السودان في يناير 2025: مشهد معقد بين التصعيد العسكري والانهيار الإنساني

حسام نادي_ باحث سياسى يدخل السودان عام 2025 وسط تصعيد عسكري متزايد بين القوات المسلحة السودانية (SAF) وقوات الدعم السريع (RSF)، مما يزيد من تعقيد الأزمة السياسية والإنسانية التي تعصف بالبلاد. ففي ظل تراجع فرص الحلول السلمية، وتزايد التدخلات الخارجية، بات المشهد أكثر قتامة، مع استمرار دوامة الحرب دون أفق واضح لإنهائها. التطورات العسكرية: تقدم تكتيكي أم إعادة تموضع؟ شهدت الأسابيع الأخيرة تطورات ميدانية حاسمة، حيث تمكن الجيش السوداني من استعادة مناطق استراتيجية في العاصمة الخرطوم ومدن أخرى، لكن ذلك لا يعني بالضرورة حسم المعركة. التقدم في الخرطوم وأم درمان نجح الجيش السوداني في اختراق الحصار الذي فرضته قوات الدعم السريع على مقره في الخرطوم، كما استعاد السيطرة على مصفاة الجيلي النفطية، التي كانت تُستخدم كمصدر إمداد رئيسي لقوات الدعم السريع منذ 2023. في أم درمان، ثاني أكبر مدينة في السودان، تمكن الجيش من استعادة عدة أحياء كانت تحت سيطرة الدعم السريع، وصادر مستودعات أسلحة، ما يعزز موقفه التكتيكي. المعارك في غرب السودان ودارفور بينما يحاول الجيش تأمين سيطرته على الخرطوم، يواجه ضغطًا متزايدًا في الغرب. فقد شنت قوات الدعم السريع هجومها الأكبر حتى الآن على مدينة الفاشر، آخر معاقل الجيش في دارفور، ما يهدد بمجزرة محتملة في حال سقوط المدينة. الدعم السريع يعتمد بشكل كبير على دعم خارجي، خصوصًا من الإمارات، التي هددت بقطع الإمدادات إذا فشل في استعادة الفاشر. ولاية الجزيرة وواد مدني استعاد الجيش السيطرة على واد مدني، المدينة التي كانت تشكل مركزًا لوجستيًا هامًا لقوات الدعم السريع، لكنه يواجه اتهامات بارتكاب انتهاكات ضد المدنيين، بما في ذلك عمليات إعدام واعتداءات ذات طابع عرقي. الأزمة الإنسانية: بين المجاعة والجرائم ضد المدنيين يستمر الوضع الإنساني في السودان في التدهور، حيث يعاني الملايين من الجوع والنزوح القسري، وسط تزايد الجرائم ضد المدنيين من كلا الطرفين. المجاعة وحصار المدن الفاشر تعيش تحت حصار خانق فرضته قوات الدعم السريع، مما أدى إلى نقص حاد في المواد الغذائية والمياه، مع تقارير تشير إلى اقتراب مجاعة تهدد مئات الآلاف من السكان. تشير الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 14.6 مليون سوداني مشردون داخليًا، فيما فرّ أكثر من مليون شخص إلى جنوب السودان، مما يهدد استقرار المنطقة بأكملها. انتهاكات حقوق الإنسان هناك اتهامات للجيش السوداني باستخدام أسلحة كيماوية في مناطق نائية، في حين نفذت قوات الدعم السريع غارات بالطائرات المسيرة على المستشفيات، ما أسفر عن مقتل عشرات المدنيين. وثقت تقارير إعلامية عمليات إعدام جماعية نفذتها قوات الجيش في ولاية الجزيرة، مما دفع جنوب السودان إلى استدعاء السفير السوداني للاحتجاج على مقتل رعاياه. ردود الفعل الدولية: ضغوط متزايدة دون حلول ملموسة يستمر المجتمع الدولي في فرض العقوبات والضغوط الدبلوماسية، لكن هذه التحركات لم تؤدِ حتى الآن إلى أي تغيير جوهري في مسار الصراع. عقوبات أمريكية وتجميد المساعدات العسكرية فرضت الولايات المتحدة عقوبات على قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان بسبب الانتهاكات بحق المدنيين، كما أدرجت قوات الدعم السريع في قوائم المتورطين في جرائم إبادة جماعية. يعمل الكونغرس الأمريكي على حظر مبيعات الأسلحة إلى الإمارات بسبب دعمها لقوات الدعم السريع. تحذيرات الأمم المتحدة من جرائم حرب حذرت الأمم المتحدة من احتمال وقوع تطهير عرقي في الفاشر، ودعت إلى تحقيقات دولية في جرائم الحرب التي يرتكبها الطرفان. التوترات الإقليمية أدى النزاع إلى تصاعد التوتر في جنوب السودان، الذي اضطر إلى حجب وسائل التواصل الاجتماعي بعد اندلاع اضطرابات مرتبطة بالحرب السودانية. تواجه الدول المجاورة، مثل إثيوبيا وتشاد، تدفقات هائلة من اللاجئين، مما يزيد من الضغط على أنظمتها الاقتصادية الهشة. المشهد السياسي: هل تتجه السودان إلى التقسيم؟ مع تحول النزاع إلى معركة استنزاف طويلة الأمد، بدأ بعض المحللين يتحدثون عن إمكانية تقسيم السودان إلى مناطق نفوذ بين الجيش وقوات الدعم السريع. الجيش وترسيخ سلطته في الوسط والشرق يسعى الجيش إلى تثبيت سيطرته على العاصمة والمناطق المحيطة بالنيل، بدعم من مصر وتركيا، مما يعزز موقفه كلاعب رئيسي في أي تسوية مستقبلية. الدعم السريع يرسّخ وجوده في دارفور مع تزايد الضغوط عليه في الخرطوم، يبدو أن قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) يركز على ترسيخ حكمه في دارفور، وهو ما قد يؤدي إلى تقسيم فعلي للسودان بين شرق وغرب. إذا نجح الدعم السريع في السيطرة الكاملة على دارفور، فقد نشهد دولة متمردة مدعومة إقليميًا، مما يفتح الباب أمام سيناريو مماثل للوضع في ليبيا. خاتمة: حرب بلا أفق وحلول مفقودة رغم التقدم الذي أحرزه الجيش في الخرطوم وبعض المناطق، لا يبدو أن أياً من الطرفين قادر على حسم الحرب قريبًا. مع استمرار الدعم الخارجي لكلا الطرفين، واستمرار تدهور الوضع الإنساني، فإن السيناريو الأكثر ترجيحًا هو حرب استنزاف طويلة الأمد، قد تفضي في النهاية إلى تقسيم السودان بحكم الواقع. في ظل هذا الوضع، تبقى الحلول السياسية غائبة، والمبادرات الدولية معطلة، بينما يدفع ملايين السودانيين ثمن صراع لا يبدو أن نهايته قريبة.

تابع القراءة

التهجير القسري لأهالي غزة: مخاطر السيناريو السري وتواطؤ الأنظمة العربية

حسام نادي – باحث سياسى يعود ملف تهجير الفلسطينيين إلى الواجهة مجددًا، هذه المرة بضغط أمريكي مباشر يقوده دونالد ترامب، الذي يسعى لإجبار مصر والأردن على استقبال سكان غزة كجزء من “تسوية نهائية” للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وبينما يرفض النظامان المصري والأردني علنًا هذا الطرح، فإن السيناريو الأخطر هو حدوث التهجير بغطاء خادع، سواء من خلال استغلال الرأي العام أو عبر صفقات سرية، وهو ما يحمل في طياته تهديدًا مباشرًا لاستقرار المنطقة ومصالح الشعوب. سياسة التهجير القسري تحت ستار “التسوية“ ترامب، بدعم من اللوبي الصهيوني والأطراف اليمينية المتطرفة في إسرائيل، طرح فكرة “تنظيف غزة”، وذلك عبر اقتراح تهجير 1.5 مليون فلسطيني إلى سيناء والأردن. ورغم التصريحات الرسمية الرافضة من القاهرة وعمان، فإن تاريخ الأنظمة العربية مع الضغوط الأمريكية يفتح الباب لاحتمالات التنفيذ التدريجي لهذه المخططات. عبد الفتاح السيسي وصف المقترح بأنه “ظلم”، لكنه في الوقت نفسه سمح بفتح معبر رفح بشكل محدود، بينما تشير تقارير إلى تنسيق أمني مكثف مع إسرائيل بشأن الوضع الحدودي، وهو ما يثير الشكوك حول مدى صلابة هذا الرفض. في الأردن، حذّر الملك عبد الله الثاني من “تصفية القضية الفلسطينية” لكنه لم يوضح كيف سيتعامل مع أي موجة نزوح جماعي حال حدوثها. تواطؤ الأنظمة واحتواء الغضب الشعبي الأنظمة العربية تدرك أن قبول التهجير علنًا سيشعل غضبًا شعبيًا غير مسبوق، لذلك تعتمد على استراتيجية “احتواء الرأي العام” من خلال تضخيم خطاب رفض التهجير، بينما قد تعمل سرًا على تسهيل عمليات الترحيل التدريجي عبر ما يُسمى بالممرات الآمنة أو المناطق العازلة. في مصر، يعتمد السيسي على السيطرة الأمنية المطلقة لمنع أي حراك شعبي ضد هذه الخطط. لكن مع تزايد الضغط الدولي، قد يجد نفسه مضطرًا للموافقة على استضافة لاجئين فلسطينيين تحت غطاء “الإغاثة الإنسانية”، تمامًا كما فعل مع قضايا أخرى خضعت لحسابات سياسية دولية. أما في الأردن، فإن الملك يواجه معارضة قوية داخلية لقبول المزيد من اللاجئين، لكن الضغوط الأمريكية والتهديدات الاقتصادية قد تدفعه نحو تسويات غير معلنة. التداعيات الكارثية لتهجير الفلسطينيين قبول أي تهجير جماعي يعني القضاء على فرص إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وتحويل القضية الفلسطينية إلى مشكلة “لاجئين بلا وطن”. كما أن توطين اللاجئين في سيناء قد يجعلها هدفًا مستقبليًا لمشاريع التقسيم أو حتى ضمها لإسرائيل ضمن خطط تغيير الخرائط الجغرافية. أمنيًا، فإن نقل أعداد كبيرة من الفلسطينيين إلى سيناء قد يؤدي إلى توترات جديدة مع الجماعات المسلحة في المنطقة، مما يخلق ذريعة لتدخلات إسرائيلية متزايدة، وربما يعزز مشروع “المنطقة العازلة” الذي تسعى إليه تل أبيب منذ سنوات. اقتصاديًا، فإن الأردن يعاني بالفعل من ضغوط مالية خانقة، واستقبال المزيد من اللاجئين سيؤدي إلى انفجار اجتماعي حتمي، قد يتحول إلى انتفاضة شعبية ضد النظام. أما مصر، التي تواجه أزمات اقتصادية خانقة، فإن استيعاب الفلسطينيين سيفاقم المشكلات الداخلية، مما قد يدفع النظام إلى إجراءات قمعية أوسع لاحتواء أي رفض شعبي. خاتمة: تهجير قسري بغطاء سياسي؟ رغم المواقف الرسمية الرافضة، فإن السيناريو الأخطر هو تنفيذ التهجير القسري بطريقة تدريجية تحت غطاء سياسي وإعلامي. وبينما تحاول الأنظمة العربية امتصاص الغضب الشعبي من خلال بيانات رفض شكلية، فإن حقيقة الأمر أن الضغوط الأمريكية قد تجد طريقها في النهاية إلى التنفيذ الجزئي لهذا المخطط. الحل الوحيد لمنع ذلك هو موقف شعبي صارم يرفض أي تنازل عن الأرض الفلسطينية، وإلا فإن سيناريو “النكبة الثانية” قد يكون أقرب مما يتصور الكثيرون.

