دلالات زيارة السيسي فرنسا.. توقيتها وانعكاساتها الإقليمية
جاءت زيارة عبد الفتاح السيسي إلى فرنسا “7-9 ديسمبر” في وقت بالغ الحساسية، في ظل هجوم موسع وعنصرية مقيتة تمارسها إدارة الرئيس ايمانويل ماكرون، ضد المسلمين في فرنسا، وثوابت الدين الاسلامي بصفة عامة، من اهانة الرسول برسوم كاريكاتيرية مسيئة، وحملات اعتقال ودهم للمساجد والمراكز الإسلامية وتضييق على المحجبات، وهو ما استثار غالبية الشعوب العربية والإسلامية، ضد فرنسا، معبرة عن ذلك بحملات مقاطعة للمنتجات الفرنسية، ومقاطعة من قبل السلطات السياسية في الدول، ولكن بشكل غير معلن، وجاءت الزيارة على عكس المتوقع، من قبل النظام المصري، وكأنه يمد يد العون لمن يهين الإسلام والمسلمين، وهو ما مثل طعنة من قبل نظام السيسي لعموم الشعوب الإسلامية. زيارة مبرمجة سابقا وتأتي زيارة السيسي إلى فرنسا بعد نحو عامين من لقاء جمع ماكرون والسيسي في العاصمة المصرية القاهرة، حيث اختلفا خلاله حول قضايا تتعلق بحقوق الإنسان وأوضاعها في مصر. وعببرت الزيارة عن حاجة كلا من ماكرون والسيسي لبعضهما البعض، تلك الزيارة التي كانت مبرمجة منذ فترة طويلة، إلا أن الإعلان عنها فاجأ الجميع، خصوصا نشطاء المنظمات الحقوقية الفرنسية والدولية، بما أن باريس تكتمت عن موعدها حتى قبل أربعة أيام من حدوثها، إذ تدرك أن زيارة من هذا القبيل هي تزكية مجانية لجرائم دكتاتور مصر. وحتى ساعات قليلة قبل نزول الطائرة الرئاسية المصرية في فرنسا، نددت عدة منظمات حقوقية فرنسية بمدّ “السجاد الأحمر” للسيسي في باريس. لكن الرئيس الفرنسي المتعجرف تحدّى، مرة أخرى، الجميع، وأصرّ على استقبال ضيفه، غير المرحّب به شعبيا، على الرغم من كل الاحتجاجات والاعتراضات التي رافقت زيارته، ليس فقط من أجل صفقات السلاح التي حاول ماكرون أن يبرّر بها سكوته عن جرائم ضيفه في مجال حقوق الإنسان، فقيمة الصفقات المبرمة في هذا المجال لم تتعدّ، حسب وسائل إعلام فرنسية، 1.4 مليار يورو خلال السنوات الماضية، وإنما لأسباب أخرى في نفسه! أهداف الزيارة وجاءت الزيارة لتحقيق العديد من الأهداف من قبل الطرفين الفرنسي والمصري: -دعم خيار السلطوية الاستبدادية لماكرون قبيل الانتخابات الفرنسية: بعد سلسلة من السياسات الاستبدادية من قبل ماكرون، باتت كثير من وسائل الإعلام الفرنسية، تلقبه بـ”الدكتاتور الصغير” و”الدكتاتور الناعم”، وتزيّن رسومه الساخرة، وهو يرتدي بزّة عسكرية، أغلفة مجلات فرنسية معروفة، مثل “لوكوييه أنترناسيونال”، ويتهمه كتاب الافتتاحيات بتحويل الجمهورية الفرنسية في عهده إلى “دكتاتورية قانونية”، كما جاء في افتتاحية صحيفة ليمانيتي، الناطقة باسم الحزب الشيوعي الفرنسي الصادرة يوم وصول السيسي إلى باريس، أو كما جاء في أسبوعية لوبوان التي كتبت قبل يومين مشكّكة “يبدو أن فرنسا تعيش الآن في ظل نظام استبدادي”! وذلك وفق ما يذهب اليه الباحث المغربي علي أنوزلا، بـ:العربي الجديد”، بمقاله ” السيسي يستنجد بـ “دكتاتور” فرنسا الناعم”. ولعل أبرز ما يكمن وراء سر التقارب بين ماكرون والسيسي، هو تمسّكهما بالسلطة، فماكرون يُعدّ لها، بخبثٍ ومكر، انتخابياً، والسيسي يستعد لمواجهة تقلباتها متوجّساً من تقلب الإدارة الأمريكية الداعمة له طوال سنوات خكم ترامب، الذي يودع البيت الأبيض حاليا. فماكرون ومنذ وصوله إلى الحكم، أظهر، القادم إلى السياسة من عالم المال والأعمال، احتقارا كبيرا للطبقات الشعبية الكادحة، وأطلق تصريحاتٍ مستفزّة ضد مواطنيه، وواجه بعجرفةٍ وعنف شديدين احتجاجات أصحاب “السترات الصفراء”، وتعنّت في الاستجابة لمطالب حركة الإضرابات ضد تعديل قانون التقاعد. ويوما عن يوم، تتصاعد الاتهامات ضده برفض الأخذ بعين الاعتبار توجّه الرأي