أحزاب الحركة المدنية مشهد ضبابي وانقسامات لا تتوقف

في الوقت الذي شهدت أحزاب الموالاة ولادة حزب الجبهة الوطنية، في محاولة جديدة من النظام بناء مصدّات أو عوازل تحمي دولته في حال وقوع أي انفجار اجتماعي1، شهدت قُوَى المعارضة المدنية مزيد من الانقسام، ومن الانشطار الذي نجم عنه ولادة كيانات جديدة تتصارع مع الكيانات القائمة على مساحة محدودة لم تشهد أي تمدد. فالمعارضة المدنية تعيش انقسام بين من يرجحون التحالف مع أحزاب الموالاة بحثا عن فرص أعلى خلال الانتخابات البرلمانية المقبلة، بصرف النظر عن تكلفة هذا التحالف وجدواه، ومن يشجبون ويستنكرون هذا التحالف ويشككون في جدواه ويستهولون تكلفته. كما تشهد تنافسًا بين الكيانات القائمة فعلًا والكيانات الجديدة على جَمهور محدود وغير مرشح للزيادة. وهو ما نستعرضه في هذه السطور. انقسامات بخصوص تحالفات الانتخابات البرلمانية المقبلة: أحزاب الموالاة هي مركز التحالفات الانتخابية، وتستهدف السلطة من هذه التحالفات ضمان تمثيل واسع تحت قبة البرلمان للمعارضة المستأنسة؛ بما يمنح النظام القائم شرعية ولو صورية، ويستبقي هذه المعارضة في حدود الدور الذي يسمح به النظام القائم. أما المعارضة المدنية فتجد في هذا التحالف تعظيم لحظوظها في الوصول إلى المجلس. في هذا السياق بَدْء حزب مستقبل وطن -صاحب الأغلبية البرلمانية الحالية- تحضيراته لتنظيم ملتقى الأحزاب والكيانات السياسية، في 7 يناير 2025، وفي 9 يناير 2025، بمشاركة أحزاب “الشعب الجمهوري وحماة الوطن، والمؤتمر، والشعب الديمقراطي، والمصريين، والأحرار الاشتراكيين، وإرادة جيل، والحرية المصري، والتجمع، والوفد، والجيل الديمقراطي، ومصر أكتوبر”، وبمشاركة 3 أحزاب من الحركة المدنية، وهي أحزاب المصري الديمقراطي، الإصلاح والتنمية، والعدل. وهو ما اعتبره مراقبون بداية صناعة التحالف الانتخابي. وقد رجحت مصادر أن أحزاب الحيز المتاح (الحزب المصري الديمقراطي، الإصلاح والتنمية، والعدل)، وهي جزء من الحركة المدنية، لا تستبعد التحالف مع حزب مستقبل وطن، ومشاركته في قائمة موحدة خلال الانتخابات البرلمانية المقبلة2. إلا أن النقد الواسع الذي تعرضت له الأحزاب الثلاث دفعها لنفي الاتفاق على التحالف مع مستقبل وطن؛ إذ نفي قيادي بالحزب الديمقراطي الاجتماعي وجود أي حديث عن تحالفات انتخابية في اللحظة الراهنة، معتبرًا ذلك محض عبث؛ إذ لم يتحدد موعد الانتخابات بعد، مشيرًا إلى أن هذا القرار متروك لهيئة الحزب الذي لم يصلها شيء3. كما نفي حزب الإصلاح والتنمية بقيادة محمد أنور السادات، الاتفاق على التحالف مع مستقبل وطن خلال الانتخابات المقبلة. أما حزب العدل، فقد صرح حسام حسن، أمين التنظيم المركزي بالحزب، أن “المسار النهائي لشكل التحالفات الانتخابية في الحزب مرتبط بقرار الهيئة العليا للحزب والمكتب السياسي، وأن الحزب في انتظار صدور قانون الانتخابات، لتحديد مواقفه النهائية من التحالفات وعلى رأسها بناء تيار ليبرالي اجتماعي في مصر، مؤكدًا أن قيادات الحزب لم تصرح بخصوص التحالف مع مستقبل وطن”4. ومع ذلك فإن نائب رئيس الديمقراطي الاجتماعي، ورئيس هيئته البرلمانية، محمود سامي، أشار إلى غياب ما يمنع “المشاركة في القائمة الوطنية” للانتخابات البرلمانية 2025. كما أن الإصلاح والتنمية لم ينف احتمالية خوض الانتخابات في قائمة الموالاة، مبررًا ذلك بأن التحديات التي تواجهها مصر تتطلب الاصطفاف الوطني”5. أما الحركة المدنية، فقد أعرب مدحت الزاهد، رئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي ورئيس مجلس أمناء الحركة المدنية الديمقراطية، عن رفضه القاطع للمحاولات الجارية لإجراء الانتخابات البرلمانية القادمة بنظام القائمة الموحدة تحت مظلة ما يسمى “الاصطفاف الوطني”، مؤكدًا أن هذه المحاولات انحرافًا صارخًا عن قيم الديمقراطية وخروجًا على مبادئ الدستور المصري، وهي إلى ذلك تعيد إنتاج النظام الأحادي الشمولي في قالب تعددي شكلي وهزيل، كما أن هذا المسار يتعارض بشكل صريح مع توجهات ومبادئ الحركة المدنية الديمقراطية، معتبرًا أن قَبُول الحركة المدنية الديمقراطية بمبدأ التوافق الوطني في مواجهة التهديدات الخارجية لا يعني بأي حال من الأحوال القبول بالانضمام إلى قائمة موحدة مع أحزاب تتبنى السياسات الراهنة6. المعارضة المدنية… انشطار لم يتوقف: الخلاف حول الموقف من المشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة، ومن التحالف مع حزب مستقبل وطن، ليسا التباين الوحيد الذي تنقسم حوله الحركة المدنية، إذ لا زالت نخبة الحركة المدنية يؤسسون كيانات حزبية جديدة، تتبنى نفس الرؤية، وتتطلع إلى نفس الأهداف، في هذا السياق نقرأ خبر تأسيس حزب الوعي. فقد دشن القيادي السابق في حزب المحافظين باسل عادل، في 11 فبراير 2025، بعد يوم واحد من إعلان لجنة الأحزاب عن تأسيس حزب الجبهة الوطنية، حزبًا جديدًا، هو حزب الوعي، معلنًا “أنه يتبنى توجهًا ليبراليًا وسطيًا منحازًا للطبقة المتوسطة، وينقل المعارضة من حالة الغضب الدائمة إلى حالة البراغماتية التوافقية”، وأنه “يسعى لتجديد الحياة السياسية المصرية عبر ضخ وجوه جديدة”7. الحزب الجديد، منبثق عن كتلة الحوار التي دشنت في مايو 2023، التي تتحرك على نفس أرضية الحركة المدنية، وتستقطب نفس العناصر التي تستقطبها الحركة، فالحزب ومن قبله كتلة الحوار بمثابة بديل يشبه المعارضة؛ يمكن الاستعانة به في حال قررت أحزاب الحركة المدنية عدم الالتزام بالترتيبات أو المبادئ التي تقررها السلطة. كما أن مؤسس الحزب قادم من صفوف المعارضة، فقد “كان عضوًا في حزب الغد، قبل ثورة 2011، ثم شارك في تأسيس حزب المصريين الأحرار بعد الثورة، واستقال منه، في 2012، ثم انضم لحزب الدستور، كما كان نائبًا في برلمان 2012”8. في الوقت ذاته، فإن الحزب، وكما يظهر في أسماء هيئته التأسيسية، ليس بعيدًا عن الدولة، إذ كثيرًا من أعضائها الـ 42 هم مسؤولين سابقين بأجهزة الدولة9. بل ثمة من يرى أن تدشين الحزب جاء بضوء أخضر من السلطة. الخاتمة: انقسامات المعارضة المدنية تأتي في وقت لم تظهر فيه بعد أية ملامح للانتخابات القادمة، وفي ظل مناخ ضبابي، على الصعيد الوطني وعلى المستوى الإقليمي. كذلك لم يتحدد بعد شكل النظام الانتخابي الذي سيتبع في الانتخابات البرلمانية المقبلة، فقد رفع مجلس أمناء الحُوَار الوطني في أغسطس 2023، إلى رئيس الجمهورية، ثلاث أنظمة انتخابية للاختيار بينها للانتخابات المقبلة؛ الأول: النظام المستخدم خلال انتخابات 2020، حيث تنتخب 50% من المقاعد عبر القائمة المطلقة المغلقة، و50% بالنظام الفردي على 4 دوائر بالجمهورية. الثاني: انتخاب كل الأعضاء بالقائمة النسبية غير المنقوصة عبر 15 دائرة على مستوى الجمهورية. الثالث: نظام انتخابي مختلط، يتمثل في انتخاب 50% من الأعضاء بالنظام الفردي و25% بنظام القائمة المطلقة و25% بنظام القائمة النسبية10. فيمَا لم تعلن الرئاسة عن اختيار إحداها. وبينما تميل المعارضة لنظام يجمع بين المقاعد الفردية والقائمة البسيطة. نجد أن الحكومة ومعها أحزاب الموالاة تميل إلى نظام انتخابي يجمع بين القائمة المغلقة والمقاعد الفردي، على غرار انتخابات 2020؛ إذ يسمح هذا النظام لقائمة واحدة بالفوز في حال حصلت على 1+50% من الأصوات، في دوائر شديدة الاتساع والتنوع، كما يضمن إضعاف وتهميش المعارضة الجادة، ويقوي من السيطرة الأمنية على المشهد السياسي والانتخابي11. 1 حسام الحملاوي، مصر: حزب النظام الجديد وأزمة الهيمنة، المفكرة القانونية، 15 يناير 2025، في: https://tinyurl.com/3mw9xjyr 2 حسن القباني، “ثلاثي الحيز المتاح” في قائمة انتخابية واحدة مع “مستقبل وطن”،…

