إيران وإفريقيا: ماذا بعد مقتل رئيسي؟
فرض الغرب على إيران عقوبات اقتصادية قاسية؛ بسبب برنامجها وطموحها النووي، وهو ما أدخلها في عزلة سياسية، أثَّرت على علاقاتها الدولية سلبًا لأكثر من عقدين من الزمان؛ إلا أن تفاعلات السياسة الخارجية الإيرانية في الآونة الأخيرة، كشفت عن رغبة قادتها في كسر هذه العزلة وتجاوز تلك العقوبات، وهو ما حدا بهم للبدء في عملية انفتاح واسعة النطاق، تهدف إلى استعادة وترميم علاقاتها بالعالم الخارجي، بما في ذلك علاقاتها بالدول الإفريقية. وقد أولى رؤساء إيران السابقون -على تفاوتٍ فيما بينهم- اهتمامًا بالغًا بإفريقيا، باستثناء الرئيس حسن روحاني، الذي خبا النشاط الإيراني في إفريقيا خلال فترة رئاسته بدرجة كبيرة، فلما جاء الرئيس إبراهيم رئيسي، استهل رئاسته بالتأكيد على أهمية القارة، وحِرص إدارته على استعادة وتمتين وتطوير العلاقات الإيرانية الإفريقية. ومن ثمَّ؛ فيُعد حادث تحطُّم مروحية الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي يوم الأحد 19 مايو 2024، والذي أودى بحياته وجميع من كانوا معه، من الأهمية بمكان يجعلنا نطرح العديد من التساؤلات حول تداعيات هذه الواقعة على ملف السياسة الخارجية الإيرانية تجاه إفريقيا. فما هو تاريخ العلاقات الإيرانية الإفريقية ودوافعها؟ وكيف يُمكن فهم ملامح السياسة الخارجية الإيرانية تجاه إفريقيا خلال عهد رئيسي؟ وكيف يُمكن أن يؤثر مقتل رئيسي على تلك العلاقات؟ تلك هي التساؤلات التي سنسعى للإجابة عنها خلال هذا التقرير.. أولًا: إيران وإفريقيا.. منذ الثورة الإسلامية، بدأ اهتمام جمهورية إيران الإسلامية بإفريقيا، لكن على مدار الخمسة والأربعين عامًا التي تلت الثورة، طرأت بعض التغييرات على سياسة إيران تجاه القارة نتيجة للتطورات التي شهدتها الساحتين الداخلية والخارجية لطهران، ومع ذلك، كان هدف إيران الإستراتيجي واضحًا منذ نشأة الجمهورية الإسلامية؛ وهو إبراز إيران بوصفها قوة تتجاوز كونها قوة إقليمية، والضغط على منافسيها، وخاصة الولايات المتحدة، في مناطق جغرافية أخرى للحصول على مزايا سياسية واقتصادية، وتخفيف تأثير العقوبات عليها، وتحييد إستراتيجية العزلة السياسية الموجهة إليها من خلال تشكيل شبكة من التحالفات القوية. لذا انتهجت إيران سياسة “المحور نحو إفريقيا” استجابةً للحاجة إلى مكافحة العقوبات، وتصدير نظرتها الثورية إلى العالم. وفي هذا السياق، هدفت إيران إلى مكافحة العزلة الإقليمية والدولية من خلال تشكيل شراكات مع الدول، والمناطق الذاتية الحكم، والجهات الفاعلة غير الحكومية، ومن خلال استخدام أدوات القوة الصلبة والناعمة في آنٍ واحد في إفريقيا؛ لتوسيع نفوذها الجغرافي خلال القارة. وفي إطار تلك الرؤية، التزم زعماء إيران على مدى العقود الماضية بترسيخ نفوذهم في القارة السمراء، رغم اختلاف آلياتهم لتحقيق هذا الهدف، فنجد أن إبراهيم رئيسي منذ تولِّيه منصبه في أغسطس 2021، ارتكز على سياسة خارجية تتماشى مع نظرة خامنئي إلى العالم، حيث دعا خطاب خامنئي إلى تنويع جذري في سياسة إيران الخارجية تجاه القوى الآسيوية الناشئة، والمستعمرات الأوروبية السابقة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وعلى نطاق أوسع، بلدان الجنوب العالمي، فلا تحصر عقيدة خامنئي الامتداد الجيوسياسي لإيران في جوارها المباشر؛ وإنما تدعو إلى رعاية تكتلات مقاومة في جميع أنحاء العالم؛ لذا شجَّع رئيسي على التعاون الإيراني الإفريقي، وهذا ما ظهر بوضوح في تصريحاته المتكررة عن إصرار حكومته على توظيف الموارد الدبلوماسية للبلاد في جهود تفعيل التعاون مع الدول الإفريقية، على عكس سلفه حسن روحاني الذي أهمل التعاون مع القارة الإفريقية كأولوية إستراتيجية، بل تمحورت أجندته الخارجية حول رفع العقوبات من خلال السعي إلى الاتفاق مع الولايات المتحدة؛ ما جعل الاهتمام بالمصالح الإيرانية في القارة السمراء يتراجع.