أبعاد الموقف الإيراني من عملية طوفان الأقصي والعدوان الإسرائيلي علي غزة

وضعت الحرب بين إسرائيل وحركة حماس منذ 7 أكتوبر الماضي، إيران والمليشيات الموالية لها أمام معضلة حقيقية، فعلى خلاف الجولات السابقة من التصعيد، بدا لأول مرة أن إيران حريصة على تأكيد أنها ليست معنية بالانخراط في النزاع، أو بمعنى أدق ليست معنية بدفع جزء من كلفة العملية التي نفذتها حماس داخل غلاف غزة وكانت السبب المباشر في اندلاع المواجهات. في الغالب يعود هذا الموقف إلى أن الحرب الحالية مختلفة إلى حد كبير عن سابقاتها، فالمدى الذي وصلت إليه عملية حماس التي قتل فيها نحو 1200 شخص لم يكن مسبوقًا، وبالمثل فإن المدى الذي وصلت إليه العملية العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة لم يكن مسبوقًا أيضًا، كما أن الدعم الأمريكي المتواصل لإسرائيل على المستويات المختلفة لمساعدتها في إنجاز أهدافها من الحرب وفي الوقت نفسه منع خصومها من توسيع نطاق انخراطهم فيها هو دعم استثنائي.

في هذا السياق يمكن القول أن إيران بقدر ما فوجئت بالمستوى الذي وصلت إليه عملية حماس فوجئت أيضًا بالرد الإسرائيلي، وربما يفسر ذلك التناقض في التصريحات الإيرانية حول الحرب؛ ففي حين تؤكد التصريحات الإيرانية علي أنها ستتدخل إذا استمرت العملية العسكرية، ولكنها سرعان ما تؤكد على أن القوات المسلحة الإيرانية لن تدخل في اشتباك مع إسرائيل ما لم تقم الأخيرة بالهجوم على أراضي إيران أو مصالحها أو مواطنيها[1]. وعليه تسعي هذه الورقة إلي محاولة الوقوف علي أبعاد الموقف الإيراني من عملية طوفان الأقصي وما تبعها من عدوان إسرائيلي علي غزة، وتوضيح أهم المحددات المؤثرة في هذا الموقف الإيراني.

أولًا: موقف إيران من القضية الفلسطينية وحركات المقاومة قبل طوفان الأقصي:

تعود جذور العلاقات الفلسطينية الإيرانية إلي نهاية القرن التاسع عشر؛ حينما فتحت إيران ممثلية لها في فلسطين لرعاية شؤون تجارها هناك، حيث استمر حضورها إلى حين قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي عام 1948، حيث نشأت علاقة مميزة بين الطرفين، استنادًا إلى الاستراتيجية الإسرائيلية المعروفة باسم “شد الأطراف”، التي تقضي بالتحالف مع الدول المحيطة بالعالم العربي، مثل إيران وتركيا وإثيوبيا، بهدف محاصرته من أطرافه. وبالفعل، ترسخ تحالف ناشئ بين إسرائيل وشاه إيران “محمد رضا بهلوي”؛ الذي زودها بالنفط واستورد منها العديد من البضائع، ورعى تعاونًا أمنيًا بين جهاز أمن الدولة الإيراني “السافاك” وبين الموساد الإسرائيلي بهدف ملاحقة المعارضة الإيرانية، كما دعم مسار التسوية المصرية – الإسرائيلية، ووصف الكفاح الفلسطيني المسلح بأنه عمل “إرهابي”، وحارب جميع مظاهر التعاطف مع فلسطين، بالتوازي مع محاربته لمعارضيه الإيرانيين.

ولكن بمجرد انهيار نظام الشاه، وقيام نظام الثورة الإسلامية عام 1979، تبنى “آية الله الخميني” موقفًا معاكسًا من إسرائيل، يرى أن الصهيونية عدو لإيران والإسلام، وغدة سرطانية ينبغي استئصالها. وبالفعل بمجرد إسقاط الشاه سحبت إيران اعترافها بإسرائيل وطردت بعثتها الدبلوماسية، واستبدلت بمكاتب التمثيل الدبلوماسي الإسرائيلي مكاتب لسفارة فلسطين، وقدمت الدعم السياسي والمالي للثورة الفلسطينية وممثلتها منظمة التحرير.

لكن العلاقة بين طهران ومنظمة التحرير سرعان ما تراجعت لأسباب على رأسها الخلاف الأيديولوجي، إذ برزت علمانية المنظمة عائقًا أمام مساعي إيران لأسلمة الثورة الفلسطينية، حيث كانت العوامل الأيديولوجية شديدة الأهمية في تحديد سياسات الثورة الإيرانية في سنواتها الأولى، إضافة إلى اتضاح ميل المنظمة إلى العراق إبان حرب الخليج الأولى بفعل الضغط الذي مارسته القوى القومية داخل المنظمة.

وعلى الرغم من ذلك صمدت العلاقة بين الطرفين إلى حين توقيع اتفاقية السلام الفلسطينية الإسرائيلية عام 1993، المعروفة باسم اتفاقية أوسلو، التي أطلقت رصاصة الرحمة على التحالف الهش، إثر اتهام طهران للمنظمة بالتخلي عن المقاومة والتفريط في حقوق الفلسطينيين. وبالتوازي وجدت إيران حليفًا جديدًا أقرب لها أيديولوجيًا على الساحة الفلسطينية، وهو حركة الجهاد الإسلامي، التي انشقت عن جماعة الإخوان المسلمين عام 1980، ورأت في الثورة الإيرانية نموذجًا ملهمًا، لكن حجمها ونشاطها لم يسمحا لها بلعب دور الحليف القوي الذي تطمح له طهران.

ظهر هذا البديل المحتمل إلى السطح بعدما أعلن الإخوان المسلمون في فلسطين عن إنشاء حركة المقاومة الإسلامية، حماس، عام 1987، التي سرعان ما سطع نجمها بفعل ريادتها للانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلعت في نهاية ذلك العام نفسه. وبعد ثلاثة أعوام من تأسيسها، بدأت العلاقة بين حماس وإيران في التشكل عام 1990، حيث زارت وفود من الحركة إيران، وفُتح مكتب تمثيل دبلوماسي للحركة هناك عام 1992، بما مثل اعترافًا إيرانيًا بالدور المركزي الذي تلعبه حماس في فلسطين.

كان إبعاد إسرائيل المئات من قيادات حماس إلى جنوب لبنان عام 1992 محطة مهمة في العلاقات بين الحركة الفلسطينية وحزب الله اللبناني حليف طهران في لبنان والحرس الثوري الإيراني. وحينما أُفرج عن قائد حماس ومؤسسها الشيخ أحمد ياسين عام 1998 فإنه زار طهران والتقى كلًا من المرشد الأعلى للثورة آية الله خامنئي، والرئيس الإيراني في حينها محمد خاتمي. وبعد توثق العلاقة، قدمت طهران الدعم السياسي والمالي وتكنولوجيا التصنيع العسكري، إضافة إلى التدريب العسكري لمقاتلي الحركة.

ازدادت أهمية حماس ومركزيتها في نظر إيران عقب فوزها في الانتخابات التشريعية عام 2006، إذ انتقلت من كونها حركة مقاومة وفصيلًا سياسيًا معارضًا إلى حكومة الفلسطينيين، ما دعا طهران إلى مضاعفة دعمها لها، فتعهدت بتقديم 50 مليون دولار شهريًا لهذه الحكومة، وفي المقابل كان للمقاطعة الدولية والإقليمية لحكومة حماس دور أساسي في دفع الحركة باتجاه توثيق علاقتها مع إيران.

واستمر ربيع العلاقة بين الطرفين حتى جاء الربيع العربي ووصلت رياحه إلى سوريا، مقر إقامة قيادة حماس، وعاصمة الحليف الإقليمي الأهم للقيادة الإيرانية، فمع تقدم مسار الثورة السورية، وشروع نظام الأسد في قصف معارضيه بالبراميل المتفجرة بدعم من طهران، وجدت حماس نفسها أمام الاختبار الأخلاقي الأهم في تاريخها، اختبار وضع علاقتها الاستراتيجية مع طهران أمام تحد غير مسبوق. ففي حين اعتبرت طهران الثورة السورية “مؤامرة دولية على المقاومة”، لكن حركة حماس أظهرت انحيازها إلى الشعب السوري، إذ أفصح رئيس الحركة في قطاع غزة آنذاك “إسماعيل هنية” عن دعمه للثورة السورية في خطاب من منبر الأزهر، كما قاتل بعض أبناء الحركة ضمن فصائل الثورة السورية، في الشمال السوري وفي مخيم اليرموك الذي شكلوا فيه فصيل “أكناف بيت المقدس”.

مثل خروج حماس من سوريا ومواقفها المؤيدة للثورة لاحقًا صدمة لإيران، التي خفضت دعمها للحركة، وشن إعلامها وإعلام حلفائها هجومًا على حماس وصل إلى اتهامها بالخيانة، وبدا أن العلاقة بين الطرفين ذاهبة باتجاه القطيعة، لكن صمود الحركة في وجه العدوان الإسرائيلي على القطاع عام 2012 دفع إيران إلى استئناف الدعم العسكري للحركة، مع محاولة التمييز في التعامل بين الجناح العسكري في قطاع غزة وبين قيادة الحركة السياسية، وبالفعل فقد ظهر بعض التباين في الخطاب والمواقف بين الطرفين، إذ كان تقدير العسكريين لأهمية الدعم العسكري الإيراني يدفعهم إلى التعبير عن التقارب مع إيران، في حين كانت حساسية القيادة السياسية المقيمة في الخارج أكبر تجاه أي تعبيرات من هذا النوع؛ بفعل كثرة اختلاطها مع القوى الشعبية الإسلامية التي تعاني من السياسات الإيرانية الإقليمية.

وفي خلفية المشهد، لا يمكن إغفال دور كلًا من مصر ودول الخليج، وعلى رأسها السعودية، التي لم تأل جهدًا لإبعاد حماس عن إيران، وذلك بتشجيعها على الخروج من سوريا، وعلى إجراء المصالحة الفلسطينية بهدف ضمها إلى اصطفاف سياسي سني في مواجهة إيران الشيعية، وهو ما حصل في اتفاق القاهرة عام 2011 واتفاق الدوحة عام 2012. لكن هذه الدول لم توفر بديلًا سياسيًا ولا ماليًا ولا عسكريًا يغني حماس عن علاقتها بإيران، بل كانت تدفعها باتجاه قبول حل الدولتين وقيادة عباس للنظام السياسي الفلسطيني، ولم يقتصر الأمر على ذلك، فبالتزامن مع الانقلاب العسكري على حكم الإخوان في مصر منتصف عام 2013، بدأت هذه القوى في ممارسة ضغوط غير مسبوقة على الحركة، وهو ما أضعف جدوى المراهنة على “المعسكر السني” لتحقيق هدف نشوء الحركة، وهو مقاومة الاحتلال إلى حين زواله عن فلسطين كاملة.