تابع القراءة

مصر وخطة إعادة إعمار غزة: بين خيانة القضية الفلسطينية وخدمة المصالح الصهيونية

حسام نادي – باحث سياسي في تطور جديد يعكس مجددًا تبعية النظام المصري للمصالح الإسرائيلية والأمريكية، كشفت تقارير دولية عن تفاصيل الدور المصري في خطة إعادة إعمار غزة، وهي الخطة التي تبدو ظاهريًا كمشروع إنساني، لكنها في جوهرها ليست سوى حلقة أخرى من مسلسل تصفية القضية الفلسطينية. فبحسب تقارير نشرتها صحيفة الغارديان ووكالة أسوشيتد برس، يعمل النظام المصري على تنفيذ خطة لإعادة إعمار غزة بآليات أمنية مشددة، تشمل إقامة مناطق “آمنة” داخل القطاع، في خطوة تثير تساؤلات جدية حول الأهداف الحقيقية لهذا المشروع. التعاون مع الاحتلال تحت ستار الإعمار تشير التقارير إلى أن مصر تتعاون بشكل وثيق مع الولايات المتحدة وإسرائيل لضمان تنفيذ هذه الخطة، التي تهدف إلى فرض واقع جديد على الفلسطينيين، حيث يتم تأمين هذه المناطق “الآمنة” بوسائل تضمن عدم عودة المقاومة الفلسطينية إلى العمل بحرية داخل القطاع. ووفقًا لتايمز أوف إسرائيل، فإن مصر اقترحت إقامة هذه المناطق لضمان عدم تهديد إسرائيل، مما يعني عمليًا إنشاء جيوب أمنية تحت سيطرة القاهرة وتل أبيب بدلاً من أن تكون غزة خاضعة لسلطة فلسطينية موحدة تمثل إرادة الشعب الفلسطيني. خدمة للأجندة الصهيونية أحد أبرز المخاطر في هذه الخطة هو أنها تتماهى مع المقترحات الإسرائيلية التي لطالما سعت إلى تقليص النفوذ الفلسطيني في غزة وإبعاد فصائل المقاومة عن الواجهة. وبينما ترفض دول عربية مثل السعودية والأردن والإمارات خطط ترامب السابقة المتعلقة بغزة، فإن النظام المصري يتصدر المشهد لتنفيذ خطط مشابهة دون أي اعتبار للتداعيات السياسية أو الوطنية. وفقًا لتقرير رويترز، أكد وزير الخارجية المصري أمام السيناتور الأمريكي ماركو روبيو أن بلاده ترفض خطط تهجير الفلسطينيين، ولكن الممارسات الفعلية على الأرض تناقض هذه التصريحات. الضغط على حماس واستغلال الوضع الإنساني من الواضح أن النظام المصري يستغل الوضع الإنساني الكارثي في غزة للضغط على حركة حماس للقبول بتسويات تخدم مصالح الاحتلال، حيث أشار تقرير بي بي سي إلى أن القاهرة تستخدم معبر رفح كأداة ضغط سياسي، وهو ما يزيد من معاناة الفلسطينيين بدلًا من تخفيفها. إن التسهيلات التي تقدمها مصر وفقًا لما نشرته وكالة أسوشيتد برس ليست سوى غطاء لفرض واقع جديد يخدم إسرائيل أكثر مما يخدم الفلسطينيين. النظام المصري: وسيط منحاز أم شريك في التصفية؟ لطالما ادعى النظام المصري أنه “وسيط محايد” في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، لكنه يثبت مرة تلو الأخرى أنه طرف منحاز للعدو، بل وأداة رئيسية في تنفيذ سياسات تصب في صالح الاحتلال. إن هذه الخطة ليست مجرد مشروع إعادة إعمار، بل هي خطوة تهدف إلى تفريغ المقاومة من محتواها، وفرض نموذج أمني يخدم أجندة الاحتلال على حساب الحقوق الفلسطينية. إن الشعب المصري، الذي حمل راية الدفاع عن فلسطين لعقود، لن يقبل بهذه الخيانة التاريخية. وإذا كانت الأنظمة المستبدة تتلاعب بالقضية الفلسطينية لحماية مصالحها، فإن الوعي الشعبي والمقاومة هما السلاح الحقيقي لإفشال هذه المخططات.

تابع القراءة

مقترح الرئيس الأمريكي بتهجير الفلسطينيين إلي مصر والأردن: الدوافع وفرص النجاح

بعد تصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأن قطاع غزة يجب إفراغه من سكانه ونقلهم إلى مكان دائم، خطا الرئيس الأمريكي خطوة أبعد في سياسته المعروفة باسم سياسة “الضغط الأقصى”، والتي كان قد اتبعها لأول مرة ضد إيران في ولايته الأولى (2017-2021)، حيث صرح أثناء لقاءه برئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض، في 4 فبراير 2025، قائلًا: “إذا استطعنا إيجاد منطقة مناسبة لإعادة توطين أهل غزة بشكل دائم في منازل جيدة سيكون ذلك أمرًا رائعًا”. في بداية تصريحاته المثيرة للجدل والتي بدأ في إطلاقها قبل أقل من أسبوعين من لقاءه بنتنياهو، كان الحديث يدور عن نقل مليون ونصف المليون من سكان قطاع غزة إلى الأردن ومصر “بشكل مؤقت”، ليتحول حاليًا للحديث عن إعادة توطين “دائم”، ويزعم أن مصر والأردن ودولًا أخرى ستكون “الوطن البديل” لسكان غزة، رغم الرد الحاسم من جانب كل الدول التي ذكرها صراحة، أو تلك التي تناولتها التقارير الإعلامية مثل ألبانيا وماليزيا، برفض واستهجان تلك التصريحات. بهذه التصريحات يكون ترامب قد مد سياسة “الضغط الأقصى” التي يفترض أنها مخصصة للتعامل فقط مع الخصوم والدول المعادية للولايات المتحدة، لتصل إلى دول كانت الإدارات الأمريكية المتعاقبة تنظر إليها إما كدول حليفة، أو دول معتدلة لا تهدد المصالح الأمريكية. فما أسباب هذا التحول؟، وما هي تداعيات وفرص نجاح هذه السياسة في المدى المنظور؟1. أولًا: الخلفية التاريخية لمخططات تهجير الفلسطينيين: تعتبر فكرة “الوطن البديل” بما يعني تهجير الفلسطينيين من أراضيهم، هي إحدى الأفكار الصهيونية التي طرحت بين الحين والآخر بهدف التخلص من الفلسطينيين لتسهيل الاستحواذ على الأراضي الفلسطينية، وقد كان مطلبًا للصهيونية منذ مؤتمرها الأول عام 1897 إقامة دولة يهودية على أرض فلسطين. حيث كان يعتقد قادة “الصهيونية الدينية” لاسيما زئيف جابوتنسكي، الذي يعد الملهم الروحي لحزب الليكود، وطالما يذكره رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في خطاباته كمرشد له، أن الفلسطينيين شعب، وأنه لا يتوقع منهم التخلي طوعًا عن حقهم القومي في تقرير المصير. وفي عام 1923 كتب جابوتنسكي أن “الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يوافق بموجبها العرب على دولة يهودية في فلسطين هي القوة التي تسحقهم وتذعنهم”، وليس فتح الحوار معهم. وكان متطلب تهجير الفلسطينيين في العقلية الصهيونية راسخًا إلى الخارج وإلى الدول العربية المحيطة باستثناء منطقة شرق الأردن لأنها تعتبر بالعقيدة التوراتية أنها جزء من “الأرض الموعودة”2. وقد أصبح تهجير الفلسطينيين بالنسبة للأب المؤسس لإسرائيل وأول رئيس لحكومتها دافيد بن غوريون، بمثابة الهاجس والحل معًا في الفترة ما بين سنة 1936 وسنة 1948. وفي تلك الفترة خاطب بن غوريون اجتماعًا للوكالة اليهودية قائلًا: “أنا أحبذ الترانسفير بالقوة، ولا أجد في ذلك أي شيء يخالف الأخلاق”، كما كتب في مفكرته عام 1937 أن في إمكان الصهيونية أن تسيطر على كل فلسطين الانتدابية في المستقبل (بين نهر الأردن والبحر المتوسط) وعلى مراحل. ومع احتدام الثورة الفلسطينية في ربيع 1938، وهي التي انطلقت ضد الإدارة البريطانية للمطالبة بالاستقلال، وبسبب ذلك وجدت لجنة التقسيم إلى البلاد برئاسة “جون فدهر”، وسعت لـ”تقديم المساعدة لحكومة بريطانيا في تنفيذ مخطط التقسيم الذي اقتُرح من قبل اللجنة الحكومية برئاسة اللورد روبرت بيل في صيف 1937”. ولجنة بيل التي أُقيمت للتحقيق في أسباب الانتفاضة في الثورة الفلسطينية الكبرى التي انطلقت عام 1936، وسعت لقبول كل من العرب واليهود بنصيبهم المقترح حسب مخطط التقسيم؛ لكن العرب جددوا ثورتهم وضاعفوها، أما اليهود فقد حظوا بحماية لمستعمراتهم في أرض فلسطين. اقترحت لجنة بيل إنشاء ثلاثة أقاليم في فلسطين، إقليم تحت الانتداب البريطاني يضم القدس وبيت لحم وممرًا إلى يافا على البحر المتوسط، ودولة يهودية في الجليل، والجزء الأكبر من السواحل الغربية، على أن يتحد باقي فلسطين مع شرق الأردن ويكونان دولة عربية. ويقتضي التقسيم نقل السكان العرب، طوعًا أو كرهًا، من مناطق “الدولة اليهودية” إلى المنطقة العربية الملحقة بالأردن إضافة للدول العربية المجاورة3. وعندما تم الإعلان عن قيام دولة إسرائيل عام ١٩٤٨ عقب قرار تقسيم فلسطين إلي دولتين عربية ويهودية في نوفمبر 1947، وبعد أن رفض العرب حل الدولتين كان الشغل الشاغل للحكومة الإسرائيلية هناك هو الكيفية التي يمكن بها التغلب على الحقيقة الديموغرافية المتمثلة في أن عدد العرب أكبر من عدد اليهود في فلسطين التاريخية. وكانت واحدة من أهم الأدوات التي تم استخدامها للتغلب على هذه المعضلة هو القيام بالأعمال الإرهابية من أجل إجبار الشعب الفلسطيني على الهجرة، أو بمعنى أدق التهجير نحو الدول المجاورة مثل الأردن وسوريا ولبنان. وخلال شهر واحد فقط (ديسمبر ١٩٤٩) تم تهجير ٧٥٠ ألف فلسطيني وفلسطينية مما تم اعتباره الأراضي الإسرائيلية إلى الأراضي المفترضة لدولة فلسطين (غزة، الضفة الغربية، وأجزاء من صحراء النقب)، بل وإلى خارج فلسطين التاريخية بالكامل. ‎أمام هذا الإرهاب الإسرائيلي، ولمواجهة الوضع الإنساني المتدهور لهؤلاء اللاجئين، قامت الأمم المتحدة في نفس هذا الشهر (ديسمبر ١٩٤٩) بإنشاء وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التي تعرف باسم “الأونروا”. ورغم أن الأونروا كانت تهدف بالفعل إلى مساعدة اللاجئين إلا أن بعض العاملين بها كان لديهم أفكار خبيثة تتخذ من العمل الإغاثي غطاء نحو التأكد من عدم عودة هؤلاء الفلسطينيين إلى أراضيهم مرة أخرى. كان من ضمن هؤلاء الأمريكي بلاندفورد المفوض العام الثانى للأونروا، حيث ‎تقدم بلاندفورد بمقترح للجمعية العامة لتخصيص ٢٠٠ مليون دولار أمريكي (ما يعادل الآن حوالى ٢.٥ مليار دولار) من أجل “برنامج جديد” يتم فيه بناء معسكرات للاجئين الفلسطينيين في الدول العربية، تقوم هذه المعسكرات على النشاط الزراعي، فمن ناحية يجد اللاجئ مكانًا آمنًا للعيش، ومن ناحية أخرى تقوم نهضة زراعية في الدول العربية وهو ما يتماشى مع سياسة الولايات المتحدة في دعم عملية التنمية في الدول العربية لاستقطابها في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي آنذاك. وافقت الجمعية العامة بالفعل على دعم المشروع، كما تحمست الولايات المتحدة لدعمه، لكن ومع نهاية عام ١٩٥١ قررت الأونروا أن يكون أول معسكر لإعادة التوطين في سيناء، حيث ادعى بلاندفورد أن الأزمة الأكبر التي تواجه الأونروا هي في غزة، كون أن هذا القطاع صغير المساحة كان يعيش فيه ٢٠٠ ألف لاجئ ولاجئة وهو ما كان يعادل وقتها ثلاثة أضعاف عدد سكان القطاع الأصليين، كما أن قطاع غزة كان بالفعل تحت السيادة الإدارية المصرية، كذلك أعلن بلاندفور والأونروا أن مشاريع الجدوى أظهرت أن إقامة هذا المشروع العملاق في غزة غير مجد من الناحية الاقتصادية والفنية. وليتم إرسال عدة لجان فنية بواسطة الأونروا إلى سيناء للنظر في مسألة إيصال المياه إلى المكان المفترض فيه إقامة معسكر اللاجئين الزراعي، وكلها أجمعت على عدم جدوى ذلك، ليتوقف المشروع لبضعة أشهر حتى قامت حركة الضباط الأحرار بإنهاء الحكم الملكي في يوليو عام 1952. عاد المشروع إلى الواجهة مجددًا عام 1953، عندما اقترحت حكومة الاحتلال الإسرائيلي في حينه ترحيل الفلسطينيين…

