أزمة تجنيد الحريديم في إسرائيل: الخلفيات والأسباب والتداعيات
قضت المحكمة العليا الإسرائيلية، في 25 يونيو 2024، بفرض تجنيد اليهود الحريديم (طلاب المدارس الدينية اليهودية) في الجيش على الحكومة، وأمرت المحكمة بتجميد ميزانية المدارس الدينية التي يتهرب طلابها من الخدمة العسكرية[1]. وجاء هذا القرار عقب الحاجة الماسة إلى قوى بشرية ترفد صفوف الجيش الإسرائيلي ووحداته المختلفة في ضوء الخسائر البشرية الكبيرة جدًا التي تكبدها من بين جنوده وضباطه، بين قتلى ومصابين لم يعودوا قادرين على العودة إلى تأدية الخدمة العسكرية، جراء إصاباتهم الجسدية أو النفسية، عقب السابع من أكتوبر والحرب المستمرة في غزة، وحيال تصاعد احتمالات اندلاع حرب محتملة وشيكة على الحدود الشمالية مع لبنان[2]. ومن المرجح أن يحدث هذا القرار صدمة في ائتلاف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو؛ نظرًا لوجود أحزاب دينية تعارض تجنيد الحريديم داخل الائتلاف[3]. أولًا: خلفيات أزمة تجنيد الحريديم: تأسست علاقة الدين والدولة في إسرائيل على اتفاق “الوضع القائم” الذي توصل له دافيد بن غوريون، أول رئيس حكومة إسرائيلية، مع التيار الديني الأرثوذكسي، ممثلًا بحزب “اغودات يسرائيل” عشية الإعلان عن قيام الدولة العبرية. وكان بن غوريون يهدف من هذا الاتفاق إلى ضمان تأييد المتدينين لقرار التقسيم، وعرض موقف موحد لليهود الساكنين في فلسطين الانتدابية من القرار. تضمن اتفاق الوضع القائم تسويات تضمن الحفاظ على مكانة الدين اليهودي وتعاليمه في دولة إسرائيل، وذلك في أربع مجالات: الحفاظ على تعاليم يوم السبت بما في ذلك اعتباره الإجازة الرسمية؛ ومنع عمل المواصلات العامة، والتجارة وغيرها خلاله، والحفاظ على الطعام الحلال حسب الشريعة اليهودية (كوشير)؛ وبناء جهاز تعليمي خاص للمتدينين؛ وتبني المنظومة الدينية في شؤون الأحوال الشخصية. لم يتطرق اتفاق الوضع القائم لموضوع الخدمة العسكرية للمتدينين، ويمكن إرجاع ذلك إلى أن الخدمة العسكرية لم تكن مطروحة أصلًا على المتدينين في ذلك الوقت، فضلًا عن أن الموضوع لم يكن محل نقاش أصلًا، فالطرفان لم يفكرا في أن هذا الموضوع سيكون مطروحًا بعد عقود، فالدولة العبرية الجديدة كانت علمانية بامتياز، تهيمن عليها الشرائح الاشكنازية الأوروبية العلمانية، وكانت أيضًا تشكل أغلبية اليهود في إسرائيل. علاوة على ذلك، كان جل اهتمام بن غوريون ضمان سكوت التيار الديني الأرثوذكسي وعدم معارضته لقيام دولة إسرائيل، وهو تيار كان أصلًا ضد الحركة الصهيونية ومشروعها في ذلك الوقت[4]. بناءً على ذلك، أعفت القيادة الصهيونية الشباب الحريدي من الخدمة العسكرية بصورة غير رسمية خلال حرب 1948. وفي يناير 1951، بعث دافيد بن غوريون رسالة لوزارة الدفاع وقائد هيئة الأركان، أوضح فيها أنه قرر إعفاء طلاب المدارس الدينية من الخدمة العسكرية، لأنهم “يخدمون” بدراسة التوراة، وما داموا كذلك فإنه سيتم إعفاءهم. وجاء قرار بن غوريون بإعفاء المتدينين من الخدمة العسكرية للأسباب الآتية: وفي عام 1958 طلب “شمعون بيرتس” المدير العام لوزارة الدفاع الإسرائيلية آنذاك من قادة المدارس الدينية تعديل الإجراءات التي وضعوها سابقًا لإعفاء من يقع عليهم الاختيار من طلاب المدرسة الدينية، لتكون تأجيل الخدمة العسكرية حتى الانتهاء من الدراسة الإلزامية في المدرسة الدينية، على أن تتاح إمكانية ترك المدرسة الدينية بداية من عمر 25 وحتى 29 عامًا للالتحاق بالخدمة العسكرية النظامية لمدة 3 أشهر ينتقل بعدها إلى قوة الاحتياط، وأما الطالب الذي يترك المدرسة الدينية فوق عمر 29 عامًا ينتقل إلى قوة الاحتياط بشكل مباشر. وبعد حرب يونيو 1967 