السيسي أمام تطورات المشهد الليبي
أمام التطورات السريعة في المشهد الليبي وزيادة مساحة التهديدات المصرية بالتدخل العسكري المباشر في المشهد الليبي، تسود حالة من الترقب في الأوساط البحثية ومراكز البحث حول اقتراب الصراع في ليبيا من التحول من حرب بالوكالة إلى مواجهة مباشرة بين أنقرة من جهة والقاهرة مدعومة من الإمارات وروسيا من جهة ثانية، إضافة إلى ذلك فإن الهزائم التي مُنيت بها مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر في معركة طرابلس وطرد قواته من جميع المناطق التي سيطرت عليها منذ بدء عدوانها على العاصمة طرابلس في إبريل 2019م أمام قوات حكومة الوفاق المعترف بها دوليا والمدعومة من تركيا قد أجبرت نظام السيسي في القاهرة على إعادة التفكير في إستراتيجيته ودعمه للجنرال الذي كان يأمل تحالف الثوارت المضادة (أبو ظبي ــ الرياض ــ القاهرة) في أن يكون نسخة من “عبد الفتاح السيسي” في ليبيا. ويتأهب الفريقان لمعركة “سرت” المرتقبة، فحكومة الوفاق والجيش الوطني الليبي يتأهبان لاسترداد المدينة التي تسيطر عليها مليشيات حفتر وشركة “فاجنر”الروسية وبعض المرتزقة من تشاد والسودان وغيرها، وتكتسب “ٍسرت” أهمية استراتيجية كبرى؛ لأنها تربط إقليم طرابلس بإقليم برقة وكذلك إقليم فزان الجنوبي، وتقع المدينة على بعد نحو 450 كلم من العاصمة طرابلس ونحو 400 كلم جنوب شرق مدينة مصراتة و600 كلم إلى الجنوب الغربي من بنغازي، كما تحتوي على قاعدة القرضابية الجوية وميناء بحري، وغير بعيد عنها تقع قاعدة الجفرة الجوية وهي من أكبر القواعد العسكرية الليبية، لذا فإن المدينة تمنح من يسيطر عليها منفذاً إلى قاعدة الجفرة العسكرية الرئيسية التي تقع جنوب سرت، فضلاً عن أن سرت تفتح الطريق باتجاه منطقة الهلال النفطي في وسط البلاد، بعدما أوقف حفتر إنتاج النفط، وبالتالي فإن سيطرة حكومة الوفاق على هذه المنطقة سيسمح لها باستئناف إنتاج النفط، وضخ المال في أروقة حكومة الوفاق لتستكمل دورها، وهذا من شأنه أيضاً إعطاء حكومة الوفاق زخماً أكبر في علاقتها مع الدول المتطلعة إلى النفط الليبي مثل فرنسا وإيطاليا وروسيا وأمريكا، ويقوي موقفها التفاوضي. وحول استشراف مآلات الصراع بين أنقرة والقاهرة في الساحة الليبية، في ظل التطورات الأخيرة والخيارات المتاحة للطرفين بشأن الملف الليبي والمعركة المرتقبة حول مدينة سرت بما تحمله من أهمية استراتيجية كبيرة للطرفين، يمكن رصد السيناريوهات الآتية: الحرب الباردة السيناريو الأول هو “الحرب الباردة”، ويعني أن تظل تركيا وروسيا في حرب باردة في ليبيا، وتشترك مصر في هذه الحرب عبر التهديدات المستمرة بالتدخل دون أن تكون هناك حرب فعلية بين هذه الأطراف، ويعتمد هذا السيناريو على فرضية عدم جدية التهديدات المصرية، وهذا يتماشي مع نظرة كثير من المحللين الليبيين بأن السيسي إنما يستهلك الأزمة الليبية في الداخل المصري ويحاول أن يظهر السيطرة المصرية على عقيلة صالح وخليفة حفتر وأنه هو البوابة لإذعانهم للمنطق الدولي؛ في محاولة لإثبات مكانة إقليمية لمصر يمكن بها التغطية على الفشل في ملف أثيوبيا وسد النهضة التي بدأت بالفعل في حجز المياه دون اكتراث للنظام في مصر الذي يقف عاجزا أمام أكبر تهديد للأمن القومي المصري. التدخل المحدود السيناريو الثاني هو التدخل المحدود، وهو قائم بالفعل منذ 2014م، فالسيسي واضح الدعم والانحياز لمليشيات حفتر ويدعمه سياسيا وإعلاميا وعسكريا بالسلاح والمعدات والأجهزة والمعلومات، لكن مستوى هذا التدخل المحدود قد ترتفع قليلا في ظل التهديدات المتبادلة بشأن سرت، وقاعدة الجفرة