تابع القراءة

حزب الجبهة الوطنية… قراءة في الدلالات عن الخريطة المتحركة لأحزاب الموالاة في مصر

في مشهد ضبابي يعاني فيه النظام من وضع صعب؛ في ظل تحديات خارجية ناجمة عن طوفان الأقصى وتداعياته، وتحديات داخلية تتعلق بالتعثر الاقتصادي والتراجع غير المسبوق في كل المؤشرات الرئيسية، سواء كانت سعر العملة أو معدل التضخم أو منسوب الفقر والبطالة وحجم الديون، ظهر حزب الجبهة الوطنية من فراغ، وإن جاء امتدادًا لاتحاد القبائل والعائلات المصرية، وجاءت هيئته العليا وكأنها تضم ممثلين عن سلطات الدولة الثلاث. في هذه السطور نثير التساؤلات ونستكشف دوافع ظهوره، والغرض منه حزب الجبهة الوطنية: أُعلن في 30 ديسمبر 2024 عن تدشين حزب الجبهة الوطنية، وبعد 40 يوم من تدشينه، وافقت لجنة الأحزاب السياسية، في 10 فبراير 2025، على تأسيس حزب الجبهة الوطنية1، وتمتعه بالشخصية الاعتبارية وحقه في مباشرة نشاطه السياسي اعتبارًا من الثلاثاء 11 فبراير 20252. الحزب -إن صح القول- خرج من عباءة اتحاد القبائل والعائلات المصرية الذي يرأسه رجل الأعمال المقرب من السلطة إبراهيم العرجاني، فالإعلان عن الحزب جاء عبر وكيل مؤسسيه، عاصم الجزار، الأمين العام لاتحاد القبائل والعائلات المصرية3، ورئيس مجلس إدارة شركة نيوم للتطوير العقاري المملوكة أيضًا للعرجاني4. أما بخصوص تكوين الهيئة العليا للحزب، فقد جاءت مكونة من رجال جهاز الدولة البيروقراطي5، فضلا عن وزير الإسكان السابق عاصم الجزار، فقد ضمت وزيرة الاستثمار؛ سحر نصر، والزراعة؛ السيد القصير، والمجالس النيابية؛ علاء الدين فؤاد، والاتصالات؛ هاني محمود، والبترول؛ عبد الله غراب، والشباب؛ طاهر أبو زيد، ووزيرَا التنمية المحلية السابقين: عادل لبيب ومحمود شعراوي، واللواء أحمد ضيف محافظ الغربية السابق، ومحمد عبد القادر محافظ القليوبية السابق، بالإضافة إلى رئيس سابق لمجلس الدولة، ومفتي جمهورية سابق، ورئيس جامعة سابق، ونائب وزير بالمعاش، ومن مسئولي الدولة أيضًا “رئيس هيئة الاستعلامات، ضياء رشوان، وهو أمين عام الحُوَار الوطني، ورئيس مجلس إدارة مصنع 18 الحربي، اللواء صلاح جنبلاط، ورئيس الإدارة المركزية لتطوير التعليم الفني، عمرو بصيلة6. كذلك ضمت الهيئة العليا للحزب برلمانيين سابقين وحاليين؛ من السابقين ضمت رئيس مجلس النواب السابق، علي عبد العال، وأيضا جهاد جلال البرلماني السابق وأحمد رسلان البرلماني السابق، ونائب رئيس اتحاد القبائل، ومن الحاليين، وكيل اللجنة الدينية للنواب، أسامة العبد، وهو عضو حزب مستقبل وطن، وعضو مجلس الشيوخ عن حزب «حماة الوطن» فايز أبو حرب، سليمان وهدان، نائب رئيس حزب الوفد السابق7، “أما باقي أعضاء التأسيسية من النواب الحاليين فكانوا من الأعضاء المعينين من قبل رئيس الجمهورية في مجلسي النواب والشيوخ8“. كما “ضمت قائمة المؤسسين رجال الأعمال: كامل أبو علي، وأيمن الجميل، وياسر عبد المقصود، ومحمد الأمين الدخميسي، بخلاف أبو العينين”، ومن رموز المجتمع “نقيب المحامين العرب، سامح عاشور، ورئيس نادي الصيد، محمد غراب، بالإضافة إلى شيخ الطريقة الصوفية الشيخ سيد الإدريسي، ونقيب المهن التمثيلية، أشرف زكي، ورئيس جمعية المؤلفين، مدحت العدل، والفنان سامح الصريطي9. الجبهة الوطنية وهيكلة القوى الداعمة للنظام: الجبهة الوطنية هو كيان تابع للسلطة، وليس حزبًا سياسيًا بالمعنى المتعارف عليه، وتركيبة الهيئة العليا للحزب، التي تضم عدد من كبار مسئولي السلطة التنفيذية، وبرلمانيين سابقين وحاليين، ورجال أعمال، ورموز مجتمع مقربين من الدولة، تكشف أنها محاولة لتمثيل كل القُوَى الأساسية بالمجتمع، ومغازلة مختلف أطياف المجتمع المصري، فهي محاولة لمأسسة القُوَى الداعمة للنظام القائم، فقد جاء في بيان تدشين الحزب “لا نسعى لتحقيق الأغلبية البرلمانية بل سنخوض الانتخابات بأكبر تحالف سياسي وطني مع الأحزاب القائمة لأن هدفنا لم الشمل في فترة لا تحتمل التشتت10“، كما صرح عضو الهيئة العليا للحزب، ضياء رشوان أن الحزب لا يسعى إلى الحكم أو تشكيل حكومة خلال الفترة المقبلة، ولا يرغب في أن يكون مجرد نقطة انطلاق للطموحين للوصول إلى عضوية البرلمان، لكنه “يهدف إلى إعادة الاعتبار للسياسة المصرية”11. وهو في هذا الجانب يشبه إلى حد بعيد اتحاد القبائل والعائلات المصرية، الذي يأتي في تعريفه أنه “كيان اجتماعي يهدف إلى تعزيز الوحدة الوطنية والحفاظ على التراث الثقافي للقبائل والعائلات المصرية12“. إن اتحاد القبائل والعائلات المصرية، ومعه حزب الجبهة الوطنية، إن هما إلا محاولة لمأسسة وتنظيم وتعبئة القُوَى الداعمة للنظام القائم، وهما من جهة أخرى محاولة لضخ دماء جديدة في مجال عام أصابه التكلس، لكن في الوقت ذاته إبقاءه تحت السيطرة. حَسَبَ “سياسيون وبرلمانيون ومصادر مصرية” فإن حزب الجبهة جاء استجابة لتوصيات صندوق النقد الدُّوَليّ “الذي طالب الحكومة المصرية بتنفيذ “انفراجة سياسية” تعمل على توفير مناخ مناسب للاستثمار الاقتصادي”، وقد يستخدم ربما في تمهيد “الطريق من خلال حملة شعبية كبيرة للدعوة إلى تعديل دستوري جديد يتضمن بقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في السلطة إلى ما بعد 2023”13. لكن يبقى عيب هذه الكيانات في نخبويتها، وكونها محسوبة على السلطة وليس لها امتدادات حقيقية في الشارع، فهي كيانات تمثل السلطة ولا تمثل الشارع؛ فهي تشبه، من حيث أدوارها، نموذج الفتوة؛ حيث يؤدّي دور الوسيط بين الشارع والسلطة، لكن يلعبه لحساب السلطة وليس لحساب الشارع. عن التشابه بين الجبهة الوطنية ومستقبل وطن والغاية منهما: حسب تقارير، فإن حزب الجبهة الوطنية، هو تكرار لتجربة حزب مستقبل وطن الذي تأسس في منتصف 2014، وقاد منذ تأسيسه “الانتخابات البرلمانية مرتين، وحشد وشحذ الجماهير إبان الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لدعم المشاركة، وكذلك التظاهرات التي دعت لها السلطة أكثر من مرة”14، وفق هذا الطرح فإن من المحتمل أن يكون حزب الجبهة الوطنية هو وريث حزب مستقبل وطن. أما سبب استبدال مستقبل وطن بالجبهة الوطنية، فيمكن فهمه من خلال الربط بين تدشين الحزب الجديد والتغييرات التي شهدتها المخابرات العامة، مع إقالة عباس كامل من قيادة الجهاز، وتعيين اللواء حسن رشاد بدلًا منه15، ما يعني أن التغييرات في قيادة المخابرات أسفرت عن هذه التغييرات في المشهد السياسي؛ فمن المعروف أن المخابرات العامة في مصر تلعب دور رئيس في هندسة المشهد السياسي، وفي إخراج المواسم الانتخابية. نستشهد في هذا السياق بشهادة حازم عبد العظيم16، المسئول السابق في حملة ترشح المشير عبد الفتاح السيسي لرئاسة الجمهورية، و”تضمنت تفاصيل كشفت لأول مرة عن دور جهاز المخابرات العامة في تشكيل قائمة “في حب مصر” الانتخابية الموالية للرئيس، وهي التي حصدت كافة المقاعد المئة والعشرين المخصصة للقوائم في الانتخابات البرلمانية” التي جرت في نهاية 201517. فيمَا كان حزب مستقبل وطن بمثابة حجر الزاوية لتلك القائمة، إذ حصل الحزب منفردًا على 57 مقعدًا داخل مجلس النواب، وكانت عدد المقاعد البرلمانية 596 مقعدًا، ولاحقًا في عام 2018 اندمجت قائمة “في حب مصر” داخل مستقبل وطن، وقدم معظم نواب الأحزاب الأخرى في التحالف استقالتهم لينضموا للحزب، ويصبح فعليا الحزب الأكبر تحت قبة البرلمان بشكل غير رسمي، وفي انتخابات البرلمان 2020 كان المشهد أكثر سهولة إذ خلا من التكتلات والتحالفات الحزبية, وحصد الحزب 316 مقعدًا من أصل 596، في حين حصل الحزب الثاني في التمثيل البرلماني “الشعب الجمهوري” على 50 مقعدًا فقط18. في المقابل هناك من…

