الأزهر وحكام مصر بين الشموخ ومحاولات التطويع السياسي

 الأزهر وحكام مصر  بين الشموخ  ومحاولات التطويع السياسي

مقدمة

                        عندما غزا الفاطميون "الشيعة" القادمون من بلاد المغرب العربي  مصر سنة (359ه/970م) وتمكنوا من احتلالها وإسقاط الدولة الإخشيدية، وفي محاولة لتغيير الهوية الدينية لمصر من الاعتقاد والفقه السني إلى الاعتقاد والفكر الشيعي الإسماعيلي شرع جوهر الصقي بأوامر من المعز لدين الله الذي نصب نفسه أول خليفة للفاطميين في مصر، في بناء الأزهر[1] ، وافتتح المسجد في منتصف عام (361ه/972م) وأريد له أن يكون مدرسة لنشر الفكر والاعتقاد الشيعي. عندما سقط الفاطميون على يد القائد صلاح الدين الأيوبي، عام 1171م، أوقف جميع الأنشطة المرتبطة بالشيعة سواء كانت سياسية أو تعليمية أو دعوية، ومنها الأزهر الذي ظل مهملا لأكثر من قرن كامل،  حتى جاء العصر المملوكي وكانت أول صلاة جمعة بالأزهر الشريف يوم 17 ديسمبر 1267م. في عهد الظاهر بيبرس. وعلى مدار أكثر من ألف سنة بقي الأزهر  مدرسة شامخة لتعليم أصول الإسلام وقواعد اللغة العربية ومذاهب الفقة الإسلامي، و اليوم، لا يزال الأزهر مؤسسة لها تأثير عميق في المجتمع المصري ورمزاً من رموز مصر الإسلامية.

وعلى مدار القرون الماضية، قام الأزهر الشريف بدور فعال في نشر تعاليم وأحكام الإسلام وتخرج منه ملايين العلماء الذين تعمقوا في أصول الدين وقواعد اللغة وبواطن الفقه بمذاهبه المتعددة دون التحيز لمذهب فقهي معين؛ كشأن بعض المدارس الإسلامية الأخرى، وانتقل هؤلاء إلى جميع بقاع الأرض ينشرون الإسلام وفق الفهم الوسطي المعتدل ما جعل  من الأزهر مدرسة عالمية بات له تأثير واسع ليس على مصر فقط بل على العالم الإسلامي كله؛ وإلى جوار الدور  التعليمي والدعوي المتميز ، قام الأزهر الشريف بأدوار اجتماعية مؤثرة وفعالة حيث كانت أوقافه تدر عليه أموالا طائلة ما دفع الأزهر إلى الإنفاق على  طلاب العلم واحتضانهم وتوفير سبل المعيشة لهم حتى يتفرغوا  للعلم ونشر الدعوة، كما كان لعلماء  الأزهر أدوار كبرى في تحقيق التكافل الاجتماعي عبر أموال الزكاة التي وفرت عوامل الستر لملايين المصريين عبر القرون المختلفة.

أما على المستوى السياسي، فلم يكن الأزهر يومًا بعيدًا عن الحياة السياسية، إذ ظل عبر العصور قلعة الإسلام والممثل الأبرز للدعوة الإسلامية والعمل السياسي الإسلامي المستقل عن الحكام على مدار تاريخه، وحافظ على مكانته هذه في عصر المماليك والعثمانيين حتى بدايات عصر "محمد علي"، الذي بدأت في عهده عملية تقييد حركة الأزهر وتجريده من بعض نفوذه السياسي على مراحل عدة، مرورًا  بقرارات الديكتاتور جمال عبدالناصر بعد حركة يوليو 1952م،  والتي صادرت أوقاف الأزهر وطوعته لخدمة السلطة وجعلته جزءا من منطومة الحكم  حتى فقد قدرا لا يستهان به من مكانته واستقلاله؛  ومنذ ذلك الحين ثمة محاولات تستهدف  استعادة استقلال المؤسسة الإسلامية الكبرى في البلاد وهو ما كان قد بدأ بالفعل عقب ثورة 25 يناير 2011م ونص دستور الثورة 2012 في المادة "4" على ذلك صراحة، وهو ما لم يجرؤ دستور انقلاب 2014 على تجاوزه، ونص على ذلك في مادته رقم"7"،  التي تنص على «الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية مستقلة، يختص دون غيره بالقيام على كافة شئونه، وهو المرجع الأساسى فى العلوم الدينية والشئون الإسلامية، ويتولى مسئولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية فى مصر والعالم . وتلتزم الدولة بتوفير الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراضه. وشيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل، وينظم القانون طريقة اختياره من بين أعضاء "هيئة كبار العلماء". لكن ممارسات سلطة العسكر بعد انقلاب 03 يوليو 2013م تعمل بإصرار على تطويع الأزهر وجعله دائما في خدمة النظام وإضفاء المشروعية الدينية على ممارساته وسياساته القمعية وسط تكهنات ترجح إقدام النظام على إجراء تعديلات دستورية وقانونية في 2019م، تنتزع المكاسب التي حققها الأزهر بعد ثورة يناير  وتعيد فرض وصاية النظام عليه من جديد بشكل مطلق.

 

محطات العزة والشموخ

على مدار تاريخ الأزهر سطر  كثير من شيوخه بطولات مضيئة تقتدي بها الأجيال التالية جيلا بعد جيل،  وكشفت عن دور الأزهر الشريف في الدفاع عن الإسلام وشرائعه وأحكامه أمام الحكام المستبدين أو قوى الاحتلال الأجنبي الغاشمة؛ هذه المواقف تعكس الدور الكبير  للأزهر وتأثيره السياسي والديني والاجتماعي.

