قراءة نقدية في.. خطاب السيسي على هامش مؤتمر الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان
في الحلقة النقاشية التي أقيمت على هامش مؤتمر الإعلان عن “الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان”، وكانت تحت عنوان “حقوق الإنسان بين الحاضر والمستقبل”، كان للسيسي كلمة طويلة كان مما جاء فيها حديثه عن الإخوان المسلمين وأنه لا يختلف معهم طالما لم يعارضوا مساره أو يستهدفوه. وقد أثارت هذه الكلمة جدلاً واسعاً بين المعنيين بالأمر والمراقبين المهتمين بالشأن المصري ومسألة العلاقة بين جماعة الإخوان والنظام المصري. ولقد كان الجدل بخصوص كلمة السيسي وما جاء فيها ودلالاته هو الدافع الأول للاهتمام بخطاب السيسي على هامش المؤتمر. أما الدافع الثاني فقد كان محاولة تقييم الرؤية التي ترى في خطابات السيسي مجرد تصريحات مفككة تنم عن حالة من السذاجة والخفة والجهل ولا تقدم أية تبرير أو تفسير لسياساته، وبالضرورة لا تكشف عن رؤيته -أي السيسي- للمشهد المصري وفلسفته في التعامل مع قضاياه المختلفة. وفي الحقيقة تعد محاولات الوقوف على رؤية السيسي للمشهد العام في مصر، وأهم ملامح وقسمات هذه الرؤية، ومحاولات الوقوف على الحلول والمقاربات التي يطرحها للتعاطي مع مشكلات الواقع المصري، أمور مهمة للغاية في فهم وتفسير جزء غير قليل من سياسات النظام، وفي التعرف على الحدود القصوى التي يمكن أن يذهب إليها في سبيل تنفيذ رؤاه وتصوراته تلك. والافتراض الذي يطرحه الباحث بخصوص ذلك: أن نظرة متفحصة لخطاب السيسي وتصريحاته، تجد أن رغم عدم الوضوح، إلا أن هذا الخطاب يقوم على عدد من القناعات الصلبة الواضحة، ويطرح عدد من الأفكار التي يتبناها ويؤمن بها ويروجها ويبرر من خلالها سياساته. ذلك ما سنحاول الوقوف عليه في هذه السطور، مع محاولة الاشتباك مع هذه الأفكار وكشف نقاط ضعفها. وذلك من خلال استراتيجية تقوم على خطوات ثلاث: (1) ذكر أهم الأفكار التي طرحها السيسي خلال كلمته كعناوين عريضة. (2) ذكر موقع هذه الأفكار من الخطاب. (3) الاشتباك مع هذه الأفكار وكشف نقاط القصور فيها بعد ذكر الحجج التي يعتمد عليها في تدعيم هذه الأفكار وتبريرها. الفكرة الأولى: أن الدولة تعاني من مشكلات حقيقية لكن الثورة ليست الطريق الأنسب للتغيير: يذكر عند هذه النقطة أنه ألتقى[1] الصحفي إبراهيم عيسى والإعلامي شريف عامر بعد أحداث 2011، وأنه قال في حديثه معهم أن الدولة المصرية لديها تحديات كثيرة “التحديات دي تحدي اقتصادي وتحدي سياسي، وتحدي اجتماعي وتحدي ثقافي، وتحدي ديني وتحدي إعلامي”، ثم يضيف “وكان المعنى اللي أنا عايز أقوله هنا (..) 2011 كان إعلان لشهادة وفاة الدولة المصرية. هذين التصريحين جاءا في أول فقرتين من الكلمة التي ألقاها السيسي خلال الحلقة؛ وقد يبدو أن التصريحين متناقضان؛ فالأول يعترف فيه أن الدولة المصرية تعاني من مشكلات حقيقية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية وإعلامية، كأن هذا التصريح إعلان منه أن هناك مشكلات حقيقية دفعت الجماهير للثورة على الدولة، وأن خروج الجماهير كان مفهوماً في ضوء هذه التحديات. أما التصريح الثاني فيقول فيه أن الثورة كانت بمثابة إعلان وفاة الدولة، فهو بالتالي رافض للثورة يستشعر خطورتها على بقاء الدولة. ويبدو أن مقصده في التصريحين أن الدولة في مصر تعاني من مشكلات حقيقية، وهذه المشكلات تضغط على المجتمع وتدفعه للخروج للاعتراض عليها، لكن علاج هذه المشكلات لا يجب أن يكون من خلال الثورة على الدولة والخروج عليها، وإنما يكون من خلال الثقة في الدولة والالتفاف حولها واعتبارها ماكينة التغيير التي تقود المجتمع للأفضل. مما يؤكد هذا المعنى أنه كان مقصود السيسي من تصريحاته، ما يذكره في نهاية كلمته عن سوريا، دون أن يذكر أسمها صراحة، فيقول “تصوروا دولة فيها 16 مليون لاجئ، 2 مليون في الأردن، و2 مليون في لبنان، أنا بقول أرقام تتحفظ، وزيهم في تركيا، وجوة معسكرات لاجئين لحوالي 10 مليون. 