تونس بعد عقد من الثورة: من الاحتجاجات الشعبية للتعديلات الوزارية
في منتصف يناير 2021، شهدت عدة مدن تونسية، على امتداد خمسة أيام، صدامات واشتباكات عنيفة بين القوى الأمنية ومجموعات من الشباب خرجت في مظاهرات ليلية، تخللتها أعمال تخريب ونهب للممتلكات الخاصة والعامة. ورغم أن البلاد شهدت أحداثًا مماثلة، على امتداد العقد الأخير، فإن منسوب العنف الذي ساد هذه التحركات وغياب أي عناوين سياسية أو اجتماعية معلنة للمشاركين فيها، يطرحان تساؤلات عدة بشأن دوافعها وآفاقها وصلتها بالتجاذبات السياسية والأزمات الاجتماعية والمعيشية التي تمر بها البلاد. وفي تصعيد للأزمة على المستوى الرسمي؛ صعدت للأفق الأزمة بين الرئيس التونسي قيس سعيد ورئيس الوزراء هشام المشيشي والبرلمان، حيث هدد الرئيس التونسي قيس سعيد برفض التعديل الوزاري الذي عرضه رئيس الوزراء وأقره البرلمان. فما هي دوافع كلتي الأزمتين؟ وماهي ردود الأفعال تجاههما؟ وما هي سيناريوهات المستقبل؟ تلك هي التساؤلات التي ستسعى تلك الورقة للإجابة عليها خلال السطور القليلة القادمة.. أولاً: الأزمة الشعبية وردود الفعل عليها.. شهد العقد الأخير الذي تلا الثورة التونسية، تحركات تفاوتت حدتها ودوافعها وتداعياتها. وتصاعدت تلك التحركات هذا العام بالتزامن مع أزمة كورونا، التي تفاقمت على إثرها مؤشرات الأزمات الاقتصادية والمعيشية، جراء انخفاض نسبة النمو، وارتفاع نسب العاطلين عن العمل، وتراجع سعر صرف الدينار التونسي، وارتفاع أسعار المواد المعيشية، وتدنِّي جودة الخدمات الصحية والتعليمية. السمات المميزة للاحتجاجات التونسية الأخيرة: اتسمت الاحتجاجات هذا العام بعدة سمات؛ أولها؛ تمتُّعها بمستوى عالٍ من العنف، فقد عمد المحتجون إلى قطع الطرقات مستخدمين إطارات السيارات المشتعلة، واقتحموا المراكز التجارية ومراكز البريد ونهبوا محتوياتها، ودخلوا في صدامات عنيفة مع القوى الأمنية استخدموا فيها الحجارة والزجاجات الحارقة. وثانيها؛ الشريحة العمرية التي شاركت فيها، حيث المشاركة الكثيفة للأطفال والقُصَّر والشباب دون سن العشرين وانخراطهم في أعمال العنف التي رافقت التظاهرات. وثالثها؛ الطابع الليلي للأحداث. ورابعها؛ غياب أي مطالب واضحة ومُعلنة من ورائها، خلاف ما كانت عليه الحال في الأحداث التي شهدتها البلاد إبان الثورة وبعدها.[1] ردود الفعل على الاحتجاجات: مثَّلت الاحتجاجات مناسبة جديدة لتعميق التجاذبات بين مختلف الأطراف السياسية. حيث توزعت المواقف المعلنة بين أطرافٍ أبدت دعمها لما جرى بوصفه انتفاضًا مبررًا على التهميش والفقر وفشل منظومة الحكم، وأطراف اتخذت موقف الرفض والتنديد باعتباره عملًا منظمًا ومدفوعًا من أطراف داخلية وأخرى خارجية لبث الفوضى واستهداف الدولة، وثالثة أبدت تفهُّمًا لدوافعه، لكن دون تبرير ما شابه من عنفٍ ونهبٍ وتخريب. وقد انعكس التجاذب السياسي على مواقف مختلف الأحزاب والقوى السياسية، بحسب موقفها من الحكومة وقاعدة دعمها البرلماني. فقد ندَّد حزب قلب تونس الداعم للحكومة بأعمال العنف؛ معتبرًا أن التحريض والتغرير بأطفال قُصَّر ودفعهم إلى النهب والتكسير لا علاقة له بالمظاهرات السلمية ولا بحرية التعبير. أما حركة النهضة، صاحبة الكتلة الأكبر في البرلمان، فقد أدانت الاعتداءات التي طالت الممتلكات الخاصة والعامة وعمليات النهب والتخريب، وكذلك خطابات الكراهية والتحريض على التقاتل بين التونسيين. مقابل ذلك اتخذت معظم الأحزاب المعارضة لحكومة المشيشي مواقف متعاطفة مع الأحداث. فقد اعتبرت حركة الشعب الاحتجاجات رفضًا واضحًا للخيارات التي كرستها حكومة المشيشي والائتلاف البرلماني الداعم له، وأبدت دعمها وتعاطفها مع المحتجين. ولم يختلف موقف حزب التيار الديمقراطي كثيرًا، فقد عبَّر عن مساندة الاحتجاجات السلمية ودعم الحق في التعبير والتظاهر بعيدًا عن سيناريوهات المواجهات الليلية مع قوات الأمن، وأدان العنف المفرط الذي تواجه به قوات الأمن التحركات.