أعلن وزير المالية المصري عمرو الجارحي في يوليو 2016، عن بدء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي؛ للحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار خلال ثلاث سنوات، بواقع أربعة مليارت دولار سنويًّا، وبفائدة تتراوح بين 1 إلى 1.5%، وذلك ضمن برنامج يستهدف جذب تمويلات قيمتها 21 مليار دولار خلال ثلاث سنوات؛ يُجمع بقيتها من خلال إصدار سندات وتمويل من البنك الدولي ومصادر أخرى، ذلك بالإضافة إلى، طرح ما بين خمس إلى ست شركات حكومية في البورصة خلال 2016-2017، وأكد “الوزير” أن مصر تستهدف من خلال هذا القرض، سد الفجوة التمويلية في مشروعاتها، وإعطاء شهادة ثقة للمستثمرين اﻷجانب في إجراءات اﻹصلاح الاقتصادي المصري، والتي سيُشرف عليها الصندوق، لافتًا إلى ارتفاع معدلات عجز موازنة العام المالي الجديد إلى حوالي330 مليار جنيه[1].
القرض وشروط الصندوق:
يكشف تتبع خريطة عمل الصندوق في المنطقة العربية وجود شروط متشابهة في مختلف تجارب الإقراض التي يدخل الصندوق طرفاً فيها، ويأتي تقليص عجز الموازنة عموماً على رأس برامج الاتفاقات كلها، في الوقت الذي يتباين فيه بوضوح حجم العجز في ميزانيات الدول المقترضة؛ وعادة ما يدفع الصندوق بأن خفض العجز يساعد على دفع النمو الاقتصادي، ويلجأ الصندوق في تحقيق ذلك إلى المطالبة بتخفيض الإنفاق الحكومي كآلية أساسية لتخفيض عجز الموازنة، من خلال تقليص حجم الانفاق عبر تخفيض الدعم وأجور القطاع الحكومي[2]. وفي الحالة المصرية، وبحسب وثائق القرض التي أعلنها الصندوق، فإن مصر بموجب اتفاقها مع المؤسسة الدولية ملزمة بعدد من الشروط التي يمثل تبنيها إلتزام حرفي بالسياسات النيوليبرالية، والتي تستهدف تخفيض الدعم ورواتب القطاع العام، مع تحرير قطاع الطاقة المصري وإقرار إصلاحات لتشجيع المستثمرين. ولقد استجابت الحكومة المصرية بالفعل للشروط التي وضعها الصندوق[3]. ومن مؤشرات هذه الإستجابة، إصدار قانون الخدمة المدنية[4]، والذي يعد بمثابة أداة الحكومة في التخلص من فائض موظفي الدولة[5]، ومنها إصدار قانون القيمة المضافة[6]، والتي أدت إلى إرتفاع كبير في قيمة السلع والخدمات[7]، ومنها رفع أسعار الوقود تمهيداً لرفع دعم الوقود بشكل كامل[8]، وأخيراً تحرير سعر الصرف[9]. هذا وتلتزم الحكومة خلال الشهور القادمة بضرورة تبني استراتيجية إعادة هيكلة قطاع الطاقة، وبزيادة اﻹنفاق الاجتماعي على برامج الدعم النقدي والمعاش الاجتماعي ووجبات المدارس والتأمين الصحّي والعلاج المجاني للفقراء بمقدار 25 مليار جنيه، وإنفاق 250 مليون جنيه ﻹنشاء حضانات عامة لدعم قدرة المرأة على البحث عن عمل[10].
التحول النيوليبرالي والاستقرار السياسي:
السؤال الأساسي الذي نطرحه في هذه المساحة بعد التعريج السريع على التأثيرات السلبية الناجمة عن تبني السياسات النيوليبرالية إستجابة للشروط التي يضعها صندوق النقد الدولي على الدول المقترضة، هو هل يمكن أن ينتج عن تبني هذه السياسات تحركات شعبية كبيرة تمثل تهديداً للإستقرار الهش القائم، وتمثل خطراً على بقاء النظام الحالي؟
ثمة عدد من المتغيرات التي تؤثر بصورة كبيرة على العلاقة بين التردي الإقتصادي وتفجر الغضب الشعبي، منها،
أولاً: مدى كفاءة إدارة النخبة الحاكمة للأزمة الاقتصادية؛ فقد لا تؤدي الأزمات الاقتصادية الحادة إلى تعبئة احتجاجية في حالة عدم الاعتقاد بمسئولية الحكومات عنها، وارتباطها بأزمات خارجية، أو في حالة قيام الحكومات باقتراح معالجات ناجحة لها تتضمن تغييرًا في الأشخاص و/أو السياسات.
ثانياً: شعبية النظم الحاكمة في بلدانها، فالنظم الأكثر شعبية يقل بالضرورة مساءلتها عن الاخفاقات التي تتسبب فيها، ومن اليسير أن تقدم هذه النظم “كبش فداء” عن أخطائها خاصة في مجتمعات العالم الثالث.
