خصخصة مستشفيات المؤسسة العلاجية بمصر.. التداعيات المحتملة

جاء إعلان وزارة الصحة بحكومة الانقلاب يوم الخميس 15 سبتمبر 2022م، عن طرح خمسة من أكبر مستشفياتها العامة للبيع أمام القطاع الخاص رسمياً، ليمثل خبرا صاعقا وصادما في ذات الوقت لملايين المصريين؛ لأن هذا الطرح على النحو الذى جرى، وفي هذا التوقيت يعني أن نظام السيسي يعاني من مشكلة وليس ورطة؛

وبالتالي فهو يسرع  في بيع هذه الصروح الصحية العملاقة من أجل توفير شيء من السيولة يمكنه من سداد ما عليه من التزامات وأقساط ديون وفوائد تصل إلى نحو (1,655 تريليون جنيه) وفقا لأرقام الموازنة الحالية (2022/2023)، بينما لا تصل كل موارد الدولة بحسب أرقام الموازنة إلا إلى (1.517) تريليون جنيه  فقط!

ويزداد الوضع بؤسا وصعوبة إذا علمنا أن النظام مطالب بسداد أكثر من ثلاثين مليار دولار في الفترة بين مارس 2022 حتى مارس 2023م. فمن أين يأتي بكل هذه الأموال في هذا الوقت القصير؟

إزاء ذلك، ما تفاصيل هذه الخطوة في سياق توجه النظام نحو الخصخصة إذعانا لإملاءات صندوق النقد الدولي؟ وما دلالات ومخاطر هذه الخطوة  على مستوى الرعاية الصحية وتخلي الدولة عن منظومة الدعم الصحي بالتدريج لحساب الخصخصة وحيتان القطاع الخاص؟ وما تداعيات هذه الخطوة على مستقبل الخدمة الصحية في مصر في ظل سقوط عشرات الملايين من المصريين تحت خط الفقر وعدم قدرتهم على توفير نفقات العلاج من جهة وفشل الحكومة في إدارة المستشفيات العامة من جهة أخرى؟

 

المستشفيات المستهدفة بالخصخصة

الملاحظة الأولى أن المستشفيات المستهدفة بالخصخصة في المرحلة الأولى ــ بحسب تصريحات المتحدث باسم وزارة الصحة، حسام عبد الغفار ــ هي: المستشفى القبطي في شارع رمسيس التي يعود تاريخ إنشائها إلى عام 1926، ومستشفى العجوزة في محافظة الجيزة (1936)، ومستشفى هليوبوليس (1950)، بالإضافة إلى مستشفى شيراتون في حيّ مصر الجديدة، ومستشفى الجلالة في محافظة السويس.[[1]]

المستشفيات الخمسة ـ بحسب المتحدث باسم الوزارة ــ  ستُطرح أمام القطاع الخاص كمرحلة أولى، على أن تتبعها مستشفيات أخرى تابعة للمؤسسة العلاجية مثل دار الشفاء والجمهورية ومبرة مصر القديمة ومبرة المعادي”، لافتا إلى أن “الاستثمار في هذه المستشفيات قد يكون من خلال الإدارة، أو بنظام حق الانتفاع لمدة زمنية محددة، وذلك دعماً للاستثمار في المجال الصحي في مصر.[[2]]

ويلفت المتحدث باسم الوزارة أن الخطوة الأولى للطرح  ستبدأ بمستشفى هليوبوليس التي يمكن طرحها للمستثمرين بهدف إدارة بعض الخدمات بالمستشفى أو تقديم خدمات جديدة أو تطوير العمل الطبي والخدمات بشكل عام على حد زعمه.[[3]]

الملاحظة الثانية، هذه المستشفيات  تتبع المؤسسة العلاجية، وهي هيئة اقتصادية تشرف عليها الوزارة وتقدم الخدمة بالأجر للطبقة المتوسطة، وفقاً لقرار إنشائها سنة 1964م في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر”.

ويدعي المتحدث باسم الوزارة أن “الهدف من بيعها هو تعظيم الاستثمارات في المجال الصحي أمام القطاع الخاص، في إطار توجه الدولة نحو رفع مستوى الخدمة الصحية”، لافتا إلى أن الهيئة لا تتلقى دعما من الدولة وتتكفل بتوفير احتياجاتها ذاتيا.

بمعنى أن هذه الصروح الطبية ناجحة تماما لدرجة أن تتكفل بتحقيق الاكتفاء الذاتي لجميع احتياجاتها من مواردها الذاتية، لأنها لا تتلقى دعما من الدولة.