تابع القراءة

المقاومة…الشرعية التكلفة والغايات

إن فعل المقاومة خيارًا استراتيجيا فرضه الواقع، وليس مجرد استجابة ولدها العقل العروبي/ الإسلاموي المستسلم لأوهامه الأيديولوجية التي تدفعه إلى مغامرات ذات عواقب وخيمة، وتعميه عن الحسابات الواقعية1، في حين أن نقد المقاومة كخيار وإن كان يبدو في ظاهره يحتكم إلى الواقع وتعقيداته، إلا “أن معجمه الجديد يبدو خاليًا بالكلية من مفاهيم يمكنها التعامل مع الشروط المادية للواقع العربي2“، إذ “لا مجال هنا للسياسة التي تتطلب حدًا أدنى من التورط العضوي مع أطراف لا تتماهى معها بالضرورة3” إنما فقط “خطاب فوق سياسي، إذ يخلط بشكل متكرر بين الأحكام الأخلاقية المطلقة على الفاعلين السياسيين، والفعل السياسي نفسه المحكوم بطبيعته بأطر استراتيجية وتكتيكية تؤطر الصراع العيني4“. إن التأكيد على الحق في المقاومة مخلص للحسابات الواقعية، أما موقف عدد من الفلاسفة الغربيين من المقاومة الفلسطينية، ومن العدوان الإسرائيلي على غزة، فإنما يتأسس على غض الطرف عن واقعة الاستعمار الاستيطاني في إسرائيل، والنظر إلى الصراع باعتباره “صراع إثني بين شعبين جمعهما القدر التاريخي والجغرافي في الأراضي المقدسة”، وينتهي الأمر “إلى حجب مفهوم «المقاومة» بالكلية، وافتراض الصراع نوعاً من صراع ديني أو قومي بلا جذور استعمارية، يؤججه المتطرفون من الجهتين، ويبحث عن معتدلين لحله من الجهتين”، وهو من جهة أخرى يكشف أن نقد هؤلاء للمنظومة الرأسمالية القائمة إنما هو “مجرد أشكال يستوعبها هذا النظام ويقبل بها من داخله” وليس نقدا جذريًا، ويظهر أن فلسفاتهم في حقيقتها تنتج هذا الموقف العاجز عن الاشتباك مع مظلوميات بهذا القدر من الوضوح5. مكونات مشهد المقاومة: يتشكل مشهد المقاومة من وجود «حق» أو «أصل»، يتصارع عليه طرفان، أحدهما معتدي والآخر صاحب الحق، وبينهما اختلالًا كبيرًا في ميزان القِوى، لكن مع ذلك يتحدى الطرف الأضعف ضعفه ويتشبث بالندية6. لكن هذه الندية لا يعني انتصار المقاومة بالضربة القاضية، إنما عبر مسار طويل من انهاك العدو، ومراكمة القوة والخبرة، في الحقيقة إن هدف المقاومة رفع تكلفة بقاء العدو، انهاكه. فإن “حروب التحرر والثورات وعمليات المقاومة هي ضربات لا تحقق مكاسب كبيرة بشكل مباشر بحكم التفاوت الهائل للقوى، وإنما تُراكِم مكاسب محدودة حتى يعتدل الميزان7“. وتبقى سر جاذبيتها، أن المقاومة ليست بديلًا للحوار، وإنما بديل للفناء، الإبادة أو التهجير. والمقاومة من جهة أخرى تعبير عن الحياة، فالميت لايقاوم؛ فهي مؤشر على وجود أمة حقيقية وليس مجرد أفراد تجمعهم فقط اللحظة وتحركهم منفعة آنية، كما أن ردود الفعل الإبادية والعنيفة لقوى الاحتلال والعدوان إنما الغرض منها إجهاض القدرة على المقاومة وتبديد مظاهرها. كما أن المقاومة أمر تفرضه طبيعة الصراع وجذريته وخصائصه، وسلوك العدو، فعندما يكون العدو وحشيًا وإجراميًا وغير قابل أو مستعد للتسوية ولا الهدنة، وإنما فرض الخنوع والعبودية، إلى حين توفر الفرصة المناسبة لاقتلاع الشعب وطرده، تكون المقاومة لازمة بكل أشكالها8، كذلك فإن المقاومة أمر محتوم، فالناس لا يستسلمون لما يعتبرونه طغيانًا إلا عندما يعجزون عن مقاومته. تكلفة المقاومة: هناك من يرى في تأييد خِيار المقاومة أمرًا صعبًا على من احتفظ بعدد من القناعات (العقلانية، والإنسانية، والنفعية)، فهو عمل مرتجل، لا يتخلله تمييز بين بشر وبشر، ولا اعتبار لتوازنات القُوَى ناهيك عن ارتكازه على أشد الأفكار والقيم بدائية، وإفضائه إلى كارثة محققة بحق الشعب، والوعي الداعم للمقاومة إنما هو “وعي إبادي” للعقل والأخلاق والحرية9. فالتكلفة العالية للمقاومة، ورد الفعل الأشد عنفًا وتطرفًا من جانب قُوَى الاحتلال، الذي قد يصل إلى مستوى الإبادة الجماعية، وما يصاحب ذلك من خسائر هائلة في الأرواح، وفي تدمير وتفكيك مقومات الحياة للشعب الرازح تحت حكم الاحتلال، بل وفي بعض الأحيان تفكيك قُوَى المقاومة وتدمير هياكلها التي استغرقت سنوات في بنائها، كل ذلك يشار إليه في نقد خِيار المقاومة. وأن عمليات المقاومة، تمارسها تنظيمات مسلحة، لديها مشروع سياسي، وحلفاء، ولديها شبكات وسياسات وخطابات، ولديها قيادة ذات مطامح ومصالح وتكتيكات، وتتحرك في سياقات خاصة، وبيئات حاضنة، ومن ثم إذا كانت المقاومة مشروعة من حيث المبدأ، فإن الممارسة الواقعية لفعل المقاومة تفرض على أصحابها أن تضع في اعتبارها السياقات والظروف والمدخلات المختلفة، وأن يأخذوا في اعتبارهم الكلفة العالية التي يدفعها المدنيين من جراءِ النشاط المقاوم. في المقابل يمكن القول أن التوقف عن المقاومة لا يوقف خسائر المجتمع الخاضع للاحتلال؛ فإن تكلفة المجتمعات في ظل الاحتلال عالية، والتحلل التدريجي للمجتمع وفقدانه لمقومات الحياة نتيجة طبيعية في حال أحجم عن المقاومة، فبقاء قُوَى المحتل مرهونة بقدرته على إبقاء المجتمع تحت السيطرة، وترويض قوة التمرد أو تصفيتها. وفي حالة غزة، فقد أصبح الوضع تحت الحصار، الممتد لـ 16 عام، تخللتها 5 حروب كبرى ضد القطاع، غير محتملة، فالمجتمع يعيش معاناة في السكن والعمل والخدمات والتنقل والسفر والأمن الشخصي، فضلا عن عجز معظم سكان القطاع عن تلبية احتياجاتهم في الغذاء10. كما أن الهدف النهائي للاستعمار الاستيطاني الإحلالي الإسرائيلي ليس الترويض والإخضاع والسيطرة، وإنما التهجير والإبادة، لتحقيق حلم الدولة اليهودية، بالتالي بديل المقاومة هنا إنما الفَنَاء ولعل ذلك هو ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة إلى القول أن عملية طوفان الأقصى لم تأت من فراغ بل جاءت نتيجة سياق تاريخي طويل، فهي انفجار نتيجة انسداد الأفق في وجه الفلسطينيين وتحديدًا في قطاع غزة11. الأهداف المرحلية والغايات النهائية لفعل المقاومة: إن “كل فعل مقاوم هو إسهام في عملية تاريخية تراكمية تسعى إلى تغيير الواقع وتحرير الأرض والناس، وكل تحرر من الاستعمار حصل بفعل تراكم مجموعة من الأفعال على مدى زمني طويل، بعضها لم ينجح في وقته، لكنه أسس لما بعده، وما كان التحرير ليكون لولا تراكم هذه الأفعال” فالجدوى في التراكم12. كما أن المقاومة لا تستهدف فقط إنهاك قُوَى الاحتلال، وكشف ثغراته واستغلال نِقَاط ضعفه، وإنما أيضًا تعريته من أي خطاب أخلاقي يتظاهر به، وكشف وجهه العنيف اللاعقلاني واللاأخلاقي، فضلا عن المساهمة في تشكيل رأي عام دُوَليّ داعم وتضامن عالمي واسع13. ختامًا: مشروع وطني جامع يترجم نجاحات المقاومة إلى نتائج سياسية: إحدى المقولات التي يتم ترويجها أن الكفاح المسلح يستلزم مشروع وطني جامع، يعبر عن الشعب كله، ويحول انتصارات المقاومة إلى مكاسب سياسية14، لكن في مقابل هذا الطرح، يمكننا القول أن المقاومة لا تتحرك في واقع من صنعها، إنما تنطلق المقاومة في الأساس بهدف تغيير واقع تراه غير مواتي، بالتالي المقاومة هدفها تغيير الواقع، من ثم لا يمكن مطالبتها بالتوقف حتى يتغير الواقع ويظهر مشروع وطني جامع قبل أن تشرع في عملها المقاوم. ومن زاوية منطقية بحتة، فإن تراكم انتصارات المقاومة يترجم حتما إلى مكاسب سياسية، سواء أدرك الفاعلين ذلك أو جهلوه. من جهة أخرى، أحيانا تلام المقاومة ليس من باب التشكيك في جدواها أو شرعيتها، وإنما من زاوية أن قُوَى المقاومة في سياق تاريخي ما، يخالف التصور المثالي لدى هؤلاء النقاد، فتلام حماس، على سبيل المثال، من باب أنها تحمل أيديولوجيَا إقصائية فئوية لا تستقيم مع…

تابع القراءة

السلطة والمجتمع في مصر “التعامل مع المجال العام بمنطق الكمين”