العام الرافض والمشكك في كثير من سياساته التي لا تخدم سوى الطبقات الميسورة داخل المجتمع الفرنسي. وأخيرا، باتت الصحافة العالمية تشير إلى تصاعد القلق داخل المجتمع الفرنسي من التحول الأمني الذي اتخذه ماكرون في بلاده، وتجسّد في مشروع قانون “الأمن الشامل”، المثير للجدل الذي قسم الفرنسيين إلى من يؤمن بقيم الديمقراطية ويجد نفسه في مواجهة عنف الشرطة في الشارع، ومن يعارضها ويجد نفسه مصطفّا في صف ماكرون. وقُبيل الإعلان عن زيارة السيسي باريس، فتح ماكرون على نفسه جبهة معارضة واسعة في العالم الإسلامي، عندما أطلق تصريحاته المستفزّة حول الإسلام، وطرح مشاريع قوانينه العنصرية حول ما يصفها بـ “الانعزالية الإسلامية”، وعرّض بلاده لحملة مقاطعة اقتصادية شعبية عمت أكثر من بلد إسلامي، من جاكارتا إلى طنجة، جعلته يتودّد إلى الرأي العام الإسلامي للتخفيف من وطأتها. بجانب فشله الذريع في تدبير أزمة وباء كورونا وتداعياتها التي ما زالت تتفاعل سلبا، مؤثرة على الحياة الاقتصادية والاجتماعية للفرنسيين، هي التي دفعت ماكرون إلى الاستنجاد بالسيسي، في وقت يدرك فيه أن نظام السيسي يواجه سيلاً من الانتقادات بشأن حالة حقوق الإنسان في مصر، ويعبر واحدةً من أشد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي قد تنسفه مع أول انفجار اجتماعي يهزّ البلد. وقد أراد ماكرون أن يزكّي السيسي تصريحاته، داخل فرنسا، حول الخطر الإسلامي الذي اتخذ منه حطبا لحمله الانتخابية السابقة لأوانها، وفي الوقت نفسه، يرسل رسائل اطمئنان إلى الخارج، وخصوصا إلى الرأي العام الإسلامي الغاضب، عندما يستقبل رئيس أكبر دولة إسلامية سنية وعربية، يقاسمه آراءه نفسها، حول ما يتفقان على وصفه بـ “الإرهاب الإسلامي”!. وبعيدا عن العناوين الكبرى التي طغت على لقاء ماكرون والسيسي، مثل الأزمة الليبية ومحاربة الإرهاب، ومواجهة التمدّد التركي في شرق المتوسط، وصفقات الأسلحة وحقوق الإنسان، فإن ما يشغل بال الرجلين هو تمسّكهما بالسلطة، ماكرون يُعدّ لها، بخبثٍ ومكر، انتخابيا، والسيسي يستعد لمواجهة تقلباتها متوجّسا من خيبات الأمل المفاجئة القادمة. -البحث عن حليف قوي بديلا لترامب، تحسبا لتغيرات دراماتيكية في العلاقات الأمريكية مع القاهرة في عهد بايدن، فإن للسيسي هو الآخر، مآربه الخاصة من زيارةٍ فرنسا، التي يراهن عليها للتخفيف من عزلته، وتُكسبه صداقة جديدة في سياق بحثه عن “كفيلٍ” غربي يحميه، ويغطي على انتهاكاته حقوق الإنسان في بلاده، خصوصا بعد أن خبا نجم راعيه المفضل، دونالد ترامب، ووصول جو بايدن إلى الحكم الذي سبق أن غرّد علانية “لا مزيد من الشيكات البيضاء لديكتاتور ترامب المفضل”. -دلالات الزيارة: -تراجع مكانة حقوق الإنسان في صناعة السياسات: وعلى الرغم من المحاولات الرسمية الفرنسية لإبقاء زيارة السيسي تحت الرادار تؤكد الطبيعة المتشابكة لاحتضان غير لائق، بين فرنسا التي تقدم نفسها على أنها نموذج لحقوق الإنسان والحرية، ومصر التي برزت كواحدة من أكثر الأنظمة وحشية وقمعًا على هذا الكوكب، مع سجل حقوق الإنسان المتدهور وسجون المعارضين. ولعل تهميش مبادئ حقوق الإنسان، وتحطم قيمها اقليميا ودوليا، هو ما مكن السيسي من الوصول إلى فرنسا، رغم دعوات من قبل المنظمات والنشطاء والدوائر الثقافية والمجتمعية الدولية والمصرية، وهو ما ترجمته منظمة “هيومن رايتس ووتش” ببيانها بشأن الزيارة “في ظل حكومة عبد الفتاح السيسي، مصر تعاني من أسوأ أزمة حقوقية منذ عدة عقود، ومع ذلك، أصر ماكرون على أنه لن يمارس أي ضغط على مصر بشأن سجل حافل يشمل الاختفاء القسري والقتل خارج نطاق القانون والتعذيب وظروف السجن الفظيعة والمحاكمات الجماعية”. ونقل عنه قوله مع بدء زيارة السيسي: “لن أشترط…