فلماذا يتجه النظام إلى  بيع هذه الصروح الطبية العملاقة الناجحة؟!

الملاحظة الثالثة، في تبرير هذه الخطوة من جانب حكومة السيسي، يستشهد المتحدث باسم وزارة الصحة في تصريحات لصحيفة الشروق السبت 17 سبتمبر 2022 بقانون إنشاء مستشفيات المؤسسة العلاجية؛ حيث ينص على أن تنشأ بالمحافظات التي يصدر بتحديدها قرار من رئيس الجمهورية هيئات عامة تسمى “مؤسسات علاجية” تكون لها الشخصية الاعتبارية ويكون مركزها عاصمة المحافظة، وتقدم الخدمات العلاجية مقابل أسعار اقتصادية.

وأن الغرض من إنشاء المؤسسات العلاجية هو تنفيذ السياسة العامة للخدمات العلاجية بالمستشفيات والوحدات الطبية التابعة لها والعمل علي تطويرها وتنظيمها ورفع مستواها، وتيسير حصول المواطنين عليها وتختص المؤسسات العلاجية بتخطيط الخدمات العلاجية التي تقوم بها هذه المستشفيات والوحدات وبالإشراف والرقابة عليها، وبمتابعتها وتقييمها والتنسيق بينها.

ويضيف المتحدث باسم الوزارة أنه وفقا لنص القانون فإن لكل مؤسسة علاجية في سبيل تحقيق أغراضها يمكنها القيام بتوفير المستشفيات والوحدات الطبية الأخرى سواء بالإنشاء أو بالشراء أو بالتأجير أو بغير ذلك من التصرفات القانونية، ووضع السياسة العامة للخدمات العلاجية التي تقدمها المستشفيات والوحدات الطبية لها في إطار السياسة العامة.

كما أن كل مؤسسة يمكنها وضع القواعد العامة لأجور الخدمات العلاجية التي تقدمها المستشفيات والوحدات، ووضع القواعد العامة لتعاقد المستشفيات والوحدات الطبية التابعة لها مع الهيئات والمؤسسات والشركات وغيرها من الجهات لتقديم الخدمات العلاجية للعاملين بها، بجانب معاونة المستشفيات والوحدات الطبية التابعة لها في توفير الأفراد والأجهزة والمعدات، مما يلزم لتقديم خدمات علاجية في أعلي المستويات العلمية والفنية، والمشاركة مع الجهات المختصة الأخرى في وضع نظام الإسعاف الطبي وخدمات الطوارئ.

ونص القرار على أنه لوزير الصحة سلطة الإشراف والرقابة والتوجيه علي هذه المؤسسات، ويتولى إدارة كل مؤسسة علاجية، مجلس إدارة، ورئيس للمجلس.

الملاحظة الرابعة، بتحليل مضامين ومفردات تصريحات المتحدث باسم الوزارة نجد أنه يناقض نفسه؛ لأن نص القانون يتحدث عن توفير الخدمة العلاجية بأسعار اقتصادية، لكن ما تقوم به الحكومة هو نزع ملكية الشعب لهذه الصروح الطبية ومنحها لأحد حيتان القطاع الخاص، وبالتالي فإن أسعار الخدمة العلاجية سترتفع إلى مستويات جنونية تفوق قدرة غالبية المصريين.

كما أن القانون يتحدث عن تعزيز قدرة هذه المؤسسات العلاجية  بتوفير مستشفيات إضافية ووحدات طبية بالإنشاء أو الشراء والتأجير، لكن ما تقوم به الحكومة عكس ذلك تماما؛ فهي تقوم ببيع الأصل ذاته ونزع ملكية الشعب له لمنحه لأحد رجال الأعمال وهو ما ينسف القانون الذي قامت عليه المؤسسات العلاجية نسفا تاما، ويناقض الفلسفة التي قامت على أساسها المؤسسات العلاجية.

الملاحظة الخامسة، يدعي المتحدث باسم الوزارة أن هذه الشراكة (خصخصة المستشفيات) ستحقق فوائد عديدة سواء للدولة أو القطاع الخاص، لأن القطاع الخاص سيستغل المستشفى الموجود بالفعل ولن يتكلف مبالغ إضافية لإنشاء المستشفى أو استحداث الخدمات، كما أن خدمات هذه المستشفيات ستكون مفيدة للمواطنين الذين يرغبون في الاستفادة بخدمة علاجية اقتصادية مرتفعة نسبيا ولا يستطيعون تحمل تكاليف مستشفيات القطاع الخاص.