وبناء على هذه الاعتبارات، عادت العلاقة بين الطرفين للتحسن تدريجيًا، في نهاية ولاية رئيس المكتب السياسي السابق للحركة خالد مشعل عام 2017، وتعزز هذا الاتجاه مع انتقال الأمر إلى إسماعيل هنية القادم من قطاع غزة، الذي تعده طهران أقرب إليها من مشعل.

ظهرت معالم هذا التقارب في كثرة زيارات الحركة إلى طهران، وبروز التصريحات بخصوص “وحدة الجبهات”، بمعنى أن قوى المقاومة ستخوض الحرب معًا في حال اعتدت إسرائيل على أي منها، وزيادة التعبيرات العلنية عن التحالف بين الطرفين، التي أثار بعضها جدلًا واسعًا وردود فعل في الرأي العام العربي في محطات عديدة، من أبرزها وصف هنية قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإسلامي قاسم سليماني عقب مقتله في ضربة أميركية مطلع عام 2020 بأنه “شهيد القدس”.

وفي المعركة الأخيرة بين حماس وإسرائيل، التي سمتها حماس “سيف القدس” في مايو 2021، ظهرت مشاركة رمزية عبر الحدود اللبنانية، تمثلت في إطلاق ثلاث رشقات من صواريخ بدائية الصنع، وهو أمر لم يكن ليحصل دون موافقة حزب الله الذي يسيطر تمامًا على جنوب لبنان، وتكمن أهميته في توجيهه إنذارًا لإسرائيل بأن الأمور قد تتدحرج إلى مواجهة على جبهتها الشمالية إذا استمرت حربها مع قطاع غزة، لكن حجم هذه المشاركة جاء دون التوقعات التي كانت تتحدث عن “تلازم جبهات المقاومة”، مما أثار التساؤلات وقتها بشأن حدود الحقيقة والدعاية في هذه المقولات، وحدود الاتفاق والاختلاف بين أطراف “محور المقاومة”[2].

من خلال هذا السرد السريع والمختصر لأبرز محطات العلاقات الإيرانية- الفلسطينية، يمكن القول أن معاملة الكل الإيراني علي أنه يحمل موقفًا موحدًا تجاه القضية الفلسطينية يعد خطأ في تقييم الحالة الإيرانية وفهمها؛ فإيران دولة واسعة الأطراف، وعدد سكانها يتجاوز ثمانين مليون نسمة، وفيها طيف واسع من التيارات الفكرية والنخب؛ حيث يصعب حسم موقف واحد فيما يتعلق بمقولة سياسية، مهما بلغت أهميتها، والحقيقة أن التوجه نحو القضية الفلسطينية لا يمكن حصره في اتجاهين؛ بل يمكن القول بوجود اتجاهات عدة، أهمها:

1- التوجه السياسي الرسمي: توجه يعكس الموقف الرسمي الإيراني تجاه فلسطين والمقاومة، ويتسم بالعداء لإسرائيل؛ وتتفاوت درجة هذا الموقف بين التشدد والبراغماتية؛ وفقًا لمرجعية مؤسسة الرئاسة؛ فالتيار المحافظ استعمل استراتيجية التصلب في موقفه من إسرائيل، وهو ما ينسجم مع رؤية المرشد الأعلي للثورة علي خامنئي، أما تيار الإصلاحيين؛ فاستعملوا الاستراتيجية المرنة تجاه الموقف من القضية الفلسطينية، وكانت رؤيتهم تدور حول ثبات الموقف تجاه هذه القضية، مع الأخذ بعين الاعتبار التطورات السياسية، والقبول بما يقبل به الفلسطينيون أنفسهم (أي قبول التسوية إذا قبلتها الأطراف الفلسطينية)، مع تأكيد الحق الفلسطيني في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.

2- دعاة الواقعية: وهم فريق يحمل وجهة نظر سياسية خاصة؛ ترى أن إيران تعاملت مع القضية الفلسطينية علي أنها قضية مبدئية، وأن ذلك استمر لأكثر من ثلاثين عامًا؛ لكنه يواجه بنظرة واقعية إلي القضية الفلسطينية، ويرون أن هذا الموقف كلف إيران ثمنًا باهظًا؛ ويتعارض ذلك مع المصالح القومية العليا للبلاد، كما أن دعم حركات المقاومة الفلسطينية لا ينبع من دافع إسلامي أو إنساني، إنما هو ناشئ من التنافس الإقليمي والدولي مع الولايات المتحدة والأنظمة الغربية والعربية؛ أي أن إيران تستخدم المقاومة ورقة سياسية توظفها لخدمة مصالحها؛ وبخاصة فيما يتعلق بملفها النووي.

3- أولوية الداخل: يأخذ هذا التوجه بعدًا اقتصاديًا ومعيشيًا واضحًا؛ ويشارك هذا التوجه أولوية توجيه الدعم المالي للداخل الإيراني من مبدأ “أن فقراء إيران أولي بالدعم”، ويفضل القائلون بهذا التوجه أن يقتصر الدعم الإيراني علي الدعم السياسي[3].

4- المعارضة الإيرانية في الخارج: تقف على النقيض تمامًا من الموقف الرسمي، ويبدو أن هناك شبه إجماع بين فئات المعارضة الإيرانية في الخارج، على دعم إسرائيل في وجه حركة حماس. وتسعى المعارضة الإيرانية من هذا التأييد غير المشروط لإسرائيل إلى تحقيق هدفين رئيسيين، الأول: هو الحصول على دعم مستقبلي من إسرائيل في مواجهة النظام الحاكم في إيران، والهدف الثاني هو محاولة تصوير حركة حماس كوكيل لإيران وأن عمليات المقاومة (بما فيها طوفان الأقصى) تمت بناءً على توجيهات من الحرس الثوري الإيراني، وذلك لإحياء المحاولات السابقة التي قامت بها المعارضة في سبيل إقناع الدول الأوروبية بإدراج الحرس الثوري الإيراني على قائمة المنظمات الإرهابية[4].

ويمكن ذكر الأهداف التي يقوم عليها الدور الإيراني في القضية الفلسطينية من خلال النقاط الآتية:

  • الحفاظ علي دور ريادي في القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي يجعل إيران وكأنها طرف مباشر في المعادلات السياسية المتعلقة بتفاعلات السياسة الإقليمية والدولية، لما لهذه القضية من مكانة وتأثير في السياسات العالمية المترتبة علي وجود دولة إسرائيل صاحبة النفوذ القوي في مؤسسات صنع القرار الغربي والأمريكي.
  • تعد إيران القضية الفلسطينية ورقة سياسية في إطار تفاعلاتها الإقليمية والدولية؛ من أجل تحقيق المكاسب الاستراتيجية التي تفرضها ضرورات السياسة والاقتصاد، وفي مقدمتها الملف النووي الإيراني.
  • من خلال دعم القضية الفلسطينية تستطيع إيران بناء منظومة واسعة من التحالفات الموالية بهدف خدمة القضايا الإيرانية، وهي منظومة متمثلة في عدد من الملفات الساخنة، التي تمتد من العراق وسوريا واليمن مرورًا بحزب الله اللبناني الشيعي، وانتهاء بحركات المقاومة الفلسطينية من أجل تدعيم النفوذ الإيراني في المنطقة، وخلق خط دفاع متقدم مع الاحتلال يعفي إيران من خوض حروب مباشرة مع إسرائيل أو الولايات المتحدة.
  • تهدف إيران إلي تحقيق قيادة العالم الإسلامي؛ إذ إنها تقوم بدعم القضية الفلسطينية عبر خطاباتها المعادية لإسرائيل والولايات المتحدة من أجل تحريك الرأي العام والشعور الديني للدفاع عن إيران، خاصة في ظل ضعف الدعم العربي للقضية الفلسطينية.
  • كسب تعاطف الشارع العربي والإسلامي؛ إذ إن بقاء القضية الفلسطينية بعيدة عن الطرح المذهبي يعطي إيران مجالاً للمناورة في علاقاتها الرسمية والشعبية مع العالمين العربي والإسلامي. كما أن دعم الحركات السنية في فلسطين يأتي في إطار الخروج بطهران عن العزلة المذهبية التي ربما تشكل عائقًا أمام تقدمها الإقليمي في المنطقة[5].

وقد تعددت أوجه الدعم الإيراني للمقاومة الفلسطينية، وتمثلت في:

  • سياسًا: تعتبر إيران من الدول المحدودة التي ترفض الاعتراف بالكيان الصهيوني وتنادي بإزالته عن الخارطة الدولية، وترفض الحلول السلمية بما فيها حل الدولتين، ما يتقاطع مع الرؤى السياسية لفصائل المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حماس كرأس حربة المقاومة، والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية وغيرها من قوى المقاومة. كما يمثل الثقل الإقليمي لإيران في المنطقة نقطة قوة لفلسطين ومقاومتها، فهي تدعم حزب الله في لبنان بما يشكله من استنزاف وتهديد متواصل لإسرائيل في الجبهة الشمالية، ونشاطها المتواصل في بناء جبهة في الجولان، ما يساند المقاومة في قطاع غزة، كما ويمكنها ثقلها من تحقيق اختراق يساهم في إيجاد خطوط إمداد للمقاومة، وتتمتع بعلاقات جيدة مع العديد من الفاعلين الدوليين، وهذا يساعد في تجنيبها التصنيف على قوائم الإرهاب في المحافل الدولية. فضلًا عن المساهمة في توفير مقار آمنة للعديد من القيادات الفلسطينية المصنفة على قوائم الإرهاب.
  • عسكريًا: تقديم المعدات القتالية المتنوعة من أسلحة وصواريخ وذخيرة، وتدريب العشرات من أبناء المقاومة في تخصصات قتالية عدة، ونقل الخبرات والمعلومات الاستخبارية، وتقديم الدعم المالي بصورة مباشرة ( قال إسماعيل هنية، في مقابلة مع “قناة الجزيرة” عام 2022، بأن إيران هي المانح الرئيسي لها وأنها ساهمت بمبلغ 70 مليون دولار في تطوير أنظمتها الصاروخية[6]). وتعتبر إيران اليوم هي الدولة الوحيدة التي تقدم الدعم العسكري للمقاومة الفلسطينية بصورة معلنة ومن دون أية مواربة.
  • إعلاميًا: تساهم إيران في تقديم الدعم المالي للمؤسسات الإعلامية التابعة للمقاومة، كما عملت على تطوير العديد من الكوادر الإعلامية العاملة في حقل الإعلام الفلسطيني. وتسخر إيران وحلفاؤها في المنطقة والأحزاب والفصائل المؤيدة لها ماكينتها الإعلامية في تقديم صورة مشرفة عن المقاومة الفلسطينية، كما وتجند وسائلها في المواجهات والفعاليات المركزية في خدمة قضية فلسطين.
  • اجتماعيًا: تساهم إيران في تقديم الدعم المالي لأكثر من 9 آلاف أسرة شهيد في فلسطين منذ انتفاضة الأقصى، بما فيهم شهداء مسيرات العودة بصورة منتظمة وشبه دورية. كما تنشط إيران في المجال الاجتماعي في قطاع غزة ولا سيما في شهر رمضان، عبر تقديم ما يقدر ب20 ألف وجبة إفطار بصورة يومية للأسر المتعففة في القطاع[7].

