هل يصنف التعاطي التركي مع الأزمة في خانة الإدارة الراشدة

تركيا ومقتل خاشقجي

هل يصنف التعاطي التركي مع الأزمة في خانة الإدارة الراشدة

 

يشير الرشد السياسي إلى مجموعة من الأحكام المنبثقة عن منظومة معيارية تعطي للرشد معناه وحقيقته[1]؛ فالرشادة السياسية تقوم على الجمع الذكي بين فروض المعايير الحاكمة وبين الاستجابة لاكراهات الواقع.

 

 في حين أن المفهوم البسيط لإدارة الشيء، هو التعامل معه للوصول إلى أفضل النتائج الممكنة، بما يحقق مصالح القائم بالإدارة؛ من هنا فإن إدارة الأزمة تعني "التعامل مع عناصر موقف الأزمة باستخدام مزيج من أدوات المساومة –الضاغطة والتوفيقية (العصا والجزرة)– بما يحقق أهداف الدولة ويحافظ على مصالحها الوطنية، وهي أيضًا "محاولة لتطبيق مجموعة من الإجراءات والقواعد والأسس المبتكرة، تتجاوز الأشكال التنظيمية المألوفة وأساليب الإدارة الروتينية المتعارف عليها، وذلك بهدف السيطرة على الأزمة والتحكّم فيها وتوجيهها وفقًا لمصلحة الدولة[2].

 

وعليه فالإدارة الراشدة للأزمة هي التي تعني التعامل مع الأزمة للوصول إلى افضل النتائج الممكنة؛ بتحقيق أهداف الدولة التي تتعامل مع الأزمة، في الوقت الذي تحافظ فيه على قيمها الرئيسة؛ فهي تستهدف تحقيق مصالح الدولة بالتوازي مع الحفاظ على قيمها الرئيسية.

 

وبالتالي فتقييم أداء الحكومة التركية في تعاطيها مع أزمة مقتل الصحفي جمال خاشقجي يكون بقياس سلوكها على مقياس الإدارة الراشدة للأزمة، والذي يجمع بين تحقيق المصلحة واحترام قيم الدولة التركية في ظل حكم العدالة والتنمية. وهو ما سنتناوله في هذه السطور.

 

تتوزع المقالة على ثلاثة محاور وخاتمة؛ المحور الأول: يحاول تسليط الضوء على الأهداف التي حاول النظام التركي تحقيقها عبر إدارته أزمة اغتيال خاشقجي؛ وهو ما يمنحنا فرصة تقييم هذه الأهداف بمعايير الإدارة الراشدة للأزمة.

 

المحور الثاني: يستكشف ملامح السياسة التركية في تعاطيها مع أزمة خاشقجي، ويسعى ليرى كيف انعكست أهداف الحكومة التركية من أزمة خاشقجي على على هذه السياسة وظهرت في ملامحها الرئيسية. المحور الثالث: يبحث كيف انعكست أهداف ومعالم السياسة التركية على استراتيجياتها في التعاطي مع أزمة خاشقجي: المحور الرابع: نستعرض فيه أبرز محطات الأزمة؛ بصورة تعطينا القدرة على استشفاف (أهداف، ومعالم، واستراتيجيات) التعاطي التركي مع الأزمة. الخاتمة: وفيها نحاول الإجابة على سؤال مدى نجاح تركيا في إدارة أزمة اغتيال تركيا بشكل عقلاني رشيد.

 

  أهداف النظام التركي في إدارته أزمة اغتيال خاشقجي:

تقييم الموقف التركي وتطوراته من أزمة خاشقجي، ورصد مكانة البعد الأخلاقي في السلوك أنقرة حيال الأزمة، يستلزم بداية الوقوف على محددات الموقف التركي من الأزمة، وأهدافه منها، وهو ما نحاول الوقوف عليه في هذه السطور:

يبدو أن الموقف التركي، لا يستهدف تعرض السعودية لأي هزات قد تؤدي إلى تحللها، وتدرك أنقرة خطورة ذلك على مجمل أوضاع العالم الاسلامي، والأقرب أن المقاربة التركية ترى أن حادث "خاشقجي" المأساوي يجب أن يضع حدا لسياسات ولي العهد، إن لم يكن بتغييره عبر إجراءات من داخل الأسرة الحاكمة، فعلى الأقل كبح جماحه وتقليم أظافره[3].