لكن  هذه التصريحات متناقضة؛ لأن هذه الصروح الطبية تقدم بالفعل خدمة طبية متميزة تضاهي ما تقدمه كبرى مستشفيات القطاع الخاص والاستثماري، ولم يشك أحد من تدني الخدمة الطبية بها، بخلاف أنها  تؤدي هذه الرسالة من خلال مواردها الذاتية؛ لأنها حسب المتحدث باسم الوزارة ـ لا تتلقى أي دعم من الدولة؛ فلماذا يريد السيسي بيعها؟! ومع إحساس المتحدث باسم الوزارة بتناقض تصريحاته أمعن في هذا التناقض مدعيا أن هذه الخطة (الخصخصة) لا تعني بيع المستشفيات إلى القطاع الخاص، بل ستظل تابعة للدولة المصرية وتقدم خدماتها العلاجية للفئات المستهدفة من المواطنين بصورة طبيعية!

الملاحظة السادسة، أن الوزارة التزمت الصمت حيال الانتقادات الموجهة لها وللحكومة كلها،  لكن إحدى الفضائيات التابعة للسلطة وصفت ذلك بالشائعة أطلقها  ما وصفته بــ«الإعلام المعادي» ومواقع التواصل الاجتماعي حول خصخصة المؤسسات الطبية والمستشفيات الحكومية وبيعها لدول الخليج وتسعير الخدمات وفقًا لأسعار ليست في متناول المواطنين.

وقالت القناة إن وزارة الصحة لم تقوم بأي شكل من الأشكال أو بأي طريقة بخصخصة أي مستشفى تابع لها في أي وقت، ولا سيما بعد ثورة يونيو المجيدة!! لكن القناة قالت إن وزارة الصحة تناقش إسناد إدارة بعض المستشفيات للقطاع الخاص، مبينة أن تلك المستشفيات خاضعة لكيان خاص داخل وزارة الصحة يطلق عليه المؤسسة العلاجية ولا يقدم خدمات علاجية للمواطنين.[[4]]  وتجاهلت القناة أنأ

مستشفيات المؤسسة العلاجية الثمانية (الجمهورية – هليوبولس – القبطي – دار الشفاء – مبرة محمد على – مبرة المعادي – الهلال الأحمر- الإصلاح الإسلامي )، قدمت رعاية طبية وعلاجية لـ82 ألفا، و838 مريضا، خلال الربع الأول من عام 2022،[[5]] معنى ذلك أن هذه المستشفيات الثمانية فقط تقدم خدمة علاجية ــ بأسعار اقتصادية معقولة ـ  لنحو 350 ألف مصري في العام.

وفي 2021 تم تأهيل تسع مستشفيات وتطويرها ومدها بالأسرة والمعدات والأجهزة الطبية اللازمة.

وتردد على عيادات هذه المستشفيات خلال سنة 2021 نحو  734765 مواطن.[[6]]

لكن خصخصة هذه المستشفيات سوف يرفع تكاليف العلاج إلى مستويات تفوق قدرة هؤلاء المواطنين القادرين  على العلاج بها حاليا وفق الأسعار الحالية.

 

سيناريوهان

تصريحات وزارة الصحة  تؤكد أن النقاشات لا تزال جارية حول إقرار نمط الاستثمار الأمثل من وجهة نظر الحكومة  ما بين سناريوهين:

  • الأول، البيع كما ورد في تصريحات المتحدث الرسمي للوزارة. كما ألمح إلى طرح مستشفيات حكومية للاستثمار، الوزير خالد عبد الغفار في اجتماع مع غرفة مقدمي خدمات الرعاية الصحية بالقطاع الخاص، في 21 أغسطس 2022، بعد أيام من توليه المنصب رسميًا في التغيير الوزاري الأخير، بعدما كان قائمًا بالأعمال.
  • الثاني، حق الإدارة والانتفاع لمدة محدودة قد تصل إلى عشرين سنة مثلا. وتنقل صحيفة “مدى مصر” الإلكترونية عن عضو بمجلس إدارة غرفة مقدمي الرعاية الصحية بالقطاع الخاص أن المفاوضات الجارية مع وزارة الصحة حول طرحها مستشفيات المؤسسة العلاجية لإدارتها بواسطة القطاع الخاص، انتهى إلى الاتفاق على تعاقد القطاع الخاص بنظام الإدارة المالية.
  • وأوضح العضو الذي فضل عدم ذكر اسمه، أن ذلك يعنى أن الشركة التي ستحصل على حق إدارة المستشفى لها الحق في إعادة هيكلة رواتب الأطباء والطاقم التمريضي، وتحديد كل ما يتعلق بمسألة أسعار الخدمات الصحية في المنشأة دون تدخل من الوزارة، وذلك لمدد بين عشر و15 سنة.
  • وأضاف العضو أن الوقت الحالي يشهد نظر الوزارة في عروض تقدمت بها الغرفة لشركات طبية حتى تتولى إدارة المنشآت الطبية المطروحة من الحكومة، وتتضمن العروض إدخال تلك الشركات أجهزة طبية حديثة في المنشآت، والاستعانة بأطباء من خارج قوة المنشأة نفسها.