ثانيًا: أبعاد الموقف الإيراني من عملية طوفان الأقصي والعدوان الإسرائيلي علي غزة:

وعلي ضوء ما سبق؛ يمكن توضيح أبعاد الموقف الإيراني من عملية طوفان الأقصي وما تبعها من عدوان إسرائيلي علي قطاع غزة كما يلي:

1- مباركة رسمية لعملية طوفان الأقصي: منذ البداية جاء الموقف من “عملية طوفان الأقصى”، من جميع المستويات الدينية والسياسية والعسكرية داعمًا للعملية ومهنئًا للفلسطينيين بها، في هذا الإطار أفتتح مستشار القائد الأعلى الإيراني الجنرال يحيى رحيم صفوي، سيل التصريحات والمواقف الإيرانية مما حدث في عملية “طوفان الأقصى”، وذلك عبر إعلانه دعم بلاده للعملية التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية، لوضع حد للانتهاكات الإسرائيلية، مضيفًا “أننا نهنئ المجاهدين الفلسطينيين بهذه العملية.. وسنبقى مع المجاهدين الفلسطينيين حتى تحرير فلسطين والقدس”. كذلك أعلن نواب مجلس الشورى الإسلامي دعمهم لعملية “طوفان الاقصى” ضد الكيان الصهيوني[8].

وبعد يوم واحد من العملية، وجه الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، في 8 أكتوبر 2023، اتصالًا هاتفيًا مع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية ومع الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد النخالة، رسالة تهنئة بمناسبة عملية “طوفان الاقصى”، شدد فيها على أن إيران تدعم الشعب الفلسطيني في دفاعه المشروع. وأكد الرئيس الإيراني، أن إيران تدعو العالم ليشاهد حقيقة أن تراكم الظلم وعدم العدالة تجاه الشعب الفلسطيني وإهانة النساء وتدنيس الأقصى “أمر غير دائم”. وشدد رئيسي على أن إيران تدعم الشعب الفلسطيني في دفاعه المشروع. كذلك، قال رئيسي إن الكيان الصهيوني وداعميه هم “المسؤولون عن تهديد الأمن الإقليمي” و”يجب أن يتحملوا مسؤولية ذلك”. وقال رئيسي، إن المعادلة تغيرت وإثارة الحرب ليست لصالح الصهاينة، وأن الشعب الفلسطيني هو المنتصر في هذه الساحة[9].

وبعث مستشار المرشد الأعلى الإيراني، علي أكبر ولايتي، رسالة إلى رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، والأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد النخالة، بشأن عملية “طوفان الأقصى”، قال فيها: “إن الصور المنشورة لعملية المقاومة الإسلامية الفلسطينية ضد النظام الصهيوني المجرم، والتي كسرت تحصيناته وهيمنته، هي نصر عظيم أثار الرعب ودهشة الأعداء وفرحة المسلمين وسعادتهم في جميع أنحاء العالم”، مشيرًا إلى أن “عملية “طوفان الأقصى” التي تأتي ردًا على جرائم النظام الصهيوني المستمرة في الأراضي المحتلة، ستؤدي بالتأكيد إلى تغيير جذري في ميزان القوى في فلسطين المحتلة، وستضع النظام الصهيوني في موقف أكثر ضعفًا، إن هذه العملية المنتصرة ستسهل وتسرع بالتأكيد انهيار النظام الصهيوني، وتنذر بالتدمير الوشيك له”.

أما الأمين العام لمجمع تشخيص مصلحة النظام محمد باقر ذو القدر، فاعتبر “العمليات البطولية التي ينفذها أبطال المقاومة الاسلامية الفلسطينية بأنها بداية لانهيار الكيان الصهيوني، مؤكدًا أن يوم 7 أكتوبر سيسجل بأحرف من نور في تاريخ الجهاد الذي يخوضه الشعب الفلسطيني الباسل. وصرح أن ما شهدته الساحة الفلسطينية سابقًا كانت انتفاضة ولم تشهد مثل هذه العمليات التي دخل فيها الفلسطينيون لأول مرة الاراضي المحتلة. وأشار الى إصابة نحو 2000 وأسر عدد كبير من الصهاينة المحتلين، في حين أن عدد الأسرى الصهاينة في الحروب السابقة لم يتجاوز عدد الأصابع، وقال: أضف إلى ذلك عنصر المفاجأة التي تحلى بها المجاهدون الفلسطينيون رغم مزاعم الصهاينة بإحاطتهم الاستخبارية لقطاع غزة.

وفيما يتعلق بالقيادات العسكرية، فقد شدد رئيس أركان القوات المسلحة الإيراني اللواء محمد باقري على أن “عملية طوفان الأقصى حولت كابوس انهيار الكيان الصهيوني إلى الواقع، وأثبتت أن جهود يائسة، مثل العرض السخيف لعملية التطبيع، لن تكون قادرة على منع انهيار بيت العنكبوت”. أما قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء حسين سلامي، فأكد على أن “زمن غطرسة إسرائيل انتهى وواشنطن لم يعد باستطاعتها إنقاذها، وتابع قائلاً: “انتهى زمن الاحتلال والاعتداء والفلسطينيون ادخلوا الرعب في قلوب الصهاينة وباتوا يلاحقونهم ويأسرونهم ويدافعون عن حقوقهم بكل فخر واعتزاز”[10].

كما عبر العديد من الإصلاحيين والمعتدلين عن دعمهم لعملية حماس، وقد جاء على رأس هذه القائمة الرئيس الإصلاحي الأسبق، محمد خاتمي، الذي اعتبر عملية “طوفان الأقصى” أهم تطور في الشرق الأوسط بعد الربيع العربي، واصفًا نتائج العملية بأنها “إنجاز فلسطيني عظيم”.

وأما على المستوى الشعبي، فقد شهدت العاصمة، طهران، احتفالات ليلية احتفاءً بعملية حماس، وتم إطلاق الألعاب النارية وتوزيع الحلوى في شوارع المدينة، كما تم نصب جدارية ضخمة في ساحة ولي العصر في قلب العاصمة طهران كتب عليها “طوفان الأقصى”، كما تمت إضاءة برج أزادي الشهير غرب العاصمة بالعلم الفلسطيني وسط تجمع كبير احتفالًا بعملية حماس.

وفي المقابل؛ فإن أحد أبرز وجوه المعارضة الإيرانية هو ابن الشاه السابق “رضا بهلوي” والذي سافر في أبريل 2023 إلى إسرائيل والتقى برئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، هناك، كتب على موقع إكس قائلًا: “اليوم تتعرض الدولة اليهودية مرة أخرى لهجوم من قبل إرهابيين ذوي أيديولوجية قاتلة، ويجب إيقاف قوى الشر هذه وضامنيها، ولا يمكن إنكار دعم الجمهورية الإسلامية لحماس والجهاد الإسلامي الفلسطيني وغيرهما من الجماعات الإرهابية. إن احتفال مسؤولي النظام في طهران بالأخبار الحزينة اليوم هو دليل آخر على أنهم غير نادمين على دعم الإرهاب والعنف ضد المدنيين”. كما اتهمت مسيح علي نجاد، التي تحظى بدعم مالي وسياسي غربي، الحرس الثوري الإيراني بالوقوف وراء هذه الحرب وطالبت كلًا من المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا بتصنيف الحرس الثوري منظمة إرهابية[11].

ولكن النقطة المثيرة للجدل هنا هو مدي انخراط إيران في هذه العملية، حيث طالت الاتهامات إيران بدعم العملية أو الوقوف وراءها. فقد قال الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ إن إيران تقف وراء الهجوم الذي شنته حركة حماس ضد إسرائيل[12]. ولم تكن هذه التصريحات من جانب الرئيس الإسرائيلي منفصلة عن تقارير من الداخل الإسرائيلي تتهم طهران بـ “دعم العملية”.

أما غربيًا، فإن كبريات الصحف ووسائل الإعلام الغربية قد اتهمت إيران بدعم العملية. فقد قالت صحيفة “واشنطن بوست”، فيما أوردته عن مسؤولين أمنيين غربيين وشرق أوسطيين، حسبما وصفت، إن “الهجوم على إسرائيل قد تم التخطيط له قبل عام بدعم أساسي من الجمهورية الإسلامية شمل التدريب العسكري والمساعدات اللوجستية وكذلك عشرات الملايين من الدعم التسليحي”.

وفي السياق نفسه، ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” معلومات جاء فيها أن “التخطيط لعملية حماس تم خلال اجتماع عُقد في بيروت خلال شهر أغسطس الماضي”، مضيفة أن “قادة حماس وحزب الله وممثلو جماعات مسلحة اجتمعوا مع ضباط في الحرس الثوري”، مستطردة أن “قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني بدأ عمليات تنسيق مكثفة مع الفصائل الفلسطينية وحزب الله منذ أبريل الماضي” وأن “حماس أكدت أنها خططت للهجمات بقرار فلسطيني لكنها لا تذكر دعم إيران”. وانتهى تقرير الصحيفة بالقول إن “مسؤولين أمنيين إسرائيليين يتوعدون بمهاجمة إيران إذا ثبت ضلوعُها في الهجوم”[13].

وتنطلق الاتهامات لإيران بدعم العملية أو الوقوف وراءها من عدة أسباب، تتمثل أبرزها في:

أ- الرد على العمليات الإسرائيلية في الداخل الإيراني: وهي عمليات نوعية وجهت فيها إيران اتهامات مباشرة لجهاز الموساد الإسرائيلي، الذي سعى – وفقًا لذلك – إلى توجيه ضربات قوية للبرنامجين النووي والصاروخي الإيراني. فقد استهدف المنشآت النووية الإيرانية، لا سيما مفاعل ناتانز لتخصيب اليورانيوم الذي تعرض لعمليات تخريبية مرتين في 2 يوليو 2020 و12 أبريل 2021، إلى جانب بعض العلماء النوويين مثل محسن فخري زاده، رئيس مركز الأبحاث والتطوير في وزارة الدفاع، الذي اغتيل في 27 نوفمبر 2020، والقيادات العسكرية مثل حسن صياد خدايي، الذي اغتيل في 22 مايو 2022.