الحالة الأولى: أعلنت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، في 15 يناير 2025، استدعاء نيابة أمن الدولة العليا، لمديرها حسام بهجت، للتحقيق، في 19 يناير 2025. اتضح لاحقًا، أن التحقيقات ستكون على ذمة القضية رقم 6 لسنة 12025. وبحسب متابعين فإن استدعاء بهجت للتحقيق جاء ردة فعل على تقارير نشرتها المبادرة عن أوضاع حقوق الإنسان في مصر، وكان من أبرزها تقريرًا2 بخصوص “إضراب عن الطعام وامتناع عن استلام التعيين بسجن العاشر 6 احتجاجًا على الحبس الاحتياطي المطول وسوء أوضاع الاحتجاز”. وهو التقرير الذي ردت عليه وزارة الداخلية، في بيان لها، نفت فيه ما وصفته بـ “الزعم بإضراب عدد من نزلاء أحد مراكز الإصلاح والتأهيل عن الطعام احتجاجًا على تردي أوضاع احتجازهم3“. الحالة الثانية: إلقاء القبض على ندى مغيث زوجة رسام الكاريكاتير أشرف عمر المحبوس احتياطيًا منذ 22 يوليو الماضي، في 16 يناير 2025، وتسليمها إلى نيابة أمن الدولة العليا، التي وجهت لها اتهامات بـ “الانضمام إلى جماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة”، وأدرجتها على ذمة القضية رقم 7 لسنة 2025، ثم أخلت سبيلها بكفالة 5 آلاف جنيه، بعد تحقيق استمر 5 ساعات4. القبض على ندى جاء بعد يوم واحد من صدور بيان عن وزارة الداخلية، نفت فيه صحة ما ورد بمقطع فيديو تم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي تضمن ادعاء إحدى السيدات (في الإشارة إلى ندى مغيث) إلقاء القبض على زوجها، والتحصل على مبالغ مالية وبعض المتعلقات من محل سكنه أثناء ضبطه ودون إثباتها في محضر الضبط5. الحالة الثالثة: القبض على “مغيث” صاحبه القبض على المذيع بموقع ذات مصر، أحمد سراج، فيمَا رجح رئيس تحرير موقع ذات مصر، صلاح الدين حسن، أن يكون “القبض على سراج سببه الحُوَار6 الذي أجراه مع مغيث، ونُشر قبل نحو شهر، وقالت فيه إن القوة التي قبضت على زوجها أخذت من المنزل «350 ألف جنيه مدخرات شخصية»، لم يثبت منها في المحضر سوى نحو ربعها، وذلك بخلاف المتعلقات الشخصية الأخرى، التي أخذتها القوة من المنزل دون أن كون لها علاقة بالتهم الموجهة لعمر7“. الحالة الرابعة: إلقاء القبض على اليوتيوبر المصري أحمد أبو زيد، في 31 ديسمبر 2024، في إطار ما وصفته الداخلية بـ “إجراءات مقننة لتعامله غير المشروع في الاتجار بالنقد الأجنبي خارج نطاق السوق المصرفي؛ وضُبط بحوزته ( أكثر من 163 ألف دولار – هاتف محمول يتضمن رسائل تؤكد نشاطه الآثم )8“، إعلان الداخلية القبض على أبو زيد جاء بعد أسبوع من القبض عليه، في 7 يناير 2025، بعد “أيام فقط من إعلان ترشحه لجائزة “قمة المليار متابع، وهي جائزة عالمية تُنظم في الإمارات وتُكرم صناع المحتوى الهادف9“. أثار خبر القبض على أبو زيد موجة واسعة من الغضب والتضامن على مواقع التواصل، وأثار حالة واسعة من الاستغراب؛ فلم يكن معروفًا عن أحمد نشاط سياسي أو انتماءات مثيرة للجدل. الفرز على أساس الولاء: المشترك بين الحالات الـ 4 المرصودة، أن أصحابها إما استخدموا حقهم في الكلام في معارضة الوضع القائم، كما يظهر في حالة حسام بهجت ممثلًا للمبادرة المصرية، وبياناتها الكاشفة عن حجم الأزمة التي تعيشها أوضاع حقوق الإنسان في مصر، ويظهر أيضًا في حالة ندى مغيث التي استنكرت تحريز القوات التي ألقت القبض على زوجها مبلغ مالي كبير، ومتعلقات شخصية، دون أن تدرج ذلك في محضر الواقعة. أو راكم رأسمال مادي أو رمزي عبر قنوات خارج النظام القائم، وهو ما يظهر بشكل واضح في حالة اليوتيوبر أحمد أبو زيد، الذي يبدو أن مشكلته مع الأمن أنه حقق نجاحًا كبيرًا في مجاله، وحقق شعبية وانتشارًا، وفي الوقت نفسه ظل بعيدًا عن دوائر السلطة، ولم يكن على اتصال بقنواتها10. فالهدف النهائي للسلطة أن يبقى خطاب السلطة مهيمنًا في المجال العام، مع إقصاء الخطابات المعارضة، وأن تظل نخبة الحكم وحلفائها محتكرين للرأسمال المادي والرمزي دون غيرهم، وأن تظل قُوَى المعارضة، والمجموعات المتضررة من الحكم القائم، أو المستقلة عنه، دون خطاب يحدد موقعهم من السلطة القائمة، ودون قوة أو نفوذ، ودون أطر تجمعهم وتفتح المجال أمامهم للحركة والعمل. الاستثناء الدائم في مصر: القانون في طبيعته من المفترض أن يحول دون تمييز نخبة الحكم والمقربين منها، وأن يمنع انتهاك حق المعارضين لمجرد تبنيهم لخطاب مناهض لخطاب القائمين على السلطة، لأن شرعية القانون تأتي من كونه تعبيرًا عن الإرادة العامة، لكن واقعيًا يمكن للقانون أن يصبح أداة للتهميش والإقصاء والقمع والتمييز، لكن في الوقت ذاته، يظل الجانب الإجرائي والشكلي للقانون يبطء من سياسات العصف بحقوق المواطنين؛ من هنا يأتي حرص السلطة على اللجوء لقوانين الطوارئ أو حالة الاستثناء بحثا عن السرعة والإنجاز في تنفيذ الممارسات السلطوية، كذلك من باب الحرص على تأسيس عِلاقة بالمواطن مبنية على السيطرة اللامحدودة، وهو ما لا تتيحه الإجراءات القانونية العادية. من ينظر في تاريخ عِلاقة المجتمع والمواطن بالأجهزة الشرطية يجد أن “تاريخ مصر الحديث هو تاريخ طويل من الاستثناء الدائم”، والاستثناء هنا يشير إلى “استثناء المصريين من جملة حقوق وحريات وضمانات قانونية ودستورية”11، الاستثناء هنا هدفه السيطرة الكاملة على السكان دون التقيد بأية قيود يمكن أن تبطء أو تعرقل السيطرة. وفي محاولة ممتدة من السلطة لتكريس الاستثناء باعتباره الأصل جرت بصورة مستمرة “محاولة إدماج ما يعرف بالأعمال البوليسية في نطاق صلاحيات السيادة”، وكذلك محاولة إدماج “الأحكام العرفية نفسها وما ينتج عنها من محاكم عسكرية في أعمال السيادة أيضا”12. وإن كان الأمر مختلف في ظل النظام الحالي؛ إذ ليست هناك محاولات لإدماج الأعمال البوليسية والأحكام العرفية في أعمال السيادة فقط، إنما هناك محاولة، واعية أو غير واعية، لإحلال الاستثناء مكان القانون الطبيعي؛ ولعل مشروع الإجراءات الجنائية13 المطروح حاليًا أمام البرلمان أبرز هذه المحاولات. المجال العام وسياسة الكمين: السيطرة على المجال العام جزء من مشهد كلي قوامه مجتمع سجين وسلطة حارسة لا تكف عن المراقبة والتنكيل، حيث تتعامل الأجهزة الأمنية مع المجال العام بمنطق الكمائن، والتي تعمل كأدوات حجز وتنقية واستبعاد للذوات التي يجب عليها ألاّ تتواجد في مساحات معينة14“؛ بالتالي الحيلولة دون ظهور خطاب يناهض الخطاب الذي تتبناه نخبة الحكم، ويعوق الصعود الاجتماعي لفئات خارج المجموعات ذات الحظوة لدى القائمين على الحكم. الملفت أن التعامل مع المجال العام وفق منطق الكمين يدفع الناس إما للهجرة والهروب، أو التخفي الذي أصبح إحدى الأدوات المعتمدة للتكيف مع تكثيف الاشتباه والتضيق الأمني والإرهاب. ما ينجم عن الهروب أو التخفي من جرّاءِ إتباع سياسة الكمين، هو نجاح السلطة في إقصاء وتهميش المختلف “وخلق وتحديد ذوات يحق لها التمتع بالموارد وبحقوقها الدستورية وذوات أخرى سيتم إبطال هذه الحقوق لها ولو لبعض الوقت”15. منطق الاشتباه وسياسة الكمائن اتسعت حتى استوعبت داخلها المساحات التي أتاحتها وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة بعد أن استحدثت «وحدة الرصد» في الأجهزة الأمنية وكذلك في النيابة العامة “الّتي تتابع الأنشطة على…

تابع القراءة

الدولة الإسلامية المستحيلة “الأطروحة ونقدها”