أولا، نصرة المظلومين والدفاع عن الناس ومنها بطولة الشيخ الدرديري ضد مرابد بك،ففي سنة "1200" ه ، داهم أحد أمراء المماليك ويدعى حسين بك بجنوده منطقة الحسينية بالقاهرة واقتحموا بيت أحد الناس ونهبوا كل ما في البيت فتوجه الأهالي إلى الجامع الأزهر وهم يحملون الطبول والنبابيت وانضم لهم خلق كثير، طالبين من شيخ وإمام المالكية بالأزهر الشريف  وقتها الشيخ أحمد الدردير (1127هــ حتى 1201ه)  نصرتهم فانحاز لهم وشجعهم بل دعا أهالي بولاق ومصر القديمة لقيادتهم واقتحام بيوت هؤلاء الغاصبين كما ينهبون بيوت الناس. ولما علم كبار البكوات بعزم  الشيخ الدردير الشهبر بأبي البركات، أصابهم خوف شديد وخشوا من تفاقم الأمور، وأرسلوا وفدا إلى الشيخ طالبين منه قائمة بالأشياء التي تم اغتصابها من بيت المواطن لإعادتها. وفي سنة 1191ه  امتنع الأمير يوسف الكبير عن دفع الأوقاف الخيرية لطلبة العلم من المغاربة فرفعوا شكواهم إلى القاضي الذي قضى بحقهم وإلزام الأمير  بدفع الأوقاف الخيرية وطلب منه الشيخ الدرديري الإذعان للحكم لكنه أبى وأهان رسول الإمام الأكبر، يقول الجبرتي: «وصل الخبر إلى الشيخ الدرديرى وأهل الجامع فاجتمعوا فى صحنه وأبطلوا الدروس وأقفلوا باب الجامع وحبس المشايخ بالقبلة القديمة وكانت وقفة عصيبة رجع فيها الحق إلى أصحابه على أيدى شيوخ الأزهر فى مقدمتهم الأستاذ الدرديرى»[2].

ثانيا، دور الأزهر في مواجهة الاحتلال الفرنسي،  في فترة شديدة الخطورة والتحول، قيد الله للأزهر الشريف الإمام الأكبر الشيخ  عبدالله الشرقاوي  الذي تولي المشيخة من (1208ه/1793م حتى 1227ه/1812م) وشهدت فترة إمامة الشرقاوي للأزهر تطورين كبيرين: الأول عندما غزا نابليون بونابرت مصر  بحملة عسكرية ضخمة  في يوليو من سنة 1798م، وبعد 3 شهور فقط وفي شهر أكتوبر، كان الشيوخ والعلماء والتجار والأعيان استجمعوا صفوفهم وأشعلوا ثورة القاهرة الأولى ضد الفرنسيين وكان الجامع الأزهر هو مركز قيادة الثورة، وتسبب في إشعالها عدة أسباب:

1)     نصوص الإسلام وأحكامه التي توجب رد الاعتداء وطرد المحتلين من ديار الإسلام وعدم الفرار أمام العدو  تحت أي ذريعة إلا إذا كان مناورة أو انحيازا للمسلمين لتجميع الصفوف ومواصلة الجهاد مرة أخرى.

2)     الجرائم التي ارتكبها الغزاة الفرنسيون من احتلال بلد عظيم كمصر  التي تحتضن الأزهر الشريف وفي ذلك استهانة كبرى بالشعب المصري ومنها كذلك قتل الفرنسيين للسيد محمد كريم حاكم الإسكندرية الذي رفض التسليم بالاحتلال الفرنسي.

3)     فرض الضرائب الباهظة من جانب الفرنسيين على الشعب وهدم أبواب الحارات خوفا من جانب الفرنسيين من استخدامها من جانب المقاومة ضد جنودهم.

4)     هزيمة الفرنسيين أمام  الأسطول الإنجليزي في أبي قير البحرية وتوارد أنباء عن إمدادات من الباب العالي العثماني لدعم مقاومة الشعب المصري بقيادة شيوخ الأزهر الشريف.

«خرج المصريون بكل ما لديهم من سلاح وشوم وحراب على الجنود الفرنسيين يقتلوهم، وتحصنوا بأسوار الحارات وفي الأزقة، ونصبوا المتاريس على مداخلها، ولكن فاتهم أن يحتلوا الأماكن المرتفعة المطلة على الحارات. وسارع نابليون باحتلالها ونصب مدافعه فوق مآذن جامع السلطان حسن، وانهالت القنابل منه ومن القلعة على الجامع الأزهر، مبعث الثورة، وكل ما يحيطه من بيوت وحوانيت. وفي المساء أوقف نابليون الضرب لكنه أرسل جنوده إلى الأزهر، فدخلوا الجامع بخيولهم عنوة وربطوها بصحنه وكسروا القناديل وحطموا خزائن الكتب ونهبوا ما وجدوه من متاع. وحكم «نابليون» على 13 شيخاً من الأزهر بالإعدام، وأعدم الكثير ممن قبض عليهم ومعهم سلاح وقدر عددهم بحوالي ثمانين شخصاً من قادة الثورة، إلى جانب الكثيرين من عامة الشعب. وأسفرت الثورة عن مقتل أكثر من 2500 مصري، وحوالي 20 من رجال الحملة الفرنسية، وكتب نابليون في مراسلاته للفيلسوف الفرنسي «رينييه»: «في كل ليلة نقطع نحو 30 رأساً أكثرها لزعماء الثورة، وفي اعتقادي أن هذا سيعلمهم درساً نافعاً».[3] وواصل الأزهر جهاده وأشعل ثورة القاهرة الثانية بعد أن تم اغتيال القائد الثاني للحملة كليبر على يد سليمان الحلبي الذي قدم من الشام خصيصا  لهذا  العرض. حتى اضطر الفرنسيون الغزاة إلى الخروج يجرون أذيال الهزيمة والفشل على وقع مقاومة المصريين تحت قيادة الأزهر الشريف.