وقد هددت إيران أكثر من مرة بالرد على تلك العمليات، إلا أن هذا الرد اقتصر على مهاجمة أهداف إسرائيلية في المياه الدولية، على غرار السفن الإسرائيلية التي تعرضت لهجمات بواسطة طائرات من دون طيار، مثل السفينة التي تملكها شركة “إيسترن باسيفيك شيبينج” المملوكة للملياردير الإسرائيلي إيدان عوفر، والتي تعرضت لهجوم قبالة سواحل عمان، في 16 نوفمبر 2022. ومن هنا فإنها وفي إطار سعيها إلى تبني سياسة “الحرب بالوكالة” اعتبرت أن المواجهات المسلحة التي تندلع باستمرار بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية تدخل ضمن إدارة عملية التصعيد مع إسرائيل[14].

ب- تشتيت جهود تل أبيب بين غزة وسوريا: لم تتوقف العمليات العسكرية التي تشنها إسرائيل ضد المواقع التابعة لإيران والمليشيات الموالية لها في سوريا، حيث تسعى تل أبيب إلى منع طهران من تكريس حضورها العسكري داخل سوريا، ومواصلة الدعم الذي تقدمه لتلك المليشيات، ولا سيما حزب الله اللبناني. ومن هنا، فإن إيران ربما اعتبرت أن شن حماس عملية “طوفان الأقصى” في هذا التوقيت يمكن أن يساعد في تشتيت جهود إسرائيل، ويوفر خيارات أوسع أمام طهران لتعزيز نفوذها داخل سوريا على مستويات مختلفة.

ج- إضعاف مركز بنيامين نتنياهو: ربما تسعى إيران عبر دعم هذه العملية إلى إضعاف المركز السياسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. إذ إنها ترى أن الأخير مارس الدور الأهم في العمليات الأمنية التي قام بها جهاز الموساد الإسرائيلي داخل إيران، على غرار الاستيلاء على الأرشيف النووي الإيراني في 31 يناير 2018.

كما أنه كان له تأثير كبير في دفع الولايات المتحدة الأمريكية، في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، إلى الانسحاب من الاتفاق النووي في 18 مايو 2018، وإعادة فرض العقوبات الأمريكية على إيران بداية من 7 أغسطس من العام نفسه، على نحو فرض أزمات عديدة أمام إيران لم تنجح في احتواء تداعياتها بشكل كامل رغم عودتها إلى تصدير نسبة أكبر من نفطها في الشهور الأخيرة.

وقد استغلت إيران تصريحات نتنياهو على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 23 سبتمبر الفائت، والتي قال فيها إنه “يجب مواجهة إيران بتهديد نووي ذي مصداقية” لشن حملة ضد إسرائيل، رغم أن مكتب نتنياهو حرص على تصحيح التصريح، بتأكيد أن الأخير كان يقصد تهديدًا عسكريًا وليس نوويًا.

وفي رؤية طهران، فإن حجم الاختراق الأمني الكبير الذي كشفت عنه عملية “طوفان الأقصى” سوف يفرض ضغوطًا غير مسبوقة ليس فقط على الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وإنما أيضًا على المستوى السياسي، ولا سيما رئاسة الحكومة، وهو ما يتوازى مع الضغوط التي يتعرض لها نتنياهو في الوقت نفسه بسبب الاحتجاجات الداخلية والاتهامات التي يواجهها والتي يحاول تجنب تداعياتها التي يمكن أن تصل إلى حد محاكمته، وهو ما يمكن أن يضعف من موقعه السياسي في النهاية، ويؤدي إلى خروجه من المشهد السياسي الإسرائيلي[15].

د- تعزيز التقارب الإيراني مع الدول العربية: يأتي التصعيد الحالي على الجبهة الفلسطينية الإسرائيلية بالتزامن مع استمرار مساعي إيران للتقارب مع دول المنطقة، وهو الأمر الذي لا ينفصل عن صراعها الدائر مع إسرائيل، حيث تهدف طهران من خلال تقاربها مع الدول العربية إلى تعطيل مساعي إسرائيل لتشكيل جبهة إقليمية تجمع تل أبيب ودول المنطقة لمناوئة إيران ونفوذها. إذ تشير بعض التقديرات إلى أن إيران ربما دعمت تنفيذ حماس لهذه الهجمات النوعية من أجل تحريك القضية الفلسطينية، وإثارة المشاعر العربية والإسلامية ضد تل أبيب، بما يعني محاولة توظيف طهران لتلك العملية في إبطاء مسار التقارب والانفتاح الإسرائيلي تجاه دول المنطقة خاصة مع اقتراب التطبيع بين إسرائيل والسعودية، في مقابل المضي قدمًا في التقارب والانفتاح مع إيران[16].

في هذا السياق؛ ترجح معظم التحليلات أن حرب غزة ستعزز منطق طهران الذي يشدد على عدم إمكانية تشكيل هيكل أمني جديد في الشرق الأوسط لا يأخذ في الاعتبار مصالحها وشركاءها. حيث تعمل طهران على تأكيد عدم فاعلية الجهود التي تقودها الولايات المتحدة لإنشاء نظام أمني إقليمي يهدف لإرساء ميزان قوى جديد في المنطقة، على أساس التصدي للتهديدات الإيرانية، تقع إسرائيل في قلبه، بينما يجري إدماجها بخطى أمريكية حثيثة مع دول اتفاقيات أبراهام، بالإضافة إلى مصر، والأردن، بينما كانت المفاوضات مع السعودية متقدمة. فإذا كان هذا هو الأداء الإسرائيلي في مواجهة حماس بمفردها، فكيف سيكون الأداء في حال اندلاع حرب إقليمية؟. ومن جانب آخر، فقد عززت الحرب موقع إيران كفاعل إقليمي لا يمكن لدول الجوار تجاوزه. وقد ظهر هذا في أن أول لقاء بين الرئيس الإيراني وكل من ولي العهد السعودي والرئيس المصري جاء في ضوء تداعيات حرب غزة، بما يشير إلى أن حاجة الزعيمين لاحتواء الحرب حتمت التعاطي أكثر مع إيران كون أن قرارها يتحكم في سلوك عدة جبهات إقليمية تؤثر على أمن البلدين[17].

ه- إفشال المشاريع المهددة لإيران: من المرجح أن تساهم الحرب الحالية في تقويض خطط إنشاء ممر الهند-الشرق الأوسط-أوروبا الاقتصادي، الذي سبق أن أعلن الرئيس الأمريكي بايدن أنه سيمتد من الهند إلى أوروبا عبر الإمارات والسعودية والأردن وميناء حيفا في إسرائيل، وهو ما يهدد ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب الذي يمتد من موانئ البلطيق الروسية إلى جنوب إيران. وبصورة عامة بدا المشروع متعارضًا مع مصالح إيران وتركيا ومصر والصين حيث يتجاوزهم بشكل كامل. والآن، تبدو إيران أكثر ارتياحًا؛ حيث أظهرت حرب غزة أن التحديات الأمنية التي ستواجه هذا المشروع لا يستهان بها، بما قد يدفع لتأجيله، أو ربما إعادة الأطراف المعنية النظر في جدواه[18].

وفي المقابل؛ نفت كل من طهران وواشنطن صحة المزاعم المتعلقة بتورط إيران في عملية “طوفان الأقصي”، إذ قال مندوب إيران الدائم لدى الأمم المتحدة علي كريمي مقام، في 9 أكتوبر، إن مزاعم الإعلام الغربي بشأن ضلوع بلاده بهجمات حركة حماس على إسرائيل لا تعكس الحقيقة، مشددًا على أن بلاده لا تلعب أي دور في الرد الفلسطيني على الرغم من أنهم يتقاسمون المشاعر المشتركة مع الفلسطينيين ويقفون معهم، واصفًا هجمات حركة حماس بأنها دفاع مشروع عن النفس. كما صرح المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، في أول ظهور متلفز له بعد التصعيد في غزة، في 10 أكتوبر في حفل تخريج دفعة ضباط من كلية “الإمام علي” العسكرية، أن “طوفان الأقصى” عملية فلسطينية خالصة تخطيطًا وتنفيذًا، وأن قيادة حركة حماس وحدها هي التي اتخذت القرار بالقيام بها من دون أن يشاركها فيه أي طرف آخر في محور المقاومة، وبالتالي ليس لإيران أي دخل فيه أو علم مسبق به[19]. كما وصف وزير الخارجية الإيراني المزاعم التي تقول إن طهران على صلة مباشرة بهجوم حماس بأنها “بلا أساس”، مضيفًا: “دائما ما ندعم فسطين سياسيًا وإعلاميًا ودوليًا. ولم ننكر ذلك أبدًا”، وتابع قائلًا: “هذه هي الحقيقة، لكن فيما يتعلق بهذه العملية التي تسمى طوفان الأقصى، لم يكن هناك أي صلة بتلك المعطيات بين إيران وعملية حماس هذه، لا حكومتي ولا أي جهة من بلدي”[20].

كما رأى المتحدث باسم الأمن القومي بالبيت الأبيض، جون كيربي، أن طهران “متواطئة”، بحكم صلاتها التاريخية مع حركة حماس، رغم أن الولايات المتحدة ليس لديها معلومات مخابرات أو أدلة تشير إلى تورط إيران المباشر في الهجمات التي تشنها حماس في إسرائيل[21]. وتشير الاستخبارات الأمريكية إلى أن هجوم حماس فاجأ إيران، مما يقوض النظرية بأنها لعبت فيها دورًا مباشرًا في التخطيط أو التدريب أو المشاركة[22]

ومما زاد حالة الجدل حول دور إيران في عملية “طوفان الأقصي”، التصريحات التي أدلى بها المتحدث باسم الحرس الثوري العميد رمضان شريف، في 27 ديسمبر 2023، في أعقاب العملية التي شنتها إسرائيل في العاصمة السورية دمشق وأسفرت عن مقتل القيادي في الحرس الثوري رضا موسوي. فقد قال شريف إن “عملية طوفان الأقصى كانت جزءًا من الانتقام لقاسم سليماني”، في إشارة إلى القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني الذي قُتل في عملية عسكرية أمريكية في بغداد في 3 يناير 2020.

هنا، سارعت حركة حماس إلى الرد على ذلك، حيث أصدرت بيانًا جاء فيه: “إننا أكدنا مرارًا دوافع وأسباب عملية طوفان الأقصى، وفي مقدمتها الأخطار التي تهدد المسجد الأقصى”، مضيفة: “كل أعمال المقاومة الفلسطينية تأتي ردًا على وجود الاحتلال وعدوانه المتواصل على شعبنا ومقدساتنا”.

