
تونس 2024: بين الانتخابات والاحتجاجات
شهدت تونس في 6 أكتوبر 2024 انتخابات رئاسية هي الثالثة منذ قيام الثورة، وهذه الانتخابات هي الأولى بعد 25 يوليو 2021، تاريخ إعلان الرئيس قيس سعيد حزمة من الإجراءات الاستثنائية، شملت تعليق العمل بالدستور وتجميد عمل البرلمان وحل الحكومة. بناءً على تلك الإجراءات، جمع سعيد كل السلطات بين يديه وأدار البلاد بمراسيم رئاسية منح بمقتضاها لنفسه سلطات تنفيذية وتشريعية مُطلقة، لا رقابة عليها، وشكَّل لاحقًا حكومة اختار هو رئيسها ووزراءها، تعمل تحت إشرافه وتُنفِّذ برنامجه. وجاءت هذه الانتخابات بعد ثلاثة أعوام من السيطرة الكاملة لسعيد على الحكم، أحدث خلالها تغييرات جوهرية على النظام السياسي، وأعاد تشكيل المشهد العام في البلاد، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. وبالتزامن مع تلك الانتخابات؛ شهدت البلاد أيضًا موجة من الاحتجاجات الشعبية عبَّرت عن استياء واسع من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مما يعكس الانقسامات العميقة في المجتمع التونسي. ومؤخرًا أعلنت الهيئة العُليا المُستقلة للانتخابات في تونس، مساء الإثنين 7 أكتوبر 2024، فوز المُرشح قيس سعيد بولاية رئاسية ثانية بنسبة بلغت 90.69% من أصوات الناخبين، في ظل جدل واسع مُتعلّق بنسب المشاركة، ونزاهة الانتخابات، وشفافيتها، والإجراءات التي رافقتها، وتداعياتها المُحتملة على المشهد السياسي التونسي. أولًا: الخلفية التاريخية والسياسية للانتخابات الرئاسية في تونس.. الانتخابات في تونس تتمتَّع بخلفية تاريخية وسياسية غنية تعكس تطور البلاد من الاستعمار إلى الدولة الحديثة، ثم التحول الديمقراطي. بعد الاستقلال عن فرنسا في عام 1956، شهدت تونس نظامًا سياسيًا بقيادة الحزب الواحد تحت حكم الحبيب بورقيبة، الذي حكم البلاد حتى 1987 حين تم الإطاحة به بانقلاب غير دموي قاده زين العابدين بن علي. خلال فترة بن علي، كانت الانتخابات شكليّة وغير ديمقراطية، حيث سيطر الحزب الحاكم على المشهد السياسي واستمرت القمعية السياسية. في عام 2011، جاءت الثورة التونسية كجزء من “الربيع العربي”، وأسقطت نظام بن علي، ما فتح المجال أمام انتقال ديمقراطي حقيقي. منذ ذلك الحين، أصبحت الانتخابات التونسية تُجرى بشكل تعددي وشفاف، حيث كانت انتخابات 2011 هي الأولى التي أجريت بحرية، وأنتجت دستورًا جديدًا في 2014. شهدت تونس عدة انتخابات برلمانية ورئاسية بعد الثورة، وتميَّزت بالتنافس بين الأحزاب السياسية المختلفة، بما في ذلك الإسلاميين والعلمانيين، مما جعلها نموذجًا ديمقراطيًا فريدًا في المنطقة. ومع ذلك، تواجه تونس تحديات في ترسيخ هذه الديمقراطية، وسط توترات سياسية واقتصادية مستمرة. 1. الثورة التونسية والتحول الديمقراطي وصعود قيس سعيد: كانت تونس من أولى الدول التي شهدت شرارة ثورات الربيع العربي في ديسمبر 2010، عندما قام محمد البوعزيزي، وهو بائع متجول، بإحراق نفسه احتجاجًا على الظروف المعيشية الصعبة وسوء معاملة السلطات. تسببت هذه الحادثة في إشعال موجة من الاحتجاجات الشعبية التي أدت في النهاية إلى هروب الرئيس زين العابدين بن علي في يناير 2011 بعد 23 عامًا من الحكم السلطوي.[1] عقب سقوط النظام، دخلت تونس في مرحلة انتقالية مهمة شهدت تبني دستور جديد في عام 2014، اعتُبر أحد أبرز الإنجازات الديمقراطية في المنطقة. كما نظمت انتخابات رئاسية وبرلمانية حرة ونزيهة، مما جعل تونس نموذجًا للتحول الديمقراطي في العالم العربي. إلا أن هذه المرحلة الانتقالية لم تكن سهلة، حيث واجهت البلاد تحديات اقتصادية كبيرة، إلى جانب التوترات السياسية بين القوى العلمانية والإسلامية، وخاصة حزب النهضة الإسلامي الذي لعب دورًا مهمًا في الفترة الانتقالية.