الموقف الليبي من سقوط نظام الأسد في سوريا: المحددات والأبعاد
أطلقت فصائل المعارضة السورية بقيادة “هيئة تحرير الشام” من محافظة إدلب، في 27 نوفمبر 2024، عملية عسكرية “ردع العدوان” ضد نظام الرئيس بشار الأسد. استمر تقدم الفصائل المعارضة بوتيرة متسارعة، حيث سيطرت علي مدينة حلب بالكامل في 30 نوفمبر، التي تعد ثاني أكبر المدن السورية. وفي 5 ديسمبر تمكنت المعارضة من السيطرة على مدينة حماة، التي تعد عقدة استراتيجية تربط الشمال بالجنوب. التطور الأكثر إثارة حدث يوم 6 ديسمبر، عندما سيطرت المعارضة على محافظة درعا، مهد الثورة السورية. هذا السقوط السريع لدرعا أدي إلي انتقال المعارك إلى الجنوب، بعد أن كان التركيز منصبًا على وسط البلاد وشمالها. وفي 8 ديسمبر، جاءت اللحظة المفصلية عندما أعلنت المعارضة سيطرتها على العاصمة دمشق، بما في ذلك المؤسسات الحيوية مثل وزارة الداخلية ومبنى التلفزيون الرسمي. ومن هناك، بثت المعارضة بيانها الأول معلنة انتصارها وسقوط النظام، بينما تداولت الأنباء عن هروب بشار الأسد إلى وجهة مجهولة (أصبحت معلومة فيما بعد وهي روسيا). وكانت هذه النهاية بمثابة مفاجأة للعديد من الأطراف، حيث إنه رغم سنوات من الحرب، لم تكن هناك توقعات بأن ينهار النظام بهذه السرعة وفي فترة زمنية قصيرة نسبيًا1. ومما لاشك فيه فإن سقوط نظام الأسد في سوريا سيكون له تداعيات كبيرة علي باقي دول المنطقة العربية والشرق أوسطية، وفي القلب منها ليبيا، لا سيما في ظل تشابه الحالة السورية مع الحالة الليبية. حيث تتخبط الفصائل الليبية منذ سنوات عدة في حالة جمود سياسي حال في الغالب دون نشوب صراع كبير في البلاد، لكنه اعتمد إلى حد بعيد على تفاهم بين روسيا وتركيا اللتين تنتشر قواتهما العسكرية بشكل كبير على الأراضي الليبية. وقد يؤثر سقوط الأسد على هذا التوازن الهش، من خلال تغيير المواقف الاستراتيجية لكل من هاتين القوتين في المنطقة، وبخاصة من خلال قيام موسكو بنقل المقاتلين والأسلحة من سوريا إلى ليبيا2. أولًا: العلاقات الليبية السورية قبل سقوط نظام الأسد: في أعقاب ثورات الربيع العربي عام 2011، وبالتحديد عقب الثورة الليبية في فبراير 2011 والثورة السورية في مارس من نفس العام، سعت فصائل المعارضة المسلحة المتعاطفة مع بعضها البعض في ليبيا وسوريا إلى تعميق علاقاتها الاستراتيجية. فعلى سبيل المثال، قدمت السلطات الانتقالية التي تشكلت بعد عام 2011 في ليبيا، الدعم العسكري والمالي للمعارضة السورية المسلحة. وخلال العامين 2012 و2013 تحدثت تقارير دولية عدة عن نقل كميات كبيرة من السلاح الليبي إلى مواقع المعارضة السورية عبر تركيا والأردن، لكن محاولة نقل السلاح عبر لبنان فشلت، وفي أبريل 2012 صادر الجيش اللبناني حمولة ثلاثة مستوعبات من الأسلحة كانت على متن باخرة قادمة من ليبيا ومخصصة للمسلحين السوريين، تم اعتراضها وسوقها إلى مرفأ “سلعاتا” في شمال لبنان، وهي تشمل “رشاشات ثقيلة ومتوسطة وقذائف مدفعية وقذائف وقاذفات آر.بي.جي وكميات من أل.تي.أن.تي وذخائر”3. كما شجع الثوريون في سلطة طرابلس المقاتلين الليبيين المتمردين السابقين على السفر إلى سوريا لمحاربة القوات الموالية لبشار الأسد. ومن بين المجموعات التي سافرت إلي سوريا مجموعة “لواء الأمة”، وهو لواء ذو نزعة إسلامية يقوده “مهدي الحاراتى”، أحد كبار قادة التمرد على معمر القذافي. ولكن كان هذا الدعم لسوريا متقطعًا في الأساس وضعيف التنسيق، ولم يكن فعالًا في إنشاء روابط عسكرية مستدامة بين ليبيا وسوريا4. ومع تصاعد الأزمة السورية واشتداد الصراع المسلح بين نظام الأسد والمعارضة السورية، وبحلول شهر