هذا الموقف الذي سارعت حماس إلى تبنيه كان متوقعًا إلى حد كبير، وذلك لاعتبارات رئيسية ثلاثة: الأول، أن عدم الرد، أو حتى التأخر في الرد، كان سيجلب انتقادات وحملة جديدة على الحركة، تسعى إلى إضفاء وجاهة خاصة على اتهامها بـ”تنفيذ أجندات خارجية”، وهو اتهام قائم بالفعل وتتبناه إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.

والثاني، أن هذه التصريحات كان مصدرها الحرس الثوري، وهو المؤسسة الإيرانية الرئيسية المسئولة عن إدارة العمليات الخارجية لإيران، والتي تحظى باهتمام خاص من جانب القوى الإقليمية والدولية المعنية بما يجري في المنطقة، حيث تعد بمثابة “الذراع الطولى” لإيران في المنطقة، بدليل أن معظم الضربات القوية التي تعرضت لها إيران ركزت على هذه المؤسسة، على غرار الضربتين اللتين أسفرتا عن مقتل قاسم سليماني ورضا موسوي.

والثالث، أن الموقف الإيراني الأولى من الحرب الحالية أنتج مفاعيل مبكرة على الأرض، وفرض تأثيرات فورية على العلاقة مع حماس حتى قبل انتهاءها، لدرجة دفعت الأخيرة إلى المسارعة بكشف التناقض الذي اتسم به الموقف الإيراني وأنتجته تصريحات رمضان شريف، وعدم الانتظار حتى إلى حين صدور بيان إيراني ينفي ما جاء على لسان الأخير[23].

خلاصة القول؛ أنه بمعزل عن الجدل حول دور إيران المباشر في العملية التي شنتها فصائل المقاومة الفلسطينية ضد الجيش الإسرائيلي بمحيط غزة في 7 أكتوبر 2023، وما إذا كانت طهران على علم مسبق بتنفيذ العملية أم لا، يبقى الدور المركزي لإيران في الصراع مع إسرائيل حاضرًا، فهي عملت طيلة العقدين الأخيرين على تعزيز نفوذها في محيط إسرائيل في كل من لبنان وفلسطين وسورية، بما في ذلك توفير الدعم المالي والعسكري لحركة حماس[24].

2- التهديد بأقلمة الصراع: صعد المسئولون الإيرانيون من تصريحاتهم حيال العملية العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة، مهددين بإمكانية توسيع الصراع ليشمل أطرافًا إقليمية أخرى، في تلويح مبطن بوكلاء إيران في المنطقة وإمكانية انخراطهم في الحرب وبالتالي توسعها إقليميًا[25].

حيث صرح الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، منذ بدء العدوان الإسرائيلي، أنه “إذا لم يتوقف قتل الفلسطينيين، فإن المشهد سيتوسع”. توالت بعد ذلك تصريحات أكثر حدة وتحركات عديدة لوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان، الذي التقي بزعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله في بيروت وبرئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في الدوحة، وأكد خلال الزيارتين على أن “إسرائيل ترتكب جرائم حرب، وأن استمرار تلك الجرائم سيلقي ردًا من بقية المحاور”. ونقلًا عن الإعلام الإيراني فقد صرح عبداللهيان، قائلًا إن “اليوم هناك فرصة للحل السياسي، وغدًا سيكون قد فات الأوان، وإيران لا تريد أن يتحول الصراع إلى حرب إقليمية، وتريد المساعدة في إطلاق سراح الرهائن الذين تحتجزهم حماس في غزة”.

ونقلت وكالة أنباء (فارس) الإيرانية عن وزير الخارجية الإيراني عبداللهيان قوله: “إذا لم تتوقف الاعتداءات الصهيونية فأيدي جميع الأطراف بالمنطقة على الزناد، وأن كل الاحتمالات واردة مع استمرار جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة”. يذكر أن وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبداللهيان، صرح لـ “وول ستريت جورنال”، قائلًا، إن “المنطقة والفاعلين فيها لن يظلوا متفرجين، واستمرار العدوان وغياب الحل السياسي يصبان الزيت على النار، وقد تخرج الأمور عن السيطرة، وفي حال اتسعت الحرب فإن خسائر فادحة ستلحق بأمريكا أيضًا، وإذا لم تتوقف أمريكا وإسرائيل عن هذه السياسة فلا يمكن وقف نطاق الحرب”[26].

وتكشف هذه التصريحات عن حجم الضغوطات علي صناع القرار في طهران نتيجة العدوان الإسرائيلي علي قطاع غزة وما خلفه من عدد كبير من الضحايا؛ لاتخاذ موقف علني ضد إسرائيل، وإلا فإن طهران ستخاطر بسمعة وصورة “محور المقاومة” التي بنتها عبر سنوات، كما تهدد الأسس التي بنيت عليها شرعية نظام الثورة الإسلامية بعد عام 1979 والقائمة على مواجهة الصهيونية ونصرة المستضعفين في الأرض[27].

ومنذ بدء العملية العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة، قام وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان بعدد من الزيارات إلى دول المنطقة، بهدف بحث تطور الأوضاع في قطاع غزة. كانت الزيارة الأولى لقطر، حيث التقى هناك قادة حركة حماس، كما قام بجولة أولى لكل من العراق وسوريا ولبنان أجراها في 12 أكتوبر الماضي. تبعها بجولة أخرى إلى قطر وتركيا في 31 من الشهر نفسه، وذلك في أعقاب إعلان أنقرة رفضها تصنيف حماس حركة إرهابية واعتبرتها حركة مقاومة، وكانت آخر جولاته في 22 نوفمبر الماضي عندما زار كلاً من لبنان وقطر. وقد هدفت إيران من هذه الجولات إلقاء الضوء مجددًا على التحالف غير الرسمي الذي أنشأته وأسمته بـ”محور المقاومة”، وأعادته إلى الواجهة من خلال التلويح بدور ممكن له في هذه الحرب[28].

ولم يتأخر انخراط وكلاء إيران في الحرب كثيرًا، حيث أعلنت حركات المقاومة الإسلامية في العراق، استهدافها الأول لقاعدة أمريكية في العراق هي قاعدة “عين الأسد” الجوية في غرب العراق في 17 أكتوبر الماضي، وكذلك استهداف  ثكنة “التنف” بسوريا في 19 من الشهر نفسه، ليتوالى بعد ذلك استهداف هذه الجماعات لمواقع أمريكية في العراق وسوريا، بلغت حسب التقديرات الأمريكية حوالي 64 هجومًا، كان آخرها هجوم نفذته حركات المقاومة الإسلامية في العراق في 21 نوفمبر الماضي، على قاعدة أمريكية من خلال طائرات مسيرة، في الشدادي جنوب مدينة الحسكة السورية.

إلى جانب المناوشات التي بدأت بين حزب الله اللبناني وإسرائيل في الثامن من أكتوبر الماضي، عندما نفذ الحزب هجومًا على مواقع إسرائيلية في منطقة مزارع شبعا، ردت عليها القوات الإسرائيلية باستهداف تلال كفر شوبا، لتتوسع بذلك المواجهات بينهما، ليؤكد الأمين العام للحزب حسن نصر الله في خطابه الأول منذ عملية “طوفان الأقصى” على أن حديثه ليس إيذانًا بدخوله على خط الحرب، لأن الحزب دخلها بالفعل منذ الثامن من أكتوبر –على حد تعبيره. وإن كان حزب الله لايزال حذرًا إلى حد كبير من الانخراط بحرب واسعة مع إسرائيل، ويلتزم بقواعد اشتباك لا تؤدي إلى مثل هذه النتيجة.

يضاف إلى ذلك مبادرة جماعة أنصار الله الحوثي بالتهديد بدخول الحرب واستهداف مواقع إسرائيلية في العاشر من أكتوبر، وذلك على لسان المتحدث باسم الجماعة يحيى سريع، نفذته الجماعة في الثاني عشر من الشهر نفسه، من خلال صواريخ مسيرة، تصدت لها القوات البحرية الأمريكية المتواجدة في البحر الأحمر، وعقب محاولات عدة استهدفت الجماعة مدينة إيلات (أم الرشراش) بصواريخ باليستية في 9 نوفمبر الماضي، فضلاً عن احتجاز سفينة شحن إسرائيلية واقتيادها إلى ميناء غربي اليمن في 19 من الشهر نفسه، ومنع السفن الإسرائيلية من المرور عبر مضيق باب المندب[29].

إن الافتراض السائد – ويبدو واقعيًا إلى حد كبير- أن إيران، التي تحاول الموازنة بين الضغط العسكري عبر وكلائها لوقف الحرب على غزة، وبين تجنب انتشارها في المنطقة، وجدت في نهاية المطاف أن تجنب انخراط حزب الله في الحرب بشكل أوسع، وتشجيع الحوثيين، وربما دعمهم، لشن هجمات في البحر الأحمر، يحقق ذلك الموازنة الإيرانية.

فمن جهة، فإن انخراط حزب الله في الحرب بشكل واسع يعني أن الحرب أصبحت إقليمية بالفعل، وهذا يتناقض مع الاستراتيجية الإيرانية. كما أن حزب الله لا يبدو مستعدًا- أصلًا- لخوض حرب كبيرة مع إسرائيل بالنظر إلى تكاليفها الباهظة عليه وعلى لبنان المنهك أيضًا؛ بفعل الأزمة الاقتصادية الحادة التي يعانيها منذ سنوات. كما أن مثل هذه الحرب تجلب تهديدات وجودية لأقوى حلفاء إيران في المنطقة، وتزيد من مخاطر تورط إيراني مباشر في الصراع.

من جهة أخرى، فهناك العديد من العوامل الأساسية التي تجعل جبهة البحر الأحمر أكثر أهمية في الاستراتيجية الإيرانية في هذه الحرب، حيث أن تنفيذ الولايات المتحدة هجمات انتقامية محتملة على الحوثيين داخل اليمن – لتقويض قدرتهم العسكرية على مهاجمة السفن – لن يؤدي إلى إزالة قوة الحوثيين بالكامل أو فقدانهم السيطرة على الأراضي التي يديرونها. ووفق هذا المنظور، فإن جبهة البحر الأحمر أكثر فائدة من حيث وسائل الضغط، وأقل مخاطرة على إيران وحليفها الحوثي.

بجانب الموقع الجغرافي الاستراتيجي لليمن على حدود البحر الأحمر ومضيق باب المندب الذي يمر عبره ما يقدر بنحو 40% من التجارة البحرية الدولية، ونحو 20% من تجارة النفط العالمية. لذلك، يعتقد الحوثيون وإيران أن هذه الميزة تثني الولايات المتحدة والغرب عن الانخراط في حرب طويلة الأمد في هذه المنطقة بالنظر إلى تأثيراتها الكبيرة على الاقتصاد العالمي.