ثالثا، الإطاحة بالحكام المستبدين، عندما قام الوالي التركي خورشيد باشا عام(1220ه/ 1805م)، بفرض ضريبة جديدة على أهالي القاهرة، وكان قد سبق أن طلب خورشيد من العلماء نفس المطلب فثار الشعب، فما كان من الزعماء إلا أن اجتمعوا في الثاني عشر من شهر صفر من العام ذاته في بيت القاضي وكان في مقدمتهم الشيخ الشرقاوي وقرروا اختصام خورشيد باشا الوالي التركي فعلم الشعب بذلك فاجتمع ما يقرب من 40 ألفًا وقاموا بمظاهرة ضد ظلم خورشيد، ثم طلب القاضي وكلاء الوالي وعندما حضروا إليه عقدوا المجلس وتم عرض مظالم الشعب ومطالبهم وهي:

1)     عدم فرض أية ضريبة على القاهرة إلا بعد أن يقرها العلماء والأعيان.

2)     جلاء الجنود عن القاهرة وانتقال حامية القاهرة إلى الجيزة.

3)     عدم السماح بدخول أي جندي إلى مدينة القاهرة وهو مسلح.

وبعد أن وصلت رسالة القاضي إلى خورشيد باشا محملة بهذه المطالب شعر بخطورة موقفه فأرسل إلى العلماء لمقابلته ولكنهم رفضوا لأنهم فطنوا لمؤامرته ومكيدته، فما كان من خورشيد باشا إلا أن رفض مطالب الشعب فقام العلماء ووكلاء الشعب بالاجتماع في الثالث عشر من صفر 1220هـ في المحكمة واتفقوا مع الشعب على عزل خورشيد باشا واختيار محمد علي واليًا على مصر وأبلغوه بذلك فتردد محمد علي في أول الأمر ثم قبل بعد أن أوضح له الشيخ عبد الله الشرقاوي والسيد عمر مكرم نقيب الأشراف، أن هذه هى رغبة الشعب المصري ثم ألبساه خلعة الولاية.. وهذه هى أول مرة في تاريخ مصر الحديث يعزل فيها الوالي ويختار بديله بقوة الشعب وإرادته.

 

محمد علي .. بذور العلمانية

زاد نفوذ ومكانة علماء الأزهر والشيخ الشرقاي إمام الأزهر والسيد  عمر مكرم نقيب الأشراف بعد الإطاحة بالوالي الظالم خورشيد باشا في عام 1805وتولية الضابط الألباني محمد علي، ثم زادت مكانة الأزهر والقوى المدنية الإسلامية بعد الدور العظيم الذي لعبه الأزهر والسيد عمر مكرم تحت رعاية الإمام الأكبر الشيخ عبدالله الشرقاوي في هزيمة الغزو الإنجليزي في حملة فريرز سنة 1807م حيث كان الجيش بقيادة إبراهيم نجل محمد علي باشا يحارب في السودان لكن القوى المدنية الإسلامية تمكنت من صد الغزو وهزيمة العدوان في غياب الجيش. الذي شارك في نهاية المواجهة.

ويصف الجبرتى المكانة العالية التي وصل إليها السيد عمر مكرم بقوله: “وارتفع شأن السيد عمر، وزاد أمره بمباشرة الوقائع، وولاية محمد على باشا، وصار بيده الحل والعقد، والأمر والنهي، والمرجع فى الأمور الكلية والجزئية. فكان يجلس إلى جانب محمد على فى المناسبات والاجتماعات، ويحتل مركز الصدارة فى المجتمع المصري، حتى إن الجماهير كانت تفرح لفرحه، وتحزن لحزنه. ولكن محمد على التف على هذه المكانة وأفرغها من مضمونها فيما بعد وبمجرد أن نقل الوشاة من العلماء إلى (الباشا) تهديد عمر مكرم برفع الأمر إلى الباب العالى ضد والى مصر، وتوعده بتحريك الشعب للثورة، وقوله: (كما أصعدته إلى الحكم فإننى قدير على إنزاله منه).

ومن أجل الحد من نفوذ الأزهر والسيد عمر مكرم  قام محمد علي بعدة إجراءات:

1)     أولا، أيقن محمد علي أن مشايخ الأزهر الشرفاء هم الجبهة الأخطر التي يجب القضاء عليها، نظرًا لقدرتهم على توحيد الصفوف وتحريك الشارع، والدليل على ذلك الدور الذي قاموا به لتنصيبه واليًا على مصر بعد أن أخذوا عليه العهود والمواثيق في دار المحكمة ليحكم بالعدل، ويرجع إليهم في كافة أمور الحكم؛ لذا حاول محمد على فى البداية رشوة عمر مكرم (فى تطويع إرادته وإرغامه على الإقلاع عن تبنى مطالب الشعب) .. ثم لجأ إلى المكيدة التى عاونه فيها من أسماهم الجبرتى بمشايخ الوقت من العلماء، وعزل عمر مكرم عن نقابة الأشراف وعين الشيخ السادات بدلًا منه ليزرع الفتن في النفوس.  ونفى السيد عمر مكرم إلى دمياط فى 9 من أغسطس 1809م وظل بها حتى نهاية حياته.[4]

2)     ثانيا، تقرب محمد علي من رجالات الأزهر الموصومين بالخيانة والعمالة وسوء السمعة لتعاملهم مع الحملة الفرنسية، وعمل على بسط نفوذهم، كما  وزع المناصب داخل الحكومة على أولئك الذين تلقوا تعليمهم خارج الأزهر. وبعث الطلاب إلى فرنسا تحديدًا كي يكونوا تحت نظام تعليم غربي، وقام بإنشاء نظام تعليمي يستند إلى هذا النموذج ليتجاوز به الأزهر؛ فشجع بذلك على التعليم العلماني، كما أضاف الفلسفة الأوروبية لبرنامج الدراسة؛ ويعتبر هذا هو أساس  دخول العلمانية إلى مصر؛  يقول د.عاصم الدسوقي: «التعليم المدني الذي أقامه محمد علي موازيًا للتعليم الديني التقليدي أوجد ازدواجية في الثقافة والفكر في مصر، خاصة وأن محمد علي اختص خريجي المدارس الحديثة بوظائف الحكومة».[5]

3)     رابعا، تدخل لأول مرة في تاريخ الأزهر في اختيار شيخه، وجرى ذلك سنة 1812 حين اختار شيوخ الأزهر الشيخ محمد المهدي خلفا للشيخ عبد الله الشرقاوي، فعين محمد علي الشيخ محمد الشنواني شيخا للأزهر.[6] كما عين الشيخ حسن العطار شيخا للأزهر في سنة 1830 لتطويع المؤسسة الإسلامية لخدمته سلطته ونظامه.