ما أكثر ما كتب عن عِلاقة الدولة بالإسلام، وعن مُركب الدولة الإسلامية، باعتباره الأفق النهائي للتحديث من منظور الإسلام السياسي، ولا يزال السؤال عن العِلاقة بين الإسلام والدولة، وعن نموذج الدولة من منظور إسلامي، يستقطب كتاب وباحثين جدد. ولعل من أسباب هذه الجاذبية هو الطلب المستمر على الكتابات التي تتناول هذا السؤال، في هذا السياق جاء الاهتمام الواسع بكتاب الدولة المستحيلة لكاتبه وائل حلاق؛ خاصة أن صدور الطبعة الأولى من الكتاب جاء في أوج التغيير الذي أحدثته الانتفاضات العربية، وفي وقت كان قريب عهد بالصعود الكبير لحركات الإسلام السياسي في مصر، خاصة مع ما آثاره هذا الصعود من جدل حول شكل الدولة في ظل قيادة هذه الكيانات. ولا ننسى أن عنوان الكتاب في حد ذاته، وأيضًا لكون كاتبه “أكاديمي كندي مرموق من أصل مسيحي فلسطيني”، كل تلك الخلفيات زادت من من حجم الجدل المثار حول الكتاب. من جهة أخرى، الكتاب لا يزال راهنًا، من ثم فإن استعادة الجدال حوله يعد مشروعًا ومفهومًا، فلا تزال الحركات الإسلامية التي تبشر بنموذج الدولة الإسلامية قائمة، وباقية، والإسلام وتراثها الضخم لا يزال يلهم شعوب المنطقة، ويشكل وجدانهم. نستعيد في هذه السطور المقولات النظرية الأساسية لكتاب الدولة المستحيلة، كما نستعيد أهم النقاشات التي أثيرت بخصوص هذه الافتراضات. الأطروحة الرئيسة للكتاب: الدولة الحديثة هي نتاج تطور التاريخ الغربي، فهي ابنة المجتمعات الغربية، كما أن المفاهيم التي أسست للدولة الحديثة هي “مفاهيم لاهوتية معلمنة”، وعلى رأسها مفهوم السيادة، الذي بموجبه تحتكر الحق في التشريع، واحتكار العنف المشروع، وهيمنتها الثقافية واحتكارها إنتاج الذات الوطنية، والدولة في بيئتها الأصلية هي غاية في ذاتها، تمتلك جهاز بيروقراطي عقلاني يضمن لها تحقيق الاستمرار والاستقرار. أما الحكم الإسلامي فـ “تحل الأمة محل شعب الدولة القومية الحديثة”، وتحل سيادة الشريعة ومنظومة الأخلاق الإسلامية محل سيادة الدولة، ويكون رضا الله هو غاية الغايات، فـ “الفرد لا يوجد من أجل الدولة، بل العكس هو الصحيح فالدولة توجد لتحقيق رَفَاهيَة الفرد”، في الإسلام يقع الكثير خارج سيادة الدولة، أما الدولة الحديثة فلا تعترف بوجود عِصِيّ على إخضاعه لسيادتها1. لذلك فالسعي للدمج بين الدولة والشريعة/الأخلاق مشروع مستحيل التحقق2، وينطوي على تناقض داخلي؛ فالحكم الإسلامي يؤسس لمنظومة أخلاقية، في حين نجد أن الشأن الأخلاقي تقهقر في ظل الدولة الحديثة؛ حيث تم فصله عن السياسة والاقتصاد والقانون، كما أنه مستحيل التحقق لكون الحكم الإسلامي لم يعد قائمًا منذ نحو قرنين؛ بعدما قضى عليه الاستعمار الغربي، ومن ثم حدث انقطاع بين المسلمين ونموذج الحكم الإسلامي. من ملامح التباين بين الدولة والحكم الإسلامي كما يطرحها حلاق تتعلق بالفوارق بين الشريعة والقانون، فالقانون تعبير عن إرادة السلطة، أو إرادة فاعلين يمتلكون القوة لفرض إرادتهم، أما الشريعة فهي تعبير عن مراد الشرع مع تنزيله على الوقائع، حتى لو أراد الحاكم تمرير إرادته، لا يستطيع تمريرها إلا عبر خطاب الشريعة ووفق معطياتها و أبجدياتها، فـ “الحاكم التنفيذي يقف بمعزل عن السلطة التشريعية، وفي معزِل عن السلطة القضائية كونه خاضعا لأوامرها من نواح كثيرة”3. ومن ملامح التباين أيضًا المتعلقة بالشريعة أيضًا؛ أن الفقهاء في التجربة التاريخية الإسلامية قادمون من الطبقات الوسطى والدنيا، وظلوا مرتبطين بالمجتمع القادمين منه، وكانوا حلقة وصل بين السلطة والمجتمع، وممثلين لمجتمعاتهم وقادة مدنيين له، خاصة مع النزعة المساواتية المنتشرة في القرآن، من ثم كانت الشريعة “ظاهرة اجتماعية في الأساس وليست سياسة”، بعكس ما عليه الحال في الدولة الحديثة. أما في الدولة فقد كان القانوني ومعه السياسي كلاهما منفصل عن الأخلاقي، حيث كانت المعرفة في خدمة القوة. ومن التباينات بين النموذجين أن تكوين الذات، ذات المواطن، في ظل الدولة الحديثة، تشكلت عبر تحكم جهاز الشرطة وهيمنة نظام التعليم والثقافة؛ وكلاهما أنتج ذات المواطن. أما في ظل الحكم الإسلامي؛ فالدولة لا تتدخل في التعليم، كما لم تعرف أدوات مراقبة قاسية؛ لذلك فهي تنتج ذوات مباينة للذات التي تنتجها الدولة الحديثة4. الكتاب لا ينتقد فقط محاولة الدمج بين الدولة الحديثة والحكم الإسلامي، إنما ينتقد أيضًا التصورات السائدة لدى طيف واسع من الشرقيين عن الشريعة، وهي التصورات المستفادة من حضور الشريعة في ظل الدولة الحديثة في العالم الإسلامي، وليست الشريعة كما تتجلى طوال التاريخ الإسلامي ما قبل الحديث. فالشريعة في ظل الدولة الحديثة قد جردت من كل فاعلية وصار دورها ثانويًا. إن هدف “حلاق” تبيين جينالوجيا مفهومي “الشريعة” و”الدولة”، وتخليص مفهوم الشريعة مما لحق به من تشويه، مع تسليط الضوء على السيرورة التي تحولت بها الشريعة إلى قانون. فالكتاب ينتقد محاولة استنساخ الدولة وكأنها مجرد بنية بلا معنى؛ بحيث يمكن ملؤها بأي معنى نريد، مشددًا على أنها بنية مسكونة بمعاني محددة، وتظل بنيتها ووظيفتها وأدوارها ونتاجها محكوم بالميتافيزيقيا والتصورات المؤسسة عليها. وأن هذا المضمون الميتافيزيقي للدولة الحديثة يختلف بشكل جذري عن الرؤية الفلسفية الكامنة في نموذج الحكم الإسلامي المستند للشريعة. فالدولة التي يحكم عليها وائل حلاق بالاستحالة هي دولة الإسلام السياسي المتخيلة؛ دولة تستند إلى أخلاق ميتافيزيقية متعالية، وفي الوقت نفسه تستند إلى منطق الدولة الحداثية ذات السيادة. المنهجية التي اعتمدها وائل حلاق في بناء أطروحته: استخدم وائل حلاق في أطروحته مفهوم النطاق المركزي لدى كارل شميت، في المقارنة بين الدولة الحديثة والحكم الإسلامي، والنطاق لدى شميت هو المنظور الذي يُقرأ منه الواقع، إذ دائمًا هناك في كل حضارة نطاق مركزي، يفسر من خلاله المفكر تاريخ العالم، وموقع اللحظة الراهنة، ونفهم من خلاله مشهد العالم، ويمنحنا أيضًا اللغة التي نقول بها العالم. والعقلية الأوروبية خلال القرون الـ 4 الأخيرة، بدلت نطاقها المركزي 4 مرات؛ في المرة الأولى كانت تنظر للواقع من منظور روحاني/ ديني، في المرة الثانية من منظور ميتافيزيقي، في الثالثة من منظور اقتصادي، وفي الرابعة والأخيرة من منظور تقني. في النطاق الروحي يكون مرجع النظام لاهوتيًا، وفي النطاق الميتافيزيقي يكون مرجع النظام عالم طبيعي نسقي، وفي النطاق الاقتصادي يكون مرجع النظام عالم اقتصادي. كما استخدم حلاق مفهوم اركيولوجيا الخطاب عند فوكو، في تطوير مقولة شميت عن النطاق المركزي والنطاقات الهامشية. نقد أطروحة الدولة المستحيلة: نقد المنهج: تبني مقولة النطاق المهيمن في حضارة ما، يتجاهل ما تفعله السلطة الزمنية من تجاهل للنطاق تحقيقًا لمصالحها وتثبيتا لسيطرتها، وهو ما نشاهده في تجرِبة هيمنة الشريعة في العالم الإسلامي قبل الحديث، إذ “هيمنت الشريعة بالفعل، لكن افتقارها إلى القوة القاهرة التي امتلكها الملوك والسلاطين المسلمون أدّى إلى إشكالات سياسية ضخمة عاناها المسلمون عبر تاريخهم، وأدّت بفقهائهم وأصولييهم إلى التنظير اضطرارًا لحكم التغلُّب”، بالتالي يمكن أن يصلح مفهوم النطاق المركزي في فهم تاريخ أوروبا؛ إذ كان النطاق المركزي في تصور شميت يضمن هيمنته عبر الاستناد إلى سلطة الدولة، ما يحقق له الاستقرار، أما كون الشريعة نطاق مركزي لم يستند إلى سلطة تدعم هيمنته، جرفها إلى الهامش تحت…