كما يبدو أن حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة- مثل: دول الخليج ومصر مع استثناء البحرين، التي شاركت في التحالف الأمني في البحر الأحمر لوقف هجمات الحوثيين- يتعاملون مع هذه المخاطر بشكل أكبر من الفوائد المحتملة للمشاركة في هذا التحالف. وهنا تبرز ميزة أخرى لجبهة البحر الأحمر، وهي أنها أظهرت انقسامًا بين الولايات المتحدة وحلفائها العرب، بشأن مقاربة كيفية التعامل مع هذا الوضع المضطرب[30].

ولكن علي الرغم من هذه التصريحات والتحركات الإيرانية، إلا أنها لا ترقى لأن تكون في مستوى درجة حرب، مما عرضها لانتقاد خالد مشعل في تصريحاته، عندما عاتب هذه الجبهات على أنها لم تدخل بالثقل الذي ينبغي[31]. وهو ما أدي إلي امتعاض المرشد الإيراني، علي خامنئي، الذي أكد خلال لقاءه رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، في بداية نوفمبر الماضي، أن “إيران لن تتدخل في الحرب لصالح حماس”، داعيًا قادتها إلى “إسكات الأصوات التي تدعو إيران وحزب الله إلى المشاركة”[32].

كما جاءت تحذيرات لافتة من الرئيس السابق لمجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) غلام علي حداد عادل، المعروف بأنه ضمن  دوائر للمرشد الإيراني المقربة، بعدم السقوط في قاع الحرب بغزة حيث إن “إسرائيل تهدف إلى تحويل الصراع في غزة إلى حرب بين إيران والولايات المتحدة”. بل إن إحدى الهيئات النافذة بإيران كمجمع تشخيص مصلحة النظام والذي يعين أعضاؤه المرشد الإيراني، تبنى الموقف ذاته، واعتبر تورط إيران بالحرب فائدة “للنظام الصهيوني”. وهنا، ليس مباغتًا أن يصرح القائم بالأعمال الإيراني لدى بريطانيا مهدي حسيني متين، مؤخرًا، أن أولوية إيران في غزة هي وقف إطلاق النار، بما يجعل الموقف الرسمي لطهران يتوافق إلى حد كبير مع الإجماع العربي[33].

ويبدو أن إيران لا ترغب في التصعيد أو امتداد رقعة الصراع، وذلك للأسباب التالية:

أ- على الرغم من استفادة إيران من الناحية الجيواستراتيجية من عملية “طوفان الأقصى”، إلا أن جميع المعطيات المتاحة تشير إلى أنها لم تكن على علم كامل بالتجهيزات للعملية، ناهيك عن موعدها ونطاقها، لذا فإن التصعيد في هذا التوقيت لم يكن ضمن الحسابات الإيرانية، وهو ما يعني أنها ليست مستعدة بصورة كاملة لمعركة متسعة النطاق مع إسرائيل أو الولايات المتحدة.

ب- تواجه إيران ضغوط اقتصادية داخلية جراء العقوبات الأمريكية والغربية بشكل عام، لذا فإن الدخول في حرب متسعة النطاق يعني تضرر أكبر للاقتصاد الإيراني وتدهور أكبر للأحوال المعيشية للمواطن الإيراني[34].

ج- رغم أن السلطات في إيران نجحت في احتواء الأزمة التي فرضتها الاحتجاجات التي امتدت لنحو خمسة أشهر من سبتمبر 2022 وحتى يناير 2023، اعتراضًا على وفاة الفتاة الكردية العشرينية مهسا أميني بعد توقيفها من جانب شرطة الأخلاق لاتهامها بعدم الالتزام بقواعد ارتداء الحجاب، إلا أن ذلك لا ينفي أن محفزات تلك الأزمة ما زالت قائمة وفي انتظار تطور آخر قد يؤدي إلى تأجيجها مرة أخرى. وهنا، فإن أي خطوة قد تكون غير محسوبة من جانب إيران تجاه ما يجري الآن على صعيد قطاع غزة، قد تكون تكلفتها عالية، في ظل تصاعد حدة التوتر بين النظام والشارع الإيراني، وتزايد استياء قطاع من المواطنين من تفاقم المشكلات المعيشية والاقتصادية، خاصة أنه يربط ذلك باستمرار إيران في دعم الحلفاء الإقليميين على حساب معالجة الأسباب التي أدت إلى استمرار تلك المشكلات[35].

د- تجنب رد الفعل الإسرائيلي، فإيران لا تستبعد أن تحاول إسرائيل الرد على تلك العملية، لرفع كلفتها بالنسبة للأطراف التي نفذتها، بحيث لا يقتصر ذلك الرد على تدمير القدرات العسكرية لحركة حماس كما تتوعد الحكومة الإسرائيلية، وإنما يمتد إلى رفع مستوى الهجمات ضد المواقع التابعة لإيران والمليشيات الشيعية الموالية لها في سوريا، والأهم من ذلك استئناف العمليات الاستخباراتية التي كان جهاز الموساد يقوم بها داخل إيران في الفترة الماضية، حيث يمكن بعد عملية “طوفان الأقصى” أن تختار إسرائيل أهدافًا أكثر أهمية وتأثيرًا داخل إيران خلال المرحلة القادمة، حيث كانت تركز في الفترة الماضية على استهداف المنشآت النووية والعسكرية، إلى جانب بعض العلماء النوويين والقادة العسكريين[36]. وفي هذا السياق؛ فقد اتهمت إيران إسرائيل بالوقوف خلف الانفجارين اللذان حدثا بالقرب من مقبرة قاسم سليماني بمدينة كرمان الجنوبية، وأودي بحياة أكثر من 108 قتيلًا وأكثر من 190 جريحًا، وقد جاء الانفجاران بالتزامن مع مراسم إحياء ذكرى مقتل سليماني. ويأتي ذلك بعد مرور أسبوع فقط على اغتيال إسرائيل كبير المستشارين العسكريين الإيرانيين في سوريا الجنرال رضي موسوي، وكذلك بعد يوم من اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية حماس صالح العاروري، المعروف بقربه من القيادة الإيرانية، وبأنه يمثل همزة وصل بين حلقات محور المقاومة في لبنان[37].

ه- وجود الولايات المتحدة وخصوصًا مجموعات حاملات الطائرات القتالية في المنطقة يشكل عامل قلق متزايد بالنسبة لإيران، ففي حال اتساع رقعة الحرب فإن احتمالية انخراط الولايات المتحدة تتزايد بصورة كبيرة، لذا فإن إيران قد تجد نفسها في نهاية المطاف في حرب مفتوحة مع الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي سيتطلب تجهيزات لوجستية وعسكرية أكبر لإيران في نطاق دول “محور المقاومة” وهو أمر غير متوفر حاليًا[38].

و- من شأن تورط إيران بشكل مباشر في المواجهة الحالية أن يعصف بكل التفاهمات ويوقف الاتصالات التي تجريها مع الولايات المتحدة الأمريكية. فقد بدا واضحًا أن تلك التفاهمات كان لها دور أولاً في الوصول إلى صفقة تبادل السجناء التي تم تنفيذها في 18 سبتمبر الماضي، وقضت بحصول إيران على 6 مليار دولار من أموالها المجمدة لدى كوريا الجنوبية وإفراج السلطات الأمريكية عن خمسة إيرانيين متهمين بانتهاك العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، مقابل إفراج السلطات الإيرانية عن خمسة أمريكيين محتجزين لديها[39]. وفي هذا السياق، بدأت الضغوط تتزايد على إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن من أجل عدم استكمال صفقة تبادل السجناء التي أبرمت مع إيران، ونُفذ الشق الأول منها بالإفراج المتبادل عن السجناء المحتجزين لدى الطرفين، فيما يتبقى حصول إيران على 6 مليارات دولار من أموالها المجمدة لدى كوريا الجنوبية. ورغم أن تلك الأموال وصلت بالفعل إلى قطر، إلا أن إيران لم تصل إليها بعد، فما زالت الإجراءات تتواصل من أجل ضمان إنفاق تلك الأموال على شراء أدوية وأغذية. وقد ترى إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أن الوقت ليس مناسبًا لتسهيل وصول إيران إلى هذه الأموال في هذا التوقيت، وربما للاحتفاظ بورقة ضغط في مواجهة إيران، خاصة مع غموض المسارات المحتملة للحرب الحالية ومدى إمكانية توسع نطاقها لتشمل أطرافًا ودولًا أخرى في المنطقة، مع تصاعد الجدل حول إمكانية عدم استكمالها ومنع إيران من الوصول إلى هذه الأموال، وتقييد أي محاولة لإيران للاستفادة من تلك الأموال في تقديم مزيد من الدعم المالي لحلفائها في المنطقة[40].

ز- ترى اتجاهات في طهران أن تصعيد حدة التوتر في المنطقة، وتورط إيران فيه بشكل غير مباشر قد يعزز من فرص الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية القادمة، إن استطاع الوصول إلى هذه المرحلة، أو أى مرشح جمهوري آخر يتبنى سياسة أكثر تشددًا تجاهها. على غرار ما حدث في 3 يناير 2020 عندما أقدمت إدارة الرئيس دونالد ترامب على اغتيال القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، برفقة نائب أمين عام مليشيا الحشد الشعبي العراقي[41].

ح- تنظر إيران إلى مساعي ربطها بعملية طوفان الأقصي كمقدمة وتبرير لشن هجوم عسكري مباشر ضدها، وهي تتذكر تمامًا كيف أن احتلال العراق تم بناءً على اتهامات كاذبة تم تلفيقها بامتلاك العراق أسلحة نووية. لذا، فإن إيران تفهم جيدًا أن التصريحات الأميركية والإسرائيلية التي تشير إلى عدم وجود أدلة على تدخل إيران في العملية العسكرية ضد إسرائيل، ما هي إلا محاولات لإبقاء طهران وحزب الله الحليف الاستراتيجي لها محايدين. وترى أن تغير موقف طهران أو حزب الله من الحرب في غزة، يمكن أن يُنتج حملة دبلوماسية عامة لإقناع الرأي العام العالمي بتوجيه ضربة مباشرة إلى إيران بوصفها شريكًا رئيسيًّا في عملية طوفان الأقصى ضد إسرائيل[42].

ط- رغبة إيران في عدم توحيد الداخل الإسرائيلي الذي بات متشرذمًا أكثر من أي وقت مضى في تاريخ دولة هذا الاحتلال منذ 75 عامًا، وهو في طور الانفجار في وجه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مع رصد إيران اللحظي للمظاهرات المندلعة الآن في شوارع تل أبيب احتجاجًا على سياسات نتنياهو.