تابع القراءة

مستقبل الامبراطورية الأمريكية والمنطقة العربية في ضوء سياسات ترامب وتوجهاته

تصريحات أطلقها الرئيس الأمريكي، وقرارات اتخذها على الصعيد الأمريكي وعلى المستوى الدولي، رأها كثيرين، مرتبطة ببعضها البعض وإن بدت في التحليل الأول متباعدة، ورأوا فيها إرهاصًا بتفكك الامبراطورية الأمريكية، وتحمل نذر شؤم على مستقبل المنطقة العربية. نستعرض في هذه السطور تلك التطورات، في محاولة للكشف عن دلالاتها، وتلمس انعكاساتها على مستقبل الدولة، التي رأى مراقبين أنها في طريقها للأفول، وعلى مستقبل الامبراطورية الأمريكية والنظام الدولي ككل، وعلى مستقبل المنطقة العربية، مع الوقوف على رؤية مراقبين مصريين لهذه التطورات. حماية إسرائيل أم تقويض الاستقرار في الشرق الأوسط: أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 4 فبراير 2025، خلال المؤتمر الصحفي الذي جمعه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أن الولايات المتحدة ستتولى السيطرة على قطاع غزة، وتفكيك “كل القنابل غير المنفجرة والأسلحة الأخرى الخطيرة في هذا الموقع”، وأن القطاع سيصبح موطنًا “لشعوب العالم”، متوقعًا أن تصبح غزة “ريفييرا الشرق الأوسط”. وفيما يتعلق بموقع سكان القطاع من هذا التصور، قال الرئيس الأمريكي أنه “سيدعم جهود إعادة توطين الفلسطينيين من غزة بشكل دائم إلى أماكن يمكنهم العيش فيها دون خوف من العنف”، وأنه يناقش وفريقه إمكانية إعادة توطينهم في مصر والأردن ودول أخرى في المنطقة، وأشار إلى “أنه سيعلن موقفه من “سيادة إسرائيل على الضفة الغربية في الأسابيع المقبلة”1. التصورات التي أعلنها الرئيس الأمريكي خلال المؤتمر الصحفي عن القضية الفلسطينية بمثابة تصفية للصراع، وحسمه لمصلحة إسرائيل بشكل سافر؛ حيث تهجير الفلسطينيين من غزة إلى دول الطوق في مصر والأردن، وتطوير القطاع كمشروع استثماري ضخم، ومن ثم ضمان أمن الكيان الإسرائيلي سنوات طويلة قائمة، مع تصدير مشكلات تل أبيب مع شعب فلسطين إلى دول الجوار المباشر. لكن يعيب هذا الطرح أمرين أساسيين؛ التكلفة العالية لهذا التصور، التكلفة البشرية الناجمة عن تهجير القسري لما يزيد عن 2.5 مليون فلسطيني يسكنون القطاع، والناجمة عن الرفض والمقاومة المتوقعة لفلسطينيو القطاع وفصائل المقاومة المسلحة لمخططات التهجير، والناتجة كذلك عن مقاومة دول الطوق ورفضها لمخططات التهجير، وللتكلفة المادية والعسكرية التي يستلزمها إجبار 2.5 مليون على ترك مواطنهم عُنْوَة، خاصة أن عدوان إسرائيلي استمر أكثر من 15 شهر فشل في انتزاع سكان غزة من القطاع؛ إذ فور إعلان وقف إطلاق النار سارع سكان القطاع إلى العودة إلى منازلهم رغم الدمار الكامل لمقومات الحياة هناك. كما يعيبه كذلك أنه لا يأخذ في اعتباره التداعيات السلبية لهذا التصور، في حال تحققه، على استقرار المنطقة ككل، بل وعلى استقرار إسرائيل نفسها، في ظل إقليم شديد السيولة؛ ومخاطر غير مسبوقة على دول الطوق. تنديد واسع بخطط الرئيس الأمريكي بخصوص غزة: وقد أثارت المخططات الأمريكية ردود فعل رافضة ومستنكرة للتصريحات الأمريكية؛ على الصعيد العربي2، سبق وأن صرح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن تهجير الشعب الفلسطيني “ظلم لا يمكن أن نشارك فيه”3، كما شدد على ضرورة إعادة إعمار القطاع4. وفي بيان عربي مشترك لوزراء الخارجية شارك فيه الأرْدُنّ ومصر والإمارات والسعودية وقطر، وأمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية حسين الشيخ، والأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، رفض المساس بحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف5. كما وجه سفراء دول مصر والأردن والسعودية ونائبي سفيري الإمارات وقطر رسالة خطية إلى وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، من وزراء خارجية دولهم وممثل عن السلطة الفلسطينية، تؤكد على أهمية العلاقات الاستراتيجية التي تربط الدول العربية بالولايات المتحدة، وضرورة استئناف الجهود الرامية للتوصل إلى حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية وفقًا لمقررات الشرعية الدولية6. أما الأمانة العامة لجامعة الدول العربية فقد شددت على أن دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية من ثوابت القضية الفلسطينية ومحل إجماع عربي كامل7. على مستوى ردود الفعل الدولية، أعلن المستشار الألماني، أولاف شولتس أنه يعارض تمامًا مخطط الرئيس الأميركي ، دونالد ترامب، “لإعادة توطين سكان غزة”8، كما صرح وزير خارجية بريطانيا، ديفيد لامي، أنه يجب أن يكون الفلسطينيون قادرين على “العيش وتحقيق الازدهار” في غزة والضفة الغربية، فيمَا اعتبرت الخارجية الفرنسية أن “مستقبل غزة يجب ألا يكون في إطار سيطرة دولة ثالثة بل في إطار دولة مستقبلية تحت رعاية السلطة الفلسطينية”، وصرح وزير الخارجية الأسباني خوسيه مانويل “أريد أن أكون واضحَا للغاية في هذا الشأن، غزة هي أرض الفلسطينيين سكان غزة ويجب أن يبقوا فيها”، وأن “غزة جزء من الدولة الفلسطينية المستقبلية التي تدعمها إسبانيا”، أما رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيزي فقد قال أن “الحكومة الأسترالية تؤيد حل الدولتين”9. أما الخارجية الصينية، فقد صرح الناطق باسمها لين جيان خلال مؤتمر صحفي دوري “أكدت الصين دائمًا أن الحكم الفلسطيني على الفلسطينيين هو المبدأ الأساس لحكم غزة بعد الحرب، ونحن نعارض الترحيل القسري لسكان غزة”، الأمر نفسه أكده دميتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين، الذي صرح إن روسيا تعتقد أن التسوية في الشرق الأوسط ممكنة فقط على أساس حل الدولتين، وإنشاء دولة فلسطينية جنبا إلى جنب مع دولة إسرائيل، وقال وزير الخارجية التركي ردًا على سؤال عن تصريحات ترامب أن “هذا غير مقبول”10، مؤكدًا أن “طرد الفلسطينيين من غزة مسألة غير مقبولة لا من جانبنا ولا من جانب بلدان المنطقة. ولا حاجة حتى لمناقشتها”11، فيمًا اعتبرت الخارجية الإيرانية أن تهجير سكان القطاع بمثابة تطهير عرقي12. على الصعيد الأممي، قال مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، أن أي نقل قسري أو ترحيل للأشخاص من أراضَ محتلة، محظور تمامًا بموجب القانون الدُّوَليّ، وأنه من الضروري التحرك نحو المرحلة التالية من اتفاق وقف إطلاق النار، وإطلاق سراح جميع المحتجزين والمعتقلين بشكل تعسفي، وإنهاء الحرب وإعادة إعمار غزة13. بالتأكيد جزء من هذه التصريحات إعلان موقف يُستبعد ترجمتها إلى سياسات وقرارات حقيقية تحول دون تنفيذ هذه التصورات الأمريكية، لكنها من جانب أخر قد تقود إلى عزلة واشنطن دوليًا، ورفع أية شرعية عن توجهاتها تلك، وتكشف من جهة أخرى التحيز الأمريكي لتل أبيب، وتزيل أخر قشرة توت عن هذا التحيز، وهي إلى ذلك تكشف عن عجز الشرعية الدولية في مواجهة النزق والمروق الأمريكي، وتظهر إلى أي مدى صار النظام الدولي الحالي متهالكًا تحركه القوة الامبراطورية الأمريكية العارية من أية شرعية. تثوير البيروقراطية وأمريكا أولًا أم تفكيك للامبراطورية الأمريكية: في الوقت الذي أعلن فيه ترامب رؤيته لتصفية القضية الفلسطينية، وجاءت مفاجئة لكثيرين خارج الولايات المتحدة وكذلك داخلها14، أعلن الرئيس الأمريكي عن قرارات وشرع في سياسات لم تكن أقل راديكالية، أبرزها: في هذا السياق جاءت دعوة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) جميع موظفيها إلى “المغادرة الطوعية”، وهو ما اعتبره مؤيدون لترامب تفكيك لجزء من “دولة عميقة” تعمل على تقويض سياساته، فيمَا رأه معارضين للرئيس محاولة لإحلال ولاءات جديدة، فيمَا نفى مسؤولون ارتباط البرنامَج بـ “تطهير” الوكالة16. سياسات الإقالة تلك تقودها وزارة الكفاءة الحكومية (DOGE)، التي يرأسها الملياردير المثير للجدل “إيلون ماسك”17؛…