[2] هذا في الوقت الذي اعتبر البعض عدم وجود من يعبر عن المحتجين أو صوت يمثلهم أو مطالب لهم، ينبئ بوجود تخطيط مقصود للاحتجاجات ولم يكن عفويًا. حيث تمركزت في تونس بعد الثورة قوى وعناصر بدأت تتموقع في مفاصل الدولة والأحزاب، مدفوعة من جهتين معلومتين في الوطن العربي والإسلامي علاقتهما متلازمة ومصالحهما واحدة والأولى معبرة عن الثانية وعاكسة لها. تتمثل الأولى في قوى الثورة المضادة من داخل البلاد، وهم الحرس القديم فاقدو حصانة الاستبداد والفساد السياسي. وتتمثل الثانية في العامل الخارجي، وهو النظام العربي الاستبدادي المتحصن بالبترودولار، ورأس حربة هذه الانظمة الاستبدادية الحاكمة بالوكالة هي دولة الإمارات العربية المتحدة ونظام الانقلاب العسكري المصري.[3] موقف الرئيس والحكومة: اختار رئيس الدولة قيس سعيد أن يتحرك بطريقته، وذلك بعد أن تعددت النداءات التي طالبته بضرورة القيام بخطوة من أجل إعادة الهدوء، فتوجه إلى الحي الذي كان يسكنه قبل انتقاله إلى القصر الجمهوري، حيث دعا الشباب إلى ممارسة حقهم في الاحتجاج، على أن يكون ذلك بوسائل سلمية، وأن يتولوا حماية الممتلكات العامة والخاصة ويمنعوا الاعتداء عليها. بعده مباشرة توجه رئيس الحكومة هشام المشيشي بكلمة متلفزة إلى المحتجين، دعاهم فيها بدوره إلى تجنب العنف، وأقر بشرعية مطالبهم. لكن كلمتي رأسي السلطة التنفيذية خلت تمامًا من إجراءات ملموسة لصالح المحتجين، ولم يكن لهما تأثير ملموس عليهم. وفي الوقت الذي تمسكت فيه منظمات حقوقية وأحزاب بأن هذه الأحداث كانت عفوية، وبدون تخطيط مسبق، رأى آخرون، مثل سعيد والمشيشي، وجود أطراف عملت على تغذية هذه الاحتجاجات، واستعمال هؤلاء الشباب لتحقيق أهداف أخرى، لكن من دون تقديم دليل قطعي للتدليل على ذلك، أو تحديد هوية هذه الأطراف، التي تحركت وحرضت من وراء ستار.[4] ثانيًا: الأزمة الحكومية وردود الفعل حولها.. بالتزامن مع الاحتجاجات الشعبية الناتجة عن تردي الأوضاع في الداخل لتونسي؛ ظهرت للأفق أزمة حكومية بين رئيس الدولة ورئيس وزرائها، حيث عمل رئيس الحكومة على تمرير تعديل وزاري، مستعينًا في ذلك بحزامه البرلماني المهدد بخلافات بين الأحزاب المكونة له. وحتى يضمن هذا الدعم، قبل بتعيين وزيرين ينتميان إلى كل من قلب تونس وحركة النهضة. ورغم أن هذا التعيين يتعارض مع تأكيد المشيشي على أن حكومته تضم تكنوقراطيين فقط، إلا أن الإشكال الأكثر أهمية هو ما أثاره البعض حول وجود شبهة فساد أو تضارب مصالح لدى بعض الوزراء الجدد.[5] موقف أطراف الأزمة من التعديل: صدَّق البرلمان التونسي مساء الثلاثاء على التعديل الوزاري الذي اقترحه رئيس الحكومة هشام المشيشي، وشمل 11 حقيبة وزارية، من بينها العدل والداخلية، ومنح النواب الثقة للوزراء الجدد الذين ضمهم التعديل. وعبَّر ممثلو كتلتي حركة النهضة وحزب قلب تونس عن مساندتهما للتعديل، في حين عارضته الكتلة الديمقراطية وبعض المستقلين. وخلال الجلسة، قال رئيس الحكومة إن التوجه إلى البرلمان جاء لأنه مصدر الشرعية، محذرًا من خطورة الأوضاع في البلاد. وكان النقاش البرلماني بشأن التغيير الوزاري توقف بعد الظهيرة قبل إجراء تصويت متوقع في المساء، وغادر بعض النواب المعارضين مبنى البرلمان للمشاركة في الاحتجاج بالخارج.[6] هذا في حين اعترض قيس سعيد في آخر ظهور له الاثنين 25 يناير على التعديل الوزاري قبل ظهوره، معتبرًا إياه غير دستوري. كما أعلن الرئيس بأنه لا أحد من الوزراء الذين تحوم حولهم شبهة فساد يمكن أن يؤدي اليمين الدستورية أمامه، مع أنه هو نفسه كان قد عيَّن رئيس حكومة بمثل هذا الوصف ودعم آخر في الحكومة الحالية.[7] دوافع…