ي- مواصلة التنسيق مع القوى العربية الكبرى وعدم التصرف بمعزل عنها وعلى رأس تلك القوى مصر والسعودية وقطر، وهي دول تسعي إلي منع تصعيد الصراع ومنع توسيع نطاقه[43].

لذلك لا يبدو أن إيران ستتدخل بصورة مباشرة في هذه الحرب إلا إذا تمت مهاجمة أراضيها. وفي هذا السياق؛ فقد صرح أمير سعيد إيرواني، مندوب إيران لدي الأمم المتحدة، بأن “قواتهم الإيرانية المسلحة لن تشتبك مع إسرائيل شريطة ألا تغامر إسرائيل بـمهاجمة إيران ومصالحها ومواطنيها”[44]. فمنذ الحرب العراقية-الإيرانية، عملت طهران على تفادي أي صراع مباشر على أراضيها، وعملت على نقل الصراع إلى خارج إقليمها الجغرافي. وعليه، فإن دخول إيران على خط المواجهة بصورة مباشرة سيكون مرتبطًا باستهداف مباشر للأراضي الإيرانية أو البنى التحتية والقواعد العسكرية وقواعد تخزين الصواريخ الباليستية أو استهداف المفاعلات النووية[45].

وبالتالي؛ ستظل إيران تمسك العصا من المنتصف، لا تدخل الحرب بشكل مباشر تجنبًا لاستفزاز أمريكا وحلفائها، وتنأى بنفسها رسميًا عن التورط فيها، إلا إذا استهدفت إيران، وفي الوقت نفسه تحرك أذرعها لضربات لا ترقى لمستوى درجة حرب، بحيث لا ينفرط عقد محور المقاومة من يدها، فتفقد بالتالي نفوذها في المنطقة[46].

ثالثًا: مستقبل العلاقة بين إيران وحماس علي ضوء عملية طوفان الأقصي:

كشفت عملية “طوفان الأقصي” عن مجموعة من التحديات التي تواجه إيران، تتمثل أبرزها في:

1- أن اكتفاء إيران بتقديم الدعم السياسي، ودفع وكلائها في العراق وسورية واليمن ولبنان لتنفيذ هجمات محدودة لا تكفي لمنع الاحتلال من تكثيف عدوانه للقضاء على حماس في غزة، سيؤدي إلي فقدان “محور المقاومة” أحد أبرز أعضائه، ويقضي على سردية “وحدة الساحات”، وسيعطي ذلك مثالًا لتخلي طهران عن حلفائها وقت الشدة[47].

2- يمكن القول إن إحدى تداعيات الحرب في قطاع غزة، أنها كشفت عن توازنات القوى داخل خريطة المليشيات المسلحة الموالية لإيران، وأظهرت أن موقع حركة حماس، وربما الفصائل الفلسطينية بشكل عام في هذه التوازنات أحد المتغيرات التي دفعت إيران إلى الإيعاز لحلفائها بضبط حدود التصعيد مع إسرائيل. حيث تأتي الفصائل الفلسطينية في مرتبة متأخرة ضمن تراتبية المليشيات التي تدعمها إيران في المنطقة، إذ أنها مثلًا لا تحظى بالأهمية التي يحظى بها حزب الله اللبناني الذي يمثل الوكيل الرئيسي لإيران في المنطقة، والذي يمارس دورًا رئيسيًا في دعم نفوذ إيران في سوريا، وتعزيز القدرات والخبرات العسكرية للوكلاء الآخرين، على غرار مليشيا “عصائب أهل الحق” و”كتائب حزب الله” في العراق، وكذلك مليشيا “أنصار الله” الحوثية في اليمن. يعني ذلك أن الحزب لا يمكن لإيران أن تتخلى عنه، لأن تكلفة المغامرة بالانخراط في مواجهة لدعمه ربما تكون أقل من تعرضه للانهيار والخروج من المعادلة في المنطقة، وهذا لا ينطبق على حماس ولا غيرها من الفصائل الفلسطينية.

فضلاً عن ذلك، فإن المليشيات الأخرى ربما تحظى بمميزات أكبر بالنسبة للحسابات الجيواستراتيجية الإيرانية مقارنة بحماس. فمليشيا الحوثي، على سبيل المثال، توفر لإيران موطئ قدم رئيسيًا قرب خطوط المواصلات العالمية في باب المندب والبحر الأحمر. أما المليشيات العراقية، فتوفر لطهران فرصة الوصول إلى أهداف أمريكية حيوية، في العراق وسوريا، في إطار إدارتها للتفاعلات مع واشنطن، والتي تتخللها فترات من التصعيد والتهدئة حسب مساحة الخلافات العالقة بين الطرفين حول بعض الملفات[48].

3- أن التعامل الإيراني الضعيف مع الحرب علي غزة سيجدد النقاش داخل حركة حماس حول حدود المتوقع من إيران، وضرورة إعادة التوازن للعلاقة معها. حيث يتوزع النقاش حول طبيعة العلاقة بين حماس وإيران على ثلاثة اتجاهات: أولها: يرى في العلاقة مع إيران أمرًا طبيعيًا، فهي دولة إسلامية وحماس في سياستها الخارجية تتوجه إلى كافة دول العالم لحشد الدعم والتأييد، فضلًا عن المواقف الرسمية الإيرانية الثابتة والداعمة للقضية الفلسطينية منذ انتصار الثورة الإسلامية، واتجاه آخر يميل إلى التبرير فهو لديه تحفظات بشأن هذه العلاقة لكنه يأخذ منحى اعتذاريًا يلتمس لحماس العذر؛ حيث لم تجد الدعم الذي وجدته من إيران من قبل الدول العربية، أما الثالث فهو الذي يرفع راية التخوين ويتهم حماس بأنها ذراع إيرانية، وأنها وكيل، وارتبطت هذه الأصوات في جزء منها بمسعى سياسي حاول أن يضفي صفة الإرهاب على الحركة[49]. ويبدو أن التعامل الإيراني مع حرب غزة سيعطي سببًا إضافيًا للأراء المعارضة للعلاقة بين حماس وإيران.

4- أنه إذا نجحت إسرائيل في مهمتها الهادفة إلى تغيير النظام في غزة، فسيشكل ذلك ضربة كبيرة لإيران لأنها ستخسر حليفًا رئيسًا، أي حركة حماس، ولن يكون لديها فرصة سانحة للانخراط في القضية الفلسطينية. والأهم من ذلك، أنه إذا نجحت إسرائيل في غزة، فسيكون حزب الله الهدف التالي، لأنه يشكل تهديدًا أكبر من حماس، ما يشكل ضربة أكبر لإيران[50].

ولكن رغم ذلك؛ فإن العديد من المراقبين – ومنهم الباحث – يرجحون ألا يكون للتعامل الإيراني مع “عملية طوفان الأقصي” تأثيرات كبيرة علي العلاقات بين الطرفين؛ نظرًا إلي طبيعة وأسس العلاقات القائمة بين حماس وإيران؛ فالعلاقة بينهما هي علاقة شركاء استراتيجيين وليست علاقة تابع ومتبوع. وعليه يمكن تصنيف حماس على أنها شريك استراتيجي لإيران، بحيث لا تقوم الأخيرة بتوجيه حركة حماس ولا تعطيها الأوامر ولا تمنحها الضوء الأخضر (كما يروج حاليًا)، هناك التقاء مصالح ووحدة في القضية يستوجبان التعاون والتمويل ونقل الخبرات والتكنولوجيا العسكرية[51]. وهذا التعاون والتنسيق وتلقي الدعم أمر لا تنكره حركة حماس كما لا تنكره الجمهورية الإسلامية، وهي جزء من محور المقاومة، لكنها ذات خصوصية مقارنة بأعضاء المحور الآخرين. هناك تأكيدات من قبل حركة حماس وكذلك من إيران على انتفاء الشرط في مسألة الدعم[52].

ومن أجل ضبط وتيرة العلاقة وإبعاد نفسها عن الانجراف نحو مشروع طهران الطائفي والتوسعي، تضع حماس محددات صلبة لعلاقتها من إيران، إذ تسعى لإبقائها في حدود التعاون العسكري والسياسي المكرس لمواجهة الاحتلال؛ فلا علاقة ذات بعد ثقافي، كالتبادل التعليمي مثلًا، ولا قبول للتشيع، ولا إسناد أو تأييد لسياسات إيران في المنطقة العربية، بل إن حماس احتفظت لنفسها -عمليًا- بالحق في معارضة سياسات طهران الإقليمية كما حدث سلفًا في الملف السوري. كما ظهر أيضًا في رفض حماس محاولات نشر التشيع في فلسطين، وهو ما سبب احتكاكًا بين الطرفين حينما برز دعم إيران لحركة “الصابرين” التي انشقت عن حركة الجهاد الإسلامي وأقامت “حسينية” في غزة، فكان رد حماس قاسيًا؛ إذ حلت التنظيم وصادرت أسلحته واعتقلت أفراده، انطلاقًا من قناعتها بأن خلق انقسام طائفي في فلسطين لن يخدم إلا مشروع الاحتلال[53].

الخلاصات والاستنتاجات:

1- تستند السياسية الإيرانية في التعاطي مع القضية الفلسطينية إلى مقولتين أساسيتين: الأولى: تنادي بضرورة تقديم الدعم المالي والعسكري والسياسي لمن يمثل مشروع المقاومة المؤمن بالبندقية والكفاح المسلح كطريق لتحرير الأرض الفلسطينية. الثانية: تقوم على رفض التعامل مع أصحاب مشروع التسوية السياسية والمفاوضات مع إسرائيل[54].

2-هناك شبه إجماع رسمي داخل إيران على دعم عملية “طوفان الأقصى” ولا تنفي طهران أو حماس تلقي دعم مادي وعسكري وتدريبي من إيران، إلا أن عملية “طوفان الأقصى” تم التخطيط لها وتنفيذها بقرار فلسطيني بحت[55].

3- في ظل تصاعد الحرب الإسرائيلية على غزة، ورفض تل أبيب وواشنطن وقف إطلاق النار، وتبنيهما لخيار القضاء على حكم حماس لقطاع غزة، اعتمدت طهران خيار التصعيد المتدرج والمنضبط، عبر توزيع الأدوار على جماعات تابعة وحليفة لها في جبهات متعددة تشمل لبنان، وسوريا، والعراق، واليمن. حيث يشن حزب الله هجمات يومية على المواقع العسكرية الإسرائيلية في المنطقة الحدودية مع لبنان، بينما يطلق الحوثيون صواريخ كروز وطائرات مسيرة باتجاه إيلات، كما تنطلق هجمات بالصواريخ والطائرات المسيرة تستهدف التواجد الأمريكي في العراق وسوريا.

