مستقبل الصراعات الإقليمية في القرن الإفريقي
انتهت قمة الاتحاد الإفريقي التي عقدت بإثيوبيا يومي 9و10 فبراير الجاري، والتي جاءت تحت عنوان: “إسكات البنادق… خلق ظروف مواتية لتنمية إفريقيا“ دون تطور إيجابي لحلحلة الخلافات القائمة في القارة الإفريقية، وخاصة في منطقة القرن الإفريقي التي تعج بالخلافات والتوترات الطاحنة، والتي تؤثر سلبا على القارة الإفريقية ومنطقة الشرق الأوسط. ولعل إحدى التحديات الرئيسة في مجال السلام والأمن في إفريقيا، تبدو في كيفية ضمان حلول دائمة للصراعات. إذ إن العديد من المناطق في القارة، شهدت حروباً مسلحة ناجمة عن عودة مشكلات قديمة، حُلت في السابق، أو انتقلت إلى مرحلة الحوار والمفاوضات. كما أن العديد من الصراعات في إفريقيا ذات طبيعة داخلية، وتأتي في شكل حروب أهلية أو صراعات مسلحة داخل حدود الدولة، وتتسم بالعديد من الخصائص الفريدة المستمدة من الهويات الطائفية الدينية أو الثقافية أو العرقية، بجانب الموروثات السياسية والجيوسياسية منذ زمن الاستعمار الأجنبي بالقارة، أو بسبب الصراعات الإقليمية والتدخلات الإقليمية والدولية الراهنة. وقد تحولت هذه النزاعات الداخلية إلى أزمات إقليمية، حيث أصبحت الفصائل المتحاربة تقوم بتنفيذ عملياتها داخل الدولة وخارجها، وتؤدي هذه الديناميكية إلى تعقيد الصراعات، فضلاً عن تورط عدد لا يحصى من الأطراف الفاعلة فيها واتساع المصالح إلى ما يتجاوز نطاقها الأصلي. وغالباً ما تتأثر التحديات والصراعات الوطنية في القارة بالجهات الفاعلة الخارجية. ففي ظل الصراعات العنيفة، تتصاعد أدوار الأطراف المعنية وأصحاب المصلحة في هذه الحروب، التي غالباً ما تنشأ من خارج القارة. ويمكن العثور على جهات غير إفريقية تمارس نفوذها على الأوضاع الداخلية في الدول التي تشهد نزاعات، وهو ما دفع شعار “الحلول الإفريقية للمشكلات الإفريقية” بالبروز، كرد فعل على التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للدول. ويؤكد مؤيدو هذا الشعار أن القارة تحتاج إلى قوتها الخاصة في تفعيل الحلول، التي تأخذ في الاعتبار العوامل التي تتناسب مع ظروفها. إلا أن هذه الأدوار يعوقها عدم كفاية القدرات التقنية والخبرة في بعض الأحيان، والافتقار إلى الإرادة السياسية لضمان التنفيذ والتفعيل المستدام في أحيان أخرى. لكن هناك رؤى أخرى ترى أهمية دور الجهات الفاعلة غير الإفريقية في النظام العالمي المترابط الحالي، خصوصاً في ضوء وجود فجوات في قدرة إفريقيا على مواجهة تحدياتها. أي وبعبارة أخرى، ترتبط مشكلات إفريقيا بتلك الموجودة في العالم (والعكس أيضاً)، وليس من الحكمة منع إسهام الجهات الخارجية في إيجاد حلول لها، بل يجب تقييم الإسهامات قبل تطبيقها أو رفضها. القرن الإفريقي في بؤرة الصراع وتعد منطقة القرن الإفريقي إحدى أبرز المناطق المرشحة لتصاعد الصراعات واندلاع الأزمات الإقليمية والدولية في القارة الإفريقية والمنطقة برمتها. ويقصد بمنطقة القرن الإفريقي -جغرافيا- ذلك الجزء الممتد على اليابسة الواقع غرب البحر الأحمر وخليج عدن على شكل قرن، وهو بهذا المفهوم يشمل أربع دول هي الصومال وجيبوتي وإريتريا وإثيوبيا، بينما تتسع المنطقة أكثر عند النظر لها من زاوية سياسية واقتصادية لتشمل كينيا والسودان وجنوب السودان وأوغندا. ويقول بعض الباحثين: إنه وفقا لهذا المفهوم فإنها تمثل منطقة شرق إفريقيا المتحكمة بمنابع النيل والمسيطرة على مداخل البحر الأحمر وخليج عدن، وهي إن لم تكن جزءا رئيسيا من القرن الإفريقي فهي امتداد حيوي له. وتقدر مساحة القرن الإفريقي بمفهومه الضيق (الصومال، جيبوتي، إريتريا، إثيوبيا) نحو 1.9 مليون كيلومتر مربع. ويبلغ عدد سكانها نحو 115 مليون نسمة وفقا لتقديرات عام 2014. وليست أهمية القرن الإفريقي وليدة اليوم، فقد كانت ومنذ العصور