حتى كتابة هذه السطور لم يتم حسم النقاش، وتصريحات المتحدث باسم الوزارة لمدى مصر يؤكد أن النقاش لا يزال  مستمرا حول ماهية دور من سيوؤل إليه الطرح، وإذا ما كان سيتم الطرح بنظام حق إدارة فقط أم تطوير، مضيفًا: «شكل الاستثمار لسه مفيش استقرار عليه.. بس الأكيد أنه حتى الآن ما زال هناك تفاوض ولم يحدث استقرار على جهة مُعينة للقطاع الخاص للإدارة والتشغيل».[[7]]

 

مخاطر الخصخصة

أولا، أكبر مخاطر هذه الخطوة  أنها تعكس إصرار نظام السيسي على خصخصة القطاعات الحيوية بالدولة (الصحة ـ التعليم ـ الكهرباء ـ مياه الشرب ـ وسائل النقل ــ المواني ــ  وغيرها) حتى لو كانت ناجحة ومربحة؛ بمعنى أن النظام انتقل من دائرة خصخصة شركات قطاع الأعمال منذ تسعينات القرن الماضي بدعوى أنها خاسرة إلى بيع أصول الدولة في عهد السيسي حتى لو كانت مربحة؛ بدعوى تقديم خدمة جيدة للمواطنين دون النظر إلى ما تمثله هذه الخطوات من مخاطر على الأمن القومي المصري.

كما أن بيع هذه الأصول والصروح الطبية العملاقة يعني خسارة كبيرة للغاية للشعب المصري المالك الحقيقي لهذه الأصول؛ فما الذي يعود على الشعب بالنفع من انتقال ملكيته لهذه الصروح الطبية العملاقة ومنحها لحيتان رجال الأعمال والمستثمرين الخليجيين؟!

ثانيا، تزداد الخطورة إذا علمنا أن رقابة الحكومة على المستشفيات الاستثمارية والخاصة يكاد يكون منعدما؛ الأمر الذي دفع عضو مجلس النواب عن محافظة البحيرة، محمد عبد الله زين الدين، إلى تقديم سؤال إلى رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي، ووزير الصحة والسكان خالد عبد الغفار، بشأن غياب رقابة إدارة العلاج الحر على المستشفيات الخاصة على مستوى الجمهورية، وتحول أغلبها إلى مشروعات استثمارية هدفها تحقيق الأرباح، وليس تقديم الخدمات العلاجية، والتخفيف عن آلام المرضى.

وكشف أنه “تلقى عدداً كبيراً من شكاوى المواطنين بسبب استنزاف المستشفيات الخاصة لجيوب المرضى، في ظل أوضاع اقتصادية صعبة يعاني منها الجميع”، موضحاً أن “مصاريف احتجاز المريض من أجل تلقي الإسعافات الأولية فقط، قد تتجاوز 10 آلاف جنيه في كثير من المستشفيات”.

وتابع أن “الإشكالية الكبرى تتمثل باحتجاز المريض لإجراء عملية جراحية، لأن فاتورة العلاج تبلغ في هذه الحالة مئات الآلاف من الجنيهات، الأمر الذي يمثل أزمة كبيرة للمواطنين، ولا سيما مع غياب الرقابة على المستشفيات الخاصة.

وطالب زين الدين بـ”ضرورة تشديد رقابة وزارة الصحة على المستشفيات الخاصة، والإعلان عن دليل استرشادي للأسعار، وتعميمه على جميع المستشفيات في محافظات الجمهورية”.

