الأزمة السودانية- الإثيوبية وتأثيراتها على اتفاق جوبا وحرب التيجراي ومواقف دول الجوار
يبرز في المشهد السياسي السوداني والإثيوبي هذه الفترة مجموعة من المشكلات الأمنية والاقتصادية، والتي تؤثر بدورها على الوضع الداخلي وما يشمله من تعقيدات تواجه النظم الحاكمة في الدولتين. هذا وتبدو المواجهات المسلحة بين الجيش السوداني والميليشيات المدعومة من القوات الإثيوبية، أبرز عناوين المشهد الأمني في كلٍّ من السودان وإثيوبيا في الوقت الحالي، لاسيما بعد التصعيد الذي نشب على الحدود بين البلدين، بعد أن استعاد السودان منطقة الفشقة الواقعة بجوار الحدود الإثيوبية، والتي لابد أن يكون لها انعكاسات مباشرة على الأوضاع السياسية الداخلية في كلا البلدين. فبينما تحاول إثيوبيا امتصاص غضبة السودان وعدم الدخول في حرب ممتدة لتحييد موقفها من حرب التيجراي، تحاول السودان الاحتفاظ بالخارطة، التي رسمها بعد استرداده لغالبية أراضيه التي وقعت تحت سيطرة إثيوبيا على مدار عقود، وتبقى الأزمة متفجرة لبعض الوقت، لأن المعادلة الصفرية الظاهرة لن تُمكِّن أي جهود وساطة من التوصل إلى تسوية مرضية. فماذا كانت خلفيات الصراع؟ وكيف تطور؟ وما تأثيره على اتفاق السلام السوداني وحرب التيجراي الإثيوبية؟ وما هي مواقف دول الجوار منه؟ وما هي السيناريوهات المُتوقعة لمستقبله؟ تلك هي التساؤلات التي ستسعى هذه الورقة للإجابة عليها خلال السطور القليلة القادمة.. خلفيات الصراع وتطوره: شهدت العلاقات السودانية- الإثيوبية تصعيدًا لافتًا منذ نوفمبر 2020؛ بعد اجتياح الجيش السوداني لمنطقة سودانية متاخمة للحدود مع إثيوبيا كانت تحتلها ميليشيات إثيوبية لأكثر من ربع قرن. وقد جاء التصعيد؛ بعد هجوم لهذه الميليشيات المعروفة محليًا باسم “الشفتة” من قومية الأمهرا في نوفمبر 2020 على موقع للجيش السوداني أسفر عن مقتل ضابط برتبة رائد وأسر ضابط صف، الأمر الذي خلق حالة من الغضب وسط السودانيين، بعد أن تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي صورة العسكري السوداني الأسير محمولًا في سيارة ومحاطًا بأفراد من الميليشيا الإثيوبية سيئة السمعة وسط المزارعين السودانيين وسكان المنطقة الحدودية مع إثيوبيا. الغريب في التصعيد هو حدوثه بعد عقدين من التفاهم والانسجام بين الخرطوم وأديس أبابا، فبالرغم من اجتياح عصابات الشفتة لمنطقة الفشقة السودانية منذ منتصف التسعينيات استغلالًا لضعف موقف الخرطوم بعد محاولة الاغتيال الفاشلة للرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك في أديس أبابا، إلا أن العلاقات السياسية بين البلدين لم تتعرض لتصعيد بسبب احتلال منطقة الفشقة، حيث كان الإثيوبيون يقولون إنه ليس نزاعًا بين دولتين، ويعترفون بتبعية المنطقة للسودان، ربما بسبب التوازنات السياسية حينها التي جعلت السودان في مواجهة عسكرية مباشرة مع إريتريا والمعارضة السودانية التي انطلقت من أسمرا. كما أن العلاقات بين الخرطوم وجيرانها المصريين والأوغنديين، إضافةً إلى حرب الجنوب داخليًا، كانت في أسوأ حالاتها. الأمر الذي جعل نظام البشير يتغاضى عن الانتهاكات الإثيوبية في الفشقة، وطرد سكانها ودخول الجيش الإثيوبي إليها بدباباته ومدرعاته. هذا الانسجام في العلاقات السودانية- الإثيوبية استمر حتى بعد الإطاحة بالبشير ونظامه، حيث جاءت الثورة برئيس وزراء يرتبط بصلات ممتازة مع القادة الإثيوبيين بحكم عمله في المنظمات الدولية والإقليمية وإقامته في إثيوبيا لفترة طويلة. بالإضافة إلى دخول إثيوبيا مُمثلة في رئيس وزرائها آبي أحمد كوسيط رئيسي بجانب الاتحاد الإفريقي بين المدنيين والعسكريين، بعد مجزرة فض الاعتصام والأزمة السياسية الداخلية في السودان عام 2019. وقد جعل الاتفاق السياسي بين المكونين المدني والعسكري في السودان من آبي أحمد شخصية لامعة