انقلاب النيجر في إطار التداخُلات الدولية والإقليمية
لسنوات طويلة، ظلت النيجر واحة الاستقرار وآخر معاقله في منطقة الساحل التي تعصف بدولها اضطرابات وأزمات سياسية خانقة. فقبل عامين، شهدت البلاد انتقالًا ديمقراطيًا ناجحًا للسلطة رغم محاولة انقلاب فاشلة حاولت إرباك المشهد الديمقراطي، وهو تطور على عكس ما حصل في دول الجوار، لاسيما مالي وبوركينا فاسو التي شهدت في السنوات الأخيرة أربع انقلابات. بيد أن الأيام القليلة الماضية، حملت أخبارًا غير سارة لهذا المسار مع انقلاب قامت به قوات من الحرس الجمهوري التي أعلنت استيلائها على السلطة واعتقالها الرئيس المنتخب محمد بازوم الذي رفض قبول ذلك. تزامن هذا مع إعلان قائد الجيش في النيجر دعمه للانقلاب، وتنصيب قائد الحرس الرئاسي نفسه رئيسًا مؤقتًا للبلاد، وسط حديث عن الفساد وسوء الإدارة وحماية أمن الوطن والمواطنين. فكيف يُمكن قراءة انقلاب النيجر في إطار التداخُلات الدولية والإقليمية؟ هذا هو التساؤل الذي نسعى للإجابة عنه خلال هذا التقرير.. أولًا: الانقلاب والتداخُلات الدولية.. جاء الانقلاب كرد فعل لما تعيشه النيجر من واقع مُعقَّد سواء على المستوى الداخلي أو الدولي، والذي يُمكن قراءته من خلال النقاط التالية.. 1. صعود بازوم للحكم ومُقدمات الانقلاب: ينتمي بازوم إلى أقلية عرقية لا تعترف بمواطنتها الأغلبية، إذ ينتمي إلى العرب الذين لا يُمثِّلون سوى 1% من مجموع السكان، فضلًا عن حداثة وجودهم على أرض النيجر. لكن انتماءه إلى الحزب الحاكم (حزب النيجر من أجل الديمقراطية والاشتراكية) أهَّله للترشح لأعلى منصب في البلاد، فضلًا عن كونه صاحب تجربة في عدد من الوزارات، حيث شغل وزارتي الخارجية والداخلية، إضافةً إلى منصب نائب الرئيس. وبالرغم من ذلك؛ كان فوز بازوم في الجولة الثانية كان محل نزاع مع المعارضة، أولًا بسبب ضعف حاضنته الاجتماعية وتململ عدد من قادة الحزب الحاكم من صعوده، وثانيًا بسبب الشكوك في التزوير وصعوده على أكتاف عرقية الهوسا التي تُمثِّل ما يزيد على نصف سكان البلاد، وضعف تصويت سكان العاصمة له، ما واجه رفضًا منذ البداية داخل مفاصل الدولة العميقة وحاولت الانقلاب على نتائج صناديق الاقتراع قبل تنصيبه رئيسًا. وهكذا لم يكن فوز بازوم مُرحبًّا به سواء من المجموعات العرقية التي تشعر بأحقيتها في الحكم أو من بعض أركان الجيش، وكانت الإشارات واضحة من المحاولات التي جرت لتغيير الحكم، حيث يبدو أن بازوم لم يلتزم الخارطة التي اتفق عليها مع سلفه، والتي سمح له بموجبها أن يكون في هذا الموقع. ومن أبرز المؤشرات على ذلك: محاولة بازوم بناء مراكز نفوذ جديدة في الأجهزة الرئيسية للدولة بعيدًا عن النافذين في الحزب الحاكم، والخلافات مع سلفه وأركان الحزب حول الإقالات والتعيينات في الجيش والحرس الرئاسي، ونية الرئيس بازوم إقالة قائد الحرس الرئاسي وهو المخضرم الذي خدم طوال فترة الرئيس السابق، وإقالة عدد من الموالين للرئيس السابق محمد إيسوفو من عدد من المواقع الحيوية، ومحاولة إضعاف وإنهاء هيمنة الرئيس السابق إيسوفو على المؤسسات الحزبية والحكومية، ورغبة بازوم بالتخلص من صراعات الأجنحة من خلال تصفية الجناح المناوئ له، وإعلان بازوم رفع عدد الجيش وتجنيد أعداد جديدة ما ضاعف شكوك المناوئين من توسع نفوذه. كل ذلك يعكس حجم الصراعات الداخلية بين النخب الحاكمة، ونفاد صبر العسكريين على التجربة الديمقراطية الوليدة. أما الأسباب التي تتعلَّق بعموم البلاد فهي كثيرة، ليس أقلها الفقر المُدقع الذي تعيش فيه البلاد إذ تحتل النيجر المرتبة الأخيرة في مؤشر التنمية البشرية (189 من 189 دولة) وأكثر من نصف سكانها تحت خط الفقر، مع نسبة 50% من الأطفال في عمر التعليم غير مُقيدين بالمدارس. كما تُؤثِّر الأبعاد الأمنية على المشهد السياسي في النيجر، حيث تقع البلاد في حزام المنطقة التي تنشط فيها الجماعات المسلحة، مثل بوكو حرام وأخواتها في تنظيم القاعدة، ومتفرعاتها في منطقة الساحل.