تابع القراءة

هل نشهد ولادة ميلشيا في مصر أو عن تكرار السيناريو السوري

بداية تطرح هذه الورقة فرضية أن سيناريو تأسيس ميليشيا في مصر، على غرار الميليشيات التي شهدتها الحالة السورية، أو ميلشيا الدعم السريع التي شهدتها السودان يبدو مستبعدًا؛ بسبب غياب الأسباب اللازمة لنضوج هذه التجربة في مصر، وإن كانت الورقة تعترف أن هناك عوامل محفزة للعنف ضد الدولة في مصر، إلا أنها تفترض أن هذه المحفزات ليست كافية لدوران عجلة العنف الميليشياوي في البلاد. تستند الورقة في التحقق من صحة هذه الافتراضات إلى نص رئيسي كتبه أسامة رشدي وهو أحد القيادات التاريخية للجماعة الإسلامية في مصر، التي خاضت تجرِبة عنف طويلة ضد الدولة المصرية، انتهت بإعلان عدد من قياداتها مبادرة لوقف العنف وعمل مراجعات لتجربتهم. فضلا عن عدد من كتابات لمتخصصين في الحركات الإسلامية وجماعات العنف والإسلام السياسي. من يمارس العنف: في شهادته الشخصية والمعنونة بـ “الجماعة الإسلامية في مصر من المواجهة المسلحة إلى العمل السياسي1“، يشير أسامة رشدي إلى نِقَاط يراها أنها دافع للانزلاق إلى الصدام مع الدولة؛ الأول: الثأر في حال استهداف السلطة أحد المقربين من الشخص؛ حيث يذكر مقتل أحد أقرباؤه “كان طالبا متفوقًا في كلية العلوم بجامعة القاهرة”، خلال انتفاضة الخبز، نفس النقطة يشير إليها في حديثه عن خالد الإسلامبولي الذي شارك في عملية اغتيال الرئيس السادات؛ حيث يعتبر أن أحد دوافعه لاغتيال السادات، اعتقال أخيه في اعتقالات 1982 الشهيرة. النقطة الثانية: الخوف الشديد من بطش الدولة؛ إذ خوف شباب الجماعة الإسلامية أن يعيشوا مشاهد التعذيب التي عاشها الإخوان المسلمين في سجون عبد الناصر، كانت أحد دوافعهم الرئيسية للصدام مع السلطة. بالتأكيد فيمَا يتعلق بالخوف من الدولة والرغبة في الانتقام من نخبة الحكم، فإن هذا الشرط متحقق بوضوح في النظام الحالي، الذي طالت سياساته العنيفة والقمعية الجميع. شروط تتعلق بالبيئة الحاضنة: في ورقته تطرق “رشدي” إلى البيئة الحاضنة، التي يصبح في ظلها العنف خيارًا مقبولًا، مجتمع داعم لجماعات العنف، وفي هذا السياق أشار “رشدي” إلى أن اللجوء للعنف في التعامل مع نظام السادات، واغتيال الرئيس نفسه، جاء في نطاق سخط شعبي واسع على سياسات السادات ومواقفه؛ سواء فيمَا يتعلق بانتفاضة الخبز، وفي موقفه من التطبيع مع إسرائيل. وهو ما يعني أن تنظيمات العنف لا تنبت في الفراغ إنما تكون نتاج ظروف موضوعية تجعل من تشكل هذه الكيانات ممكنًا. نفس هذه الملاحظة أشار إليها الباحث المرموق في حركات الإسلام السياسي حسام تمام، في مقالة له بعنوان “مراجعات الإسلام الحركي” إذ يقول “لقد كان التغيير بالعنف مقبولًا وواردا في هذه الفترة في المِزَاج السياسي، لنراجع موقف مجمل القُوَى السياسية المعارضة من عملية اغتيال السادات مثلا والتي كانت موضع ترحيب من قُوَى تعتبر تقدمية وهو ما ظهر في التظاهرة الحقوقية التي جمعت كل ألوان الطيف السياسي دفاعًا عن قتلة السادات!2“، وظهرت أيضا في تعاطف النخبة المثقفة مع قتلة السادات؛ إذ على سبيل المثال امتدح أحمد فؤاد نجم منفذي العملية، كما رثى عبد الرحمن الأبنودي خالد الإسلامبولي بعد الحكم بإعدامه. عنف السلطة شرط ضروري للعنف المضاد: في شهادته يربط أسامة رشدي بين انزلاق الجماعة الإسلامية للعنف مجددا، في ظل حكم الرئيس مبارك، وبين تولي اللواء زكي بدر وزيرًا للداخلية، في فبراير 1986، معتبرًا أن توليه الوزارة هو ما دفع الجماعة دفعًا إلى العنف؛ جراء تماديه في اعتقال ناشطي الجماعة الإسلامية في الجامعات، والتوسع في عمليات التعذيب، والتضييق الشديد على السجناء في السجون ومقار الاحتجاز ولدى أجهزة أمن الدولة، مع تلفيق القضايا للأبرياء، فضلا عن إصدار أوامره إلى العمد والمشايخ والخفراء بقتل كل من له لحية أو يرتدي جلبابًا أبيض. وأن هذا العنف من جانب الداخلية هو الدافع وراء توجه الجماعة للعنف المسلح، وإلى توسعها في التنظير لشرعنة العنف. يرى علي الدين هلال أن العنف الموجه للدولة ملمح من ملامح فشل الدولة وهشاشتها، وهو يرجع إلى “ضعف أداء مؤسسات الدولة، وانكشافها وعدم قدرتها على الوفاء بالمهام الرئيسية لها وتوفير الخِدْمَات الأساسية لمواطنيها3“، وعليه ليس عنف الدولة شرط وحيد لانفجار العنف في وجهها، وإنما العنف المصاحب للفشل والإخفاق في الوفاء بمتطلبات المجتمع والمواطنين. بالبناء على ما ذكره على الدين هلال، وما ينطبع في الذهن من قراءة مقالة “تَراجُع دول وصعود مليشيات… سياق المسألة ومآلاتها وعلاقتها بطبيعة الدولة4“، للكاتب موريس عايق، أن الميلشيا تظهر وتتمدد في المساحات التي تنسحب منها الدولة، أو يكون وجودها فيها رماديًا باهتًا؛ فقد أسست دول الطوق العربي -ومنها مصر بالطبع- شرعيتها على تحقيق التحرر الوطني والتنمية، وكانت المحصلة النهائية من هذه الأهداف فشل لا تخفى ملامحه، ومع تخلي الدولة عن شرعية التمثيل، صار المجال مفتوحًا أمام ظهور الميلشيا وتمددها، خاصة أن فشل الدولة ارتد عنفا في وجوه مواطنيها. فـ “الفشل وتَقلُّص الدولة إلى لحظَتي النهب والقمع بدوره يهدد قُدرتها الخاصة على السيطرة على شعبها على المدى الطويل. من جهة ضعف الكفاءة المتزايد لهذه الدولة، وضعف الإمكانيات القادرة على تعبئتها وحشدها لقمع الاحتجاجات والتمردات أو الجماعات المختلفة التي تنازعُها السلطة. ومن جهة أخرى ازدياد مصادر النقمة والغضب على سلطة الدولة والاستعداد لمواجهتها من قبل الخاضعين لها5“. متى ينتهي العنف ضد الدولة: جاء عنف الجماعة الإسلامية -بحسب شهادة رشدي- من أجل الثأر ورد العدوان؛ ولم يكن عنفًا من أجل فرض نموذج أو تغيير نظام. وكان اللجوء إلى مبادرة وقف العنف بحسب رشدي، ليس بسبب انتهاء الأسباب التي أججته، إنما كنتيجة لمعاناة شبابهم في السجون، ومعاناة الأهالي والعائلات، من جرّاءِ حرق الزراعات وهدم المنازل ومعاقبة أقارب “المعتقلين”، وخروج الشرطة على كل الاعتبارات، فمَا عادت تلتزم القانون في ملاحقاتها لأعضاء الجماعة؛ فمَا تفرق بين أعضاء الجناح العسكري، والمنتمين بشكل عام، والمتعاطفين مع الجماعة. وفي النتيجة النهائية كانت مبادرة وقف العنف نتيجة قناعة تامة أن العنف لم يساهم سوى في تكريس الاستبداد والانهيار على كل المستويات، وأن العنف ليس هدفا في حد ذاته. في قراءته لتجربة عنف الجماعة الإسلامية ضد الدولة في مصر، يقدم “رشدي” العنف الممارس من قبل الجماعة باعتباره مجرد ردة فعل على عنف الدولة، واستجابة ميكانيكية له، وهو ما يبدو اختزاليا، كما أ نه يتجاهل السياقات التي واكبت الظاهرة، ولا يبذل كثير جهد في محاولة الربط بين انخراط الجماعة الإسلامية في العنف، وبين الأوضاع السياسية المضطربة عقب كامب ديفيد. وفي قراءته لموقف الدولة في مصر من جماعات العنف؛ يفترض “رشدي” أن هذا الموقف جاء استجابة للتطورات الخارجية، والمتعلقة بالموقف من الحرب الأمريكية على الإرهاب أكثر من كونه استجابة للمبادرة أو لتحولات الجماعة الإسلامية في مصر، لكن في النهاية كان تقليل النظام من معدل العنف الممارس بحق معارضيه شرط ضروري لوضع حد للصراع الدائر. كوابح العنف الميليشياوي في مصر: مقارنة مصر بالدول التي تشهد نشاط للميلشيات يظهر لنا، أن بنية الدولة نفسها في هذه الدول تفتح المجال لظهور الميلشيات وتفشيها؛ في…