تابع القراءة

مصر بين التهديدات الخارجية والواقع الداخلي: أين يكمن الخطر الحقيقي؟

حسام نادي – باحث سياسي تعيش مصر في منطقة تموج بالصراعات والاضطرابات، ما يجعل التحديات الأمنية والسياسية على حدودها أمرًا معقدًا لا يمكن إنكاره. فمن الغرب، تعاني ليبيا من انقسامات وحروب أهلية، ومن الجنوب يواجه السودان اضطرابات دامية تهدد استقراره، بينما تبقى أزمة سد النهضة في الشرق الأفريقي تحديًا مستمرًا. ومع ذلك، فإن التركيز على التهديدات الخارجية فقط وتجاهل الأزمة الداخلية التي تعاني منها مصر قد يؤدي إلى تزييف الوعي وإبعاد الأنظار عن الخطر الأكبر الذي يهدد الأمن القومي المصري. النظام الحاكم: أزمة شرعية وأثرها على الاستقرار الداخلي لا يمكن الحديث عن الأمن القومي المصري دون الإشارة إلى طبيعة النظام الحاكم، الذي أتى بانقلاب عسكري، وفرض نفسه بالقوة والقمع، متسببًا في إراقة الدماء واعتقال الآلاف وتشريد العديد من المعارضين. فمنذ 2013، شهدت البلاد تراجعًا في الحريات الأساسية، وانتهاكات لحقوق الإنسان، وقمعًا ممنهجًا لأي صوت معارض، ما أدى إلى حالة من الاحتقان الشعبي وتآكل شرعية النظام في الداخل والخارج. السياسات الأمنية القائمة على الاعتقالات التعسفية وتكميم الأفواه أدت إلى تفكيك النسيج المجتمعي، ما جعل المجتمع أكثر هشاشة وأقل قدرة على مواجهة التحديات الحقيقية. ومع كل أزمة خارجية، يتم استغلال هذه الأحداث لتبرير المزيد من القمع الداخلي، حيث يتم تصوير النظام على أنه الحامي الوحيد لمصر ضد الفوضى. تفكك المجتمع وانتشار الفساد أحد أخطر التهديدات الداخلية التي تواجه مصر هو تفكك المجتمع وانتشار الفساد والرذائل كنتيجة مباشرة لغياب سيادة القانون وانعدام العدالة الاجتماعية. فالنظام الحالي اعتمد على شبكات المصالح والولاءات لضمان بقائه، ما أدى إلى تفشي المحسوبية والفساد داخل المؤسسات، وإضعاف مؤسسات الدولة لصالح دائرة ضيقة من المنتفعين. كما أن سياسات القمع والبطش ساهمت في خلق حالة من الإحباط واليأس بين الشباب، مما دفع البعض إما إلى الهجرة أو الانخراط في أنشطة غير مشروعة، سواء كانت جرائم منظمة أو انضمامًا إلى جماعات متطرفة، وهو ما يشكل تهديدًا أمنيًا داخليًا يفوق بكثير أي تهديد خارجي. الاقتصاد في قبضة الديون: خطر لا يقل عن الحروب منذ سنوات، اعتمد النظام الحاكم على سياسة الاقتراض المفرط كحل مؤقت للأزمات الاقتصادية، لكن هذه السياسة جعلت مصر رهينة لديون ضخمة تقيد سيادتها المالية وقدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة. فقد ارتفعت معدلات الاقتراض الخارجي بشكل غير مسبوق، وأصبحت الديون وفوائدها تلتهم جزءًا كبيرًا من الموازنة العامة، مما أدى إلى تضييق الخناق على الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية. كما أن هذه السياسة الاقتصادية الهشة أثرت بشكل مباشر على المواطن العادي، حيث ارتفعت معدلات الفقر والتضخم، وتزايدت الضغوط المعيشية، ما تسبب في ارتفاع معدلات الجريمة والتوترات الاجتماعية. ورغم كل ذلك، يتم توجيه الموارد نحو مشروعات عملاقة غير ذات جدوى اقتصادية، في حين يتم تجاهل الاحتياجات الأساسية للشعب. هل التهديدات الخارجية هي الخطر الأكبر؟ بينما تروج وسائل الإعلام الرسمية لفكرة أن التهديدات الخارجية هي أكبر المخاطر التي تواجه مصر، فإن الواقع يشير إلى أن التهديد الحقيقي يكمن في الداخل. فالنظام القمعي، والفشل الاقتصادي، والانقسام المجتمعي كلها عوامل تهدد استقرار مصر أكثر من أي صراع إقليمي. التعامل مع الأزمات الخارجية قد يكون ضروريًا، لكن لا يمكن فصل ذلك عن الحاجة الملحة لمعالجة الأزمات الداخلية التي تهدد مستقبل البلاد. فالأمن الحقيقي لا يتحقق فقط عبر تأمين الحدود، بل أيضًا عبر بناء دولة قائمة على العدالة الاجتماعية، والحريات، والتنمية المستدامة. الخلاصة إن استقرار مصر وأمنها القومي لا يتحقق فقط عبر مواجهة التحديات الخارجية، بل يبدأ أولًا بإصلاح الأوضاع الداخلية. إن استمرار النظام الحالي في سياساته القمعية والاقتصادية الفاشلة لا يزيد البلاد إلا ضعفًا ويجعلها أكثر عرضة لأي تهديد خارجي أو داخلي. لذلك، فإن التغيير الحقيقي لا يكمن في مجرد البحث عن حلفاء خارجيين أو مواجهة خصوم إقليميين، بل في بناء دولة ديمقراطية عادلة تحقق الاستقرار من الداخل قبل الخارج.