4)     خامسا، صادر أجزاء من وقف الأزهر وموارده لصالح الحكومة وكانت هذه أول مرة يتم فيها السطو على بعض أموال الأزهر لحساب السلطة رغم أن ذلك مخالف  لأحكام الوقف في الشريعة الإسلامية التي تنص على أن «شرط الواقف كنص الشارع»؛ وهو ما  أدى إلى غضب واسع بين علماء الأزهر. كما فرض الضرائب على المدارس الإسلامية والأراضي التابعة للمساجد.

5)     أفضى إضعاف الأزهر  وتطويعه لخدمة السلطة إلى انعكاسات سلبية أدت إلى ضمور دوره في مواجهة الاحتلال الإنجليزي الذي غزا مصر  سنة 1881م في عهد الخديوي توفيق، وفي سنة 1911 صدر قانون الأزهر ، الذي أنشأ هيئة لكبار العلماء مكونة من 30 عالما من علماء الأزهر. واشترط أن يكون شيخ الأزهر عضوا في هذه الهيئة التي تغير اسمها في عهد مشيخة المراغي إلى "جماعة كبار العلماء".

 

عبدالناصر وتطويع الأزهر

عندما غزا نابليون القاهرة بحملته الشهيرة، اتبع سياسة تطويع الأزهر ومشايخه من أجل توظيف المؤسسة ونفوذ العلماء لصالح سياساته؛  لتكريس الاحتلال الفرنسي؛ فقرب عددا من الشيوخ وأغراهم بامتيازات لتحقيق هذا الهدف، ومن بعده جاء محمد علي ومضى على نفس السياسة هو وأبناؤه من بعده من الأسرة العلوية من أجل الحد من نفوذ الأزهر السياسي وإضعاف شوكته في الدفاع عن حقوق الشعب ومواجهة استبداد الملوك والحكام؛ إضافة إلى توظيف الأزهر سياسيا لخدمة الحكام وإضفاء المشروعية على بعض مماراساتهم التي تلقى اعتراضا من  أجل السيطرة على الجماهير.

ورغم ذلك،  فقد رفض الشيخ محمد مصطفى المراغي طلب الملك فاروق إصدار فتوى تحرم زواج الملكة فريدة بعد طلاقها منه، ورد عليه بقوله ”أما الطلاق فلا أرضاه، وأما التحريم للزواج فلا أملكه، إن المراغي لا يستطيع أن يحرم ما أحل الله”.  كما  عزل فاروق الشيخ عبد المجيد سليم عام 1951 لما انتقد تصرفات الملك فاروق  خلال قضائه شهر العسل مع زوجته الثانية في الوقت الذي تم تخفيض مخصصات الأزهر، بقوله "أتقتير هنا وإسراف هناك؟".

وعندما جاءت  ما تسمى بحركة الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952م، لم تشذ عن سياسة نابليون ومحمد علي تجاه الأزهر؛ بل على العكس يمكن الجزم بأن الحكم العسكري في عهد جمال عبدالناصر قضى نهائيا على ما تبقى  من استقلال الأزهر؛  فحتى ذلك الحين  كان الأزهر يتولى العمل الدعوي في المساجد والتعليم في مدارسه ومعاهده وكلياته، كما كان يشرف على أوقافه الضخمة التي تمثل كنزا مهولا  من الأراضي والأطيان والعقارات والمستشفيات والمدارس والحدائق وغيرها.  وعبر قرارات عسكرية متسترة بشعارات التطوير والحداثة والثورة  تم تفتيت الأزهر عبر الإجراءات الآتية:

أولا، مصادرة أوقافه، حيث تضمن المرسوم بقانون رقم 180 لعام 1952م أي في أول خمس شهور من حكم عسكر 23 يوليو  إلغاء الوقف الأهلي كما كانت هناك اجراءات صحبت ذلك كله وأخرى تتابعت في السنوات التالية أدت فيما أدت إلى وضع الدولة يدها بشكل كامل على الأوقاف عبر وزارة الأوقاف التي سلمت هذه الأوقاف بشكل أو بأخر إلى الهيئة العامة للإصلاح الزراعي. ولذلك عجزت وزارة الأوقاف عن تأدية رسالتها لأن هذه الأراضي كانت تدر على الأزهر في السنة الواحدة 8 ملايين جنيه وبتطبيق هذه القوانين انخفضت الإيرادات إلى 800 ألف جنيه إذ أن الريع تم تحديده بـ3% و4% من قيمة سندات سلمت لها كبديل للأرض فضلا عن امتناع الهيئة العامة للإصلاح الزراعي عن سداد الريع المستحق؛ الأمر الذي جعلها مدينة لوزارة الأوقاف بمبالغ مالية هائلة هذا فضلا عن تبديد الهيئة لأغلب هذه الأوقاف لا سيما أوقاف الخيرات الموقوفة على المساجد؛ و بهذا ضربت حركة  23 يوليو الركيزة الاقتصادية لعلماء الأزهر؛  تلك الركيزة التي كانت تجعلهم في غنى عن أموال الحكومة؛ الأمر الذي كان يكفل لهم الاستقلال عن الحكومة ويتيح لهم معارضتها دون الخوف من قطع مرتباتهم أو تشريد أسرهم من بعدهم. وعلى حين عوملت أوقاف المسلمين هذه المعاملة استثنيت أوقاف غير المسلمين من أحكام هذه القوانين حيث وضعت لها قوانين خاصة وتركت لكل كنيسة أوقافها في حدود مائتي فدان وما زاد عن هذا كانت الدولة تأخذه وتدفع ثمنه بسعر السوق.[7]

