حال الأحزاب السياسية المصرية: إكراهات الواقع وآفاق المستقبل
الأحزاب السياسية في مصر، وكما يظهر في ظل السنوات العشر الأخيرة، كيانات غير وظيفية؛ ليس لها وظيفة محددة تقوم بها في النظام السياسي؛ لخدمة المجتمع، إنما تقتصر وظيفتها فقط على تبرير النظام القائم، واعطائه شكل ديمقراطي زائف. فما الذي أفقد الأحزاب السياسية في مصر جدواها، وحولها فقط إلى قطعة ديكور. الدور الشكلي للأحزاب السياسية في مصر، يصاحبه ظاهرة أخرى، وهي أن هذه الأحزاب تعيش في دوامة لا تنتهي من الخلافات الداخلية، خلافات تظهر لعين الرائي من الخارج محض عبس. السؤال هنا أي واقع تعيشه الأحزاب السياسية في مصر، وما مستقبلها المتوقع في ظل معطيات الراهن. يوجد في مصر 87 حزب[1]، فضلا عن الأحزاب التي لا تزال تحت التأسيس، معظمها أحزاب صغيرة لا تتمتع بجماهيرية ولا يعرفها الشارع. أما الأحزاب الكبيرة فترجع قوتها إما إلى تاريخها العريق حتى وإن كانت فقدت قوتها وفاعليتها في الواقع، وإما ترجع قوتها إلى وجود رموز سياسية في صفوفها، هذه الرموز هي مصدر قوتها الحقيقي وسر جاذبيتها ومفتاح بقائها على الساحة، وإما تكتسب قوتها من دعم السلطة السياسية لها، ما يوفر لها موارد مادية تمكنها من اجتذاب الطامحين، ويتيح لها هامش للحركة أكبر من الهامش المتاح لغيرها من الأحزاب. تبقى الأحزاب السياسية المصرية بدون اختبار فعلي يمكن أن يقيس قدرتها على الاستمرار بدون الاعتماد على ماشي لم يعد قائما، أو قيادة كاريزمية، أو دعم السلطة السياسية القائمة. انعكس واقع الأحزاب على موقف الشارع منها؛ فهي لا تتمتع بثقة الشارع المصري، فبحسب استطلاع أجراه “الباروميتر العربي” قبل عامين عن “الأحزاب السياسية وتحدي الثقة المزدوج” في عدد من الدول العربية من بينها مصر، وجد أن ثقة المصريين في أحزابهم لا تتعدى 21%، وهي النسبة الأدنى مقارنة بمقدار ثقتهم في جميع المؤسسات الأخرى، سواء المستقلة أو التابعة للدولة مثل الوزارات أو الجيش أو الشرطة أو غيرها[2]. الاستنتاج ذاته يؤكده “استطلاع أجرته الأكاديمية في كلية الآداب قسم اجتماع جامعة القاهرة أمل حسن فراج عن “الأحزاب السياسية في المجتمع المصري… دراسة سوسيولوجية حول تصورات المصريين عقب ثورة يناير 2011″ توصلت إلى أن 63 في المئة تقريباً من المصريين ليست لديهم انتماءات حزبية أو معلومات عن الأحزاب”[3]. مشكلات هيكلية وانقسامات مستمرة: أبرز ملامح الأزمة الهيكلية للأحزاب المصرية هو التوالد المستمر للانقسامات؛ الانقسام حول الموقف من انتخابات الرئاسة: في 12 نوفمبر 2023، صدر عن 9 أحزاب من أصل 12 حزب في الحركة المدنية، بيانًا، أكدوا فيه على عدم المشاركة في انتخابات الرئاسة، وعدم الدفع بمرشح[4]، في الوقت نفسه كان فريد زهران، رئيس حزب المصري الديمقراطي، أحد أحزاب الحركة، يدشن حملته الانتخابية كمرشح رئاسي. ردًا على البيان الصادر عن الحركة، قرر حزب المصري الديمقراطي ومعه حزب العدل، “إرسال خطاب داخلي لأحزاب الحركة المدنية أعلنوا فيه رفضهم لما أعلنته بعدم الدفع بمرشح للانتخابات الرئاسية يمثلها، وأعلموهم بقرار تجميد الحزبين من الحركة تجنبًا لمزيد من الشقاق”[5]. أفرز الخلاف الخاص بانتخابات الرئاسة تجميد حزبين لعضويتهما بالحركة، لكنه لم يكن الخلاف الأول، فقد سبقه اختلاف مواقف أحزاب الحركة من زيارة حمدين صباحي للرئيس السوري بشار الأسد، وتباين مواقف أحزاب الحركة ورموزها من الخلاف بين القيادي الناصري ووزير القوى العاملة السابق كمال أبو عيطة، والناشر الليبرالي هشام قاسم بعد انتقاد الأخير للوزير السابق، بينما دعم حزب الكرامة الناصري موقف كمال أبو عيطة، رأت أحزاب أخرى