تابع القراءة

السودان في يناير 2025: مشهد معقد بين التصعيد العسكري والانهيار الإنساني

حسام نادي_ باحث سياسى يدخل السودان عام 2025 وسط تصعيد عسكري متزايد بين القوات المسلحة السودانية (SAF) وقوات الدعم السريع (RSF)، مما يزيد من تعقيد الأزمة السياسية والإنسانية التي تعصف بالبلاد. ففي ظل تراجع فرص الحلول السلمية، وتزايد التدخلات الخارجية، بات المشهد أكثر قتامة، مع استمرار دوامة الحرب دون أفق واضح لإنهائها. التطورات العسكرية: تقدم تكتيكي أم إعادة تموضع؟ شهدت الأسابيع الأخيرة تطورات ميدانية حاسمة، حيث تمكن الجيش السوداني من استعادة مناطق استراتيجية في العاصمة الخرطوم ومدن أخرى، لكن ذلك لا يعني بالضرورة حسم المعركة. التقدم في الخرطوم وأم درمان نجح الجيش السوداني في اختراق الحصار الذي فرضته قوات الدعم السريع على مقره في الخرطوم، كما استعاد السيطرة على مصفاة الجيلي النفطية، التي كانت تُستخدم كمصدر إمداد رئيسي لقوات الدعم السريع منذ 2023. في أم درمان، ثاني أكبر مدينة في السودان، تمكن الجيش من استعادة عدة أحياء كانت تحت سيطرة الدعم السريع، وصادر مستودعات أسلحة، ما يعزز موقفه التكتيكي. المعارك في غرب السودان ودارفور بينما يحاول الجيش تأمين سيطرته على الخرطوم، يواجه ضغطًا متزايدًا في الغرب. فقد شنت قوات الدعم السريع هجومها الأكبر حتى الآن على مدينة الفاشر، آخر معاقل الجيش في دارفور، ما يهدد بمجزرة محتملة في حال سقوط المدينة. الدعم السريع يعتمد بشكل كبير على دعم خارجي، خصوصًا من الإمارات، التي هددت بقطع الإمدادات إذا فشل في استعادة الفاشر. ولاية الجزيرة وواد مدني استعاد الجيش السيطرة على واد مدني، المدينة التي كانت تشكل مركزًا لوجستيًا هامًا لقوات الدعم السريع، لكنه يواجه اتهامات بارتكاب انتهاكات ضد المدنيين، بما في ذلك عمليات إعدام واعتداءات ذات طابع عرقي. الأزمة الإنسانية: بين المجاعة والجرائم ضد المدنيين يستمر الوضع الإنساني في السودان في التدهور، حيث يعاني الملايين من الجوع والنزوح القسري، وسط تزايد الجرائم ضد المدنيين من كلا الطرفين. المجاعة وحصار المدن الفاشر تعيش تحت حصار خانق فرضته قوات الدعم السريع، مما أدى إلى نقص حاد في المواد الغذائية والمياه، مع تقارير تشير إلى اقتراب مجاعة تهدد مئات الآلاف من السكان. تشير الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 14.6 مليون سوداني مشردون داخليًا، فيما فرّ أكثر من مليون شخص إلى جنوب السودان، مما يهدد استقرار المنطقة بأكملها. انتهاكات حقوق الإنسان هناك اتهامات للجيش السوداني باستخدام أسلحة كيماوية في مناطق نائية، في حين نفذت قوات الدعم السريع غارات بالطائرات المسيرة على المستشفيات، ما أسفر عن مقتل عشرات المدنيين. وثقت تقارير إعلامية عمليات إعدام جماعية نفذتها قوات الجيش في ولاية الجزيرة، مما دفع جنوب السودان إلى استدعاء السفير السوداني للاحتجاج على مقتل رعاياه. ردود الفعل الدولية: ضغوط متزايدة دون حلول ملموسة يستمر المجتمع الدولي في فرض العقوبات والضغوط الدبلوماسية، لكن هذه التحركات لم تؤدِ حتى الآن إلى أي تغيير جوهري في مسار الصراع. عقوبات أمريكية وتجميد المساعدات العسكرية فرضت الولايات المتحدة عقوبات على قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان بسبب الانتهاكات بحق المدنيين، كما أدرجت قوات الدعم السريع في قوائم المتورطين في جرائم إبادة جماعية. يعمل الكونغرس الأمريكي على حظر مبيعات الأسلحة إلى الإمارات بسبب دعمها لقوات الدعم السريع. تحذيرات الأمم المتحدة من جرائم حرب حذرت الأمم المتحدة من احتمال وقوع تطهير عرقي في الفاشر، ودعت إلى تحقيقات دولية في جرائم الحرب التي يرتكبها الطرفان. التوترات الإقليمية أدى النزاع إلى تصاعد التوتر في جنوب السودان، الذي اضطر إلى حجب وسائل التواصل الاجتماعي بعد اندلاع اضطرابات مرتبطة بالحرب السودانية. تواجه الدول المجاورة، مثل إثيوبيا وتشاد، تدفقات هائلة من اللاجئين، مما يزيد من الضغط على أنظمتها الاقتصادية الهشة. المشهد السياسي: هل تتجه السودان إلى التقسيم؟ مع تحول النزاع إلى معركة استنزاف طويلة الأمد، بدأ بعض المحللين يتحدثون عن إمكانية تقسيم السودان إلى مناطق نفوذ بين الجيش وقوات الدعم السريع. الجيش وترسيخ سلطته في الوسط والشرق يسعى الجيش إلى تثبيت سيطرته على العاصمة والمناطق المحيطة بالنيل، بدعم من مصر وتركيا، مما يعزز موقفه كلاعب رئيسي في أي تسوية مستقبلية. الدعم السريع يرسّخ وجوده في دارفور مع تزايد الضغوط عليه في الخرطوم، يبدو أن قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) يركز على ترسيخ حكمه في دارفور، وهو ما قد يؤدي إلى تقسيم فعلي للسودان بين شرق وغرب. إذا نجح الدعم السريع في السيطرة الكاملة على دارفور، فقد نشهد دولة متمردة مدعومة إقليميًا، مما يفتح الباب أمام سيناريو مماثل للوضع في ليبيا. خاتمة: حرب بلا أفق وحلول مفقودة رغم التقدم الذي أحرزه الجيش في الخرطوم وبعض المناطق، لا يبدو أن أياً من الطرفين قادر على حسم الحرب قريبًا. مع استمرار الدعم الخارجي لكلا الطرفين، واستمرار تدهور الوضع الإنساني، فإن السيناريو الأكثر ترجيحًا هو حرب استنزاف طويلة الأمد، قد تفضي في النهاية إلى تقسيم السودان بحكم الواقع. في ظل هذا الوضع، تبقى الحلول السياسية غائبة، والمبادرات الدولية معطلة، بينما يدفع ملايين السودانيين ثمن صراع لا يبدو أن نهايته قريبة.

تابع القراءة

التهجير القسري لأهالي غزة: مخاطر السيناريو السري وتواطؤ الأنظمة العربية

حسام نادي – باحث سياسى يعود ملف تهجير الفلسطينيين إلى الواجهة مجددًا، هذه المرة بضغط أمريكي مباشر يقوده دونالد ترامب، الذي يسعى لإجبار مصر والأردن على استقبال سكان غزة كجزء من “تسوية نهائية” للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وبينما يرفض النظامان المصري والأردني علنًا هذا الطرح، فإن السيناريو الأخطر هو حدوث التهجير بغطاء خادع، سواء من خلال استغلال الرأي العام أو عبر صفقات سرية، وهو ما يحمل في طياته تهديدًا مباشرًا لاستقرار المنطقة ومصالح الشعوب. سياسة التهجير القسري تحت ستار “التسوية“ ترامب، بدعم من اللوبي الصهيوني والأطراف اليمينية المتطرفة في إسرائيل، طرح فكرة “تنظيف غزة”، وذلك عبر اقتراح تهجير 1.5 مليون فلسطيني إلى سيناء والأردن. ورغم التصريحات الرسمية الرافضة من القاهرة وعمان، فإن تاريخ الأنظمة العربية مع الضغوط الأمريكية يفتح الباب لاحتمالات التنفيذ التدريجي لهذه المخططات. عبد الفتاح السيسي وصف المقترح بأنه “ظلم”، لكنه في الوقت نفسه سمح بفتح معبر رفح بشكل محدود، بينما تشير تقارير إلى تنسيق أمني مكثف مع إسرائيل بشأن الوضع الحدودي، وهو ما يثير الشكوك حول مدى صلابة هذا الرفض. في الأردن، حذّر الملك عبد الله الثاني من “تصفية القضية الفلسطينية” لكنه لم يوضح كيف سيتعامل مع أي موجة نزوح جماعي حال حدوثها. تواطؤ الأنظمة واحتواء الغضب الشعبي الأنظمة العربية تدرك أن قبول التهجير علنًا سيشعل غضبًا شعبيًا غير مسبوق، لذلك تعتمد على استراتيجية “احتواء الرأي العام” من خلال تضخيم خطاب رفض التهجير، بينما قد تعمل سرًا على تسهيل عمليات الترحيل التدريجي عبر ما يُسمى بالممرات الآمنة أو المناطق العازلة. في مصر، يعتمد السيسي على السيطرة الأمنية المطلقة لمنع أي حراك شعبي ضد هذه الخطط. لكن مع تزايد الضغط الدولي، قد يجد نفسه مضطرًا للموافقة على استضافة لاجئين فلسطينيين تحت غطاء “الإغاثة الإنسانية”، تمامًا كما فعل مع قضايا أخرى خضعت لحسابات سياسية دولية. أما في الأردن، فإن الملك يواجه معارضة قوية داخلية لقبول المزيد من اللاجئين، لكن الضغوط الأمريكية والتهديدات الاقتصادية قد تدفعه نحو تسويات غير معلنة. التداعيات الكارثية لتهجير الفلسطينيين قبول أي تهجير جماعي يعني القضاء على فرص إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وتحويل القضية الفلسطينية إلى مشكلة “لاجئين بلا وطن”. كما أن توطين اللاجئين في سيناء قد يجعلها هدفًا مستقبليًا لمشاريع التقسيم أو حتى ضمها لإسرائيل ضمن خطط تغيير الخرائط الجغرافية. أمنيًا، فإن نقل أعداد كبيرة من الفلسطينيين إلى سيناء قد يؤدي إلى توترات جديدة مع الجماعات المسلحة في المنطقة، مما يخلق ذريعة لتدخلات إسرائيلية متزايدة، وربما يعزز مشروع “المنطقة العازلة” الذي تسعى إليه تل أبيب منذ سنوات. اقتصاديًا، فإن الأردن يعاني بالفعل من ضغوط مالية خانقة، واستقبال المزيد من اللاجئين سيؤدي إلى انفجار اجتماعي حتمي، قد يتحول إلى انتفاضة شعبية ضد النظام. أما مصر، التي تواجه أزمات اقتصادية خانقة، فإن استيعاب الفلسطينيين سيفاقم المشكلات الداخلية، مما قد يدفع النظام إلى إجراءات قمعية أوسع لاحتواء أي رفض شعبي. خاتمة: تهجير قسري بغطاء سياسي؟ رغم المواقف الرسمية الرافضة، فإن السيناريو الأخطر هو تنفيذ التهجير القسري بطريقة تدريجية تحت غطاء سياسي وإعلامي. وبينما تحاول الأنظمة العربية امتصاص الغضب الشعبي من خلال بيانات رفض شكلية، فإن حقيقة الأمر أن الضغوط الأمريكية قد تجد طريقها في النهاية إلى التنفيذ الجزئي لهذا المخطط. الحل الوحيد لمنع ذلك هو موقف شعبي صارم يرفض أي تنازل عن الأرض الفلسطينية، وإلا فإن سيناريو “النكبة الثانية” قد يكون أقرب مما يتصور الكثيرون.

