موت الثقافة المصرية على أعتاب معرض القاهرة للكتاب
مع انطلاق الدورة الـ51 لمعرض القاهرة للكتاب، تتصاعد آلام المثقفين المصريين، الذين يواجهون الامتهان العقلي والجسدي على أعتاب صالات العرض بمنطقة التجمع الخامس، شرقي القاهرة، وهو ما يدفع الكثير من المثقفين والقراء وعشاق الكتاب، للعزوف عن المشاركة في المعرض، والذي تحول بفعل العقلية الأمنية القاهرة لمصيدة للمثقفين وأصحاب الرأي. وللعام الثاني على التوالي يقام المعرض، في مقره الجديد بأرض المعارض بالتجمع الخامس، في الفترة من 22 من يناير الحاليّ وحتى 4 من فبراير القادم، بمشاركة 38 دولة عربية وأجنبية، (12 دولة إفريقية، و11 دولة أوروبية و13 دولة آسيوية، ودولتين من أمريكا الشمالية). الدورة الـ51 من المعرض الذي يأتي تحت شعار “مصر إفريقيا.. ثقافة التنوع” الذي تحل فيه السنغال ضيف شرف، في سابقة هي الأولى من نوعها لدولة إفريقية تشارك كضيف شرف المعرض منذ افتتاحه، يطغى عليه البُعد السياسي الممتزج بالإطار الثقافي وهو ما تترجمه حزمة من الشواهد والفعاليات التي يتضمنها على مدار أسبوعين كاملين. وجاء اختيار السنغال في إطار الترويج لرئاسة مصر للاتحاد آلافريقي إذ اقتصرت المشاركات آلافريقية كضيف من دول شمال إفريقيا الناطقة بالعربية، جاءت مغلفة بالصبغة السياسية، تزامنا مع رئاسة مصر للاتحاد آلافريقي عام 2019، واهتمام القاهرة بضرورة الانفتاح على الثقافات آلافريقية بعد جفاء دام طويلًا أسفر عن تراجع مكانة مصر القارية. ويشارك في المعرض هذا العام 900 دار نشر من بينهم 398 دار نشر مصرية، 255 ناشرًا عربيًا، و41 تاجرًا من سور الأزبكية، و99 توكيلًا، إضافة إلى ما يقرب من 929 فعالية ثقافية وفنية، و3502 من المشاركين المصريين والعرب والأجانب، فيما تشارك بعض الدول لأول مرة. كما يستضيف المعرض في دورته الحاليّة عددًا من الشخصيات الثقافية العامة من عدد من الدول العربية وآلافريقية والأوروبية، على رأسهم ، بيروني رحيم “زيمبابوي” وخوسيه مورينو “إسبانيا” وولي كيندر “بوركينا فاسو” وهيدي جودرتيش “أمريكا” وطارق الطيب “السودان” وضياء الأسدي “العراق” وعيسى الأنصاري “الكويت” وحاتم الصكر “الإمارات” وشربل داغر “لبنان” وتركي الحمد “السعودية” ومحمد الأشعرى “المغرب”، ومحمد أخطانا “موريتانيا” وكانديس ماما “جنوب إفريقيا”، والمنصف الوهابي “تونس”، ومراد السوداني “فلسطين”. ورغم ذلك الزخم المعلن، يبدو في آلافق فرزا ثقافيا تزايد، إزاء الكثير من الكتاب والمثقفين العرب، الذين يجري استبعاد شخوصهم أو نتاجهم الثقافي والعلمي. قلة المبيعات فيما يشتكي مشاركون من تراجع المبيعات وتضاعف الخسائر في ظل الإحجام عن الشراء لأسباب عدة على رأسها أسعار الكتب الغالية والأزمة الاقتصادية التي يشهدها الشارع المصري. وترجع أسباب ركود المبيعات لارتفاع أسعار الكتب ذاتها في ظل القفزات الجنونية في أسعار الورق والطباعة والضرائب مقارنة بالسابق، وأخرى تتعلق بالتحديات الاقتصادية التي تواجه النسبة الكبرى من الجماهير التي وقعت بين خيارين غاية في الصعوبة، إما الطعام والشراب أو الثقافة، وعليه اكتفى الكثير منهم بالحضور من باب “الفرجة” فقط والتقاط الصور والفيديوهات. ورغم التحديات التي تواجه معرض القاهرة الدولي للكتاب، التي ربما تهدد مستقبله حال استمر الوضع على ما هو عليه دون مراجعة من المسؤولين عن الثقافة في مصر في ظل استحداث معارض أخرى بديلة، كالأزبكية ودرب المعز. إقصاء فكري وشهد المعرض في دورته الحاليّة غياب بعض دور النشر التي اعتادت المشاركة طيلة السنوات الماضية، فيما تعددت مبررات الغياب، بين دوافع أمنية وأخرى سياسية، فيما جاءت الدوافع