ثالثا، المخاوف من هذه السياسيات الحكومية دفعت النائب فريدي البياضي الذي تقدم بطلب إحاطة إلى رئيس الوزراء في فبراير 2022، لاستبيان موقف الحكومة من تزايد الاستثمارات الخاصة في القطاع الصحي، ومخاطر احتكار القطاع الخاص الخدمات الطبية صحياً وأمنياً.[[8]]

حيث تشهد مصر في السنوات الأخيرة زيادة وتيرة الاندماجات والاستحواذات في القطاع الصحي الخاص، الذي أصبح جاذباً بشكل كبير لمستثمري الخليج، نتيجة الأرباح والعوائد الضخمة التي تحققها المستشفيات الخاصة، لتحتل الاستحواذات المالية في هذا القطاع المرتبة الثانية من إجمالي القطاعات الاقتصادية المصرية.

ويتزايد القلق بشأن التكتلات الاحتكارية في القطاع الطبي الخاص، الذي يشكو أغلب المصريين من انفلات أسعار خدماته، إثر استحواذ شركة “أبراج كابيتال” الإماراتية على مجموعة من المستشفيات الكبرى مثل كليوباترا والقاهرة التخصصي والنيل بدراوي، وأكبر سلسلتين من معامل التحاليل في البلاد، وهما “البرج” (926 فرعاً و55 معملاً بيولوجياً)، و”المختبر” (826 فرعاً).

أما مجموعة علاج الطبية السعودية، فاستحوذت على 9 مستشفيات كبرى، منها الإسكندرية الدولي وابن سينا التخصصي والأمل والعروبة، بالإضافة إلى معامل “كايرو لاب” للتحاليل الطبية واسعة الانتشار في مصر، ومراكز “تكنو سكان” للأشعة التي تمتلك بدورها 24 فرعاً في محافظات مختلفة.[[9]]

 

تسليع الرعاية الصحية بالخصخصة

الأكثر خطورة على الإطلاق أن “مدى مصر” ينقل عن عضو آخر في غرفة مقدمي الرعاية الصحية بالقطاع الخاص أنهم تلقوا رسالة فحواها أن خطة الدولة المستقبلية في المجال الصحي ليس من ضمنها بناء أي منشأت طبية حُكومية جديدة في الوقت الحالي، والتي يبلغ عددها 652 مستشفى حكوميًا (تشمل المستشفيات العامة والجامعية) في مقابل 1130 منشأة طبية خاصة، بحسب آخر إحصاء صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في 2021، رصد أعداد المنشآت عن عام 2019.[[10]]

خطوات السيسي تتسق تماما مع خطوات نظام مبارك؛ الرامية إلى خصخصة قطاع الصحة؛ ففي سنة 2007م أصدر أحمد نظيف رئيس الوزراء آنذاك، قراراً بتحويل هيئة التأمين الصحي إلى شركة قابضة، كخطوة في طريق خصخصة القطاع الصحي بأكمله، كما وصفها ناشطون في المجال الصحي و20 منظمة من منظمات المجتمع المدني، والتي تصدت لرئيس وزراء مبارك، وأقامت دعوى قضائية لإبطال القرار ووقف ما وصفوه بكارثة التجارة في مرض الشعب.

وفي سبتمبر/أيلول من عام 2008، انتصر القضاء الإداري لحق أفراد المجتمع في الحصول على رعاية صحية آدمية، والتأكيد على واجب الدولة الأصيل في كفالته، وقام بإلغاء قرار رئيس الوزراء الذي اعتبره تجارة في حق أصيل للإنسان ولصيق بحقه في الحياة الذي لا يجب أن يخضع للتجارة وقوانين السوق.

ونصت حيثيات حكم إبطال مجلس الدولة قرار خصخصة الصحة على “إن كفالة الدولة للرعاية الصحية تحول دون أن يكون الحق في الصحة محلاً للاستثمار أو المساومة والاحتكار”.[[11]]

وكان نظام السيسي قد شرع في خصخصة مستشفيات التكامل في سنة 2017م، وهو أمر يزيد من أعباء المواطنين، خصوصا بعد مراجعة أسماء المستشفيات المطروحة للبيع تجد أنها فى مناطق ما بين شعبية وريفية، مما يدلل على أنها من المناطق الأكثر احتياجا لتقديم الخدمات وليس لبيعها.