[1] 1. تاريخ العلاقات الإيرانية بإفريقيا: ما أن استقر نظام الحكم في إيران في أعقاب ثورة 1979، حتى توجّه الساسة إلى الفضاء الإفريقي يُعزّزون علاقاتهم بدول القارة، فتتابعت وتكرَّرت زيارات المسؤولين الإيرانيين للدول الإفريقية، وخاصةً على مستوى رؤساء الدولة؛ حيث زار الرئيس علي خامنئي (1981 – 1989) إفريقيا 7 زيارات لـ 6 دول هي: ليبيا والجزائر عام 1984، وتنزانيا وزيمبابوي وأنجولا وموزمبيق عام 1986، ثم عاود زيارة زيمبابوي في نفس العام. ثم واصل الرئيس التالي علي أكبر هاشمي رفسنجاني (1989 – 1997) الاهتمام بإفريقيا، فزارها 8 زيارات لـ 7 دول هي: السنغال والسودان عام 1991، وكينيا وأوغندا والسودان للمرة الثانية وتنزانيا وزيمبابوي وجنوب إفريقيا عام 1996. بعد ذلك زاد اهتمام الرئيس التالي محمد خاتمي (1997– 2005) بالدائرة الإفريقية، فزارها 10 زيارات لـ 10 دول هي: جنوب إفريقيا 1998، والجزائر والسودان عام 2004، ونيجيريا والسنغال وسيراليون ومالي وبنين وزيمبابوي وأوغندا عام 2005، وفي أقصى درجات الاهتمام زار الرئيس التالي محمود أحمدي نجاد إفريقيا 21 زيارة لـ 16 دولة هي: غامبيا والسنغال عام 2006، والسودان والجزائر عام 2007، والسنغال للمرة الثانية عام 2008، وكينيا وجزر القمر وجيبوتي، وغامبيا للمرة الثانية، والسنغال للمرة الثالثة عام 2009، وزيمبابوي وأوغندا ومالي ونيجيريا والجزائر للمرة الثانية عام 2010، وموريتانيا والسودان للمرة الثانية عام 2011، ومصر وبنين والنيجر وغانا عام 2013، بعد ذلك غابت الرئاسة الإيرانية عن الساحة الإفريقية، في عهد الرئيس حسن روحاني (2013-2021)، ثم عادت من جديد مع الرئيس إبراهيم رئيسي، وبدأ بعد سنتين من حُكمه في زيارة العواصم الإفريقية في يوليو 2023.[2] وقد شارك رئيسي في محادثات تهدف إلى تعزيز التعاون البرلماني مع الجمعية الوطنية في جنوب إفريقيا (أكبر شريك تجاري لإيران في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى)، وكذلك في غينيا بيساو، وبعد أشهر عدة، وتحديدًا في يناير 2022، استضاف رئيسي وزير خارجية توغو روبرت دوسي، في طهران؛ لمناقشة مستقبل شراكات اقتصادية وتجارية بين البلدين. وفي يوليو الماضي، قام رئيسي بجولة في ثلاث دول إفريقية شملت كينيا، وأوغندا، وزيمبابوي. 2. أدوات النفوذ الإيراني في إفريقيا: بنت إيران نفوذًا تدريجيًّا في إفريقيا من خلال التبادلات الدبلوماسية، والسياسية، والأمنية والبحرية، والتجارية، والثقافية المُتتابعة، ولتحقيق أهدافها الإستراتيجية، تستخدم إيران سياسات مختلفة على المستوى التكتيكي للتوغل في الداخل الإفريقي: أولها؛ القوة الناعمة: فمنذ الثورة الإسلامية، نفذت طهران هذه الأنشطة من خلال مؤسسات رئيسة، مثل مؤسسة مستضعفان، والهلال الأحمر الإيراني، ووزارة الإرشاد الإسلامي والثقافة، ومنظمة الثقافة والاتصال الإسلامي، وجامعة المصطفى. وبالإضافة إلى هذه المؤسسات، تشارك المجموعات البرلمانية، وجمعيات الصداقة، وغرف التجارة والمنظمات الخيرية، والمعاهد الدينية والجامعات، في تدشين علاقات وثيقة مع شعوب القارة الإفريقية، وتقديم مختلف أنواع الدعم لدول القارة وجماعاتها من خلال برامج التنمية، كما نشطت إيران في بناء تيارات شيعية في ساحل العاج، وليبيريا، والكاميرون، ونيجيريا، والسودان. وثانيها؛ التوغل عبر أذرع إيران الإرهابية: كُلِّف فيلق القدس، التابع للحرس الثوري، بتنفيذ عمليات عبر الحدود، لتوسيع العمق الإستراتيجي للبلاد خارج الشرق الأوسط إلى إفريقيا؛ من خلال عدد من الآليات، مثل تهريب الأسلحة، وتهريب النفط، فضلًا عن توفير الأسلحة للجماعات الإرهابية، والأنشطة التعليمية. وثالثها؛ التدخل المباشر: تطور إيران علاقاتها مع الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية في القارة الإفريقية على ثلاثة مستويات؛ فإذا كانت الدولة تنتمي إلى دين غير الإسلام فإن إيران تُقدِّم مساعدات إنسانية تُلبِّي الاحتياجات على نحوٍ مباشر. وإذا كان الطرف…