[2] وشهدت الانتخابات الرئاسية التونسية لعام 2019 مفاجأة كبيرة بفوز قيس سعيد، وهو أكاديمي مستقل كان غير معروف على نطاق واسع في الساحة السياسية التونسية. انتخب سعيد بنسبة تجاوزت 70% من الأصوات، ما يعكس رغبة الشعب التونسي في التغيير والابتعاد عن النخب السياسية التقليدية التي كانت في الحكم منذ الثورة. قدم سعيد نفسه كمنقذ للشعب، واعدًا بمحاربة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية. 2. قيس سعيد وخلفيات الأزمة السياسية في تونس: باعتباره شخصًا مستقلًا، اضطر سعيد إلى العمل مع برلمان تسيطر عليه أحزاب المعارضة. ومن بين هذه الأحزاب كان حزب النهضة، الذي فاز بمقاعد أكثر من أي حزب آخر، وكان لاعبًا رئيسيًا في الإصلاح في تونس منذ الإطاحة بالحاكم الدكتاتوري زين العابدين بن علي في عام ٢٠١١. وباعتبارهم مُمثلين منتخبين شعبيًا، اكتسبت هذه الأحزاب البرلمانية أيضًا الشرعية لقيادة الأمة. وكان قد أسَّس دستور تونس ٢٠١٤ لنظام شبه رئاسي، حيث ينتخب البرلمان رئيس الوزراء، الذي يختار الوزراء ويقود الحكومة ورئاسة الدولة. وكان هذا الترتيب بمثابة رد مباشر على تجاوزات السلطة التنفيذية وممارسات الإفلات من العقاب التي ميَّزت حكم بن علي الذي دام ٢٤ عامًا. إلا أن قيس سعيد لم تعجبه مع تلك الترتيبات لتقاسم السلطة، فأعلن حالة الطوارئ وعلَّق عمل البرلمان في ٢٥ يوليو ٢٠٢١، حيث أرسل الدبابات للقيام بذلك. وأقال رئيس الوزراء هشام المشيشي وسيطر على مهام الحكومة والدولة –في مخالفة مباشرة للدستور– وبدأ يحكم بمراسيم. وفي أكتوبر ٢٠٢١، قام سعيد بتعيين رئيسة الوزراء نجلاء بودن لتكون مسؤولةً أمامه دون موافقة البرلمان. وقد واصل بعد ذلك هجومًا منهجيًا ومستمرًا على جميع المؤسسات الديمقراطية التي وصلت إليها تونس بشق الأنفس. وعندما عقد أغلبية أعضاء البرلمان اجتماعًا عبر الإنترنت في مارس ٢٠٢٢ (أثناء أزمة كوفيد) للتصويت على شرعية إجراءات الطوارئ التي اتخذها سعيد، قام بحل البرلمان رسميًا. واعترافًا بأن الدستور كان عائقًا أمام أسلوبه في الحكم، قام سعيد بتعليقه في سبتمبر ٢٠٢١. وأشرف على كتابة دستور جديد في عام ٢٠٢٢ أعاد إنشاء نظام رئاسي، حيث يشغل الرئيس منصب رئيس الدولة والحكومة. واعتبرت أحزاب المعارضة أن تصرفات سعيد كانت غير قانونية وغير شرعية، وقاطعت الاستفتاء على الدستور الذي لم تتجاوز نسبة المشاركة فيه ٣1%. ومنحت الانتخابات البرلمانية اللاحقة، التي قاطعتها المعارضة مرة أخرى، لسعيد البرلمان الذي كان يريده. وقام سعيد بحل مجلس القضاء الأعلى المهني في فبراير ٢٠٢٢، واستبدله بهيئة مُعينة. وفي يونيو، أصدر مرسومًا يسمح للرئيس بإقالة وتعيين القضاة من جانب واحد، وهي السلطة التي يُقنِّنها دستور ٢٠٢٢ المُثير للجدل. وفي الفترة التي سبقت الاستفتاء على الدستور، استبدل سعيد اللجنة التنفيذية للهيئة العليا المُستقلة للانتخابات التي تحظى بالاحترام. تميز التصويت على الاستفتاء لاحقًا بانعدام الشفافية والأخطاء الحسابية وعدم قدرة معارضي الاستفتاء على القيام بحملاتهم بحرية. ومع شعوره بعدم القدرة على إظهار شفافية أو نزاهة الانتخابات الرئاسية، فقد منع سعيد بالفعل مُراقبي الانتخابات الدوليين من مراقبة انتخابات ٢٠٢٤. وقام سعيد بتسييس الجهات الأمنية للدولة التي تنفذ بفعالية أجندته السياسية ضد المنافسين المحليين، وفي نوفمبر ٢٠٢٣، طرح برلمان سعيد مشروع قانون لتقييد المجتمع المدني بشدة في محاولة لتقييد الفضاء الديمقراطي بشكل أكبر. من خلال حل البرلمان، قام بإلغاء الحصانة القانونية للمشرعين وتم سجن العشرات، بعضهم بعد محاكمات عسكرية.[3] وفي ظل هذا السياق، جاء الإعلان عن الانتخابات الرئاسية لعام 2024 كحدث بالغ الأهمية، في وقت تستمر فيه الأزمة السياسية والاقتصادية. ويأتي قرار الرئيس قيس سعيد بحل البرلمان التونسي في ظل سياق مضطرب تعيشه تونس على كافة…