حتى ولو تحججت السلطة بفشل منظومة عمل هذه المستشفيات، أو كونها لا تحقق نجاحات فى أداء عملها، فليس ذلك بمبرر لعرضها للبيع، وكان الأجدر هو تغيير المنظومة الإدارية لهذه الأماكن، وتحديث طرق إدارتها بما يحقق الهدف من وجودها، وبما يحقق فاعلية للخدمة الصحية المقدمة للمواطنين.

وتنقسم الخدمة الصحية المقدمة على أساس جغرافي إلى وحدات صحية ومراكز طب أسرة تقدم خدمة طبية أساسية في القرى، ومستشفيات مركزية في المدن والمراكز اﻷساسية في المحافظات، ومستشفيات عامة في عواصم المحافظات تقدم خدمة طبية أوسع.

وطبقًا للتخطيط الجغرافي القائم، فإن سكان القرى مضطرون للجوء إلى المستشفيات المركزية أو المستشفيات العامة للحصول على خدمة طبية أكثر تعقيدًا.

وجاءت فكرة مستشفيات التكامل لسد هذه الثغرة. لا يوجد إحصاء دقيق بعدد مستشفيات التكامل، إلا أن أغلب اﻷرقام المنشورة يذهب بعددها إلى ما يتجاوز 500 مستشفى. تحتوي المستشفى على عيادات طبية وغرفة عمليات ﻹجراء عمليات جراحية بسيطة، وهو ما يؤهلها لتقديم خدمة صحية جيدة لسكان هذه القرى، وبالتالي تقليل الضغط على المستشفيات المركزية والعامة.

وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة واﻹحصاء، انخفض عدد المستشفيات في مصر من 1446 مستشفى سنة 2008 إلى 659 سنة 2014. وأرجع الجهاز هذا الانخفاض إلى تحويل مستشفيات التكامل إلى وحدات صحية.[[12]]

من جانبها، استنكرت نقابة اﻷطباء مقترح بيع مستشفيات التكامل. واعتبر إيهاب الطاهر، اﻷمين العام لنقابة أطباء مصر وقتها، أن الخطوة بداية لخصخصة قطاع الصحة، معتبرًا أن هذا المقترح سيؤدي إلى ارتفاع سعر الخدمة الطبية، بحسب تصريحات نقلتها عنه صحيفة المصري اليوم.

في 15 يناير 2018م، صادق السيسي على قانون “التأمين الصحي الشامل” والذي يقنن إجراءات خصخصة  المستشفيات الحكومية على نحو أسوأ مما كان عليه الأمر في عهد مبارك، فالقانون يحول الخدمة الصحية إلى سلعة ترتفع تكاليفها بناء على رغبة المستثمرين أصحاب المستشفى.

وهو القانون الذي يزيد الأعباء على المواطنين، حيث يطلب من المواطن دفع مصاريف تصل إلى 10 بالمائة على رسوم التحاليل والأدوية، عند حاجته للخدمة الطبية، بالرغم من أنه يخصم من راتبه شهريًا اشتراكه في التأمين الصحي.[[13]]

تزامناً مع إصدار مسودة هذا القانون، قام مجلس الوزراء بإصدار قرار بإنشاء هيئة التدريب الإلزامي للأطباء، بدعوى تطوير مستوى التدريب الطبي السريري لخريجي كليات الطب وامتحانهم للتحقق من استيفائهم التأهيل الكافي للممارسة الطبية الآمنة، وفق القرار.

وهو قرار كان ظاهره الرحمة وباطنه العذاب؛ فالهدف الحقيقي وراء إنشاء هذه الهيئة هو تحرير الخدمات الصحية، عبر فتح الباب للأطباء من أي جنسية لمنافسة الأطباء المصريين في فرص العمل، وهو ما يعد جزءا من خطة تحرير الخدمات كجزء من اتفاقية “الجات” المرجع الأساسي للنظام الحاكم في كثير من تصرفاته الاقتصادية، وهو أيضاً ما هاجمه مجلس نقابة الأطباء ورفضه رفضاً قاطعاً.

خلاصة الأمر، يصر نظام السيسي العسكري على بيع أصول مصر وصروحها الطبية العملاقة في سياق سياسات النظام المرنة تجاه إملاءات صندوق النقد الدولي، وعرض نظام السيسي مستشفيات المؤسسة العلاجية للبيع رغم نجاحها  وتحقيقها الاكتفاء الذاتي دون تلقي أي دعم من  الدولة، ما هي إلا محطة من محطات خصخصة الخدمة الصحية وتحويل الرعاية الطبية التي تعتبر واجبا دستوريا على الدولة إلى سلعة؛ وهي سياسات تهدد تماسك المجتمع ووحدته وتضع عشرات الملايين من المصريين في مهب الريح في ظل موجات عاتية من الغلاء والتضخم عصفت بالناس عصفا وتركتهم فقراء يتسولون لقمة عيشهم فكيف يوفرون تكاليف العلاج الباهظة في مستشفيات يديرها حيتان القطاع الخاص والاستثمار الخليجي الذي لا يعنيه سوى الربح والمكاسب؟!