بالحركة أن موقف أبو عيطة متشدد، وأن الخلافات فيما بينهم لا يمكن أن تؤدي إلى اللجوء للقضاء، كما أن قرار أحمد طنطاوي الترشح في انتخابات الرئاسة 2023، الذي أعلنه من بيروت دون مناقشة الأمر مع الحركة كان أحد الخلافات التي طالتها[6]. ليس تفكك التحالفات هو الشكل الوحيد للتشظي الذي تعاني منه الأحزاب في مصر، فالانقسامات الداخلية في الحزب الواحد، مشهد مكرر في الحياة السياسية المصرية؛ نموذج حزب الدستور: بدأت الأزمة في 20 أبريل 2024، مع صدور قرار بفصل ثلاثة من أعضاء الهيئة العليا؛ هم: محمد حمدون، مدير الشؤون القانونية، وريهام الحكيم، أمين التنظيم والعضوية المركزية، ومحمد عادل، أمين الحزب في محافظة الجيزة، فضلا عن تجميد نشاط عدد من الأعضاء داخل الهيئة. اندلع الخلاف بسبب مشاركة الحزب في التيار الليبرالي الحر، الذي تأسس في يونيو 2023، قبل أن ينتهي التصويت داخل الحزب لصالح الانضمام إلى التيار، وكانت رئيسة الحزب منذ يوليو 2022 جميلة اسماعيل تميل مسار الانضمام. سبب آخر للخلاف، وهو الموقف من ترشح جميلة اسماعيل للانتخابات الرئاسية، التي طلبت من الهيئة العليا إصدار قرار يطالبها بالترشح في الانتخابات الرئاسية 2023، وهو ما يستلزم اجتماع الجمعية العمومية للحزب، حاولت اسماعيل هندسة نتيجة تصويت الجمعية العمومية للحزب، ومع فشل محاولتها تلك، وتصويت الجمعية العمومية برفض ترشح اسماعيل، اعتبرت اسماعيل أن إصرار بعض أعضاء الهيئة العليا للحزب اجتماع الجمعية العمومية كشرط لترشحها فيه تحدي لسلطتها، من ثم قررت معاقبة تسعة من أعضاء الهيئة العليا الذين أصروا على عقد جمعية عمومية كاملة يحضر فيها ما يقارب 750 عضو محدث بياناتهم، فقامت بفصل ثلاثة وتجميد عضوية ستة آخرون، كذلك قررت تجميد الهيئة العليا للحزب، في نوفمبر 2023[7]. ليست فقط الانقسامات هي التي تعصف بالأحزاب في مصر، بل الفساد أيضًا، نشير هنا إلى ما حدث في مقر حزب الوفد بالقاهرة، في يوليو 2024، حيث تم تسريب مقطع فيديو، لمجموعة من قيادات الحزب وهم يتفقون على صفقة “تهريب آثار” مصرية، ظهر في المقطع المنتشر مجموعة من قيادات الحزب، هم اللواء سفير نور، وأحمد جمعة، وعبد الوهاب محفوظ، والثلاثة من مساعدي رئيس حزب الوفد عبد السند يمامة، أثناء اتفاقهم والحديث عن “الصفقة”[8]. عقب انتشار الفيديو قررت لجنة التنظيم المركزية والشؤون القانونية بالحزب فصل وإسقاط عضوية قياديين بالحزب، وإحالة الواقعة للنيابة العامة لمباشرة الإجراءات القانونية ضد المتورطين[9]. طبيعة البيئة التي تعمل فيها الأحزاب المصرية: تعمل الأحزاب السياسية المصرية في بيئة معادية، وفي ظل وجود أجهزة أمنية نشطة ومتربصة؛ يظهر ذلك في سيف الحبس المسلط على رقاب كل من يظهر بوادر حركة أو يسعى لتحريك المياه الراكدة. يتجلى ذلك بشكل واضح في حالة السياسي البارز أحمد الطنطاوي، الذي قرر منافسة السيسي في انتخابات الرئاسة، نهاية 2023، فأجهضت الأجهزة الأمنية محاولاته “جمع التوكيلات الشعبية اللازمة لترشحه وتوثيقها في مكاتب الشهر العقاري الحكومية[10]“، وهو الآن يقضي “حكما بالسجن لمدة عام[11]، مع الحرمان من الترشح للانتخابات النيابية لمدة 5 سنوات بعد اعتبار المحكمة طلبه لجمع توكيلات شعبية غير موثقة “غير قانوني”[12]. سياسة الإقصاء تكررت كذلك في حالة الناشر هشام قاسم، الأمين العام للتيار الحر المعارض، الذي أصدرت المحكمة الاقتصادية المصرية، في 16 سبتمبر 2023، حكما بسجنه 6 أشهر مع النفاذ؛ بعد اتهامه “بسب وقذف وزير سابق، ثم لاحقا بالاعتداء اللفظي على أفراد شرطة في مركز للشرطة بعد إحضاره إليه”، وهو ما اعتبره مراقبون تنكيل سياسي؛ خاصة…