 

فالتوجهات السعودية في ظل قيادة بن سلمان، أفرزت سياسات أضرت تركيا كثيرا، سواء بتورطها في ملف الانقلاب الفاشل، أو بالعبث في الفناء الخلفي لتركيا، من خلال الدعم السخي الذي تقدمه السعودية لميليشيا الحماية الكردية بالتعاون مع الجانب الأمريكي[4]، إضافة إلى حملات الإساءة – التي وصلت إلى حد التطاول- ضد أردوغان في وسائل الإعلام المقربة من ولي العهد داخل المملكة وخارجها.

 

هذه السياسة العدائية من جانب ابن سلمان وفريقه تجاه تركيا وقيادتها مشهودة، إذ قال ولي العهد في تصريحاتٍ أدلى بها أوائل العام الجاري 2018، لوسائل إعلام مصرية، إنَّ تركيا وإيران والإسلام السياسي «محور شر»، وفي مقال له بصحيفة "يني شفق"، كتب الصحفي التركي "محمد آجات" يقول: (يعلم الجميع أنه بقدر وجود ساعين لدفع العلاقات بين البلدين إلى التدهور داخل العائلة المالكة السعودية، فإن هناك كذلك من يجتهد للمحافظة عليها في مستوى جيد. كما لا يخفى على أحد أن فريق ابن سلمان يهاجم تركيا أحيانا من خلال وسائل الإعلام المستأجرة وأحيانا أخرى بتصريحات مزعجة مباشرة)[5].

 

وعليه، فالاستراتيجية التركية في هذا الملف تهدف -باعتقادي- إلى تحقيق ثلاث غايات؛ الأولى دفع السعوديين إلى قول الحقيقة كاملة بشأن مقتل خاشقجي، والثانية تقويض سلطة محمد بن سلمان باعتباره المسؤول عن هذه العملية التي تمت داخل الأراضي التركية، والثالثة ردُّ تركيا لاعتبارها من خلال المطالبة بمحاكمة كل من تورط في هذه العملية على الأراضي التركية[6].

 

ملامح السياسة التركية في تعاطيها مع أزمة خاشقجي:

حكمت المواقف التركية من أزمة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي بالقنصلية السعودية في اسطنبول عدد من المعالم/ الملامح/ التوجهات البارزة، أهمها:

 

 المعلم الأول في سياسة التعاطي التركي مع أزمة اغتيال خاشقجي، كان إبعاد القيادة السياسية –ظاهرياً- عن تفاعلات القضية وتطوراتها، وبقائها بعيدًا عن الواجهة، واقتصار ظهورهم على تأكيد استمرارية التحقيقات والمسار الجنائي. بصيغة أخرى الإبقاء على الازمة في بعدها القانوني أطول فترة ممكنة، وتناولها في الإطار السياسي بصورة تبدو هامشية. في هذا السياق جاء خطاب أردوغان[7] على الأزمة صادماً للكثيرين[8]، الذين توقعوا اتهام صريح للقيادة السعودية بضلوعها في حادث الاغتيال.

 

فمن البداية "أمسكت الاستخبارات التركية كما بينت نيويورك تايمز[9] بزمام الملف، والتي تعلم كممثلة لتركيا ودونًا عن العالم تفاصيل الجريمة كاملة، في حين اقتصر دور الساسة على تصريحات هادئة تجاه المملكة، وصلت لتشكيل فريق تحقيق مشترك معها؛ لمعرفة مصير ضحية يعرف الطرفان مصيرها، وإن ظل مكانها مجهولًا"[10].

 

المعلم الثاني يتعلق بالدور المثالي الذي لعبه الإعلام التركي، ومن وراءه الإعلام العالمي، في إكساب القضية بعداً أخلاقياً واضحاً، وفي حشد الرأي العام العالمي في مربع مناهضة عملية الاغتيال، وإدانة النظام السعودي في عملية الاغتيال، التي يمكن وصفها بالفاشلة رغم نجاحها في تصفية الصحفي المستهدف من وراءها.