تجربة المصريين خلال أزمة كورونا مع المستشفيات الاستثمارية والتابعة للقطاع الخاص كان كارثية حقا؛ فقد بالغت هذه المستشفيات في أسعار الخدمات والرعاية الصحية،  وارتفعت أسعار الخدمات الصحية بها عشرة أضعاف عما كانت عليه قبل تفشي العدوى؛ وبلغ الـ “deposit” المبلغ المقدم تحت الحساب قبل البدء في رعاية الحالة 30 أو 50 ألفاً”  في مستشفيات شبه مغمورة، وقد وصلت التكلفة إلى مئات الآلاف لمن يحتاجون جهاز تنفس صناعي لمدة من 4 إلى 5 ليال فقط في العناية المركزة بأحد المستشفيات الاستثمارية الكبيرة.([14])

وبلغ سعر الرعاية الصحية في بعض المستشفيات الاستثمارية الخاصة نحو 90 ألف جنيه في اليوم الواحد. ([15]) بل يؤكد أحد الأطباء العاملين بأحد المستشفيات الاستثمارية أن بعض فواتير الرعاية الصحية لبعض المصابين بكورونا بلغت نصف مليون جنيه! ([16]) والحكومة من جانبها اعترفت بهذه الأزمة، وأقرت أن أسعار الرعاية الصحية بهذه المستشفيات الخاصة مبالغ فيها بشدة،  وأنها ضرب من الجنون؛ ولذلك كلف رئيس الحكومة الوزراء المعنيين بوضع سقف لتكاليف المستشفيات الخاصة الراغبة في تقديم خدمات علاج «كوفيد- 19». ([17])

وانتهى الأمر بانتصار المستشفيات على الحكومة التي لم تقدر على فرض الأسعار المناسبة على هذه المستشفيات التي لا يعنيها سوى الربح والمكاسب.

وحتى مستشفيات الجيش والشرطة خلال الجائحة بقيت مغلقة في وجوه المصريين ولم تستقبل سوى السادة الضباط فقط وأسرهم وعوائلهم بينما كان المصريون ينامون على أبواب المستشفيات بحثا عن سرير للعلاج من العدوى.

نظام السيسي يبدي أكثر صور الإذعان والخضوع أمام حيتان البيزنس ورجال الأعمال والشركات العابرة للقارات التي تحتكر القطاع الطبي الخاص في مصر فالحكومة فشلت في إلزام المستشفيات الاستثمارية والخاصة في توفير رعاية صحية بأسعار مناسبة، تتناسب مع دخول معظم المصريين.

وهو ما يناقض ما نصت عليه المادة (18) من دستور 2014م، التي تنص على أن «تجريم الامتناع عن تقديم العلاج بأشكاله المختلفة لكل إنسان فى حالات الطوارئ أو الخطر على الحياة»، فإصرار تلك المستشفيات على تسليع الخدمة الصحية والتمسك بالأسعار الخرافية التى تطبقها لا يعدّ استغلالا للأزمة الراهنة وانتهاكا لرسالة الطب السامية، أو تكسبا من دماء المرضى فحسب، بل تحديا صارخا للقوانين واللوائح المنظمة؛ فالقانون رقم 51 المنظم لعمل المنشآت الطبية الصادر سنة 1981، فرض على تلك المستشفيات التقيد بالحد الأقصى لأسعار الخدمات الطبية الذى تضعه لجنة مختصة تضم ممثلين من وزرارة الصحة ونقابة الأطباء، فضلا عن المحافظ المختص، وفى حال مخالفة لائحة الأسعار التى تحددها تلك اللجنة، توضع المستشفى تحت إشراف وزارة الصحة مباشرة.

لكن السيسي يقف عاجزا عن حماية أمن مصر القومي لأنه ببساطة يتسول من هذه الدول التي تحتكر سوق الرعاية الصحية الخاصة بمصر.