تم تقليص الزيادات المستمرة في عدد طلاب المدارس الدينية الذين يحصلون على الإعفاء التام، ثم استقر الحال على إعفاء حوالي 800 طالب من طلاب المدارس الدينية كل عام[6]. وعند وصول حزب الليكود إلى سدة الحكم أول مرة عام 1977، ألغت حكومة مناحيم بيغن عملية تحديد عدد طلاب المعاهد الدينية الذين يعفون من الخدمة في الجيش بذريعة “مهنته توراته”، وأصبح كل حريدي يحصل على إعفاء منها، وذلك وفق اتفاق الائتلاف الحكومي مع الحزب الحريدي الوحيد حينئذ وهو حزب “أغودات يسرائيل”، الذي كان له أربعة مقاعد في الكنيست. وقد أدى ذلك إلى ازدياد أعداد الحريديم الذين يعفون من الخدمة في الجيش في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، خاصة في ضوء نسبة تكاثرهم الطبيعي المرتفعة وازدياد قوة الأحزاب الحريدية[7]. فعلي سبيل المثال؛ وصل عدد الطلبة المتدينين اللذين تم إعفائهم من الخدمة العسكرية بحجة التعليم الديني في عام 1998 حوالي ثلاثين ألفًا. ما مثل دافعًا لظهور أولي المحاولات لترتيب مسألة تجنيد المتدينين مع تشكيل لجنة “طال”، على اسم القاضي تسيفي طال، والتي أنشئت عام 1999، في عهد حكومة إيهود براك. أسست اللجنة في أعقاب التماس للمحكمة العليا في ديسمبر 1998، في هذا الشأن، إذ أصدرت المحكمة قرارًا بعدم صلاحية وزير الدفاع منح إعفاء شامل لطلاب المدارس الدينية من الخدمة العسكرية دون مسوغ قانوني ينظم هذه المسألة. وفي العام 2002 شرع ما عرف بقانون “طال”، وهو تعديل قانون الخدمة الإلزامية، بحيث حددت مدته بحيث تكون خمس سنوات، مع إمكانية تمديد العمل به خمس سنوات أخرى (حتى العام 2012)[8]. وقد خول هذا القانون وزير الدفاع الإسرائيلي بتأجيل الخدمة العسكرية للحريديم لمدة أربعة سنوات، وفي السنة الخامسة، فإن الوزير مخول بتحديد حاجة الجيش إلى عدد معين منهم للجيش أو للخدمة المدنية، أو بالاستمرار في إعفائهم من الخدمة[9]. وفي سبتمبر 2005، أعلنت الدولة للمحكمة العليا أن قانون “طال” فشل، فلم تستطع الحكومة توسيع عدد المجندين الحريديم للجيش فمنذ تشريعه عام 2002، نجحت الحكومة في تجنيد أعداد قليلة جدًا من أبناء المدارس الدينية (ظلت نسبة الذين يعفون من الخدمة تزيد على 80 في المئة[10]). وفي ضوء فشل قانون طال، أصدرت المحكمة العليا في فبراير 2012 قرارًا بأن قانون طال غير دستوري، وبما أن القانون مدد مرتين لمدة خمس سنوات (2002-2012) فإن الكنيست لا تستطيع تمديده مرة أخرى[11]. وفي عام 2014، أقرت حكومة نتنياهو ما عُرف بـ “قانون المساواة في تقاسم الأعباء”، وكان الهدف الأساسي لهذا القانون هو زيادة عدد طلاب “الحريديم” الذين يتم تجنيدهم في الجيش، فضلًا عن المزيد من الدمج لهذه الفئة في سوق العمل الإسرائيلي، وقد نص القانون على أنه في حال رفض الجمهور الحريدي توفير عدد من المجندين للجيش في العام 2017 يصل إلى 5200 طالب، فإن الحكومة سوف تتعامل مع الجمهور الحريدي بنفس أدوات التعامل مع رافضي الخدمة العسكرية لدى المجموعات الأخرى وتفرض عليهم عقوبات مالية وإدانات جنائية، بينما إذا وفر الجمهور الحريدي هذا العدد الكافي فإن الحكومة سوف تقوم بإعفاء الباقين من الخدمة العسكرية بعد تأجيل خدمتهم إلى سن 26 عامًا[12]. وقد جاء هذا القانون في أعقاب انتخابات الكنيست 2013، وتشكيل نتنياهو لحكومة استثنى فيها الأحزاب الدينية وأدخل مكانها حزب “يوجد مستقبل” برئاسة يائير لبيد، وكان البرنامج الانتخابي للبيد في ذلك الوقت قائمًا على تجنيد الحريديم تحت شعار “المساواة في العبء”[13]. إلا أنه في أعقاب الانتخابات الإسرائيلية العامة التي جرت عام 2015، وما تبعها من دخول الأحزاب الدينية إلى الحكومة، وما ساد من تبعية…