 

فقد نجحت أنقرة عبر نوافذها الإعلامية في تشكيل ضغط دولي بارع ومتزايد لصالح قضية "خاشقجي" باعتبارها قضية جنائية، كما نجحت في عدم حصر القضية في بعدها الدبلوماسي فقط[11]، ونجحت في تحويلها من أزمة ثنائية بين الدولتين إلى قضية عالمية؛ وهو ما يعني فتح الباب الكبير لأنقرة بخروجها من المأزق الدبلوماسي واستلام مفاتيح اللعبة، وفي ذات الوقت تأزيم المملكة السعودية بوضعها أمام مرمى العالم.

 

المعلم الثالث: يمكن أن نسميه إلقاء الكرة في ملعب دول العالم، وإحراجها أمام شعوبها من جهة، ووضعها في مواجهة رأي عالمي يتشكل في سرعة، رافض لعملية الاغتيال، ويعلم تورط النظام السعودي فيها، وينتظر ما تؤول إليه القضية.

فبحسب مراقبين "اعتمدت أنقرة على أسلوب الإطالة والتسريبات المحسوبة، ومخاطبة الرأي العام العالمي، في سبيل حشد أكبر قدر من الضغط على السلطات السعودية، وهو ما بدا أنه نجح بالفعل في انتزاع اعتراف من الرياض بقتل خاشقجي داخل قنصليتها في اسطنبول؛ فكل التحركات التركية، منذ مقتل خاشقجي، لا تهدف إلى المواجهة مع السعودية، بقدر ماهي تهدف إلى خلق وتوسيع رأي عام دولي غاضب تجاه الجريمة، ووضعها تحت طائلة القانون الدولي"[12].

 

 المعلم الرابع: استبعاد كل ما يمكن أن يصم أنقرة بالتحيز، فمن جهة كانت وسائل الأعلام هي المنفذ الرئيسي للمعلومات المسربة والمتداولة عن الحادث؛ بما لا يفتح المجال أمام اتهام أجهزة التحقيق التركية بالتحيز واستباق الأحداث، من ناحية ثانية، كانت مطالبة السلطات التركية بفتح تحقيق دولي، ابراء لذمتها، وتأكيد لحيادها، وحتى لا تتحول الأزمة إلى منازعة بين الرياض وأنقرة، فلو خرجت نتائج التحقيقات بصورة لا تصب في صالح الرواية السعودية للأحداث؛ لا يصبح بمقدور الرياض اتهام النتائج بانها جاءت متحيزة، من ناحية أخيرة رحبت أنقرة بتشكيل لجنة تحقيق مشتركة مع السعودية في البت في أزمة اغتيال خاشقجي؛ بما يحميها من الاتهام بتحيزها ضد الرياض أو انفرادها بالتحقيقات.

 

الاستراتيجيات التركية في التعاطي مع أزمة خاشقجي:

برزت ملامح التعاطي التركي مع أزمة مقتل خاشقجي في المراحل والخطوات التي اعتمدتها أنقرة في جر السعودية إلى مصيدة الاعتراف بمسئوليتها عن الحادث، وهي المراحل التي يمكن أجمالها في هذه النقاط:

 

أولاً.. فخ الإنكار المطلق[13]: كان واضحاً للمتابعين شحُّ المعلومات بشأن مصير خاشقجي؛ فالسلطات التركية -وخاصة في الأيام الثلاثة الأولى- اكتفت بإعلان اختفائه، وأن المعلومات التي لديها تشير إلى دخوله القنصلية السعودية، دون أن تكشف بشكل رسمي امتلاكها تسجيلات تعزز هذه الفرضية.

 

اندفعت الرياض تنفي معرفتها بمصير الرجل، مؤكدةً عدم امتلاكها لأية معلومات تتعلق به، ومعبرةً -في ذات الوقت- عن قلق يعتريها بشأن مصير أحد مواطنيها. هذا الموقف القطعي الجازم كان بمثابة الفخ الذي وقعت فيه السعودية بملء إرادتها، ودونما أي ضغوط؛ فقد بدى لها أن السلطات التركية لا تمتلك معلومات كافية.

 

ثانياً.. مصيدة التوريط[14]: بعد مرور أربعة أيام على الواقعة، وتبني السعودية مبدأ الإنكار التام؛ نشر الإعلام التركي -بشكل متعمد ومخطط- تسجيلات مصورة تظهر دخول خاشقجي إلى مبنى القنصلية السعودية في إسطنبول، مصحوبة بتأكيد رسمي لصحتها.