المادية في المقدمة في ظل زيادة أسعار إيجارات المساحات المخصصة لدور النشر في المعرض. ومن ضمن الممنوعين من المشاركة في المعرض في دورته الحالية، مكتبة “تنمية”، كما أن قلة المساحة في المعرض الجديد مقارنة بالقديم قلصت حجم الدور المشاركة، وهو ما انعكس على أسعار إيجار المتر الواحد، وهو ما ينطبق أيضا على “بنك المعلومات العربي” إحدى الدور المتخصصة في النشر الإلكتروني والمشاركة بانتظام في المعرض، لأنهم رفضوا المشاركة في النسخة الحاليّة من المعرض للأسعار الباهظة التي باتت عليها أماكن استئجار الإقامة داخل مركز المؤتمرات، المقر الجديد. وهو ما يؤكد أن قلة المساحة في المعرض الجديد مقارنة بالقديم قلصت حجم الدور المشاركة، وهو ما انعكس على أسعار إيجار المتر الواحد، فبعدما كان لا يتجاوز 800 جنيه قفز إلى 1200 جنيه للدار وضعف هذا الرقم لشركات الكمبيوتر والاتصالات، الأمر الذي يجعل المشاركة مغامرة مادية غير محسوبة، إذ أن الإقبال في ظل تباعد المكان لن تكون بالشكل المتوقع، هذا بخلاف تراجع حركة البيع عمومًا بسبب زيادة أسعار الكتب والمؤلفات عن السنوات السابقة، وهو ما يجعل تعويض المبلغ المنفق على الإيجارات والمصروفات الأخرى أمرًا صعبًا.. تضييق أمني على الجمهور وبشكل مستهدف، تأتي سياسات التفتيش والتوقيف للجماهير كسياسة عامة، تنتج عنها الطوابير الممتدة على أبواب المعرض الخمسة، وقد يستغرق الدخول وقتًا طويلاً ربما يصل في بعض الأحيان إلى أكثر من 30 دقيقة، حيث التفتيش الدقيق لحقائب السيدات على وجه الخصوص إضافة إلى الازدحام الشديد من رجال الأمن حول بوابة الدخول. وبعد الانتهاء من هذا الطابور المرهق قد يتوقع البعض أن الأمر انتهى، وبات في مقدرة المواطن أن يتجول داخل المعرض وقاعاته بأريحية نسبية كما كان الوضع في السنوات السابقة، لكن الوضع لم يكن كذلك، ففي مدخل كل قاعة يوجد طابور آخر وبوابة إلكترونية جديدة، وتفتيش ربما يكون أكثر دقة من الباب الرئيسي، وفق شهود عيان. تلك الإجراءات الأمنية المتعمدة تتسبب في إرهاق المواطنين وتضيع عليهم الكثير من الوقت فضلاً عن الإجهاد الكبير جراء الوقوف لوقت طويل. الضغوط الأمنية ومن ضمن التضييقات الأمنية ، ما وصفه أستاذ النقد والأدب العربي بجامعة عين شمس د. حسام عقل، من حيث عدم الالتزام بجدول الندوات، وفزع الناشرين من المشاركة بسبب السياق الأمني المحتقن، وما يمكن تسميته “عملية الردة الشاملة عن الحريات”، بل إن الأمر لم يطل الناشرين المصريين فحسب، فالقمع وصل إلى الزوار الأجانب للمعرض، حيث اعتقلت قوات الأمن في دورة المعرض في 2014، مواطنا يمنيا بتهمة التصوير في المعرض! بجانب ذلك، ما تناولته “دويتش فيله” الألمانية فالمعرض يعكس حالة الانقسام السائدة وحالة التشدد في مواجهة كل ما ينتسب للإخوان المسلمين سواء أعمال أو شخصيات، وغلبة المطبوعات التي تهاجمهم وتنال من سياساتهم وشخصياتهم وتاريخهم. مستقبل غامض ومع مرور الوقت تحول معرض القاهرة للكتاب من محفل ثقافي ينتظره عامة الشعب قبل النخبة إلى إحدى أدوات تنفيذ الأجندة السياسية للنظام الحاكم، وهو ما قد يفقد المعرض الأكبر والأقدم في المنطقة بريقه الذي ظل على مدار عقود طويلة مضت قبلة للناشرين والمتابعين للشأن الثقافي من مختلف دول العالم. أبعد من معرض الكتاب قهر المثقفين وفي إطار القمع الممنهج الذي يمارسه السيسي، أعلنت إدارة سلسلة مكتبات “ألف”، مؤخرا، غلق 37 فرعًا لها بشكل رسمي، وتسريح أكثر من 250 موظفًا، بعد نحو 10 أعوام من افتتاحها، وحصار دام قرابة العامين، إثر قرار لجنة التحفظ على أموال جماعة “الإخوان” بالتحفظ على أموال “الشركة العربية الدولية للتوكيلات التجارية”…