 

ــــــــــــــــــــــ

 

[1]  انظر: انظر تصريحات  المتحدث باسم وزارة الصحة لقناة “صدى البلد” يوم الخميس 15 سبتمبر 2022م

https://www.youtube.com/watch?v=Koq_MYhy96k&feature=emb_title

[2] فيديو.. الصحة: ندرس طرح 5 مستشفيات تتبع المؤسسة العلاجية للقطاع الخاص/ بوابة الشروق ــ الخميس 15 سبتمبر 2022// مصر تبيع 5 من أكبر مستشفياتها العامة.. وقفزة في مصاريف العلاج/ العربي الجديد ــ 17 سبتمبر 2022// محمد طه/الصحة: ندرس طرح 5 مستشفيات تتبع المؤسسة العلاجية للقطاع الخاص.. فيديو/ المصري اليوم ــ الخميس 15 سبتمبر 2022م

[3] منى زيدان/ تفاصيل خطة الصحة لطرح بعض المستشفيات للاستثمار: التجربة تبدأ بمستشفى هليوبوليس/ بوابة الشروق ــ السبت 17 سبتمبر 2022

 

[4] مصطفى أحمد/«الصحة» تنفي خصخصة المستشفيات الحكومية | فيديو/ أخبار اليوم  ــ 20 سبتمبر 2022م

[5] الصحة: مستشفيات المؤسسة العلاجية قدمت خدماتها لـ 83 ألف مواطن خلال الربع الأول من 2022/ الهيئة العامة للاستعلامات ــالأربعاء، 04 مايو 2022

[6] مريم الخطري ومحمود رفعت حصاد تطوير المؤسسات العلاجية التابعة للصحة 2021.. تأهيل 9 مستشفيات.  تقرير: 734765 مواطنا ترددوا على العيادات للحصول/ الوطن ــ الإثنين 03 يناير 2022

[7] مصدر: طرح إدارة مستشفيات المؤسسة العلاجية على القطاع الخاص.. وخطة الدولة لـ«الصحة» لا تتضمن بناء أي منشآت طبية جديدة/ مدى مصر ــ 18 سبتمبر 2022م

[8] انظر المرجع السابق: مصر تبيع 5 من أكبر مستشفياتها العامة.. وقفزة في مصاريف العلاج/ العربي الجديد ــ 17 سبتمبر 2022

[9] المرجع السابق

 

[10] مصدر: طرح إدارة مستشفيات المؤسسة العلاجية على القطاع الخاص.. وخطة الدولة لـ«الصحة» لا تتضمن بناء أي منشآت طبية جديدة/ مدى مصر ــ 18 سبتمبر 2022م

[11] أحمد عابدين/ خصخصة القطاع الصحي في مصر.. السيسي على خطى مبارك/ العربي الجديد ــ 11 فبراير 2016

[12]  محمد حمامة/ مستشفيات التكامل.. ملخص أزمة الصحة في مصر/ مدى مصر ــ 25 ديسمبر 2016

[13] ربيع أبو زامل/ مصر.. السيسي يصادق على قانون “التأمين الصحي” المثير للجدل/ وكالة الأناضول ــ 15 يناير 2018م// وكيلة “الأطباء” في مصر: تأثيرات “مرعبة” لقانون التأمين الصحي على الطبيب والمريض/ العربي الجديد ــ 18 نوفمبر 2017

[14] “كورونا في مصر”.. فواتير العلاج في المستشفيات الخاصة بمصر تبدأ من 30 ألف جنيه وتتعدى الـ100 ألف/ عربي بوست 23 مايو 2020.

[15] أحمد صبري/ تصل إلى 90 ألفا بالليلة.. عضو برلماني : أسعار إقامة مصابي كورونا بالمستشفيات الخاصة خرافية.. موضحا أنها قوة كبيرة تصل لـ1000 مستشفى بطاقة 40 ألف سرير ستحتاجها الوزارة في الفترة المقبلة/ المال نيوز الأحد, 31 مايو 2020

[16] محمد سعد عبدالحفيظ/المتاجرون فى صحة المصريين/ بوابة الشروق السبت 6 يونيو 2020

[17] أسماء الدسوقي/ متحدث الحكومة: تكلفة علاج كورونا في المستشفيات الخاصة ضرب من الجنون/ بوابة الشروق الأحد 31 مايو 2020

Editor P.S.

كاتب ومدون

جميع المشاركات

المنشورات ذات الصلة

الأكثر قراءة

اتبعنا

التصنيفات

آخر المقالات

Edit Template

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022