العلاقات المغربية الجزائرية بعد دعوة المغرب للحوار
شكَّل وصول الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى الرئاسة في 2019 فرصة لضخ دماء جديدة في العلاقات المغربية-الجزائرية، التي لم تعرف سوى الجفاء منذ عقود. بيد أن العلاقة في الحقيقة لم تتحسن، بل يُلاحظ تزايد مؤشرات التوتر والتصعيد تجاه المغرب؛ فمن ناحية، ارتفعت نبرة وحدة انتقاد السلطات الجزائرية للمغرب، علاوةً على رفضها المتكرر الاستجابة لأي حوار سياسي يفضي إلى تسوية الخلافات بين البلدين، رغم الإلحاح المغربي على ذلك؛ ومن ناحية ثانية، فإن الدعم الجزائري لجبهة البوليساريو يزيد من درجة التوتر، وهو ما ظهر من خلال الاحتضان الرسمي والإعلامي للتصعيد القائم منذ 21 أكتوبر 2020 من قِبل جبهة البوليساريو في معبر الكركرات على الحدود المغربية الموريتانية. وأبرز الملفات التي تسبب التوتر؛ هي: استمرار غلق الحدود البرية، وتغذية الانفصال في الصحراء، والتنافس حول الزعامة الإقليمية. كل هذا يجعل البلدين يعيشان على وقع حرب باردة طويلة الأمد، والجدير بالملاحظة هو قدرة الطرفين، طيلة عقود ماضية، على ضبط التوتر في حده الأدنى، بالمقارنة مع مناطق أخرى من الشرق الأوسط. فما هي خلفيات الصراع المغربي- الجزائري؟ وما هي مؤشرات التصعيد؟ وكيف يُمكن قراءة مستقبل العلاقات بعد دعوة ملك المغرب للحوار؟ تلك هي التساؤلات التي ستسعى تلك الورقة للإجابة عليها.. خلفيات الصراع: رغم الروابط الاجتماعية والدينية والثقافية العميقة التي تجمع الشعبين الشقيقين، المغربي والجزائري، ما زالت العلاقات بين البلدين تتأرجح بين المد تارة والجزر تارةً أخرى، فيما ظلت الحدود البرية إلى اليوم مغلقة على امتداد أكثر من عقدين، مما يكلف المنطقة المغاربية برمتها هدر المزيد من الفرص والإمكانات، في زمن زادت فيه التحديات، وتنامى التوجُّه الدولي نحو التكتلات الكبرى كسبيل لكسب معارك استراتيجية داخلية وأخرى خارجية. ويُعتبر المغرب والجزائر من الدول الوازنة داخل الاتحاد المغاربي، الذي تأسس في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي بموجب معاهدة مراكش، وهو الاتحاد الذي لم ينطلق بالشكل المطلوب بعد، رغم الطموحات الكبرى التي رافقت تأسيسه، والإمكانات الكبرى المتاحة لبلدانه، سواء على مستوى الموقع الاستراتيجي أو فيما يتعلق بالإمكانيات البشرية والطبيعية والاقتصادية المتوفرة. وما زال الجمود هو السمة الطاغية على مسار الاتحاد، وتبقى طبيعة العلاقات المغربية– الجزائرية على رأس العوامل المسؤولة عن هذا الوضع، الذي يُضاف إلى الأزمات التي ما فتئت تواجه النظام الإقليمي العربي بكل مكوناته منذ نهاية الحرب الباردة وتزيد من تعقيده أكثر. ورغم الإشكالات والمخاطر الجدية التي أصبحت تواجه المنطقة المغاربية برمتها في السنوات الأخيرة، سواء تعلق الأمر بتحدي الجماعات الإرهابية، وتنامي الهجرة السرية والتهريب، أو تعلق الأمر بتأزم الأوضاع الأمنية في ليبيا، وتزايد حدة التهافت الدولي والإقليمي على المنطقة، وتعلق الأمر كذلك باختلال موازين التفاوض مع دول الاتحاد الأوربي بصدد عدد من القضايا الاقتصادية والأمنية والسياسية. فإن ذلك لم يكن دافعًا بشكلٍ كافٍ، أو محفزًا على طي الخلافات والسعي إلى الاندماج والتكتل.[1] تنافس محموم بين الجارتين: بالرغم من كون التنسيق والتكامل بين حكومات المنطقة ضرورة تمليها مواجهة الأوضاع الأمنية بالمنطقة المغاربية، إلا أن هذا الأمر لم تستسغه الجزائر. فرغم التحولات التي شهدها العالم والتي تعيشها القارة، لا زالت القيادة الجزائرية تعد نفسها صاحبة نفوذ تاريخي لا يبلى في إفريقيا. وفي عام 2017 شكَّل انضمام المغرب إلى منظمة الاتحاد الإفريقي تحولًا إيجابيًا في سياسته الخارجية الإفريقية، بعد انسحابه من منظمة الوحدة الإفريقية عام 1984، بسبب اعترافها بجبهة البوليساريو. هكذا، لم يتوقف