تابع القراءة

اتفاق وقف إطلاق النار في غزة: حسابات الهزيمة والنصر

ما إن دخل وقف إطلاق النار في غزة حيز التنفيذ في 19 يناير 2025، حتي اندلعت حرب أخرى، لا تقل عنفًا لفظيًا عن الحرب التي وضعت أوزارها للتو، على وسائط التواصل الاجتماعي وعلى شاشات بعض القنوات العربية، بين من يعتبرون ما جرى ويجري انتصارًا للمقاومة وللشعب الفلسطيني (وأغلبهم من أنصار المقاومة والداعمين لتيار الإسلام السياسي)، ومن ينظرون إليه باعتباره ثاني نكبة تحل بهذا الشعب بعد احتلال أرضه التاريخية عام 1948 (وأغلبهم من معارضي المقاومة وينتمون لمحور التطبيع). ولن ينتهي هذا النقاش، رغم أن وقته ما زال مبكرًا، لأن ما توقف هو المجازر التي كانت ترتكبها إسرائيل، أما الحرب التي بدأت منذ وجد الكيان الصهيوني في المنطقة فما زالت مستمرة، والعدوان الحالي على أهالي غزة هو أحدث فصولها، وليس مستبعدًا أن يُستأنف بعد وقف إطلاق النار المؤقت الذي ينتهي بعد ستة أسابيع، وربما قبل ذلك في حال خرق إسرائيل الاتفاق، كما دأبت دائمًا، بما أنه لا عهد لساستها1. مع ذلك، فالمتاح من المكاسب والخسائر للطرفين (المقاومة والاحتلال) يمكن إجماله في سطور قصيرة، ريثما تضع الحرب أوزارها. أولًا: حسابات الهزيمة في اتفاق وقف إطلاق النار في غزة: عند النظر إلى الوضع في غزة من زاوية معينة، ربما يرى البعض أن القطاع لم يحقق النصر في حرب الإبادة الجماعية، ويكمن السبب في المعايير التقليدية التي يقاس بها النصر، كالحسم العسكري، أو استعادة الأرض، أو التأثير المباشر في تغييرات كبيرة في معادلة الصراع. ومن هذه الزاوية، يبدو أن غزة لم تحقق تلك الأهداف، إنما العكس هو الصحيح2، وهو ما يمكن توضيحه فيما يلي: 1- الخسائر البشرية والمادية: التي تعد الأعلى في التاريخ الفلسطيني، حيث قتلت إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023 (عملية طوفان الأقصى) ما لا يقل عن 46 ألفًا و707 فلسطينيين، وأصابت 110 آلاف و265 آخرين، أي ما معدله 100 شهيد فلسطيني يوميًا على مدار أيام الحرب الـ467 الماضية. ويقدر عدد سكان قطاع غزة بحوالي 2.3 مليون نسمة، نصفهم من الأطفال. مما يعني أن عدد هؤلاء السكان انخفض بنسبة 6% منذ بدء الحرب. كما أن هنالك 11 ألفًا و160 فلسطينيًا ما زالوا في عداد المفقودين، وغادر 100 ألف فلسطيني غزة. كما نزح حوالي 9 من كل 10 من سكان غزة (أي 90%)، واضطر الكثير منهم إلى النزوح عدة مرات منذ بدء الحرب مما جعلها أعلى موجة نزوح تسجل ضمن الصراعات الحديثة3. بالإضافة إلى حوالي 11 ألف أسير فلسطيني من قطاع غزة والضفة الغربية والداخل المحتل (عرب 48)، احتجزتهم إسرائيل بعد السابع من أكتوبر عام 2023، وهو ضعف عدد الأسري لدي إسرائيل قبل السابع من أكتوبر والمقدر بـ 5200 أسير فلسطيني4. وعلي الجانب العسكري، فقد أعلن قائد أركان الجيش الإسرائيلي، هرتسي هاليفي، في كلمة متلفزة، أن “الجناح المسلح لحماس تضرر بشكل كبير” مضيفًا “أن إسرائيل قتلت كبار قادة الحركة ونحو 20 ألف عنصر من حماس”5. وبالنسبة للخسائر المادية، فقد تم تدمير ما لا يقل عن 60% من مباني قطاع غزة، وتركزت غالبية الأضرار بالشمال، حيث كان حوالي 70% من مباني شمال القطاع قد دمرت، وكانت مدينة غزة هي الأكثر تضررًا، حيث دمر 74% من مبانيها. وقد تم مسح أحياء بكاملها من الخريطة بما تضمه من مستشفيات وبنية تعليمية، ناهيك عن انهيار البنية التحتية الحيوية مثل أنظمة الصرف الصحي وخدمات الكهرباء. ويقدر بعض الخبراء أن الأمر سيستغرق عقدًا من الزمن على الأقل لإزالة 42 مليون طن من الأنقاض في غزة. ويفيد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن نصف مستشفيات غزة البالغ عددها 36 مستشفى باتت تعمل بشكل جزئي اعتبارًا من 14 يناير. كما تعرضت 88% من المدارس للضرر أو التدمير (496 من أصل 564)، ودُمرت جميع المباني الجامعية في غزة، وتعرضت 92% ((436 ألفًا) من المنازل للضرر أو التدمير، بالإضافة إلى 80% من المرافق التجارية. وتم تدمير 68% من الأراضي الزراعية، فضلًا عن 68% من إجمالي شبكة الطرق في القطاع6. ومن المتوقع أن يكون الابتزاز للمقاومة هو محور موضوع إعادة الاعمار، وستكون الاستراتيجية الإسرائيلية والأمريكية وبعض الدول الغربية والعربية هو نزع التنازلات من المقاومة التي لم تتمكن معركة السلاح من انتزاعها، وهذه التنازلات ستدور حول ربط كل مبلغ مالي بشروط قاسية مثل: أ‌- افراغ أي دور تنظيمي أو إداري أو سياسي للمقاومة في إدارة القطاع أو إدارة موارد الإعمار، وقد تسعى الأطراف التي ستقدم المساعدات إلى إيجاد سلطة “لا لون لها ولا وزن” أو العمل على تسهيل تسلل السلطة التنسيق الأمني (السلطة الفلسطينية) إلى دوائر القرار في القطاع ، أو البحث في إدارة مؤقتة ترعاها دول عربية وبمشاركة دولية. ب‌- قد تعمل إسرائيل على دفع المتبرعين إلى تشكيل لجنة عربية دولية للإشراف على عمليات الإعمار ودخول المواد وتحت رقابة صارمة للمواد التي سيسمح بإدخالها، مع استبعاد أي مواد – بخاصة في المراحل الأولى – التي يمكن أن تستشعر إسرائيل بأنها مواد مزدوجة الاستخدام (أي يمكن أن تستخدم في الأغراض المدنية والعسكرية). ج‌- قد يتم ربط المساعدات بهيئات لا صلة لها بالأمم المتحدة وبخاصة وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، وربما يشترط ترامب حل الوكالة لا سيما أنه كان أول رئيس أمريكي يوقف المساعدات الامريكية للوكالة. د‌- قد يتم مطالبة المقاومة بالإعلان الصريح عن الاعتراف بإسرائيل (وهو ما قد يفتح شقاقًا بين التنظيمات الرئيسية في المقاومة)، أو نزع الأسلحة واشتراط اقتصار حمل السلاح على شرطة التنسيق الأمني التابعين للسلطة الفلسطينية7. ه- قد تستخدم عملية إعادة الإعمار وسيلة خلفية لإسرائيل من أجل الضغط علي سكان قطاع غزة لخروجهم تدريجيًا من القطاع من خلال جعل الحياة مستحيلة في غزة. وقد تترافق الهدنة ومنع إعادة الإعمار والتقنين في المساعدات، مع فتح المعابر أمام الغزيين للهجرة الطوعية. وهو ما يسمح بخروج عشرات الآلاف من الذين ضاقت بهم سبل العيش. وقد تسهل إسرائيل خروج الغزيين من خلال معابرها8. 2- التحديات الأمنية: حيث نجحت إسرائيل في فرض معادلة ردع ضد حركات المقاومة الفلسطينية في غزة، حيث ستعيد المقاومة التفكير كثيرًا قبل توجيه أي ضربات موجعة للاحتلال الإسرائيلي مستقبلًا لما قد يترتب عليه من ردة فعل إجرامية حد الإبادة الجماعية المتكاملة الأركان.كما نجحت إسرائيل – إلي حد كبير – في قطع سبل الدعم العسكري الذي كانت تتلقاه الحركة عبر التهريب من إيران عبر سوريا ولبنان (خاصة بعد الضربات الإسرائيلية إلي حزب الله وسقوط نظام بشار الأسد في سوريا واحتلال إسرائيل لأجزاء في الجنوب السوري). كذلك، ستحاول إسرائيل وحلفاؤها ربط المساعدات الإنسانية للقطاع بوجود نظام حكم عميل في غزة أو قوات مراقبة ونحو ذلك9. ناهيك بالطبع عن إمكانية عودة الحرب مرة أخري، حتى مع دخول الهدنة حيز التنفيذ وبدء عملية تبادل الأسرى بشروطها المعقدة، خاصة في ظل التصريحات العنترية المتواصلة من رئيس الوزراء المتطرف بنيامين…

تابع القراءة

اتفاق وقف إطلاق النار في غزة: الدوافع والدلالات والتحديات

بعد عدة جولات من التفاوض من أجل التوصل إلي اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس وإنهاء الحرب بينهما والتي استمرت حوالي 15 شهرًا، شن خلالها الاحتلال الإسرائيلي حربًا واسعة على قطاع غزة (للقضاء على قوات المقاومة، وإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، وفرض التهجير لمئات الألوف خارج قطاع غزة) ردًا على عملية طوفان الأقصى، التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023 على مستوطنات غلاف غزة، أعلن رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في 15 يناير 2025، بالشراكة مع مصر والولايات المتحدة، التوصل رسميًا لاتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية (كتائب عزالدين القسام التابعة لحماس وسرايا القدس التابعة للجهاد) في قطاع غزة، علي أن يبدأ تنفيذ الاتفاق في التاسع عشر من يناير 2025، ويُنفذ الاتفاق على ثلاث مراحل تنتهي بوقف دائم لإطلاق النار، وإعادة الإعمار، وضمانات أمنية للجانبين تمنع استئناف الأعمال القتالية بينهما[1]. وقد بدأت إسرائيل وحماس بتنفيذ بنود المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار. وبالرغم من التوتر الذي ساد الساعات الأولى للاتفاق؛ حيث تأخر تسليم أسماء الأسيرات الثلاث لدى حماس، ولم تلتزم إسرائيل بوقف إطلاق النار إلا بعد الساعة الحادية عشر والنصف ظهرًا (كان من المفترض أن يتم في الساعة الثامنة والنصف صباحًا)، إلا أن الطرفين تمسكا بالاتفاق، وتجاوزا هذه النقطة، ومن المتوقع أن تتم المرحلة الأولى دون مشاكل جوهرية رغم العقبات الفنية المحتملة[2]. أولًا: محطات التفاوض السابقة علي اتفاق وقف إطلاق النار في غزة: توصلت حماس وإسرائيل إلى اتفاق لتبادل الأسرى في نوفمبر 2023، أطلقت حماس حينها بموجبه سراح 80 محتجزًا إسرائيليًا من النساء والأطفال وكبار السن، بالإضافة إلى 25 أجنبيًا، مقابل إطلاق سراح قرابة 250 أسيرة وطفلًا فلسطينيين من السجون الإسرائيلية، وإدخال مساعدات إنسانية من أدوية وأغذية إلى قطاع غزة[3]. كان المأمول فلسطينيًا، وكذلك من قبل الوسطاء (مصر وقطر والولايات المتحدة الأمريكية)، أن تسمح هذه الهدنة بمفاوضات أكثر فاعلية من أجل إنهاء الحرب من خلال عمليات تمديد متتالية للهدنة، بيد أن إسرائيل كانت لها رؤيتها المختلفة؛ إذ استأنفت القتال بتاريخ 30 نوفمبر 2023، سبقه حديث واضح حول المصادقة على خطط التوغل البري[4]. شهدت العاصمة الفرنسية باريس، في يناير 2024، اجتماعًا دوليًا بمشاركة ممثلين من مصر وقطر والولايات المتحدة وإسرائيل، بهدف وضع إطار تفاوضي لإقامة صفقة تبادل للأسرى بين حماس وإسرائيل. ورغم الاتفاق المبدئي على إطار التفاوض، رفض الطرفان المعنيان مخرجات الاجتماع. ونص المقترح على صفقة تبادل للأسرى ووقف للحرب وانسحاب إسرائيل من قطاع غزة والسماح بعودة النازحين والبدء في إعادة الإعمار. وقدمت حركة حماس ردها على المقترحات المقدمة، غير أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قال إن العرض الذي قدمته حماس “خيالي” وغير قابل للتنفيذ. ورأت حماس في مواقف نتنياهو محاولة لإطالة أمد الحرب، وذكرت بشروطها التي تضمن لها الاحتفاظ بالمحتجزين ما لم توقف إسرائيل حربها، وما لم تفرج عن آلاف الأسرى الفلسطينيين. عُقد اجتماع ثان في باريس، في 23 فبراير 2024، بحضور الأطراف الدولية والإقليمية ذاتها، إضافة إلى الدولة المضيفة فرنسا، وخلص إلى اتفاق مبدئي على إطار عام لإقامة صفقة تبادل، إلى جانب طرح مسار يهدف إلى تهدئة الأوضاع في قطاع غزة بشكل مرحلي. وانتهت جولتان أساسيتان من المفاوضات على أساس ما عرف بـ”وثيقة مبادئ باريس” دون تحقيق اتفاق المرحلة الأولى من الوثيقة المقسمة إلى ثلاث مراحل. شهد شهري مارس وإبريل 2024 سلسلة من المحادثات والمفاوضات في القاهرة، تنوعت بين لقاءات الوسطاء وجولات تفاوض غير مباشرة بمشاركة ممثلين عن حماس وإسرائيل. وانتهت المحادثات دون إحراز تقدم جوهري – حسب ما نقل موقع أكسيوس الأميركي- عن مصدر إسرائيلي أوضح أن العقبة الرئيسية بالمفاوضات كانت الخلاف حول عدد الأسرى الفلسطينيين الذين تطالب حماس بالإفراج عنهم مقابل كل محتجز إسرائيلي، لا سيما الجنود الأسري. في السادس من مايو 2024 قالت حركة حماس إن رئيس مكتبها السياسي آنذاك إسماعيل هنية أجرى اتصالًا هاتفيًا مع رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، ومع مدير المخابرات المصرية عباس كامل، وأبلغهما موافقة حماس على مقترح اتفاق وقف إطلاق النار الذي قدمته الورقة المصرية[5]، ليتبعه إعلان إسرائيل، التي فاجأها رد حماس، أن الورقة المصرية، التي وافقت عليها حماس، تختلف عن الورقة التي وافقت عليها تل أبيب، ولتبدأ إسرائيل باجتياح رفح في اليوم التالي، مما أدى لانهيار المفاوضات[6]. وفي 27 مايو 2024 سلمت إسرائيل مقترحًا يعكس التعديلات الإسرائيلية على المسودة التي وافقت عليها حماس في 6 مايو، وفي 31 مايو 2024 أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن عما قال إنه “مقترح إسرائيلي شامل لوقف إطلاق النار في 6 أسابيع والإفراج عن جميع المحتجزين” وتبناه مجلس الأمن الدولي في قراره رقم 2735 يوم 10 يونيو 2024. ويتكون المقترح، بحسب ما طرحه بايدن في مؤتمر صحفي، من ثلاث مراحل، وينص على وقف دائم لإطلاق النار في قطاع غزة والانسحاب التام لجيش الاحتلال من المناطق المأهولة بقطاع غزة، وتبادل الأسرى، ودخول المساعدات، وإعادة الإعمار، وعودة النازحين[7]. رحبت حركة حماس بالمبادئ التي تلاها بايدن فورًا، في حين سرب نتنياهو من جديد أقواله في الجلسات المغلقة، مفادها أنه لا يوافق على إنهاء الحرب ضمن الإطار الذي قدمه الرئيس بايدن. بعد تسلم حركة حماس “ورقة بايدن”[8]، عبرت الحركة عن صدمتها من أن ما تلاه بايدن في مؤتمره الصحافي يختلف عما استلمته، وعليه قدمت المقاومة الفلسطينية ورقة تعديلات على ورقة بايدن، في 11 يونيو 2024، وصفت ورقة/ رد حماس من قبل فرق التفاوض الإسرائيلية بأنها “أفضل إجابة تتلقاها من حركة حماس منذ بدء المفاوضات”، لكن ورغم ذلك أصدر مكتب نتنياهو ردًا منسوبًا لمسؤول أمني كبير جاء فيه “إن حماس لا تزال تصر على بند أساسي في الإطار، وهناك المزيد من الثغرات التي لم يتم سدها، وستواصل إسرائيل المفاوضات ومواصلة الضغط العسكري في الوقت نفسه”. هنا لا بد من عرض مقارنة سريعة بين نص ورقة بايدن وتعديلات المقاومة عليها، كما هو مبين في النقاط التالية: 1- مقدمة الورقتين: أضافة المقاومة الفلسطينية ما يلي: جملة رفع الحصار، وأرفقت مع فقرة أن الاتفاق الإطاري مكون من ثلاث مراحل متصلة، أي أضافت حماس على الفقرة عبارة “متصلة ومترابطة”. وتأتي إضافة فقرة رفع الحصار، انطلاقًا من قناعة الفلسطينيين بأن الحصار أخطر من الحرب، فهو يفتك بالفلسطينيين ويقتلهم ببطء شديد، إذ بلغت مؤشرات الفقر والبطالة وانعدام الأمن الغذائي معدلات مرعبة ما قبل السابع من أكتوبر 2023، حسب تقارير البنك الدولي، (بلغ مؤشر الفقر 64%، ووصل انعدام الأمن الغذائي في القطاع إلى 68%، وبلغت نسبة البطالة 46% أغلبهم من الشباب والخريجين). أما إضافة كلمة “مترابطة”، فكان الغرض منها إغلاق الطريق على نتنياهو لمنعه من التهرب من استحقاقات الاتفاق بعد انتهاء المرحلة الأولى[9]. وكانت حماس تريد…

