الطيب، والبابا الراحل شنودة الثالث، وحالياً يرأسه الطيب والبابا تواضروس الثاني، بالتناوب فيما بينهما. وكان الهدف من بيت العائلة هو الحفاظ على النسيج الاجتماعي لأبناء مصر بالتنسيق مع جميع الهيئات والوزارات المعنية في الدولة، بعضوية عدد من علماء الدين المسلمين وممثلين عن الكنيسة القبطية وممثلين عن مختلف الطوائف المسيحية بمصر وعدد من المفكرين والخبراء. ومع توجهات الإمام الأكبر والبابا نحو توسيع بيت العائلة ليكون له فروع في باقي المحافظات جاءت قرارات السيسي لتسلط الأضواء على لجنة أمنية حكومية بديلة دون أي ذكر لأدوار "بيت العائلة" ما يؤشر على توجهات تستهدف تهميش دور الأزهر تحديدا. كما أن الخطوة التي اتخذها السيسي أخيراً تكرس الوضعية الصورية لبيت العائلة بخلق لجنة "صورية جديدة" عوامل الفشل فيها أكبر من عوامل ومؤشرات النجاح، بل وتفرغ القرارات السابق اتخاذها بشأن الأحداث الطائفية من مضمونها، والتي كانت تتمثل في تأسيس أفرع لـ"بيت العائلة" في محافظات الجمهورية وتعيين مشايخ وقساوسة لإدارتها والعمل على التدخل السريع وحل المشاكل فور حدوثها والتواصل مع أطراف الأحداث الطائفية والأجهزة الأمنية والتنسيق في ما بينها.
تهميش دور الأزهر
يمكن تفسير هذه الخطوة من جانب السيسي باعتبارها مرحلة من مراحل تهميش الأزهر الشريف في ظل قيادته الحالية تحت رئاسة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب؛ لا سيما وأن المشيخة وهيئة كبار العلماء تمارس مسحة من الاستقلالية تثير غضب رأس النظام العسكري وقد كانت الحرب الكلامية التي جرت في احتفالية المولد النبوي الشريف ربيع الأول 1440ه حول حجية ومكانة السنة النبوية الشريفة كاشفة لحجم الخلاف بين المشيخة والجنرال في عدد من المواقف.
أولا، الإمام الأكبر لا يقبل توجهات رأس النظام الرامية للتقليل من مكانة السنة النبوية وأحكام إسلامية راسخة وعلى رأسها محاولاته للسطو على أموال الوقف بدعوى حسن استثمارها وهو ما رفضته هيئة كبار العلماء في فتوى رسمية واعتبرته خروجا على شروط الواققين الذين أوقفوا هذه الأموال لله وخدمة المجتمع والفقراء.
ثانيا، موقف السيسي من الطلاق الشفهي حيث يطالب بعدم وقوعه إلا إذا تم التوثيق وهو ما رفضه الأزهر مؤكدا وقوع الطلاق الشفوي وفق إجماع الفقهاء وأن عملية التوثيق هي مجرد توثيق للحالة وليس إنشاء لها؛ لأن الطلاق قد وفع بالفعل بمجرد التلفظ به من جانب الزوج ما دامت توافرت فيه شروط صحة وقوع اليمين.
ثالثا، كذلك رفض الإمام ضغوط النظام بإصدار فتوى تكِّفر تنظيم داعش والمسلحين الذين يواجهون النظام مؤكدا أنهم مسلمون عصاة وليس كفارا وأن مستنقع التكفير الذي يتصدى له الأزهر لا يتعين عليه الانزلاق إليه ما يبرر للطرف الآخر إصدار أحكام تكفيرية مضادة وبذلك يبقى المجتمع أسيرا التكفير المتبادل والأكثر خطورة هو مخاوف الأزهر من التوسع في توظيف المؤسسة الدينية والفتاوى الدينية في الصراع السياسي ما يفقد هذه المؤسسات قيمتها عند الناس وهو ما حدث بالفعل. خصوصا بعد مشاركة الطيب في مشهد الانقلاب ولولا بعض مواقفه الأخيرة التي انحازت للشرع ضد توجهات النظام الشاذة لبقي صورة الأزهر مشوهة في عيون عشرات الملايين من المسلمين في مصر والعالم.
رابعا، الأكثر خطورة أن ثمة ضغوطا تمارس على الإمام الأكبر وهيئة كبار العلماء من أجل الإعلان عن دعم توجهات النظام نحو إجراء تعديلات دستورية كما فعلت الكنيسة وأيدت هذه التوجهات.. التي تستهدف في المقام الأول بقاء جنرال العسكر عبدالفتاح السيسي في حكم البلاد مدى الحياة مع منحه صلاحيات أوسع هو يمارسها بالفعل في مخالفة صارخة للدستور لكنه يريد تقنين الوضع الشاذ وجعله مشروعا. لكن الإمام حتى كتابة هذه السطور لا يزال يمانع بشدة إقحام الأزهر في صراع سياسي لا دخل له فيه ويريد أن ينأى بالمشيخة وهيئة كبار العلماء ومجمع البحوث الإسلامية عن التجاذبات السياسية باعتباره مؤسسة علمية لكل المسلمين في العالم. وأن الانحياز إلى مواقف سياسية سوف يفقد الأزهر قيمته ومكانته في عيون الناس.