ثانيا، تحدى عبدالناصر نظام الشريعة الإسلامية وأصدر سنة 1955  مرسوما بقانون رقم 462 ألغى بمقتضاه المحاكمة الشرعية التي تحكم وفق قوانين وأحكام الشريعة، بهدف الحد من نفوذ الأزهر الديني والاجتماعي كما جاءت هذه الخطوة توجها صريحا نحو علمانية القضاء، كما أن ذلك شكل تحديا لنظام الشرعية الإسلامية نفسه في دولة إسلامية يعلن دستورها أن دينها الرسمي هو الإسلام  وبإلغاء المحاكم الشرعية ومصادرة الأوقاف نجح جمال عبدالناصر فيما فشل فيه الغزو الأجنبي من تطويع أكبر مؤسسة إسلامية في مصر والعالم.

ثالثا، كرَّس عبدالناصر هذه الوصاية بإصدار ما يسمى بقانون تنظيم الأزهر (103 لسنة 1961م). وهو القانون الذي تم تمريره قهرا؛ وبتهديدات صريحة لنواب البرلمان المعين من جانب قيادات عسكرية أرسلهم الطاغية خصيصا لهذا الغرض، ورغم غياب 49% من النواب ورفض نصف الحاضرين ما يعني أن الذين وافقوا عليه هم ربع المجلس فقط تم تمريره بأوامر مباشرة من عبد الناصر  وبهذا القانون المشبوه أحكم عبدالناصر على الأزهر كليا؛ فهذا القانون وإن كان أعاد تنظيم الأزهر فعلا وقسمه إلى هيكل تنظيمي جديد لكنه ربط هذا التنظيم كله بجهاز الدولة وخاصة رئاسة الجمهورية بشكل مباشر؛ فشيخ الأزهر ووكيل الأزهر ورئيس جامعة الأزهر يعينهم رئيس الجمهورية؛ كما أن كافة أجهزة الأزهر الرئيسية كالمجلس الأعلى للأزهر وجامعة الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية ينفرد رئيس الجمهورية بتعيين القيادات العليا فيها؛ فمجمع البحوث يرأسه شيخ الأزهر وأعضاء المجمع يعينهم رئيس الجمهورية؛ أما جامعة الأزهر فبالإضافة لانفراد رئيس الجمهورية بتعيين رئيس جامعة الأزهر فعمداء الكليات يعينهم أيضا رئيس الجمهورية؛ وبصفة عامة فالهيكل العام الإداري والمالي للأزهر أصبح وفقا لقانون تنظيم الأزهر جزءا من الهيكل المالي والإداري للحكومة (أي السلطة التنفيذية). وبذلك بات الأزهر فرعا من السلطة لا يتمتع بأي قدر من الاستقلالية وبات مرهونا برضا الحاكم الذي يهمين فعليا على كل شيء في المؤسسة الإسلامية الكبرى في مصر والعالم.[8]

ولعل هذه القرارات العسكرية تفسر أسباب ضعف الأزهر منذ انقلاب الضباط الأحرار حيث لم يعد للأزهر صوت مسموع ضد النظم المستبدة ومظالم الحكام، كما كان من قبل، كما يفسر ذلك أسباب موافقة الأزهر لمواقف عبد الناصر  أثناء صراعه مع اللواء محمد  نجيب وكذلك دعمه لاتفاقية الجلاء ومباركة إغلاق مضيق تيران الذي أدى إلى هزيمة 5 يونيو 1967م، ثم فتوى شيخ الأزهر بتكفير الإخوان لإضفاء مشروعية زائفة على مظالم الطاغية وانتهاكاته الوحشية بحق الجماعة والمعارضين لحكمه الاستبدادي.

وللكشف عن حجم التأثير والتدمير الذي أحدثه الطاغية عبدالناصر في  الأزهر يمكن المقارنة بين موقف الإمام الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين الذي رفض طلبا رسميا من عبدالناصر بتكفير الإخوان ووصفهم بالخوارج  في أزمة سنة 1954م، وصعد على المنبر وقال «لقد عشت خادماً لديني وليس مستخدماً لهم ويكفى العبد الفقير كسرة خبز وشربة ماء وما أكثر القضاء فى ملكوت الله ، وإني اشهد الله أن الإخوان المسلمين دعوة ربانية ، عرفتها ميادين البذل والعطاء والجهاد والتضحية ، لم يخونوا ولم يغدوروا»، قبل ان يتقدم باستقالته[9].  على العكس من ذلك في أزمة 1965، اعتبر الأزهر نفسه خصما لدودا للإخوان وعلى الفور أصدر حسن مأمون شيخ الأزهر المعين من جانب عبدالناصر بيانا نشرته الصحف بتاريخ 11 سبتمبر 1965 باسمه بعنوان (رأى الإسلام في مؤامرة الإجرام)، أفتى فيه بتكفير الجماعة واعتبرها من الخوارج.[10]