ديسمبر 2013، أصبح تعداد الجالية السورية في ليبيا يُقدر بنحو 100,000 إلى 200,000 شخص، برغم أن عدد المسجلين رسميًا بصفتهم طالبي لجوء من قبل مفوضية الأمم المتحدة للاجئين كان 18,000 فقط. كانت بنغازي وطرابلس (منطقتا سوق الجمعة وجنزور على وجه الخصوص) من بين المجتمعات الرئيسية المستضيفة لأعداد كبيرة من السوريين. وعلى الرغم من أن ظروف النزاع الليبي بعد انتفاضة عام 2011 قد جعلت ليبيا أقل جاذبية لكثير من المهاجرين، إلا أن الهجرة السورية إلى ليبيا (أو عبرها) لم تبلغ ذروتها إلا بعد عام 2013، بعد فرض متطلبات التأشيرة على المواطنين السوريين في شهر يناير من العام. إلا أن العبور لم يتوقف بالكلية، وأجبرت الأنظمة المشددة للتأشيرات على الاعتماد على المهربين. في البداية على الأقل، كانت مصر ممرًا رئيسيًا إلى ليبيا؛ استطاع السوريون الوصول إلى ليبيا بدفع ما يقرب من 500 دولار أمريكي، واستقر كثيرون منهم في بنغازي قرب الحدود المصرية. وبطبيعة الحال كان كثير من السوريين ينظرون إلى ليبيا على أنها نقطة انطلاق إلى أوروبا. وبحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فقد وصل 10,650 سوريًا إلى السواحل الإيطالية في عام 2013 وحده، وكثير منهم قد أتوا من ليبيا ومصر. وارتفع هذا الرقم في عام 2014 ليصل إلى قرابة 32,681، قبل أن ينخفض انخفاضًا حادًا في عام 2015 ليصل إلى 7,072. وشهدت الأعوام بين 2015-2019 انخفاضًا عامًا في عدد السوريين المسافرين إلى ليبيا نتيجة لقيود التأشيرات أو لاشتداد النزاع. إلا أن إنشاء خطوط الإمداد الروسية والتركية قد خلق بغير قصد البنية التحتية للهجرة السورية إلى ليبيا أو عبرها5. بعد أن عمد اللواء خليفة حفتر إلى توطيد أركان حكمه في شرق ليبيا، عقب صراع دموي على السلطة في مدينة بنغازي امتد من العام 2014 إلى العام 2017، اتجه حفتر في عام 2019 للسيطرة علي العاصمة طرابلس. وقد جاء هذا التوجه مدعومًا من قبل الإمارات ومصر وروسيا. وقد لعبت موسكو دورًا مهمًا في تشجيع وصول حفتر إلى السلطة بدءًا من أوائل العام 2014، عبر مساندة حملته العسكرية في شرق ليبيا، وتوفير الفنيين والمستشارين وتقديم الدعم الاستخباراتي والدعائي، وطباعة الأوراق النقدية لحكومته غير المعترف بها دوليًا. ومع هجوم حفتر على حكومة طرابلس في العام 2019، زادت روسيا تواجدها في ليبيا من خلال نشر آلاف المرتزقة من مجموعة “فاغنر”، وأفراد عسكريين نظاميين، وطائرات، وأنظمة دفاع جوي. كما قامت روسيا بتسهيل وتنسيق استقدام آلاف المقاتلين السوريين الموالين للأسد إلي ليبيا بتفويض من النظام السوري. وفيما فشلت قوات حفتر في السيطرة على السلطة في العاصمة بسبب التدخل العسكري التركي، تكيفت موسكو بسرعة مع الوضع، واحتفظت بالكثير من عناصرها وأسلحتها في قواعد جوية رئيسة (الجفرة وبراك الشاطئ والقرضابیة) بالقرب من منشآت النفط. وبعد مقتل زعیم مرتزقة ” فاغنر” الروسیة، یفغیني بریغوجین في أغسطس العام 2023، لوحظ زیادة النشاط الروسي في المنطقة بهدف إعادة هيكلة الفاغنر لتأهیلها للتوسع مرة أخرى لیس في لیبیا فقط لكن تم توجیهها أیضًا إلی أفریقیا تحت مسمی “الفیلق الأفریقي”، وبذلك تحولت ليبيا وتحديدًا شرقها كقاعدة روسية حيوية لإرسال مقاتلين وإمدادات عسكرية إلى دول منطقة الساحل الأفريقي6. وفي هذا السياق، أكد مسؤول رفيع بوزارة الخارجية الأمريكية، في تصريح لـ”قناة ليبيا الأحرار”، إن نائب وزير الدفاع الروسي زار ليبيا ست مرات منذ أغسطس 2023، مضيفًا أن موسكو تسعى لتوسيع وجودها العسكري في ليبيا منذ وفاة “بريغوجين” بما في ذلك إنشاء بنية تحتية عسكرية دائمة، وأشار المسؤول…