تابع القراءة

سوريا بين اسقاط بشار وتحديات المستقبل

في مشهد يعيد للربيع العربي فعالياته في المنطقة بأكملها، نجحت الثورة السورية في اسقاط حكم آل الأسد وحكم البعث الذي استمر في سوريا لأكثر من 54 عاما، وبعد 12 عاما من القتل والحرب التي شنها نظام بشار الأسد على الشعب السوري، جاء الهروب الكبير من قبل الأسد ومقربيه وعائلته مخزيا، بعدما  اذاق فيها الشعب السوري اسوأ انواع التعذيب والقمع الديكتاتوري مما اسفر عن استشهاد قرابه المليون مواطن واعتقال اكثر من مليوني اخرين، وهروب ملايين السوريين والعيش في المنافي.. وفي الساعات الأولى من صباح يوم الأربعاء 27 نوفمبر الماضي ، شنت فصائل المعارضة السورية، عملية عسكرية مفاجئة ضد قوات النظام السوري وحلفائه باسم “ردع العدوان”، هي الأولى من نوعها منذ اتفاق مارس 2020. خلال اثني عشر يوما تالية، حققت قوات المعارضة انتصارات مذهلة، أفضت إلى إسقاط نظام بشار الأسد، الذي فار هاربا إلى موسكو إذ منحه الرئيس بوتين حق اللجوء الإنساني، فيما دخل قائد إدارة العمليات العسكرية في المعارضة السورية، أحمد الشرع  يوم 8 ديسمبر إلى دمشق، وأعلن من الجامع الأموي أن “النصر الذي تحقق هو نصر لكل السوريين”، وتعهّد بأن الفصائل لن تتراجع وستواصل الطريق الذي بدأته في عام 2011، قائلا إن “المستقبل لنا”. انطلاق عملية ردع العدوان وفي الساعات الأولى من صباح يوم الأربعاء 27 نوفمبر ، شنت فصائل المعارضة السورية، عملية عسكرية ضد القوات الحكومية السورية وحلفائها باسم ردع العدوان“، عقب مواجهات عنيفة شهدتها مناطق الاشتباك في ريف حلب الغربي وريف إدلب الشرقي، تعد الأولى من نوعها منذ اتفاق مارس 2020. خلال الساعات الأولى من هجومها المفاجئ، حققت المعارضة المسلحة تقدما كبيرا وظهرت في ثوب أكثر تماسكا وتنظيما من خلال “غرفة عمليات عملية ردع العدوان”، حيث سيطرت على 20 بلدة وقرية في ريفي حلب وإدلب، إلى جانب قاعدة الفوج 46، النقطة الإستراتيجية الأهم في الطريق إلى حلب. وفي اليوم التالي، 28 نوفمبر سيطرت المعارضة على قرى إضافية في ريف إدلب الشرقي، ما جعلها على بُعد كيلومترات قليلة من طريق M5 السريع، الرابط بين شمال سوريا وجنوبها والواصل بين مدن إستراتيجية أهمها حلب وحمص وحماة. وفي الصباح التالي، استمر تقدم القوات في ريفي إدلب وحلب، مستحوذة على قرى ومدن جديدة، أهمها مدينة سراقب في ريف إدلب الواقعة على ملتقى طريقين دوليين. حلب أولى المحطات في اليوم نفسه، 29 نوفمبر شنت المعارضة هجوما مكثفا على مدينة حلب، وخلال ساعات  نجحت في السيطرة على عدة أحياء رئيسية، منها الحمدانية، والجميلية، وصلاح الدين، وبحلول نهاية اليوم وصلت القوات إلى الساحة الرئيسية وسط المدينة. وفي الساعات الأولى من يوم 30 نوفمبر تمكنت المعارضة من السيطرة على قلعة حلب ومقر المحافظ، وأمام هذا التقدم انسحبت القوات الحكومية إلى معاقل محدودة في إدلب، بينما تراجعت في حلب أيضا. في غضون ذلك، تم الإعلان عن استيلاء المعارضة على كميات كبيرة من الأسلحة التي تركها النظام خلفه، شملت دبابات من طراز T-90A، وبطارية نظام الدفاع الجوي S-125 Neva، وأنظمة Pantsir-S1 وBuk-M2، إضافة إلى مروحيات وطائرات مقاتلة كانت رابضة في قواعد حلب ومنغ الجوية. حماة المحطة التالية بحلول مساء 30 نوفمبر، حققت المعارضة تقدما سريعا نحو محافظة حماة، وسيطرت على عشرات البلدات والقرى الرئيسية، كما تمكنت المعارضة من الاستيلاء على مطار حلب الدولي الذي وقع في البداية تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية. في مقابل ذلك، عُززت القوات النظامية حول حماة، ونُشرت تعزيزات كبيرة في مناطق مثل جبل زين العابدين كما شنت روسيا عدة غارات جوية عنيفة، بما في ذلك غارة على مخيم للاجئين في إدلب أسفرت عن مقتل تسعة مدنيين وإصابة العشرات، وأخرى استهدفت مستشفى جامعة حلب أسفرت عن مقتل 12 شخصًا. وكانت المعارك حول حماة ضمن الأشرس في هذه الموجة من المواجهات، لكن المعارضة نجحت في حسم الأمور مستفيدة من تردي حالة القوات النظامية. وبحلول 5 ديسمبر ، أعلنت المعارضة سيطرتها على حماة والانطلاق نحو سجنها المركزي وتمكنت من إخراج مئات السجناء، بينما أعلن النظام تموضع قواته خارج المدينة. كان سقوط حماة بمثابة شهادة وفاة مبكرة للنظام الذي لم يفقد السيطرة على المدينة منذ عام 2011، وهو ما فتح الطريق للمعارضة للاستيلاء على بلدتين لهما أهمية رمزية دون قتال، هما محردة التي يقطنها الكثير من المسيحيين والسلمية التي تعد أحد مواطن الطائفة الإسماعيلية والتي دخلتها المعارضة بفضل اتفاق مع شيوخ المدينة ومجلسها الديني الإسماعيلي. وضعت هذه التطورات المعارضة على مشارف مدينة الرستن حيث استولت على قاعدة عسكرية استراتيجية في شمالها، ولمواجهة هذا التقدم شنت الطائرات الروسية غارة استهدفت الجسر الرئيسي الرابط بين حمص وحماة، في محاولة لعرقلة زحف المعارضة. وتعد حمص المركز الرئيس لشبكة السكك الحديدية والطرق السريعة في سوريا، مما يجعلها الممر الرئيسي والأسهل لحركة البضائع والأشخاص والقوات العسكرية في جميع أنحاء البلاد. سقوط حمص في يد الثوار السوريين كان المسمار الأخير في نعش نظام الأسد ربما جعلت هذه الأسباب دفاع النظام السوري عن حمص مختلفا نسبيا، إذ تدرك قوات الأسد أن خسارتها لحمص بمثابة خسارة ميدانية كبرى لا يمكن تداركها، وأن سيطرة المعارضة عليها تجعلها تتمتع بأفضلية إستراتيجية حاسمة. سيطرة المعارضة على حمص فتح  الطريق خلال ساعات قليلة للسيطرة على مدينة القصير، واحدة من أهم المدن الحدودية مع لبنان. ولكن ذلك لم يمنع تقدم المعارضة التي استولت في 6 ديسمبر على مدينة الرستن مع وضعها على طريق مفتوح نحو حمص. السيطرة على حمص ودمشق وسقوط الأسد في يوم 7 ديسمبر أيضا، وأمام انسحابات قوات النظام المتتالية أمام تقدم المعارضة تمكنت هذه الأخيرة من التغلب على بقايا قوات النظام في مدينة حمص ودخولها في مساء ذلك اليوم، حيث احتفلت بتأكيد سيطرتها على أبرز ميادينها وجامع الصحابي خالد بن الوليد. وفي نفس اليوم، تقدمت قوات المعارضة إلى ريف دمشق الجنوبي، ومن جديد انسحبت قوات النظام من عدد من البلدات الهامة لتصبح المعارضة على بعد 10 كيلومترات فقط من ضواحي دمشق، في تطور مثير عَكَس حجم الضغط العسكري الذي واجهته القوات السورية في تلك المناطق، لم تكن هناك مواجهات حاسمة من طرف النظام، لا لضعف قوات النظام فقط، بل لأنه لم يعد هناك من يريد القتال من أجل الأسد. ومن ناحية أخرى، كانت المعارضة السورية تنتصر دبلوماسيًا واستراتيجيًا، لا عسكريًا فحسب. فكما كتب تشارلز لستر، الباحث في الشأن السوري في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، تفاوضت المعارضة مع وجهاء الإسماعيليين، وقيادات عسكرية ومدنية في نظام الأسد، والقبائل السنية، مما أدى إلى سيطرة سلمية من المعارضة في معظم الحالات. وبعد حصار المعارضة للعاصمة وخاصة القادمين من جبهة درعا والسويداء من الجنوب، ومن ريفي دمشق الشرقي والغربي، وبقدوم فجر يوم 8 ديسمبر تمكنت المعارضة من السيطرة على العاصمة دمشق، ودخول كل المؤسسات الإستراتيجية والحيوية مثل مطار المزة العسكري، وقصر الشعب،…