الأزهر في عهدي السادات ومبارك

تسلم الرئيس الأسبق محمد أنور السادات الحكم وكان الأزهر فعليا  فرعا من فروع السلطة لا يتمتع بأي قدر من الاستقلالية أو القدرة على مواجهة تعسف السلطة وشطحاتها سوى مكانته الروحية في نفوس المسلمين ومقدار ما يتمتع به من يجلس على كرسي المشيخة من جرأة في الحق والصدع به دون خوف إلا من الله، ولذلك عندما أصدر السادات بعديلات إضافية على قانون الأزهر سنة 1974 تقلص من نفوذ المشيخة وصلاحياته اعتكف الشيخ محمود عبدالحليم غضبا ورفضا للقانون ولم يعد إلا بعد إلغائه فعلا، لكن ذلك لم يمنع الشيخ محمد عبدالرحمن بيصار شيخ الأزهر من إعلانه تأييد السادات في اتفاقية كامب ديفيد ؛  فقد أعلن بيصار وقتها في أحد الإجتماعات الدينية «أن مصر تعيش هذه الأيام أمجد أيامها بالزيارة التي يقوم بها الرئيس السادات لتوقيع معاهدة السلام»، كما أرسل الشيخ بيصار إلى الرئيس السادات برقية تهنئة بمناسبة توقيعه المعاهدة، كما أيد الشيخ جاد الحق على جاد الحق مفتي الجمهورية وقتها معاهدة السلام.[11]

وبموجب قانون "103 لسنة 61 الذي أصدره عبدالناصر، عين الرئيس الأسبق حسني مبارك خلال فترة حكمه وقبل الإطاحة به في ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 ثلاثة مشايخ للأزهر. والثلاثة هم جاد الحق علي جاد الحق في 17 مارس/آذار 1982، ومحمد سيد طنطاوي في 27 مارس/آذار 1996، وأحمد الطيب في 19 مارس/آذار 2010.  ورغم تماهي  الأزهر مع السلطة خلال عهد مبارك وتوظيف المؤسسة الدينية في الصراع ضد الحركات الإسلامية عموما إلا أن ذلك لم يمنع الشيخ جاد الحق من مخالفة بعض سياسات النظام مثل فتوى إباحة فوائد البنوك حيث رفض الشيخ ذلك في موقف يحسب له.

 

ثورة يناير   وعودة استقلال الأزهر

في البداية عارض الأزهر المظاهرات التي انطلقت ضد الرئيس الأسبق حسني مبارك، وأصدر بيانات وتصريحات توثق هذا الموقف؛ لكن مع نجاح الثورة والإطاحة بنظام مبارك؛ غير الأزهر من مواقفه على الفوز وأعلن دعمه للثورة والثوار!

وخلال الفترة ما بين 11 فبراير 2011م والتي تم فيها الإطاحة بمبارك و30 يونيو 2013م حيث مظاهرات التمهيد للانقلاب على الرئيس المنتخب ، استرد الأزهر كثيرا من نفوذه واستقلاله حيث بات قبلة القوى السياسية المتشاكسة رغبة في الفوز بدعم المؤسسة الإسلامية الكبرى في مصر، وأحيانا باعتبارها مرجعية الخصوم يحتكمون إليها خصوصا وأن المشيخة اتبعت سياسة متوازنة تنأى بنفسها عن الانحيازات السياسية وحاولت كذلك كسب ود الجميع. وأصدرت عدة بيانات ومبادرات تمضي في ذات الاتجاه.

وفي ظل عصر الحريات الأكبر وحالة الفوران الشعبي واكتساب المجتمع المدني قوة روحية ثورية كببرة ؛ نص دستور الثورة 2012م على استقلالية الأزهر في مادته الرابعة، وبات تنصيب الإمام الأكبر بالانتخاب من بين أعضاء هيئة كبار العلماء وليس بالتعيين كما كان في قانون "103" سنة "61" الذي أصدره عبدالناصر.

 

انقلاب 03 يوليو

وعلى الرغم من فتوى الأزهر والشيخ أحمد الطيب بعدم جواز الخروج على الحاكم أثناء ثورة 25 يناير دعما وانحيازا للنظام السلطوي؛ إلا أنه خالف ذلك في مشهد مظاهرات 30 يونيو التي كانت تمهيدا لانقلاب 03 يوليو ، بل إن الشيخ شارك أيضا في مشهد الانقلاب في سقطة ستبقى وصمة عار في جبين الشيخ والأزهر حيث تم توظيفه سياسيا من إجل إضفاء مشروعية على انقلاب عسكري ضد أول رئيس منتخب في تاريخ مصر لم يمضي على انتخابه سوى عام واحد فقط.

لكن رغم ذلك فإن الأزهر كان المؤسسة الوحيدة التي اعترضت على مذبحة رابعة والنهضة غيرها، ودعا إلى الكف عن سفك الدماء وحل الأزمة بالحوار واحتجاجا على ذلك اعتكف الشيخ في منزله بالأقصر مؤكدا أنه لم يكن على علم بذلك.

ومع عودة الحكم العسكري من جديد، سعى الجنرال عبدالفتاح السيسي إلى نفس نهج جمال عبدالناصر، ويعمل على تطويع الأزهر وفرض وصاية النظام عليه من أجل استكمال توظيفه سياسيا ضد الإخوان والرافضين للأنقلاب وكذلك إضفاء المشروعية على ممارسات النظام ومظالمه وانتهاكاته، وبحجة التطوير وتجديد الخطاب الديني يشن النظام بين الحين والآخر حملة على مشيخة الأزهر والإمام الأكبر  من أجل مزيد من التطويع والاستسلام أمام توجهات النظام وسياساته.

وللحق فقد وقف الأزهر وهيئة كبار العلماء مواقف مشرفة خلال السنوات الماضية منها:

أولا، رفض المشيخة إصدار فتاوى بتكفير الإخوان ووصفهم بالخوارج كما رفضت حتى إطلاق أحكام التكفير على القاعدة وداعش وغيرها  من الحركات المسلحة ؛ مؤكدا أن الأزهر يتصدى لتوجهات التوسع في التكفير ؛ فإذا أصدر مثل هذه الفتوى فإن ذلك منزلق خطير يعطي للآخرين مشروعية إصدار  فتاوى تكفيرية مضادة.