10 سنين الولد أو البنت اللي كان عنده 6 سنين بقى عنده 16، واللي عنده 12 بقى عنده 22. يا ترى الأمة دي هاتبقى عاملة إزاي؟ هاتطلعلنا إيه؟[2]“، ثم يضيف في حديثه عن نفس الدولة “فيه معسكر، في دولة يعني من الدول ديت، يعني.. مش هينفع أقولها.. مش هينفع والله.. بياخدوا الولاد الصغيرين يجوزوهم عشان يخلفوا عشان يطلعوا، يعني، متطرفين، يطلعوا قتلة، أدوات قتل للمجتمعات. يا ترى اللي كان بينظر في الوقت ده للدولة ديت من، في 2010 و2011، كان هدفه إنه يعمل في الدولة دي كدة؟ وإنه يكون الناتج بتاعها هو عبارة عن تشكيل وتكوين خلايا أو، مش خلايا بقى، أجيال من الإرهابيين والمتطرفين يفضلوا يخربوا في المنطقة دي لمدة 50 100 سنة جايين[3]“. هذه التصريحات تشير لنفس المعنى، وهو أن الثورة طريق للفوضى وليست طريق للتغيير للأفضل، حتى وإن كانت أسباب تفجرها وجود مشكلات حقيقية تعاني منها الدولة والمجتمع. حتى أنه يشير إلى أنه يعي أن الثوار لم يكن مقصدهم الوصول لحالة من الفوضى وإنما كانوا يرون في الثورة طريق للتحديث والتغيير، حيث يقول “يا ترى اللي كان بينظر في الوقت ده للدولة ديت من، في 2010 و2011، كان هدفه إنه يعمل في الدولة دي كدة؟ وإنه يكون الناتج بتاعها هو عبارة عن تشكيل وتكوين خلايا أو، مش خلايا بقى، أجيال من الإرهابيين والمتطرفين”. بالتالي هذه رسالة ضمنية لكنها واضحة، وتقول بصراحة شديدة، أن الدولة بالفعل تعاني من تحديات حقيقية ومشكلات لكن معالجة هذه المشكلات لا تكون من خلال الثورة فالثورة ليست طليعة تحديث وإنما نذير خراب. بالتأكيد يمكن رفض هذه الرؤية وانتقادها وكشف عوارها؛ (1) هي في النهاية تخلط بين الدولة والنظام السياسي، وتعتبر أن الدولة هي النظام السياسي والنظام السياسي هو الرئيس، بالتالي سقوط رئيس يعني سقوط النظام وسقوط النظام يعني سقوط الدولة، وبالتالي هذا تصور غير حقيقي على الأقل من الناحية النظرية فالدولة غير النظام غير الرئيس، وسقوط رئيس ونظام لا يعني سقوط الدولة، وإن سقطت الدولة فسبب سقوطها هو هشاشتها وقابليتها للسقوط وليست الثورة. (2) أن سقوط الدول بعد حدوث ثورات لم يكن بسبب الثورة في الحقيقة وإنما بسبب الثورات المضادة وتشبث نخب الحكم بالسلطة مهما كانت تكلفة بقائهم في السلطة، فما حدث في سوريا لم يكن بسبب الثورة وإنما كان بسبب النظام الذي ضحى بكل شيء بما فيه الدولة نظير بقائه. (3) أن الثورات لم تحدث بسبب وجود مشكلات وتحديات حقيقية، فالمشكلات والتحديات دائماً موجودة؛ وإنما بسبب زيادة حدة القمع مع تفاقم التحديات، وبسبب غياب العدالة فالتحديات والمشكلات يدفع تكلفتها فقط المجتمع، وخاصة الطبقات الفقيرة، في حين يتمتع القائمين على الحكم والمقربين منهم والمتحالفين منهم بحياة مترفة ونفوذ واسع ولا يتأثرون أبدأ بالتحديات التي تعيشها الدولة، وبسبب إغلاق المجال السياسي وعسكرته وكأن نخب الحكم رضيت بالمشكلات وتأقلمت معها ولم تعد معنية بتغييرها، فخروج الناس وثورتهم سببه يأسهم من أية وسيلة بديلة يمكن اللجوء إليها لتحقيق التغيير المنشود. لكن رغم كل هذه الاعتراضات تبقى الرؤية التي طرحها السيسي بأن هناك مشكلات…