ومحبوبة وسط المدنيين السودانيين، لكن التطورات اللاحقة قلبت هذه الشعبية إلى النقيض تمامًا. والجديد في الموقف الرسمي الإثيوبي؛ حديثه هذه الأيام عن دخول السودان لأراضٍ إثيوبية، وحديثه أيضًا عن اتفاق 1972 الذي يلزم الجانبين بالوصول لاتفاق ودي حول منطقة الفشقة. وهو موقف مختلف من اللهجة المهادنة التي تميز بها القادة الإثيوبيون في السابق عند الحديث عن منطقة الفشقة، التي لم يكن هناك خلاف حول تبعيتها للسودان. وربما كان سبب هذا التصعيد في اللهجة الرسمية الإثيوبية؛ الرد القوي وغير المتوقع من الجيش السوداني باستعادته المنطقة في فترة قصيرة، وطرد المستوطنين والميليشيات منها بعد مناوشات ومعارك قصيرة. وهذا الموقف يمكن تفسيره أيضًا في سياق السيطرة المتنامية لقيادات من قومية أمهرا – المعروف أطماعها التاريخية في شرق السودان- في الحكومة الفيدرالية في أديس أبابا، بعد الإطاحة بكثير من قيادات الحكومة من قومية تيجراي.[1] الأزمة الحدودية واتفاق جوبا: رغم التأييد الشعبي والدعم السياسي الذي يحظى به الجيش السوداني لخوض هذه العمليات العسكرية، بيد أن المخاوف تزداد من تأثير ذلك على الوضع الأمني الداخلي الهش في ظل معارضة وتحفظ بعض القوى السياسية المدنية من التورط في حرب كبيرة لا يحتملها الوضع الانتقالي السياسي، واستنزاف الموارد الاقتصادية الشحيحة التي تحتاجها البلاد لترميم الأزمة الاقتصادية التي تمر بها. وبعد توقيع اتفاق سلام بين الحكومة الانتقالية والجبهة الثورية التي تضم حركات تحمل السلاح وتجمعات جهوية في عاصمة دولة جنوب السودان جوبا مطلع أكتوبر 2020، حققت عملية السلام التي هدفت إلى إنهاء الحروب في مناطق النزاعات؛ بعض النجاحات لكنها غير كافية لتحقيق الاستقرار السياسي خلال الفترة الانتقالية، حيث ما تزال فرص انضمام أطراف مسلحة إلى العملية السلمية بعيدة المنال، مثل حركة تحرير السودان في ولاية جنوب كردفان جنوبي البلاد بقيادة عبد العزيز الحلو، وحركة جيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور في دارفور. وموقف تلك الأطراف من الأزمة على الحدود؛ يثير المخاوف في دارفور وجبال النوبة، حيث أن تحفز الأوضاع في البلاد تلك الحركات المسلحة من أجل الانقضاض على السلطة، أو السيطرة على تلك المناطق، فضلاً عن احتمالية إعلان دول أو كيانات مستقلة عن دولة السودان، وتحقيق أهدافها بقوة السلاح في ظل انشغال القوات المسلحة بترتيبات المرحلة الانتقالية. كما أن هناك خطر آخر، يتمثَّل في غموض موقف حكومة جنوب السودان من الوضع في منطقة أبيي المتنازع عليها بين دولتي السودان وجنوب السودان. ويُخشى من أن تؤدي معارضة الحركات المسلحة لعرقلة الاتفاق، في حال لم تستطع الحكومة الانتقالية المرتقبة استيعاب هذه الحركات، ما يزيد من احتمالية أن تواجه الحكومة الانتقالية باستمرار حركات التمرد المسلح وتعقيد المشهد السياسي. وفي هذا الإطار فإن الحركات المسلحة تسعى للحصول على ضمانات تؤكد جدية اتفاقات السلام، وما يترتب عليه من سلام شامل يُعالج بشكل جذري مسببات الحرب، فالحركات تخشى من تكرار تجارب سابقة. وهكذا فإن موقف الحركات المسلحة وبشكلٍ خاص حركة الحلو في جبال النوبة ونور في دارفور يتوقف على جدية الحكومة، وكيفية إدارتها لملف الحرب والسلام. أما حركة تحرير السودان بقيادة مالك عقار، وبقية الحركات المسلحة لا تبدو بعيدة عن توجهات ورؤى تنظيمات قوى الحرية والتغيير، بيد أن الحركة التي يقودها عبد العزيز الحلو بمقدورها أن تمثل خطرًا حقيقيًا على تنفيذ الاتفاق واستقرار البلاد خلال المرحلة الانتقالية في حال لم تشعر بجدية كافية في التعامل مع مطالبها خلال الفترة الانتقالية. وتطالب حركة الحلو التي تنشط في منطقة جبال النوبة بجنوب كردفان المحاذية لدولة جنوب السودان بحكم ذاتي، وترفض أي تفاوض لا يشمل هذه النقطة…