تابع القراءة

المقاومة…الشرعية التكلفة والغايات

إن فعل المقاومة خيارًا استراتيجيا فرضه الواقع، وليس مجرد استجابة ولدها العقل العروبي/ الإسلاموي المستسلم لأوهامه الأيديولوجية التي تدفعه إلى مغامرات ذات عواقب وخيمة، وتعميه عن الحسابات الواقعية1، في حين أن نقد المقاومة كخيار وإن كان يبدو في ظاهره يحتكم إلى الواقع وتعقيداته، إلا “أن معجمه الجديد يبدو خاليًا بالكلية من مفاهيم يمكنها التعامل مع الشروط المادية للواقع العربي2“، إذ “لا مجال هنا للسياسة التي تتطلب حدًا أدنى من التورط العضوي مع أطراف لا تتماهى معها بالضرورة3” إنما فقط “خطاب فوق سياسي، إذ يخلط بشكل متكرر بين الأحكام الأخلاقية المطلقة على الفاعلين السياسيين، والفعل السياسي نفسه المحكوم بطبيعته بأطر استراتيجية وتكتيكية تؤطر الصراع العيني4“. إن التأكيد على الحق في المقاومة مخلص للحسابات الواقعية، أما موقف عدد من الفلاسفة الغربيين من المقاومة الفلسطينية، ومن العدوان الإسرائيلي على غزة، فإنما يتأسس على غض الطرف عن واقعة الاستعمار الاستيطاني في إسرائيل، والنظر إلى الصراع باعتباره “صراع إثني بين شعبين جمعهما القدر التاريخي والجغرافي في الأراضي المقدسة”، وينتهي الأمر “إلى حجب مفهوم «المقاومة» بالكلية، وافتراض الصراع نوعاً من صراع ديني أو قومي بلا جذور استعمارية، يؤججه المتطرفون من الجهتين، ويبحث عن معتدلين لحله من الجهتين”، وهو من جهة أخرى يكشف أن نقد هؤلاء للمنظومة الرأسمالية القائمة إنما هو “مجرد أشكال يستوعبها هذا النظام ويقبل بها من داخله” وليس نقدا جذريًا، ويظهر أن فلسفاتهم في حقيقتها تنتج هذا الموقف العاجز عن الاشتباك مع مظلوميات بهذا القدر من الوضوح5. مكونات مشهد المقاومة: يتشكل مشهد المقاومة من وجود «حق» أو «أصل»، يتصارع عليه طرفان، أحدهما معتدي والآخر صاحب الحق، وبينهما اختلالًا كبيرًا في ميزان القِوى، لكن مع ذلك يتحدى الطرف الأضعف ضعفه ويتشبث بالندية6. لكن هذه الندية لا يعني انتصار المقاومة بالضربة القاضية، إنما عبر مسار طويل من انهاك العدو، ومراكمة القوة والخبرة، في الحقيقة إن هدف المقاومة رفع تكلفة بقاء العدو، انهاكه. فإن “حروب التحرر والثورات وعمليات المقاومة هي ضربات لا تحقق مكاسب كبيرة بشكل مباشر بحكم التفاوت الهائل للقوى، وإنما تُراكِم مكاسب محدودة حتى يعتدل الميزان7“. وتبقى سر جاذبيتها، أن المقاومة ليست بديلًا للحوار، وإنما بديل للفناء، الإبادة أو التهجير. والمقاومة من جهة أخرى تعبير عن الحياة، فالميت لايقاوم؛ فهي مؤشر على وجود أمة حقيقية وليس مجرد أفراد تجمعهم فقط اللحظة وتحركهم منفعة آنية، كما أن ردود الفعل الإبادية والعنيفة لقوى الاحتلال والعدوان إنما الغرض منها إجهاض القدرة على المقاومة وتبديد مظاهرها. كما أن المقاومة أمر تفرضه طبيعة الصراع وجذريته وخصائصه، وسلوك العدو، فعندما يكون العدو وحشيًا وإجراميًا وغير قابل أو مستعد للتسوية ولا الهدنة، وإنما فرض الخنوع والعبودية، إلى حين توفر الفرصة المناسبة لاقتلاع الشعب وطرده، تكون المقاومة لازمة بكل أشكالها8، كذلك فإن المقاومة أمر محتوم، فالناس لا يستسلمون لما يعتبرونه طغيانًا إلا عندما يعجزون عن مقاومته. تكلفة المقاومة: هناك من يرى في تأييد خِيار المقاومة أمرًا صعبًا على من احتفظ بعدد من القناعات (العقلانية، والإنسانية، والنفعية)، فهو عمل مرتجل، لا يتخلله تمييز بين بشر وبشر، ولا اعتبار لتوازنات القُوَى ناهيك عن ارتكازه على أشد الأفكار والقيم بدائية، وإفضائه إلى كارثة محققة بحق الشعب، والوعي الداعم للمقاومة إنما هو “وعي إبادي” للعقل والأخلاق والحرية9. فالتكلفة العالية للمقاومة، ورد الفعل الأشد عنفًا وتطرفًا من جانب قُوَى الاحتلال، الذي قد يصل إلى مستوى الإبادة الجماعية، وما يصاحب ذلك من خسائر هائلة في الأرواح، وفي تدمير وتفكيك مقومات الحياة للشعب الرازح تحت حكم الاحتلال، بل وفي بعض الأحيان تفكيك قُوَى المقاومة وتدمير هياكلها التي استغرقت سنوات في بنائها، كل ذلك يشار إليه في نقد خِيار المقاومة. وأن عمليات المقاومة، تمارسها تنظيمات مسلحة، لديها مشروع سياسي، وحلفاء، ولديها شبكات وسياسات وخطابات، ولديها قيادة ذات مطامح ومصالح وتكتيكات، وتتحرك في سياقات خاصة، وبيئات حاضنة، ومن ثم إذا كانت المقاومة مشروعة من حيث المبدأ، فإن الممارسة الواقعية لفعل المقاومة تفرض على أصحابها أن تضع في اعتبارها السياقات والظروف والمدخلات المختلفة، وأن يأخذوا في اعتبارهم الكلفة العالية التي يدفعها المدنيين من جراءِ النشاط المقاوم. في المقابل يمكن القول أن التوقف عن المقاومة لا يوقف خسائر المجتمع الخاضع للاحتلال؛ فإن تكلفة المجتمعات في ظل الاحتلال عالية، والتحلل التدريجي للمجتمع وفقدانه لمقومات الحياة نتيجة طبيعية في حال أحجم عن المقاومة، فبقاء قُوَى المحتل مرهونة بقدرته على إبقاء المجتمع تحت السيطرة، وترويض قوة التمرد أو تصفيتها. وفي حالة غزة، فقد أصبح الوضع تحت الحصار، الممتد لـ 16 عام، تخللتها 5 حروب كبرى ضد القطاع، غير محتملة، فالمجتمع يعيش معاناة في السكن والعمل والخدمات والتنقل والسفر والأمن الشخصي، فضلا عن عجز معظم سكان القطاع عن تلبية احتياجاتهم في الغذاء10. كما أن الهدف النهائي للاستعمار الاستيطاني الإحلالي الإسرائيلي ليس الترويض والإخضاع والسيطرة، وإنما التهجير والإبادة، لتحقيق حلم الدولة اليهودية، بالتالي بديل المقاومة هنا إنما الفَنَاء ولعل ذلك هو ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة إلى القول أن عملية طوفان الأقصى لم تأت من فراغ بل جاءت نتيجة سياق تاريخي طويل، فهي انفجار نتيجة انسداد الأفق في وجه الفلسطينيين وتحديدًا في قطاع غزة11. الأهداف المرحلية والغايات النهائية لفعل المقاومة: إن “كل فعل مقاوم هو إسهام في عملية تاريخية تراكمية تسعى إلى تغيير الواقع وتحرير الأرض والناس، وكل تحرر من الاستعمار حصل بفعل تراكم مجموعة من الأفعال على مدى زمني طويل، بعضها لم ينجح في وقته، لكنه أسس لما بعده، وما كان التحرير ليكون لولا تراكم هذه الأفعال” فالجدوى في التراكم12. كما أن المقاومة لا تستهدف فقط إنهاك قُوَى الاحتلال، وكشف ثغراته واستغلال نِقَاط ضعفه، وإنما أيضًا تعريته من أي خطاب أخلاقي يتظاهر به، وكشف وجهه العنيف اللاعقلاني واللاأخلاقي، فضلا عن المساهمة في تشكيل رأي عام دُوَليّ داعم وتضامن عالمي واسع13. ختامًا: مشروع وطني جامع يترجم نجاحات المقاومة إلى نتائج سياسية: إحدى المقولات التي يتم ترويجها أن الكفاح المسلح يستلزم مشروع وطني جامع، يعبر عن الشعب كله، ويحول انتصارات المقاومة إلى مكاسب سياسية14، لكن في مقابل هذا الطرح، يمكننا القول أن المقاومة لا تتحرك في واقع من صنعها، إنما تنطلق المقاومة في الأساس بهدف تغيير واقع تراه غير مواتي، بالتالي المقاومة هدفها تغيير الواقع، من ثم لا يمكن مطالبتها بالتوقف حتى يتغير الواقع ويظهر مشروع وطني جامع قبل أن تشرع في عملها المقاوم. ومن زاوية منطقية بحتة، فإن تراكم انتصارات المقاومة يترجم حتما إلى مكاسب سياسية، سواء أدرك الفاعلين ذلك أو جهلوه. من جهة أخرى، أحيانا تلام المقاومة ليس من باب التشكيك في جدواها أو شرعيتها، وإنما من زاوية أن قُوَى المقاومة في سياق تاريخي ما، يخالف التصور المثالي لدى هؤلاء النقاد، فتلام حماس، على سبيل المثال، من باب أنها تحمل أيديولوجيَا إقصائية فئوية لا تستقيم مع…