 

جاء التفاعل السعودي سريعاً على لسان ولي العهد محمد بن سلمان، ولكن بأسلوب انسجم مع المصيدة التركية؛ فالرجل -خلال مقابلة له مع قناة "بلومبيرغ"- أكد بشكل قاطع مغادرة خاشقجي للقنصلية السعودية، نافياً في الوقت ذاته امتلاكه أية معلومات إضافية. وهنا بدأت تتضح ملامح مقاربة تركية جديدة، تمثلت في مسلك دعائي هجومي هدفه الأساسي ربط السعودية مباشرة باختفاء خاشقجي، وبالتالي تجنب أي مسار خفي يريد توريطها بأي ثمن.

 

وهنا بالتحديد اتضح للعالم ذلك التناقض في الرواية السعودية، وبالتالي نجاح الجهد الدعائي التركي في تحويل الإنظار وتركيزها حصراً على مؤشرات تفيد بتورط سعودي محتمل في اختفاء خاشقجي.

 

ثالثاً.. إخفاء أم قتل.. لعبة التسريبات والاستنتاجات[15]: المجهود الدعائي التركي لم يتوقف عند حدود الربط، بل توجه نحو ممارسة لعبة التسريب، وهو ما تجلى بوضوح في التنسيق الدائم بين وسائل إعلام محلية ومصادر قضائية وأمنية رسمية، هذا التنسيق كشف عن نية مسبقة لاستغلال المعلومات التي بحوزة السلطات التركية، من أجل توجيه الرواية الإعلامية العالمية نحو استنتاجات محددة تخدم سياستها الخارجية.

 

رابعاً.. هجوم دعائي مستمر[16]: الهجوم الدعائي التركي ظل مستمراً ومركّزاً لدرجة أفشلت كل مواجهة معه، وليس أدل على ذلك من قيام وسائل إعلام تركية بنشر تسريبات عن امتلاك السلطات تسجيلات صوتية وربما مرئية تثبت تعرض خاشقجي للقتل، ما جعل السعودية في موقع دفاعي متأرجح.

 

ولقد كان أكثر ذلك إيلاماً وإحراجاً للرياض تلقيها طلبا رسميا بالسماح للسلطات الأمنية التركية بتفتيش مقر القنصلية وبيت القنصل، وهو مطلب لا تستطيع رفضه أو تحديه ما دامت تتبنى مقاربة نفي مسؤوليتها. وإلى جانب ذلك؛ برزت أطروحة "ساعة آبل"، وما أثارته من احتمال كونها الأداة الرئيسية التي اعتمد عليها الأتراك في ترويج فرضية القتل، وعلى أية حال؛ فإن الهجوم الدعائي المستمر لتركيا لم يترك للسعودية أي مجال للمناورة، بل جعلها ترزح تحت ضغط ثقيل ومتواصل، جعلها تستجيب لاحقاً لدعوات طالبتها بالتعاون مع التحقيقات التركية.

 

أخيراً.. انفراط العقد[17]: نجحت المحاولات التركية المتماسكة والمنظمة لاستدراج السعودية في تحقيق اختراق كبير في القضية، فقد تمكنت الأجهزة الأمنية التركية، من كشف معظم تفاصيل الحادثة، واستطاعت الأجهزة الأمنية توجيه ضربة محرجة للسعودية، ولا سيما ما يتعلق بصورتها في العالم، ومستقبل ولي العهد محمد بن سلمان كخليفة مقبول عالمياً. ولعل بروز الملك سلمان في الواجهة، وإعلانه إجراء تحقيق سعودي داخلي، إضافة إلى موافقته على السماح للسلطات التركية بتفتيش مقريْ القنصلية والقنصل، كانت أولى ملامح نجاح تركيا في فرض روايتها عن الأحداث.

 

تسلسل الأحداث[18]:

يمكن تتبع أهداف وغايات السياسة التركية في تعاطيها مع أزمة مقتل خاشقجي، كما يمكن تسليط الضوء ملامح السياسة التركية في تعاطيها مع ذات الأزمة، كذلك الاستراتيجيات التي استخدمتها في جر السعودية للأعتراف بمسئوليتها عن الحادث، في تتبع التسلسل الذي أخذته الأحداث، منذ اختفاء خاشقجي عقيب دخوله القنصلية وحتى الإنتهاء إلى إعتراف الرياض بمسئوليتها عن الحادث والدخول في مرحلة التفاوض على رواية رسمية واحدة عن الأحداث تمثل جميع الأطراف، وهي المرحلة المستمرة حتى اللحظة.