[1] 2. إعلان الانقلاب وخطورته: الحرس الرئاسي هو الجهة التي نفَّذت الانقلاب وتلت البيان الأول، لكن بعد يوم واحد انحاز الجيش للحرس الرئاسي مؤيدًا للانقلاب، وتمَّ إعلان قائد الحرس الرئاسي الجنرال عبد الرحمن تياني رئيسًا للمجلس الانتقالي، بصفته “رئيس المجلس الوطني لحماية الوطن”، أي المجلس العسكري الذي أطاح بالرئيس محمد بازوم. لم يعترف الرئيس المعزول بالانقلاب ولم يُوقِّع على قرار التنازل، بينما أضرم مؤيدو الانقلاب النار في مقر الحزب الحاكم. وأعلن الانقلابيون عن عدد من الإجراءات؛ هي: إغلاق كافة المنافذ البرية والجوية، إذ تعتبر النيجر دولة مغلقة لا منافذ بحرية لها، وتعليق جميع أنشطة الأحزاب السياسية، وإقالة كافة الوزراء ونوابهم وتكليف المديرين العامين بالقيام بإدارة المؤسسات إلى حين ترتيبات لاحقة، والحفاظ على الاتفاقيات المُبرمة من قِبَل النظام السابق والتعهد بسلامة أعضاء النظام السابق. وقد تعرُّض انقلاب الحرس الرئاسي في النيجر إلى سيل من الانتقادات والرفض، أولًا لكون الرئيس المعزول يُعتبر من أقوى حلفاء الدول الغربية، ثانيًا لكون النيجر أحد أهم دول الساحل الإفريقي.[2] حيث تحتل النيجر المركز الرابع عالميًا في إنتاج اليورانيوم، فالنيجر تضيء فرنسا باليورانيوم، إذ تغطي 35% من الاحتياجات الفرنسية من هذه المادة، وتساعد محطاتها النووية على توليد 70% من الكهرباء. كما أن هناك قواعد عسكرية فرنسية في الأراضي النيجرية، إذ تملك باريس نحو 1500 جندي فرنسي في النيجر، إلى جانب أنها تُعد قاعدة مركزية لقوات حلف “الناتو” في منطقة الساحل. واستقرار النيجر وموقعها الجغرافي، يساعدان الجيش الفرنسي على مراقبة الحدود مع ليبيا، ومكافحة الهجرة غير الشرعية. كما توجد لواشنطن قاعدة طائرات مسيرة أسستها في وسط الصحراء في مدينة أجاديز في شمالي النيجر عام 2014، في إطار عمليات مكافحة إرهاب الجماعات المسلحة في غربي إفريقيا. وبحسب تقرير للغارديان البريطانية فإن الولايات المتحدة أنفقت نحو 500 مليون دولار منذ عام 2012 لمساعدة النيجر على تعزيز أمنها.[3] 3. الانقلاب والمصالح الدولية: مع وقوع الانقلاب، طرح كثيرون تساؤلات حول تأثيره على المصالح الدولية خاصةً أن بازوم كان يُنظر إليه باعتباره شريكًا موثوقًا به للدول الغربية وهو الأمر الذي مكَّن النيجر من لعب دور إقليمي هام. فمع انتهاء مهمة حفظ السلام الأممية في مالي (مينوسما) استجابةً لرغبة باماكو في 30 يونيو الماضي؛ ظلت النيجر القاعدة الوحيدة للقوات الغربية التي من المُفترض أن تمنع أي انهيار كامل للاستقرار في منطقة الساحل بعد أن زادت الجماعات المُتطرفة أنشطتها في المنطقة بأكملها ونفَّذت بشكل مُتكرِّر هجمات دموية في عدد من البلدان بما في ذلك في النيجر.[4] وأثار الانقلاب أجراس الإنذار في الدول الغربية، التي تكافح لاحتواء التمرد الجهادي الذي اندلع في شمال مالي في عام 2012، وامتد إلى النيجر وبوركينا فاسو بعد ثلاث سنوات ويُهدِّد الآن حدود الدول الهشة على خليج غينيا. وفي السنوات الأخيرة أصبحت روسيا تنافس فرنسا على منطقة نفوذها التقليدية، ففي عام 2019 استضافت موسكو أول قمة روسية إفريقية في منتجع سوتشي على البحر الأسود، وحضرها ممثلون عن جميع دول القارة السمراء، البالغ عددها 54 دولة. وتسعى موسكو لتعزيز علاقاتها التجارية والاقتصادية مع دول غرب إفريقيا، وتسعى أيضًا…