المغرب عن تمتين شراكاته الاقتصادية الإفريقية، بل كثَّف من مساعداته التقنية لعدد من دول القارة، بهدف النهوض الاقتصادي والتوسع التجاري، حتى بات المغرب يصطف ضمن الريادة، كفاعل قوي وأساسي في المجتمعين الإفريقي والدولي، حتى أن الولايات المتحدة اعترفت بسيادتها على منطقة الصحراء. كل هذا بالإضافة إلى مساهمة المغرب في حفظ السلم والأمن الإفريقي، من خلال قواته العسكرية ببعثات السلام الأممية. كل ذلك أمام أعين مستنكرة من قِبل الجزائر التي استشعرت خطورة المنافسة المغربية. مما زاد من حدة احتدام التنافس بين الجارتين للوصول إلى تحقيق أكبر قدر من التأثير والنفوذ في إفريقيا. وهي خطوة راهنت فيها المغرب على تغيير أسس المواجهة التقليدية، من أروقة الدبلوماسية ومجالات الأمن وساحات الصراع، إلى أسواق الاقتصاد وحقول التنمية. لاسيما بعد مآل الاتحاد المغاربي إلى الجمود والفشل بسبب نزاع الصحراء الغربية، وهو نزاع ذو خلفيات استراتيجية وأبعاد اقتصادية، لخصها بعض المحللين في طموح الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين في الوصول إلى المحيط الأطلسي عبر السيطرة على كيان هش يفتقر إلى مقومات الدولة. [2] مؤشرات التصعيد الجزائري ضد المغرب: وتتمثل في عدد من الوقائع والمواقف؛ أبرزها: على مستوى الخطاب السياسي والإعلامي؛ فالرئيس عبد المجيد تبون ما فتئ يعبِّر عن مواقف متشددة، فيما يخص القضايا الخلافية مع المغرب، وخصوصًا قضية الصحراء وغلق الحدود البرية منذ سنة 1994، وهي مواقف تكرَّرت في أكثر من مناسبة، لكنها صارت أقل استفزازًا، فيما يبدو، بعد توليه للسلطة رسميًا في 2019، لكنه ظل وفيًّا لها حتى الآن. ورغم أن الرئيس الجزائري عبَّر في أكثر من خطاب، أنه لا يحمل أي عداء للشعب المغربي، ويؤكد باستمرار أن الشعبين المغربي والجزائري أشقاء، إلا أنه لا يتردد في وصف المغرب بالبلد المحتل والمستعمر للصحراء الغربية. والمُلاحظ أن الخطاب المتشدد للرئيس الجزائري تجاه الوحدة الترابية للمغرب، يجد صداه لدى قيادة الجيش الجزائري بشكل أكثر حدة. والتصعيد الجزائري ضد المغرب بلغ مداه باحتضان الجزائر رسميًا لمناوشات جبهة البوليساريو ضد المغرب في المعبر الدولي-الكركرات، وهي الخطوة التي وفرت لها جبهة البوليساريو الغطاء العسكري، في حين وفرت لها الجزائر الغطاء السياسي والإعلامي، حين استضاف التلفزيون الجزائري الأمين العام للجبهة يوم 2 أكتوبر 2020 للقول إن أي مساس بأي صحراوي قطع طريق معبر الكركرات معناه العودة إلى الحرب، وفي يونيو 2021 زار الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون زعيم جبهة “البوليساريو” إبراهيم غالي الذي كان يخضع للعلاج من مضاعفات إصابته بكرونا في مستشفى عين النعجة بالعاصمة الجزائرية. على المستوى العسكري؛ اعتبرت الجزائر إعلان المغرب التخطيط لبناء قاعدة عسكرية بإقليم جرادة (شرق المملكة) لإيواء الجنود تصعيدًا ضدها، ورغم عدم تأكيد السلطات الجزائرية إذا ما كانت سترد ببناء قاعدة أو قاعدتين عسكريتين على حدودها الغربية، في إطار سياسة المعاملة بالمثل، إلا أن وسائل إعلامية جزائرية أكدت وجود مثل هذا القرار دون أن تنفي ذلك السلطات العسكرية أو السياسية الجزائرية. على المستوى الدبلوماسي؛ عرفت العلاقة بين البلدين توترًا دبلوماسيًا، إثر تصريحات عابرة للقنصل المغربي في وهران وصف فيها الجزائر بالبلد العدو، إثر استقباله مواطنين مغاربة في 13 مايو 2020 أمام مقر القنصلية.[3] وأدت التراشقات الإعلامية بين الجانبين إلى تصاع حدة التحركات الدبلوماسية، والتي انتهت بإعلان الجزائر قطع علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب. تصاعد حدة التوتر: تصاعدت حدة التوتر في العلاقات بين البلدين مؤخرًا بعد تقديم ممثِّل المغرب الدائم لدى الأمم المتحدة، عمر هلال، ورقة إلى أعضاء حركة عدم الانحياز يدعوهم لمعالجة ما…