 

اليوم الأول: اختفاء خاشقجي وعدم خروجه من القنصلية، دون أي حديث عن تحقيق معه أو قتل له، بل مجرد حبسه داخل القنصلية وقلق خطيبته وأصدقائه لإغلاق القنصلية في الساعة الخامسة بعد نهاية يوم العمل دون ظهوره مرة أخرى[19].

 

اليوم الثاني: بعد أن بدا واضحًا أن الرجل لم يظهر، اتسع نطاق التغطيات الإخبارية ليبدأ بالحديث عن اعتقاله داخل السفارة[20]، وتصريح[21] بعض المقربين منه بأنه كان يخشى اختطافه وترحيله للسعودية إن دخل القنصلية، في حين اقتصر رد الفعل السعودي على التصريحات الرسمية بأنه دخل وخرج ولم يعد بحوزتهم.

 

الرابع من اكتوبر: كتبت كارِن عطية[22]، وهي محررة مقالات خاشقجي بالواشنطن بوست، متحدثة عن اتصال الصحيفة بمسؤولين أتراك وسعوديين لإطلاق سراحه وفق الاعتقاد السائد حتى اللحظة بحبسه في القنصلية، وخلال نفس اليوم كتب[23] إليوت أبرام، عضو مجلس العلاقات الخارجية الأميركي والمستشار السابق للرئيس جورج بوش الابن، يطلب إطلاق سراح خاشقجي، وأن "تحفظ السعودية ماء وجهها بتوجيه اللوم لمسؤولين قاموا بالتحقيق معه في القنصلية دون علم المملكة".

 

الخامس من اكتوبر: خاشقجي صحافيًا "مفقودًا –محتجزًا" داخل القنصلية أو تم ترحيله بطريقة ما على الأرجح إلى الرياض، وقد نشرت الواشنطن بوست خلال ذلك اليوم عامودًا صحافيًا خاليًا باسمه، ليحل محل ما كان يفترض أن يكون مقاله المنشور في الصحيفة لو أن حياته اتخذت مسارها الطبيعي وعاد لبيته ليكتب كالمعتاد. وكانت تصريحات جمهوريين وديمقراطيين على السواء من داخل الكونجرس تضغط للإفراج عن خاشقجي[24]. في هذا التوقيت كان لدى الأتراك علم بكل بتفاصيل الاغتيال، لتبدأ بعدها لعبة التسريبات المستمرة حتى اللحظة.

 

 

الخاتمة:

بداية قبل الاشتغال بالسؤال الأخلاقي؛ والتساؤل هل كان المعيار الأخلاقي هو المحدد للسلوك التركي في التعامل مع أزمة اغتيال خاشقجي في القنصلية السعودية باسطنبول، أم كانت المصلحة القومية التركية هي المحدد الرئيس؛ وإن كان مفهوم المصلحة نفسه يمكن أن يأخذ مضامين أخلاقية، يمكن القول أنه يوجد شبه إجماع "أن تركيا حققت نصراً قانونيا وسياسياً بكشفها السريع لجريمة قتل جمال خاشقجي بمقر القنصلية السعودية، في إسطنبول يوم 2 أكتوبر 2018، وبإجبارها -بشكل محترف- للنظام السعودي على الإعتراف بجريمة القتل، مع طلب الرحمة، ومحاولة إبعاد التهمة عن ولي العهد محمد بن سلمان، وأن أنقرة نجحت في تحويل دفة الأزمة، من أزمة دولة فشلت في حماية قاطنيها، فتعرض أحدهم للأغتيال على أراضيها، إلى أزمة المتهم الرئيسي فيها هي الرياض.