ثانيا، رفضت هيئة كبار العلماء دعوة جنرال الانقلاب بعدم وقوع "الطلاق الشفوي" في معرض خطابه في الاحتفال بعيد الشرطة يوم 24 كانون الثاني/ يناير 2017، وطالب بضرورة سنِّ قانون يمنع وقوع الطلاق إلا في حالة استيفاء الأوراق الرسمية وأمام مأذون شرعي، مبرراً ذلك بأن الإجراءات الرسمية تعطي فرصة للطرفين لإعادة النظر في فكرة الطلاق. وأوضح أن معدلات الطلاق في ازدياد مطرد في مصر وأن الآثار الاجتماعية لذلك كبيرة وخطيرة، واختتم توجيهه بعبارة لفتت أنظار السامعين والمتابعين للخطاب، إذ قال موجهًا حديثه لشيخ الأزهر الذي كان في مقدمة الحضور "تعبتني يا فضيلة الإمام". حينها لم ينتظر شيخ الأزهر طويلًا للرد، فدعا كبار العلماء بعدها بأيام قليلة لاجتماع طارئ ؛  حيث أصدرت بيانا حادًا للغاية بإجماع الآراء، أكدت فيه فكرة وقوع الطلاق الشفهي. دونَ اشتراط أشهاد أو توثيق، وحذر البيان "المسلمين من الفتاوى الشاذة التي ينادي بها البعض حتى ولو كان منتسبًا للأزهر". ولم يتوقف الرد عن هذا الحد؛ بل أصدر مجمع البحوث الإسلامية بيانًا بعد اجتماع هيئة كبار العلماء بأيام، أيّد فيه بالإجماع ما أصدرته هيئة كبار العلماء بخصوص قضية الطلاق الشفوي.[12]

ثالثا، في مارس 2018، ناقشت هيئة كبار العلماء بالأزهر برئاسة الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، نص المادة الأولى من مشروع القانون المقترح والوارد للأزهر من اللجنة الدينية بمجلس النواب لبيان الرأي الشرعي حول مدى جواز أن يقوم رئيس مجلس الوزراء، وذلك في الوقف الخيري، بتغيير شروط الواقف إلى ما هو أصلح، وذلك تحقيقًا لمصلحة عامة تقتضيها ظروف المجتمع. وانتهى اجتماع الهيئة، برفض المشروع، مشددة على أنه لا يجوز شرعًا تغيير شرط الواقف، أو التصرف في الوقف على غير ما شرطه.

رابعا، خلال احتفالية المولد النبوي الشريف ربيع الأول 1440ه وفي يوم 26 نوفمبر 2018، انتقد الإمام الأكبر أولئك الذين يطعنون في حجية السنة النبوية بحجة تجديد الخطاب الديني مؤكدا أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم وهو ما أدى إلى مبارزة كلامية مع جنرال الانقلاب خرج منها الطرفان في حالة توتر وشنت بعدها صحف السلطة حملة ضد الإمام الأكبر.

 

دعاوى تجديد الخطاب الديني

ومنذ 2014  يرفع زعيم الانقلاب عبدالفتاح السيسي دعاوى تجديد الخطاب الديني، تماما كما فعل سلفه الطاغية عبدالناصر من قبل، وهي الدعوات التي تكون مصحوبة بقصف إعلامي متواصل يستهدف الضغط على المشيخة والأزهر؛ وذلك لتحقيق الأهداف التالية:

 

أولا، توظيف هذه الدعاوى كغطاء لحربه على الحركات الإسلامية التي تمثل تهديدا مباشرا لنظام السيسي باعتبارها الأكثر شعبية وحازت على ثقة الشعب بعد ثورة يناير، كما يستهدف  ابتزاز المؤسسة الدينية باستمرار بتحميلها مسئولية هذا التجديد الذي لا ملامح  له سوى التطاول على ثوابت الإسلام والخروج على إجماع الأمة، بهدف تحقيق أعلى درجات الانصياع من المؤسسة الدينية للنظام وتوجهاته وهو ما تكلل بالنجاح مع الأوقاف والإفتاء، بينما بقيت مشيخة الأزهر وهيئة كبار العلماء عصية أمام هذا الابتزاز، وفي تصريحات للإمام الأكبر في مؤتمر كازاخستان مؤخرا أكد أن الخطاب السياسي والمظالم في العالم هي السبب الرئيس في الإرهاب والعنف بالعالم؛ وهو ما يناقض توجهات الجنرال بتحميل الخطاب الديني المسئولية عن العنف والإرهاب.

ثانيا، يرى آخرون أن أهداف السيسي من رفع لافتة "تجديد الخطاب الديني تأتي استجابة لأفكار اليمين الغربي -خاصة الأميركي- التي تدعو لتفريغ الإسلام من مضمونه السياسي، خصوصا ما يتعلق بنصوص الجهاد، وهي الأفكار التي تلقى رواجا إقليميا منذ سنوات وخُصصت لها مراكز أبحاث برعاية ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد الداعم الرئيسي للسيسي، وهو ما استجاب له أيضا ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.  وتأسس لأجلها مراكز بحث وغيرها لنشر هذه المفاهيم التي تتعامل مع الإسلام كـ"سوبر ماركت" تأخذ منه ما تريد وتدع ما تريد، والذي حذر منه القرآن {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} البقرة “85”.