4- تهدف تلك الهجمات إلى تشتيت الموارد والقدرات العسكرية والاستخبارية الإسرائيلية، وتخفيف الضغط عن غزة، وإبراز التضامن معها. فيما تهدف الهجمات على القواعد العسكرية الأمريكية في العراق وسوريا، فضلًا عن إسقاط طائرة مسيرة أمريكية أمام سواحل اليمن، إلى الضغط على واشنطن لوقف العدوان على غزة، وذلك عبر التأكيد على إمكانية توسع الصراع بما يضر بالمصالح الأمريكية في المنطقة.

5- يوفر هذا الخيار الإيراني دعمًا سياسيًا للمقاومة الفلسطينية ويضع ضغوطًا على الولايات المتحدة، لكنه يضع شكوكًا كبيرة على جدية مبدأ “وحدة الساحات” الذي روجت له إيران خلال السنوات الماضية، ويجدد النقاش داخل حركة حماس حول حدود المتوقع من إيران، وضرورة إعادة التوازن للعلاقة معها.

6- بات واضحًا أن الاستثمار الإيراني في حزب الله والمجموعات الأخرى يستهدف أن تشكل هذه المجموعات درعًا متقدمًا لإيران ضد خصومها وليس العكس. أي إن “وحدة الساحات” هو مبدأ تستهدف به إيران أولًا ردع أعدائها، خاصة الولايات المتحدة وإسرائيل، عن استهداف الأراضي الإيرانية بعمل عسكري، خاصة البنية التحتية النووية، لأن الرد الإيراني في هذه الحالة سيشمل عدة جبهات في الإقليم. ولا يشمل ذلك بالضرورة، وبصورة متكافئة، حماية إيران لحلفائها[56].


[1] ” المحددات الراهنة لسياسة إيران تجاه حرب غزة”، المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية، 23/11/2023، الرابط: https://cutt.us/ORXxT

[2] “من الانتفاضة الأولى إلى سيف القدس.. لماذا تدعم إيران حركة حماس؟”، ميدان، 30/5/2021، الرابط: https://cutt.us/EUMHj

[3] ” الدور الإيراني تجاه القضية الفلسطينية: الأهداف والمحددات”، مجلة رؤية تركية، صيف 2019، ص 105-106، الرابط: https://cutt.us/f1V7T

[4] “”طوفان الأقصى”: كيف نفهم العلاقة بين حماس وإيران؟”، مركز الجزيرة للدراسات، 16/10/2023، الرابط: https://cutt.us/TUkaM

[5] ” الدور الإيراني تجاه القضية الفلسطينية: الأهداف والمحددات”، مجلة رؤية تركية، صيف 2019، ص 100-101، الرابط: https://cutt.us/f1V7T

[6] “تمويل حماس: ماذا نعرف عن مصادر أموال الحركة؟”، بي بي سي عربي، 14/12/2023، الرابط: https://cutt.us/r9zrL  

[7] ” تقرير فلسطيني يتحدث بالتفصيل عن الدعم الإيراني للمقاومة الفلسطينية خلال 4 عقود”، وكالة أنباء فارس، 30/6/2019، الرابط: https://cutt.us/ldI4J

[8] ” إيران تؤكد دعمها لعملية “طوفان الأقصى””، الجزيرة نت، 7/10/2023، الرابط: https://cutt.us/2bE4t

[9] ” رئيسي: المعادلة تغيرت.. وإثارة الحرب ليست لصالح الصهاينة”، الميادين نت، 8/10/2023، الرابط: https://cutt.us/DSQ9U

[10] “مواقف الدول والمنظمات الإسلامية غير العربية من العدوان على غزة”، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 22/10/2023، الرابط: https://cutt.us/DFfIB

[11] “”طوفان الأقصى”: كيف نفهم العلاقة بين حماس وإيران؟”، مرجع سابق.

[12] ” الرئيس الإسرائيلي يتهم إيران بالوقوف وراء عملية “طوفان الأقصى””، أر تي عربي، 7/10/2023، الرابط: https://cutt.us/SIkvP 

[13] “تطورات “طوفان الأقصى” وإيران.. فرصة أم حصار؟”، المرصد المصري، 12/10/2023، الرابط: https://cutt.us/Q4N9U

[14] “إدارة التصعيد: كيف تعاملت إيران مع عملية “طوفان الأقصى”؟”، الحائط العربي، 9/10/2023، الرابط: https://cutt.us/zgt4C  

[15] المرجع السابق.

[16] “مكاسب إقليمية: حسابات إيران تجاه عملية “طوفان الأقصى” ضد إسرائيل”، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات والمتقدمة، 16/10/2023، الرابط: https://cutt.us/w9G4K  

[17] “تداعيات حرب غزة على نفوذ إيران الإقليمي”، أسباب، 11/2023، الرابط: https://cutt.us/sfWB5

[18] المرجع السابق.

[19] “مواقف الدول والمنظمات الإسلامية غير العربية من العدوان على غزة”، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 22/10/2023، الرابط: https://cutt.us/DFfIB

[20] ” وزير الخارجية الإيراني: هجوم “حماس” كان فلسطينيا خالصا”، سكاي نيوز عربية، 30/10/2023، الرابط: https://cutt.us/yur2D

[21] “مكاسب إقليمية: حسابات إيران تجاه عملية “طوفان الأقصى” ضد إسرائيل”، مرجع سابق.

[22] “العلاقة بين “حماس” وإيران”، معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدني، 11/2023، الرابط: https://cutt.us/cqoso

[23] “هل تجتاز العلاقة بين إيران وحماس اختبارًا صعبًا؟”، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 31/12/2023، الرابط: https://cutt.us/u1vYM

[24] “إيران وحرب غزة: التحدِّيات والفرص والنهج المحتمل”، مركز أبعاد للدراسات الاستراتيجية، 22/11/2023، الرابط: https://cutt.us/hXRFH

[25] “مأزق التدخل: كيف توظِّف إيران العملية العسكرية علي غزة؟”، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 25/11/2023، الرابط: https://cutt.us/jT6Sn

[26] “هل يتطور موقف إيران من حرب إسرائيل على غزة؟”، مركز رع للدراسات الاستراتيجية، 22/10/2023، الرابط: https://rcssegypt.com/15482

[27] “حسابات حذرة: هل تدخل إيران والولايات المتحدة في صراع بسبب غزة؟”، المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط، 23/10/2023، الرابط: https://cutt.us/ioZVG

[28] مأزق التدخل: كيف توظِّف إيران العملية العسكرية علي غزة؟”، مرجع سابق.

[29] المرجع السابق.

[30] ” ماذا تكشف جبهة البحر الأحمر عن إستراتيجية إيران؟”، الجزيرة نت، 2/1/2024، الرابط: https://cutt.us/fXXI0

[31] “منتصف العصا… أين إيران من طوفان الأقصى؟”، القدس العربي، 5/11/2023، الرابط: https://cutt.us/oCyNl

[32] “خامنئي يطالب بإسكات «أصوات الحرب» ضد إسرائيل!”، مركز الخليج للدراسات الإيرانية، 30/12/2023، الرابط: https://cutt.us/GAfsO 

[33] “إيران والعدوان على غزة.. حسابات الربح دون حرب”، مصر360، 23/12/2023، الرابط: https://cutt.us/kwPVG

[34] “حسابات حذرة: هل تدخل إيران والولايات المتحدة في صراع بسبب غزة؟”، مرجع سابق.

[35] “خيارات محدودة:هل وضعت حربُ غزة إيرانَ أمام اختبار صعب؟”، الحائط العربي، 26/10/2023، الرابط: https://cutt.us/hTnIk

[36] “درء المخاطر: لماذا نفى خامنئي ضلوع إيران في طوفان الأقصى؟”، الحائط العربي، 17/10/2023، الرابط: https://cutt.us/LDieN  

[37] “انفجار كرمان.. خبيران إيرانيان يعددان أسباب اتهام واشنطن وتل أبيب”، الجزيرة نت، 4/1/2023، الرابط: https://cutt.us/snweg

[38] “حسابات حذرة: هل تدخل إيران والولايات المتحدة في صراع بسبب غزة؟”، مرجع سابق.

[39] “درء المخاطر: لماذا نفى خامنئي ضلوع إيران في طوفان الأقصى؟”، مرجع سابق.

[40] “الانسحاب الثاني:هل تجمد واشنطن صفقة تبادل السجناء بعد طوفان الأقصى؟”، الحائط العربي، 24/10/2023، الرابط: https://cutt.us/GrBmU

[41] “درء المخاطر: لماذا نفى خامنئي ضلوع إيران في طوفان الأقصى؟”، مرجع سابق.

[42] “”طوفان الأقصى”: كيف نفهم العلاقة بين حماس وإيران؟”، مرجع سابق.

[43] “لماذا لم تدخل إيران الحرب بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة؟”، المنتدي العربي لتحليل السياسات الإيرانية، 5/11/2023، الرابط: https://cutt.us/pB3dv

[44] “هل يتطور موقف إيران من حرب إسرائيل على غزة؟”، مركز رع للدراسات الاستراتيجية، 22/10/2023، الرابط: https://cutt.us/eRneI

[45] “”طوفان الأقصى”: كيف نفهم العلاقة بين حماس وإيران؟”، مرجع سابق.

[46] “منتصف العصا… أين إيران من طوفان الأقصى؟”، مرجع سابق.

[47] “تداعيات حرب غزة على نفوذ إيران الإقليمي”، أسباب، 11/2023، الرابط: https://cutt.us/sfWB5

[48] ” المحددات الراهنة لسياسة إيران تجاه حرب غزة”، مرجع سابق.

[49] “”طوفان الأقصى”: حماس و”الفسيفساء الدفاعية” الإيرانية: من يخدم من؟”، مركز الجزيرة للدراسات، 17/10/2023، الرابط: https://cutt.us/0jDWC 

[50] “إيران وحرب إسرائيل على غزّة: الخيارات والسيناريوهات”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 30/10/2023، الرابط: https://cutt.us/e9Zjy

[51] “”طوفان الأقصى”: كيف نفهم العلاقة بين حماس وإيران؟”، مرجع سابق.

[52] “”طوفان الأقصى”: حماس و”الفسيفساء الدفاعية” الإيرانية: من يخدم من؟”، مرجع سابق.

[53] “من الانتفاضة الأولى إلى سيف القدس.. لماذا تدعم إيران حركة حماس؟”، مرجع سابق.

[54] ” الموقف الإيراني من ملحمة ” طوفان الأقصى””، المركز الديمقراطي العربي، 26/12/2023، الرابط: https://cutt.us/ErNiv

[55] “”طوفان الأقصى”: كيف نفهم العلاقة بين حماس وإيران؟”، مرجع سابق.

[56] “تداعيات حرب غزة على نفوذ إيران الإقليمي”، مرجع سابق.

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022