 

وقد أسهمت المخابرات التركية بشكل واضح في تحقيق هذا النجاح، ولعل ذلك يعود إلى الاستمرارية المؤسسية التي تمتعت بها على مدار تسعين عامًا، ولم تتعرض للإضطراب على إثر التغيرات والانعطافات السياسية الحادة، إذ تمتعت باستقلال نسبي عن السياسة التي تغيرت نتيجة الانقلابات العسكرية، وهو ما ظهر في الدور المحوري الذي لعبته الاستخبارات في إحباط المحاولة الإنقلابية في يوليو 2016، ثم تكرر ظهوره في حادثة اغتيال خاشقجي، ما يؤكد اقتدار المخابرات التركية، ويدعم فكرة اثر استقلالية المؤسسات وتوازنها على تحقيق الرشادة السياسية والإدارة الناجحة للأزمات.

 

نجحت تركيا في تحقيق المعادلة المستحيلة، بحماية مصالحها من جهة، وتحويل دفة الأزمة من أزمة تركية سعودية، تدان فيها تركيا لإخفاقها في حماية القاطنين فيها، إلى أزمة دولية، الرياض هي المتهم الحصري فيها، كما نجحت في إخراج الأزمة من خانة أزمة ثنائية بين دولتين يتنافسان على قيادة الإقليم، إلى أزمة نظام مارق على الأعراف الحاكمة للنظام الدولي، في التوقيت ذاته أبقت على شعرة معاية بينها وبين الرياض؛ فهي لم تغلق باب التعاون مع الرياض، ورحبت بتشكيل فريق تحقيق مشترك منفصل عن فريق التحقيق التركي، رغم ما توفر لها -على ما يبدو- من أدلة ترقى إلى درجة اليقين تؤكد مقتل خاشقجي داخل مبنى القنصلية السعودية بإسطنبول، وهي تؤكد بين الحين والآخر، أنها لن تتسامح مع الجريمة التي تشكل انتهاكا لسيادتها وأمنها الداخلي، وأنها لن تسمح بتحويل أراضيها إلى ساحة لتصفية الخلافات السياسية العربية، الأمر الذي تطابقت فيه رؤية الحكومة والمعارضة على حد سواء.

 

من جهة أخرى، لم تساوم أنقرة على ما لديها من معلومات، فطريق المساومة لا يكون عبر الدفع باتجاه تحويل القضية إلى قضية رأي عام عالمي، دون السماح بتدويلها في الوقت نفسه، حتى لا تضع الرياض تحت رحمة القوى الكبرى، فهي تستهدف تقليم اظافر ولي العهد دون أن تهدد استقرار المملكة. وفي ذلك جمع بين تحقيق المصلحة واحترام القيم والمبادئ الحاكمة للسياسة التركية.  

 

بقي أن نثير التساؤل الذي يقول: هل كانت تركيا لديها معلومات بشأن عملية الاغتيال من قبل وقوعها؟ وفي حال توفر للمخابرات التركية مثل هذه المعلومات، فكيف تجاهلت عملية الاغتيال ولم تتدخل للحيلولة دون وقوعها؟ أليس في ذلك تأكيد على برجماتية ولااخلاقية السياسة التركية؟

 

ومقاربة هذا الاستفهام يكون بالتشديد على أن الفرضية التي تقول بإنّ تركيا كانت على علمٍ مسبق بما قد يحصل للصحفي السعودي جمال خاشقجي، لا تحمّلها أي مسؤولية، ولا يحق لها التدخل بشكلٍ واقعي على الارض لمنع العملية؛ لأنه اذا حصل ذلك وثبت ان التسجيلات كانت تهدف للإيقاع بالجانب التركي فستكون هناك مسؤولية كبيرة على أنقرة، وسيكون الجانب التركي قد كشف نفسه دون ان يتم حدوث العملية.

 

وجدير بالذكر أن في العمليات الإستخباراتية يتم تقييم المعلومات بشكلٍ لاحق، وليس بشكل مباشر، ومن الممكن أن يكون الاتراك قد حصلوا على التسجيلات في ايام معينة، لكن تحليلها استغرق بضعة ايام او اسبوعاً، وخلال هذه الفترة قد تكون الجريمة وقعت، ولم يمكن بامكانهم التدخل بأي حال من الاحوال[25].



[1] لؤي صافي، الرشد السياسي وأسسه المعيارية، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث، 2015، ص: 17.