ثالثاً: مدى كفاءة الأداة الأمنية في التعاطي مع الاحتجاجات؛ حيث تُمثل الأداة الأمنية آلية أساسية للضبط والسيطرة للحيلولة دون تحول الأزمات الاقتصادية إلى موجات احتجاجية وثورية مهددة للنظم، مع التأكيد على أن الأداة الأمنية سلاح ذو حدين قد يخلق استخدامه بصورة غير احترافية إلى تفاقم الغضب وتفجر الوضع.
رابعاً: العلاقة بين النخب الحاكمة والمعارضة ودرجة الصراع فيما بينها، حيث تُشير الدراسات إلى أن زيادة حدة الانقسامات بين النخب الحاكمة والمعارضة مع قوة الأخيرة يزيد احتمالات تحول الأزمات الاقتصادية لمصدر تهديد للنظم.
خامساً: السياق الخارجي وتأثيره على دعم/إضعاف النظم القائمة، فالدول تنجح في تجاوز التأثيرات السلبية للأزمات الاقتصادية الحادة حال توافر سياق خارجي داعم ومساند لها، والعكس صحيح.
وأخيراً: قد يلعب السياق الإقليمي دورًا مهمًّا في التأثير سلبًا في تطور الحركات الثورية[11]، فالانتكاسات التي تعرّضت لها العديد من الدول العربية -مثل ليبيا وسوريا واليمن- تُقلل من الحافز أمام تجدد الموجات الثورية في المنطقة، خاصةً في ضوء الأوضاع المتدهورة التي تُعاني منها هذه الدول[12].
الخاتمة:
بالطبع تظهر قراءة واقع العلاقة بين تفجر الغضب الشعبي والأزمات الإقتصادية الطاحنة في المجال المصري في ضوء المتغيرات الوسيطة المذكورة في السطور السابقة، أن النظام الحالي لا زال قادراً على البقاء والاستمرار، وعلى مواجهة إرتدادت القرارات الٌإقتصادية ذات التأثيرات شديدة الضرر على المجتمع المصري، إلا أن هذه القدرة على الاستمرار تقف على شفا جرف هار من الممكن أن ينهار في أي لحظة، خاصة في ظل استمرار تفاقم الأوضاع وغياب أية شواهد على تحسن الأوضاع في المستقبل المنظور. وكما أن لهذه القرارات تأثيرات سلبية كبيرة على المجتمع، إلا أنها ذات تأثيرات إيجابية كبيرة أيضاً ولكن بعيدة المدى، من أهم هذه التأثيرات أنها تحرر المجتمع من الخضوع الكامل للنظام القائم/الأبوي، وتفطمه من الاعتماد على الدولة في تحقيق الاستقرار والتنمية، وتزرع بداخله الوعي بالحرية والاعتماد على الذات، وبالتالي تنزع عن النظام القائم مسوغات بقائه، وتجرده من شرعيته، وتدفعه للبحث عن مصدر جديد للشرعية بعيداً عن دعاوى تحقيق الرخاء وخدمة المواطن، وهو ما يمهد بدوره إلى صياغة عقد اجتماعي جديد بين المجتمع والدولة، إما يقبل النظام الحالي به، وإما تطيح به رياح التغيير.
[1] ساسة بوست، القصة الكاملة.. قرض صندوق النقد الدولي المثير للجدل في مصر، 29 يوليو 2016، الرابط: https://is.gd/F1dQrv
[2] بيسان كساب، خريطة عمل صندوق النقد في المنطقة العربية، مدى مصر، 31 أغسطس 2016، الرابط: https://is.gd/cynlRB
[3] إيزابل إيسترمن و حسام بهجت، انفراد: “مدى مصر” ينشر قرار السيسي بتوقيع قرض البنك الدولي، 4 فبراير 2016، الرابط: https://is.gd/4Z43S3
[4] الرئيس السيسى يصدر قانون الخدمة المدنية بعد موافقة مجلس النواب، اليوم السابع، 2 نوفمبر 2016، الرابط: https://is.gd/ohHPaA
[5] فاطمة رمضان، مشكلات قانون الخدمة المدنية، مدى مصر، 22 مارس 2015، الرابط: https://is.gd/d8t8Xr
[6] قانون القيمة المضافة يصدر رسمياً، برلماني، 8 سبتمبر 2016، الرابط: https://is.gd/kNDUk3
[7] ننشر نص مواد قانون الضريبة على القيمة المضافة بعد إقرارها من البرلمان، اليوم السابع، 29 أغسطس 2016، الرابط: https://is.gd/noWsH6
[8] لينا عطا الله، أسئلة وأجوبة حول رفع الدعم عن الوقود، مدى مصر، 29 يوليو 2014، الرابط: https://is.gd/hYYXVj
[9] البنك المركزي المصري يعلن تحريراً كاملاً لسعر الجنيه، العربية، 3 نوفمبر 2016، الرابط: https://is.gd/K4OFuF
[10] محمد حمامة، قرض صندوق النقد: الآن صرنا نعرف، مدى مصر، 18 يناير 2017، الرابط: https://is.gd/LeNdvu
[11] أيمن الصياد، حتى لا نكون «مثل سوريا والعراق»، بوابة الشروق، الرابط: https://is.gd/Iyz9do
[12] رانيا علاء الدين السباعي، مشروطيات التعبئة: متى تؤدي الأزمات الاقتصادية إلى موجة انتفاضات شعبية؟، https://is.gd/2w7ZfE