العسكرية جنوبها، وقد ظهرت مؤشرات تعزز هذه الفرضية أولها إعلان السيسي عن تدريب مليشيات من شباب قبائل بشرق ليبيا تحت مسمى تأسيس جيش وطني ليبي، هذا التدخل المحدود لا يمنع أن يكون ضمن تحالف مشترك يضم الإمارات ومليشيات شركة “فاجنر” الروسية، والتنسيق بين هذه المليشيات لمواجهة الجيش الوطني الليبي الذي تقوده حكومة الوفاق المعترف بها دوليا، والهدف من التصعيد المحسوب لهذا التدخل المحدود هو وقف زحف الجيش الليبي نحو سرت واسترداد مناطق الهلال النقطي التي تحظى بأهمية كبرى على المستوى الإستراتيجي والدولي، وفي هذه الحالة لن تحدث مواجهة عسكرية شاملة؛ لأن الهدف هو الردع وليس الهجوم ولكن لن يكون لمصر موقف قوي في أي تفاهمات إذا ما كانت روسيا هي التي تقود المعارك؛ لأن قوتها الاستراتيجية وحجمها الإقليمي لا يقارن بروسيا أو تركيا؛ فليست مصر منخرطة في أي من الملفات الدولية كملف سوريا أو ملف الغاز والتصدير لأوروبا كما أن حجم صادراتها لهذه الدول لا يكاد يذكر. التدخل الشامل السيناريو الثالث، هو التدخل العسكري الشامل والمباشر، والذي سيفضي إلى مواجهة مسلحة مع حكومة الوفاق المدعومة من تركيا؛ هذا التدخل العسكري المصري الشامل لن يواجه بأي مواجهة في الشرق الليبي الذي يسيطر عليه حفتر، لكن القوات المصرية ستجد صعوبة شديدة في الوصول إلى مناطق وسط وغرب ليبيا التي تسيطر عليها حكومة الوفاق. وستكون هناك حرب عصابات لكنها ستكون مرهقة ومكلفة خاصة أن على هذه القوات أن تقطع مسافة أكثر من 1400 كيلومتر بخلاف الرفض الدولي لمثل هذا التدخل غير الشرعي الذي يدعم قوات غير شرعية وخارجة عن القانون، وبالتالي سيتعرض نظام السيسي لضغوط دولية خصوصا وأنه يواجه بالفعل ضغوطا شديدة في ملفات أكثر سخونة مثل ملف سد النهضة وبدء إثيوبيا حجز المياه فعليا وسط عجز النظام في مصر عن حماية الأمن القومي المصري، والملف الثاني هو العمليات التي يشنها مسلحون في سيناء والتي أدت إلى انكشاف الجيش المصري وعدم قدرته على مدار السنوات الماضية عن حسم هذا الصراع الذي يستنزف الجيش وأسفر عن مقتل وإصابة الآلاف. وهناك عدة مؤشرات يمكن أن يفهم منها اقتراب تدخل عسكري مصري مباشر في ليبيا، في أعقاب الهزائم المدوية التي تعرضت لها مليشيات اللواء خليفة حفتر. أول هذه المؤشرات هو التصريحات المتكررة من جانب عبدالفتاح السيسي، والتي يهدد فيها بمثل هذا التدخل العسكري المباشر، وكان آخر هذه التصريحات خلال لقائه بعدد من شيوخ قبائل بشرق بليبيا الذي تسيطر عليه قوات حفتر يوم الخميس 16 يوليو 2020م؛ وهي التصريحات المتناقضة لأنه يؤكد الرفض لأي تدخل أجنبي في الشأن الليبي والدعوة إلى استقراراها سياسيا واجتماعيا وعسكريا؛ لكنه في ذات الوقت يعلن استعداده لاستضافة وتدريب من وصفهم بأبناء القبائل الليبية لبناء ما وصفه بجيش وطني لمحاربة حكومة الوفاق المعترف بها دوليا، وبينما يشدد على أنه لا يريد لليبيا أن تتحول إلى ملاذ آمن للخارجين عن القانون، فإذا به يدعم مجرم حرب ومليشياته التي ارتكتب مذابح جماعية مروعة، ولا شك أن تكوين مليشيات قبلية تحت مسمى “جيش وطني” هي روشتة لإشعال مزيد من الحرب الأهلية وليست وصفة للسلام والاستقرار، ولذلك رفضت حكومة الوفاق الليبية انحياز السيسي لحفتر واعتبرت ذلك تدخلا سافرا واحتلالا لبلادهم، كما اعتبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان انحياز السيسي لحفتر ومليشياته ضد حكومة الوفاق الشرعية المعترف بها دوليا توجها غير مشروع.[[1]] وفي ذات الوقت أيضا أرسل السيسي مئات المرتزقة من أبناء القبائل الذين جرى تدريبهم في القاهرة…