ثالثا، يستهدف السيسي بالدخول في هذه الدائرة الهروب من استحقاقات وتجديد الخطاب السياسي الذي يرى معظم المحللين والمفكرين أنه سبب الأزمة فظلم السيسي واستبداده ومذابحه الدموية هي التي خلقت الإرهاب وليس الفهم الخاطئ للنصوص، وأن الاهتمام المبالغ فيه من جانب الجنرال بالخطاب الديني والذي توازى مع فشله في المسارات الأخرى أصاب البعض بالفزع واعتبروا هذا الغلو من جانب السيسي مزعج جدا، وطالبوه بالاهتمام بالخطاب الدنيوي ومحاربة الفساد وتحقيق الحياة الكريمة للمواطنين والانشغال بحل الانقسام الوطني والاجتماعي العنيف الذي يعصف بالوطن ويهدد مستقبله بدلا من محاولات استخدام الخطاب الديني كأداة في الصراع السياسي الذي تعاني منه البلاد. واعتبروا خطاب السيسي "هروبي" وأن الإلحاح عليه وتكراره بلا ملل هو محاولة للهروب من "الفشل" في شؤون الدنيا ، بافتعال أزمة في أمور "الدين"[13].

 

الخلاصة

قبل الحملة الفرنسية كان الأزهر يتمتع بنفوذ واسع فهو يقوم بشئون العلم الشرعي والدعوة إلى الإسلام وله أوقافه التي تدر عليه دخولا هائلة أكسبته استقلالا ووضعا متميزا بعيدا عن ابتزاز الحكام، وبات لشيوخ الأزهر  ودعاته مكانة اجتماعية مرموقة أكسبتهم نفوذا واسعا على المستوى السياسي ما دفع الحكام دائما إلى محاولة استرضاء الأزهر واكتساب دعمه كعامل من عوامل استقرار الحكم والمجتمع.

منذ عهد محمد علي بدأ تقليص نفوذ الأزهر عبر اقتطاع جزء من أوقافه لحساب السلطة، كما تم تعيين شيخ الأزهر للمرة الأولى من جانب السلطة؛ إضافة إلى إدخال التعليم العلماني وتقريب خريجيه وتعيينهم في مناصب الدولة على حساب خريجي الأزهر الشريف بدعاوى التجديد والتحديث.

وفي عهد الديكتاتور جمال عبدالناصر   تم القضاء نهائيا على استقلال الأزهر عبر مصادرة جميع أوقافه وإلغاء المحاكم الشرعية وإصدار قانون "103" لسنة 1961 الذي منح الرئيس سلطات تعيين الإمام الأكبر  ورئيس الجامعة كما تم تفتيت الأزهر إلى دار مستقلة للإفتاء  ووزارة للأوقاف ترعى شئون الدعوة  وجامعة تستقل بالتعليم الجامعي وبقي للمشيخة  المعاهد الأزهرية وهيئة كبار العلماء ومجمع البحوث الإسلامية.

استرد الأزهر قدرا من استقلاله بعد ثورة يناير 2011م، وتم النص على ذلك في دستور الثورة 2012 وهو ما لم تم إقراره كذلك في دستور الانقلاب 2014م،

ومنذ ذلك الحين يرفع الجنرال السيسي دعاوى تجديد الخطاب الديني من أجل تطويع الأزهر وتوظيفه سياسيا لخدمة سياساته وتوجهاته وشهد الصراع بين العمة والكاب عدة محطات وسط مؤشرات واضحة لاتجاه نظام العسكر  نحو فرض وصايته على الأزهر بإجراء تعديلات دستورية تعود بالوضع  إلى قانون103 لسنة 1961م   ومنح صلاحيات واسعة للرئاسة لتعيين الإمام الأكبر وتقليص ما يتمع به الأزهر من استقلال اكتسبه مع ثورة يناير . وعلى الأرجح  فإن السيسي   يتجه نحو الإطاحة بالشيخ لأن الجنرال يمضي في حكمه بلا شريك وفق القاعدة الفرعونية {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}غافر 29.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



[1] "الأزهر" مذكر كلمة "الزهراء" وهو لقب السيدة فاطمة ابنة الرسول محمد صلي الله عليه وسلم زوجة الخليفة الرابع علي بن أبي طالب وأم الحسن والحسين حفيدي الرسول عليه السلام

[2] محمد علي قيد حركته.. وعبد الناصر جرده من نفوذه السياسي/ صفحة علماء  الأزهر الشريف فيس بوك غرة يونيو 2014م

 

[3] بسام رمضان/"216" عامًا على ثورة الأزهر ضد نابليون: إعدام 30 شيخًا ومقتل 2500/ المصري اليوم الإثنين 20 أكتوبر 2014

 

[4] أنور عبد اللطيف/الجبرتى .. وشيوخ الوقت..اللغز : لماذا لم يتولّ عمر مكرم حكم مصر فى المرحلة الانتقالية؟/ الأهرام 2 يونيو 2017

[5] لمياء السخاوي/ محمد علي هادم مصر الحديثة!/ ساسة بوست 27 مارس 2017

[6] مشيخة الأزهر.. بين خدمة الدين وضغوط السياسة/ الجزيرة نت  27 فبراير 2016

 

[7] عبدالمنعم منيب/عبدالناصر والإسلام/ طريق الإسلام 24 يوليو 2016

 

[8] عبدالمنعم منيب/عبدالناصر والإسلام/ طريق الإسلام 24 يوليو 2016

[9] انظر   صفحة شبكة أحرار الإخبارية"ANN" على موقع التواصل الاجتماعي"/ 27 يونيو 2017

[10] السعيد رمضان العبادي/ موقف الأزهر من صدام الإخوان مع عبد الناصر/ ويكي إخوان 26 فبراير 2013

[11] يوسف منيع/«الأزهر»: مؤسسة الدولة أم مؤسسة الأمة؟/ إضاءات 17 أبريل 2017

 

[12] التوتر بين "الأزهر" و"الرئاسة" يدخل مرحلة جديدة طرفها الإعلام/العربي الجديد 30 نوفمبر 2018

 

[13] جمال سلطان/ لماذا لا يتوقف السيسي عن دور المفكر الإسلامي ؟!/ المصريون 19 أغسطس 2015

adminu

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022