القديمة محط أنظار القوى والإمبراطوريات المهيمنة، لأهميتها الإستراتيجية وإطلالها على طرق التجارة الدولية البرية والبحرية، ومنذ القرن الـ 15 ازداد التنافس الغربي على النفوذ بهذه المنطقة، بل وتحول لصراع في حالات عديدة. وبالنظر للأهمية الإستراتيجية التي تشكلها هذه المنطقة الحساسة فقد أصبحت نقطة جذب وتركيز واهتمام من لدن أطراف دولية وإقليمية عديدة تتصارع على مواطن الثروة والنفوذ ومراكز القوة والحضور. وزاد من أهميتها الإستراتيجية كونها تمثل منطقة اتصال مع شبه الجزيرة العربية الغنية بالنفط، فالموانئ وحاملات النفط والغاز والاتجار بالبضائع والأسلحة وعبور الأشخاص عوامل جعلت منها نقطة جذب دولية. وسعت دول عربية عديدة السنوات الأخيرة لتقوية حضورها في تلك المنطقة نظرا للأهمية الاقتصادية والإستراتيجية لتلك الدول عموما وللبلدان التي يمر نفطها عبر المنافذ البحرية التي تتحكم فيها هذه الدول، بيد أن ذلك لم يكن قاصرا فقط على هذه الدول، فالعديد من دول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة وكذلك الصين والهند واليابان وتركيا وإيران وإسرائيل تسعى كلها لتقوية نفوذها بهذه المنطقة. فأصبحت الولايات المتحدة بعد حرب الخليج الثانية تُولي القرن الإفريقي أهمية جيوسياسية إستراتيجية كبرى، وتجلى اهتمام واشنطن -التي تتمسك بمقولة “الربط بين الأمن القومي الأميركي وأمن الطاقة النفطية” وحصلت بذلك على قدرة مضافة للتحكم في منابع الطاقة بالمنطقة أكثر منذ أواخر القرن الماضي. وعمقت حالة الفراغ العسكري والأمني التي شهدها الإقليم بالعقود الماضية وساهمت في دفع واشنطن للاهتمام به أكثر، خاصة بعد تخلي فرنسا وبريطانيا وإيطاليا -طوعا أو قسرا- عن هذه المنطقة التي كانت تاريخياً مجالا لنفوذها بالتقاسم، وبعد أن بدأ تغلغل الصين بإفريقيا عامة والقرن الإفريقي خاصة. ويراكم الأزمات، تصاعد الاهتمام الروسي بالمنطقة، حيث تضع الأولوية الروسية المنطقة في دائرتها العسكرية، بجانب نهب مواردها الاقتصادية ، خاصة المعدنية والموارد الأولية. قواعد عسكرية ومع أن واشنطن تمتلك -وبشكل معلن- قاعدة عسكرية في جيبوتي، فإن مصادر صحفية تحدثت عن وجود قواعد عسكرية سرية لها بالقرن الإفريقي وما حولها، وتتحدث عن وجود قاعدتين بحريتين في كينيا (مومباسا ونابلوك). وفي إثيوبيا توجد قاعدة أربا مينش الجوية لـ الطائرات بدون طيار منذ عام 2011، ومهمتها الاستطلاع والتجسّس في شرق إفريقيا. وقد وجدت إسرائيل مجالا حيويا في تلك المنطقة الحيوية، فأسست وجودا عسكريا وأمنيا كما طورت من علاقاتها السياسية مع بعض أنظمة تلك المنطقة وخاصة النظام الإريتري والأوغندي. كما تعاظمت الأهمية الإستراتيجية للقرن الإفريقي بعد اندلاع الحرب في اليمن وتدخل التحالف العربي عسكريا بقيادة المملكة السعودية تحت ذريعة التصدي لتوسع النفوذ الإيراني. وتقاطع ذلك مع مصالح مجموعة من الدول (أميركا وإسرائيل وبعض دول الخليج) لمواجهة الخطر الذي يمثله النفوذ الإيراني مستقبلا على نفوذها ومصالحها. ولم تكن الصين كقوة عظمى بعيدة مما يجري هناك، فقد حاولت منذ فترة غرس أقدامها في القارة الإفريقية عموما وفي منطقة القرن الإفريقي خصوصا، فبنت قاعدة بحرية في جيبوتي بحجة مكافحة القرصنة وضمان أمن باب المندب. وعلى المستوى الإقليمي، سعت تركيا هي الأخرى لتعزيز وجودها عبر البوابة الصومالية حيث كثفت من تدخلها الإنساني والتنموي، وعززت وجودها عام 2017 بافتتاح أكبر قاعدة عسكرية لها خارج حدودها جنوب العاصمة مقديشو لتدريب 10 آلاف جندي حكومي بالصومال، الذي تمزقه الصراعات السياسية والحروب الأهلية. كما تتسارع الجهود الإماراتية لخلق فضاءات سياسية وعسكرية لها في المنطقة، عبر دعم عسكري لحركات التمرد الصومالية، في إقليم صومال لاند، وعبر التدخلات السرية…