تابع القراءة

مخاوف المصريين بعد حصول السيسي على الشريحة الرابعة من قرض صندوق النقد الدولي..تقدير موقف

الأربعاء 25 ديسمبر، أعلنت الحكومة المصرية وصندوق النقد الدولي، التوصل إلى اتفاق على مستوى الخبراء بانتهاء المراجعة الرابعة لبرنامج إصلاحات اقتصادية، يتيح للقاهرة الحصول على شريحة بقيمة 1.2 مليار دولار، من إجمالي قرض مرافق للبرنامج يبلغ 8 مليارات دولار. وعُقدت المناقشات التي بلغت ذروتها بالإعلان عن الاتفاق، من السادس إلى 20 نوفمبر شخصيا قبل أن يتم استكمالها افتراضيا. وقال رئيس الوزراء مصطفى مدبولي إن الصندوق “أنهى المراجعة الرابعة ضمن ترتيب تسهيل الصندوق الممدد، والذي ستحصل مصر بموجبه على 1.2 مليار دولار”، وفق بيان للحكومة. وأشار مدبولي إلى “التصريح الصادر عن إيفانا فلادكوفا هولار، رئيسة بعثة صندوق النقد الدولي إلى مصر، والذي أوضحت خلاله أنه تم التوصل إلى اتفاق على مستوى الخبراء مع السلطات المصرية بشأن المراجعة الرابعة ضمن ترتيب تسهيل الصندوق الممدد“. ونقل مدبولي عن هولار تأكيدها أن “السلطات المصرية واصلت تنفيذ سياسات رئيسية للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي الكلي، وذلك على الرغم من التوترات الإقليمية المستمرة التي تتسبب في انخفاض حاد في عائدات قناة السويس“. وأعلن صندوق النقد الدولي “التوصل إلى اتفاق على مستوى الخبراء مع مصر بشأن المراجعة الرابعة لبرنامج التسهيل الممدد، مما سيمكن مصر من الحصول على حوالي 1.2 مليار دولار”، لكن تحويل المبلغ سيكون رهن موافقة المجلس التنفيذي للصندوق. وأنهت مصر المراجعة الأولى مع الصندوق، وحصلت على شريحة بقيمة 347 مليون دولار، ثم تبعته بالشريحتين الثانية والثالثة بقيمة 820 مليون دولار لكل شريحة، ليبلغ مجموع ما حصلت عليه مصر حتى نهاية المراجعة الثالثة 1.98 مليار دولار. وبحسب بيان الصندوق فإن “السلطات المصرية طلبت تعديل أهدافها المالية على المدى المتوسط، في ظل الظروف الاقتصادية العالمية الصعبة، التي تشمل ارتفاع التضخم العالمي وأسعار الفائدة”، وتضمنت التعديلات رفع نسبة العجز في ميزانية السنة المالية الجارية المنتهية في يونيو المقبل إلى 4 % من 3.1 %  سابقًا. وفي أكتوبر الماضي، قال عبد الفتاح السيسي، في تصريحات متلفزة إن برنامج صندوق النقد الذي يرافقه قرض بقيمة 8 مليارات دولار، والذي تم التوصل إليه في وقت سابق من هذا العام، “يتم تنفيذه في ظل ظروف إقليمية ودولية وعالمية صعبة للغاية“. وأضاف السيسي وقتها: “أقول للحكومة ولنفسي، أنه إذا أدى هذا التحدي إلى ضغوط على الجمهور لا يمكنهم تحملها، فيجب مراجعة الوضع ومراجعة الموقف مع الصندوق“. وفي نوفمبر 2022 اتفقت مصر مع الصندوق على برنامج إصلاحات اقتصادية يرافقه قرض بقيمة 3 مليارات دولار، قبل أن تتم توسعة القرض إلى 8 مليارات دولار في مارس الماضي، بسبب تأثر المالية العامة لمصر بحرب غزة. وكان البرنامج تعثر عندما عادت مصر إلى التدخل بإدارة سعر الصرف، إلى جانب التأخر في برنامج طموح لبيع أصول مملوكة للدولة وتعزيز دور القطاع الخاص. وانزلقت عملة أكبر دولة عربية من حيث عدد السكان إلى مستوى تجاوز أكثر من 50 جنيهًا أمام الدولار في أعقاب رفع البنك المركزي سعر الفائدة بواقع 6% في مارس الماضي… وقال المركزي المصري إنه سيسمح بتحديد سعر صرف الجنيه وفقًا لآليات السوق ما يعني تعويم عملة البلد الساعي للحصول على قروض من صندوق النقد الدولي. وذلك وفق قرار للجنة السياسات النقدية في البنك المركزي المصري والتي قرّرت رفع أسعار الفائدة 600 نقطة أساس دفعة واحدة، ما يعادل 6%، لتصل إلى 27.25 وهي المرة الأولى تاريخيًا ربما التي يرفع فيها البنك المركزي أسعار الفائدة 6% مرة واحدة.، في مارس الماضي.. وصرحت إمديرة بعثة الصندوق، يفانا فلادكوفا هولار في البيان أيضا، أن “مواصلة تنفيذ جهود ضبط الأوضاع المالية سيكون ضروريا للحفاظ على القدرة على تحمل الديون وخفض تكاليف الفوائد الكبيرة”. كما أشارت إلى أن خطط القاهرة لتبسيط النظام الضريبي كانت “جديرة بالثناء”، ولكن “ستكون هناك حاجة إلى مزيد من الإصلاحات”. وأضافت أن “هناك حاجة إلى حزمة إصلاحات شاملة لضمان قيام مصر بإعادة بناء الاحتياطيات المالية للحد من نقاط الضعف المتعلقة بالديون، وإيجاد مساحة إضافية لزيادة الإنفاق الاجتماعي، خاصة في مجالات الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية”. وأجرت بعثة صندوق النقد الدولي زيارة إلى مصر في نوفمبر، وقالت إنها أحرزت تقدما كبيرا في مناقشة السياسات لاستكمال المراجعة الرابعة في إطار تسهيل الصندوق الممدد. والمراجعة، التي قد تمنح تمويلا بأكثر من 1.2 مليار دولار، هي الرابعة في برنامج قرض الصندوق البالغة مدته 46 شهرا والذي جرت الموافقة عليه في 2022 وتمت زيادته إلى 8 مليارات دولار هذا العام، بعد أزمة اقتصادية شهدت ارتفاع التضخم ونقصا حادا في العملة الصعبة. ووافق الصندوق على برنامج القرض لأول مرة في 2022، قبل زيادة حجمه هذا العام، بعد أن أدى ارتفاع التضخم ونقص حاد في العملة الصعبة إلى أزمة اقتصادية حادة في مصر. وكانت مصر قد طلبت تمويلا في إطار تسهيل الصلابة والاستدامة منذ 2022، إذ تأمل في الحصول على ما يصل إلى مليار دولار إضافي. وكانت كل مراجعة من الثلاث الأولى قد سمحت للسلطات المصرية بالحصول على 820 مليون دولار، واكتملت المراجعة الثالثة في نهاية يوليو. وقال الصندوق إن الحفاظ على التوحيد المالي -خفض عجز الموازنة عبر تقليص الإنفاق – ضروري للحفاظ على استدامة الدين، وكذلك خفض تكاليف الفائدة الكبيرة، وتقليل احتياجات التمويل المحلي. وأشار إلى أن هناك حاجة إلى رقابة صارمة للحد من المخاطر المالية الناجمة عن الشركات المملوكة للدولة في قطاع الطاقة، وضمان تطبيق صارم لسقف الاستثمار العام، بما في ذلك النفقات الرأسمالية المرتبطة بالكيانات العامة التي تعمل خارج ميزانية الحكومة. وذكر أن هناك حاجة لإصلاحات إضافية لتعزيز جهود تعبئة الإيرادات المحلية، وتعهدت السلطات بتنفيذ حزمة إصلاحات تهدف إلى زيادة نسبة الإيرادات الضريبية إلى الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 2% خلال العامين المقبلين، مع التركيز على إلغاء الإعفاءات الضريبية بدلاً من زيادة معدلات الضرائب. ستكون هذه الإصلاحات ضرورية لإعادة بناء الاحتياطات المالية لمصر، وتقليل مخاطر الدين، وتوفير مساحة إضافية للإنفاق الاجتماعي، خصوصًا في مجالات الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية. واتفق فريق العمل والسلطات على أهمية تسريع الإصلاحات لتحسين بيئة الأعمال، وضمان أن يصبح القطاع الخاص المحرك الرئيسي للنمو. مضيفا  إنه لتحقيق ذلك، يجب بذل جهود أكثر حسمًا لتحقيق تكافؤ الفرص، وتقليل دور الدولة في الاقتصاد، وزيادة ثقة القطاع الخاص لجذب الاستثمارات الأجنبية وتطوير الإمكانات الاقتصادية الكاملة لمصر. في ظل التحديات التي تواجه مصر بسبب البيئة الخارجية الصعبة، أكد الطرفان على أهمية تسريع برنامج التخارج، أعربت السلطات عن التزامها بمضاعفة جهودها في هذا المجال، كونه أمرًا حاسمًا لدعم تنمية القطاع الخاص وتقليل عبء الدين العام. وأكد البنك المركزي المصري التزامه بالحفاظ على نظام سعر صرف مرن لامتصاص الصدمات الخارجية، والحفاظ على سياسات نقدية مشددة لتقليل الضغوط التضخمية، ومواصلة تحديث عملياته تمهيدًا للانتقال التدريجي نحو نظام كامل لاستهداف التضخم تأثيرات قرض صندوق النقد على المواطن المصري غلاء أسعار السلع والخدمات وينعكس خفض الجنية المتواصل منذ مارس الماضي،…

تابع القراءة

رؤية تحليلية للأخبار السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي والعالمي، ودراسات استراتيجية للوضع السياسي المحلي والإقليمي والعالمي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا لتلقي التحديثات على البريد الإلكتروني الخاص بك

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

جميع الحقوق محفوظة لرؤية للتخطيط والدراسات الاستراتيجية ©2022