هل يتم دفع الطيب للاستقالة؟
وأمام هذه المعطيات فإن خطوة السيسي بتشكيل لجنة أمنية لمواجهة ما تسمى بالأحداث الطائفية واستبعاد المؤسسة الدينية منها، إنما تأتي امتدادا لسلسلة من القرارات التي تستهدف تهميش الأزهر وتقليص نفوذه لحساب وزير الأوقاف المقرب من الأجهزة الأمنية مختار جمعة، من جهة وأسامة الأزهري مستشار السيسي للشئون الدينية من ناحية ثانة. وقد سبقت هذه الخطوة خطوات في نفس السياق منها:
1) عدم التجديد للشيخ عباس شومان وكيل الإمام الأكبر رغم أن الطيب طلب بنفسه ذلك لكن رئاسة الانقلاب وأجهزته الأمنية رفضت طلب شيخ الأزهر، الذي اضطر إلى تعيينه في الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء.
2) تمت الإطاحة خلال ديسمبر 2018م بالمستشار محمد عبدالسلام المستشار القانوني لشيخ الأزهر، وإنهاء انتدابه للمشيخة والعودة إلى مجلس الدولة. وتم رفض طلب الطيب باستثنائه من قرار وقف ندب المستشارين وبذلك فقط الطيب أبرز مساعديه.
3) تواصل الهجوم والتطاول من جانب أذرع إعلامية موالية للنظام على الأزهر ومناهجه وشيخه وذلك بدعوى عدم قدرة المشيخة على القيام بمهمة تجديد الخطاب الديني.
ويستهدف النظام بهذه الإجراءات المصاحبة لرفع لافتة "تجديد الخطاب الديني" من أجل الضغط على الأزهر وتطويع المؤسسة الدينية حتى تكون أكثر انصياعا لتوجهات وسياسات النظام، وأمام ما أبداه الإمام من صلابة في المواقف السابقة، فقد بدأ النظام في استخدام سياسة إضعاف المشيخة عبر تفكيك الدائرة المحيطة بالطيب والإطاحة بها واحدا تلو الآخر حتى يبقى الشيخ وحيدا معزولا أمام هجمات النظام وإعلامه السليط.
بالطبع فإن الطيب في مقابل ذلك يتمتع بدعم هيئة كبار العلماء ومجمع البحوث الإسلامية وقطاع كبير من الأزاهرة وهو ما تجلى في التصفيق الحاد الذي قوبلت به كلمة الإمام في احتفالية المولد النبوي سالفة الذكر وأمام جنرال الانقلاب الذي تعرض لإحراج واسع، كما يحظى الطيب بدعم كثير من الطرق الصوفية وإن كان بعض قيادات هذه الطرق مرهون برضا القيادات الأمنية عليها كما يتمتع الطيب باحترام كبير في أوساط المسلمين في أعقاب مواقفه الأخيرة التي انحاز فيها للإسلام على حساب السلطة، كما يتمتع باستقلالية اكستبها الأزهر في دستور الثورة 2012م وتم النص عليها في دستور الانقلاب 2014م، وهي استقلالية لولاها لتمت الإطاحة بالطيب منذ زمن بعيد.
النظام من جانبه يدرك أبعاد قوة الطيب لكنه يراهن على المستقبل وعلى الأرجح فإن ثمة مسارين متوقعين:
الأول، مواصلة الضغوط على الإمام واستمرار تفكيك الدائرة المحيطة به حتى يجبروه على الاستقالة بدعوى عدم قدرته الصحية على أداء مهامه بشكل أفضل أو أي مبرر آخر.
الثاني، مواصلة الضغوط عليه لإعلان دعم التعديلات الدستورية فإن أبى فالأرجح أن يتم تضمين هذه التعديلات ما يفقد الأزهر استقلاليته التي اكتسبها بعد ثورة يناير، وبذلك يضعوا الإمام أمام خيارين أحلاهما مر: الأول إعلان الأزهر دعم توجيهات النظام نحو تعديل الدستور مع بقاء نصوص استقلال الأزهر في الدستور كما هي. الثاني، أن يبقى رافضا إقحام الأزهر في المواقف السياسية وبذلك يتم إلغاء استقلال الأزهر من الدستور ثم الإطاحة به بعد تمرير هذه التعديلات وتعيين مختار جمعة جديد على رأس المشيخة حتى يتحقق انصياعها الكامل للنظام وتوجهاته.
الإطاحة بالطيب قائمة في معظم الأحوال، والسيناريوهات إلا إذا رأوا منه الانصياع التام والتسليم المطلق بكل مواقف النظام والدفاع عنها وهو الخط الذي لا يتبناه الإمام حاليا ويتسبب في صدام مع النظام وأجهزته وأبواقه الإعلامية.. لكن الإطاحة قائمة على الأرجح بناء على أمرين: الأول هو الخبرة من تجارب حكم العسكر السابقة منذ محمد علي حيث يدركون خطورة الأزهر، وهو ما أكد أهميتها اللواء محمد نجيب رئيس مصر السابق في مذكراته، حيث قال: إن من يريد أن يمتلك زمام الحكم في مصر، عليه أن يضمن نفوذه في مؤسستين كبريين: الأزهر والجيش.
أما الأمر الآخر، والذي لا تخطئه عين الراصد لمجريات الأحداث في مصر، بعد الإنقلاب، فالسيسي يسعى لتأميم المؤسسات الدينية، وضمان الولاء الكامل لشخصه من جانب القائمين على رأسها؛ فالإجراءات التي تتخذ في هذه الفترة مع مشيخة الأزهر، تدل بوضوح على أنه يجري استفزاز الطيب ليعجل بتقديم استقالته، في ظل تهيئة أسامة الأزهري تلميذ علي جمعة ومستشار السيسي للشئون الدينية وإعداده على نار هادئة بعيدا عن الحرق الإعلامي ليكون البديل الأوفر حظا إذا تمت الإطاحة بالإمام الأكبر.