تابع القراءة

السلطة والمجتمع في مصر “التعامل مع المجال العام بمنطق الكمين”

الحالة الأولى: أعلنت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، في 15 يناير 2025، استدعاء نيابة أمن الدولة العليا، لمديرها حسام بهجت، للتحقيق، في 19 يناير 2025. اتضح لاحقًا، أن التحقيقات ستكون على ذمة القضية رقم 6 لسنة 12025. وبحسب متابعين فإن استدعاء بهجت للتحقيق جاء ردة فعل على تقارير نشرتها المبادرة عن أوضاع حقوق الإنسان في مصر، وكان من أبرزها تقريرًا2 بخصوص “إضراب عن الطعام وامتناع عن استلام التعيين بسجن العاشر 6 احتجاجًا على الحبس الاحتياطي المطول وسوء أوضاع الاحتجاز”. وهو التقرير الذي ردت عليه وزارة الداخلية، في بيان لها، نفت فيه ما وصفته بـ “الزعم بإضراب عدد من نزلاء أحد مراكز الإصلاح والتأهيل عن الطعام احتجاجًا على تردي أوضاع احتجازهم3“. الحالة الثانية: إلقاء القبض على ندى مغيث زوجة رسام الكاريكاتير أشرف عمر المحبوس احتياطيًا منذ 22 يوليو الماضي، في 16 يناير 2025، وتسليمها إلى نيابة أمن الدولة العليا، التي وجهت لها اتهامات بـ “الانضمام إلى جماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة”، وأدرجتها على ذمة القضية رقم 7 لسنة 2025، ثم أخلت سبيلها بكفالة 5 آلاف جنيه، بعد تحقيق استمر 5 ساعات4. القبض على ندى جاء بعد يوم واحد من صدور بيان عن وزارة الداخلية، نفت فيه صحة ما ورد بمقطع فيديو تم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي تضمن ادعاء إحدى السيدات (في الإشارة إلى ندى مغيث) إلقاء القبض على زوجها، والتحصل على مبالغ مالية وبعض المتعلقات من محل سكنه أثناء ضبطه ودون إثباتها في محضر الضبط5. الحالة الثالثة: القبض على “مغيث” صاحبه القبض على المذيع بموقع ذات مصر، أحمد سراج، فيمَا رجح رئيس تحرير موقع ذات مصر، صلاح الدين حسن، أن يكون “القبض على سراج سببه الحُوَار6 الذي أجراه مع مغيث، ونُشر قبل نحو شهر، وقالت فيه إن القوة التي قبضت على زوجها أخذت من المنزل «350 ألف جنيه مدخرات شخصية»، لم يثبت منها في المحضر سوى نحو ربعها، وذلك بخلاف المتعلقات الشخصية الأخرى، التي أخذتها القوة من المنزل دون أن كون لها علاقة بالتهم الموجهة لعمر7“. الحالة الرابعة: إلقاء القبض على اليوتيوبر المصري أحمد أبو زيد، في 31 ديسمبر 2024، في إطار ما وصفته الداخلية بـ “إجراءات مقننة لتعامله غير المشروع في الاتجار بالنقد الأجنبي خارج نطاق السوق المصرفي؛ وضُبط بحوزته ( أكثر من 163 ألف دولار – هاتف محمول يتضمن رسائل تؤكد نشاطه الآثم )8“، إعلان الداخلية القبض على أبو زيد جاء بعد أسبوع من القبض عليه، في 7 يناير 2025، بعد “أيام فقط من إعلان ترشحه لجائزة “قمة المليار متابع، وهي جائزة عالمية تُنظم في الإمارات وتُكرم صناع المحتوى الهادف9“. أثار خبر القبض على أبو زيد موجة واسعة من الغضب والتضامن على مواقع التواصل، وأثار حالة واسعة من الاستغراب؛ فلم يكن معروفًا عن أحمد نشاط سياسي أو انتماءات مثيرة للجدل. الفرز على أساس الولاء: المشترك بين الحالات الـ 4 المرصودة، أن أصحابها إما استخدموا حقهم في الكلام في معارضة الوضع القائم، كما يظهر في حالة حسام بهجت ممثلًا للمبادرة المصرية، وبياناتها الكاشفة عن حجم الأزمة التي تعيشها أوضاع حقوق الإنسان في مصر، ويظهر أيضًا في حالة ندى مغيث التي استنكرت تحريز القوات التي ألقت القبض على زوجها مبلغ مالي كبير، ومتعلقات شخصية، دون أن تدرج ذلك في محضر الواقعة. أو راكم رأسمال مادي أو رمزي عبر قنوات خارج النظام القائم، وهو ما يظهر بشكل واضح في حالة اليوتيوبر أحمد أبو زيد، الذي يبدو أن مشكلته مع الأمن أنه حقق نجاحًا كبيرًا في مجاله، وحقق شعبية وانتشارًا، وفي الوقت نفسه ظل بعيدًا عن دوائر السلطة، ولم يكن على اتصال بقنواتها10. فالهدف النهائي للسلطة أن يبقى خطاب السلطة مهيمنًا في المجال العام، مع إقصاء الخطابات المعارضة، وأن تظل نخبة الحكم وحلفائها محتكرين للرأسمال المادي والرمزي دون غيرهم، وأن تظل قُوَى المعارضة، والمجموعات المتضررة من الحكم القائم، أو المستقلة عنه، دون خطاب يحدد موقعهم من السلطة القائمة، ودون قوة أو نفوذ، ودون أطر تجمعهم وتفتح المجال أمامهم للحركة والعمل. الاستثناء الدائم في مصر: القانون في طبيعته من المفترض أن يحول دون تمييز نخبة الحكم والمقربين منها، وأن يمنع انتهاك حق المعارضين لمجرد تبنيهم لخطاب مناهض لخطاب القائمين على السلطة، لأن شرعية القانون تأتي من كونه تعبيرًا عن الإرادة العامة، لكن واقعيًا يمكن للقانون أن يصبح أداة للتهميش والإقصاء والقمع والتمييز، لكن في الوقت ذاته، يظل الجانب الإجرائي والشكلي للقانون يبطء من سياسات العصف بحقوق المواطنين؛ من هنا يأتي حرص السلطة على اللجوء لقوانين الطوارئ أو حالة الاستثناء بحثا عن السرعة والإنجاز في تنفيذ الممارسات السلطوية، كذلك من باب الحرص على تأسيس عِلاقة بالمواطن مبنية على السيطرة اللامحدودة، وهو ما لا تتيحه الإجراءات القانونية العادية. من ينظر في تاريخ عِلاقة المجتمع والمواطن بالأجهزة الشرطية يجد أن “تاريخ مصر الحديث هو تاريخ طويل من الاستثناء الدائم”، والاستثناء هنا يشير إلى “استثناء المصريين من جملة حقوق وحريات وضمانات قانونية ودستورية”11، الاستثناء هنا هدفه السيطرة الكاملة على السكان دون التقيد بأية قيود يمكن أن تبطء أو تعرقل السيطرة. وفي محاولة ممتدة من السلطة لتكريس الاستثناء باعتباره الأصل جرت بصورة مستمرة “محاولة إدماج ما يعرف بالأعمال البوليسية في نطاق صلاحيات السيادة”، وكذلك محاولة إدماج “الأحكام العرفية نفسها وما ينتج عنها من محاكم عسكرية في أعمال السيادة أيضا”12. وإن كان الأمر مختلف في ظل النظام الحالي؛ إذ ليست هناك محاولات لإدماج الأعمال البوليسية والأحكام العرفية في أعمال السيادة فقط، إنما هناك محاولة، واعية أو غير واعية، لإحلال الاستثناء مكان القانون الطبيعي؛ ولعل مشروع الإجراءات الجنائية13 المطروح حاليًا أمام البرلمان أبرز هذه المحاولات. المجال العام وسياسة الكمين: السيطرة على المجال العام جزء من مشهد كلي قوامه مجتمع سجين وسلطة حارسة لا تكف عن المراقبة والتنكيل، حيث تتعامل الأجهزة الأمنية مع المجال العام بمنطق الكمائن، والتي تعمل كأدوات حجز وتنقية واستبعاد للذوات التي يجب عليها ألاّ تتواجد في مساحات معينة14“؛ بالتالي الحيلولة دون ظهور خطاب يناهض الخطاب الذي تتبناه نخبة الحكم، ويعوق الصعود الاجتماعي لفئات خارج المجموعات ذات الحظوة لدى القائمين على الحكم. الملفت أن التعامل مع المجال العام وفق منطق الكمين يدفع الناس إما للهجرة والهروب، أو التخفي الذي أصبح إحدى الأدوات المعتمدة للتكيف مع تكثيف الاشتباه والتضيق الأمني والإرهاب. ما ينجم عن الهروب أو التخفي من جرّاءِ إتباع سياسة الكمين، هو نجاح السلطة في إقصاء وتهميش المختلف “وخلق وتحديد ذوات يحق لها التمتع بالموارد وبحقوقها الدستورية وذوات أخرى سيتم إبطال هذه الحقوق لها ولو لبعض الوقت”15. منطق الاشتباه وسياسة الكمائن اتسعت حتى استوعبت داخلها المساحات التي أتاحتها وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة بعد أن استحدثت «وحدة الرصد» في الأجهزة الأمنية وكذلك في النيابة العامة “الّتي تتابع الأنشطة على…

تابع القراءة

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022