[2] كمال حماد، إدارة الأزمات (الإدارة الأميركية والإسرائيلية للأزمات نموذجًا)، الرابط: https://bit.ly/2QslOqk

[3] سمير العركي، المقاربة التركية في أزمتي برنستون وخاشقجي، 14 اكتوبر 2018، الرابط: https://bit.ly/2zAKCCJ

[4] Mark almond, As the Saudis sweat, Turkey is using the Khashoggi disappearance to play for power, the telegraph, 18 0ct 2018, link: https://bit.ly/2P2J9hN

[5]   سمير العركي، المقاربة التركية في أزمتي برنستون وخاشقجي، 14 اكتوبر 2018، الرابط: https://bit.ly/2zAKCCJ

[6] علي باكير، 3 أمور تريدها تركيا من السعودية في قضية خاشقجي، الخليج اونلاين، 25 اكتوبر 2018، الرابط: http://khaleej.online/gnBeAD

[7] الجزيرة نت، كلمة أردوغان عن قتل خاشقجي.. أهم النقاط، 23 اكتوبر 2018، الرابط: https://bit.ly/2KLsQRP

[8] عربي 21، هكذا تناول النشطاء خطاب أردوغان عن مقتل خاشقجي، 23 اكتوبر 2018، الرابط: https://bit.ly/2DfNqIT

[9] David D. Kirkpatrick, Jamal Khashoggi’s Disappearance: What We Know and Don’t Know, the new York time, 15 oct 2018, link: https://nyti.ms/2RPHbj4

[10] ميدان، حاصروهم بالتسريبات.. الاستخبارات التركية وفن إدارة أزمة خاشقجي، الرابط: https://bit.ly/2BJgFCb 

[11] المرجع السابق.

[12] BBC عربي، بعد حديث أردوغان : كيف تقيمون تعامل أنقرة مع مقتل خاشقجي؟، 23 اكتوبر 2018، الرابط: https://bbc.in/2rfS4P9

[13] حيدر إبراهيم المصدر، قضية خاشقجي.. كيف أبرز الأتراك مهاراتهم الدعائية؟، الجزيرة نت، الرابط: https://bit.ly/2Rm7QU6

[14] حيدر إبراهيم المصدر، قضية خاشقجي.. كيف أبرز الأتراك مهاراتهم الدعائية؟، الجزيرة نت، الرابط: https://bit.ly/2Rm7QU6

[15] حيدر إبراهيم المصدر، قضية خاشقجي.. كيف أبرز الأتراك مهاراتهم الدعائية؟، الجزيرة نت، الرابط: https://bit.ly/2Rm7QU6

[16] حيدر إبراهيم المصدر، قضية خاشقجي.. كيف أبرز الأتراك مهاراتهم الدعائية؟، الجزيرة نت، الرابط: https://bit.ly/2Rm7QU6

[17] حيدر إبراهيم المصدر، قضية خاشقجي.. كيف أبرز الأتراك مهاراتهم الدعائية؟، الجزيرة نت، الرابط: https://bit.ly/2Rm7QU6

[18] CNN بالعربية، أبرز مواقف تركيا بأزمة خاشقجي بتسلسل زمني، 20 اكتوبر 2018، الرابط: https://cnn.it/2ABrqoe

[19] Kareem fahim, Friends fear for safety of prominent Saudi writer Jamal Khashoggi, the Washington post, 2 oct 2018, link: https://wapo.st/2E9H9PN

[20] The guardian, Saudi dissident Jamal Khashoggi missing after visit to consulate, 4 oct 2018, link: https://bit.ly/2E0gaqe

[21] the new York time, What Happened to Jamal Khashoggi? Conflicting Reports Deepen a Mystery, 3 oct 2018, link: https://nyti.ms/2OvCoVr

[22] Karen attiah, The silencing of Jamal Khashoggi, the Washington post, 3 oct 2018, link: https://wapo.st/2rdB8cf

[23] Elliott Abrams, Where is Jamal Khashoggi?, council on foreign relations, 4 oct 2018, link: https://on.cfr.org/2IEOI08

[24] Politico, Corker, Coons, Murphy, Connolly: Where is Jamal Khashoggi?, 5 oct 2018, link: https://politi.co/2P57GCO

[25] وطن يغرد خارج السرب، “شاهد” هل كانت تركيا تعلم بما قد يحصل لخاشقجي ولماذا لم تمنعه؟.. الباحث علي باكير يُجيب، 20 نوفمبر 2018، الرابط: https://bit.ly/2QvgWAP

adminu

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022