في إطار سعيها لحل الأزمة الداخلية: هل تسعى السودان لإعادة التموضع إقليميًا؟
في وقتٍ تتصاعد فيه الدعوات إلى الحشد لتظاهرات مفصلية في السودان، تعيش القيادة العسكرية والسياسية هناك مأزق إعادة تموضع البلاد إقليميًا. والذي بدأت العمل على مواجهته بنشاط ديبلوماسي مُكثَّف في مارس، شمل الإمارات والسعودية ومصر في محيطها العربي، وتشاد وأوغندا وجنوب السودان في محيطها الإفريقي. وفي هذا التقرير نسعى لتحليل أهمية الزيارات العربية لعبد الفتاح البرهان في محاولاته لإعادة التموضع الإقليمي. فكيف يُمكن قراءة مبررات تلك الزيارات؟ وماذا كانت مُخرجاتها؟ تلك هي التساؤلات التي سنسعى للإجابة عليها خلال التقرير.. دوافع زيارات البرهان: يشهد السودان احتجاجات مستمرة منذ 5 أشهر تقودها لجان مقاومة الاحتجاجات الشعبية للمطالبة بالحكم المدني واستعادة مسار الانتقال، بعد قرارات قائد الجيش الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، في أكتوبر الماضي، القاضية بحل الحكومة وإعلان الطوارئ. ويرى البعض أن زيارات البرهان الخارجية في إطار البحث عن سند وعضد دولي لمجابهة تحديات الفترة الانتقالية ما بعد قرارات 25 أكتوبر، خاصةً فيما يتعلق بالدعم الاقتصادي وعملية الدفع السياسي الداخلي في ظل إحجام المجتمع الدولي عن دعم حكومة البرهان. وبالرغم من إمكانية تحقيق هذه الزيارات أهدافها ونتائجها في المدى القريب، لكنه من المحتمل أن تكون عواقبها وخيمة على الدولة في المستقبل. ويرى البعض أن الزيارات الخارجية التي يقوم بها الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان لن تساهم في حل الأزمة الداخلية للسودان، حيث تبحث الدول عن مصالحها في المقام الأول. والأزمة السودانية تتمثَّل في الصراع ما بين المكونين المدني والعسكري، والحل لابد أن يكون داخليًا بعيدًا عن اللجوء للدول الخارجية التي يرى هؤلاء أنها ستُعقِّد الأزمة السودانية أكثر. وجاءت زيارات رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان الخارجية في وقت كشفت فيه مصادر سودانية بارزة عن وجود وساطة إماراتية سعودية مصرية لتقريب وجهات النظر بين العسكريين والمدنيين في السودان؛ من أجل التوصُّل إلى حلٍّ مرضٍ للطرفين يُخرج البلاد من أزمة الفترة الانتقالية المتعثرة.[1] وفيما يلي تفنيد لكل زيارة على حدة.. الإمارات: مثّلت زيارة عبد الفتاح البرهان لأبي ظبي (10 – 13 مارس) محاولة أخيرة لاستعادة الدعم الاقتصادي والأمني بعد فتور ملموس منذ نوفمبر 2021. وأكَّدت مصادر سودانية موافقة محمد بن زايد على ضخ كميات كبيرة من الأموال في البنوك السودانية، وإقامة ما وصفه جبريل إبراهيم، وزير المالية السوداني، بـ”شراكات اقتصادية استراتيجية هائلة” في الطرق والسكك الحديدية والموانئ، ورفع مستوى التعاون العسكري، في ما اعتبره البعض خطوات جادة نحو خصخصة ميناء بورتسودان لصالح شركات إماراتية. وكانت الخرطوم رفضت، بشكل متكرّر (ولا سيّما في ذروة تأزّم الموقف بخصوص سد النهضة الإثيوبي)، مقترحات إماراتية بشمول منطقة الفشقة السودانية بمبادرةٍ سحبتها أبو ظبي قبل نحو عام (مايو 2021)، وكانت تنص على تسهيل استثمارات زراعية إماراتية- إثيوبية في المنطقة، بعد تحرير الجيش السوداني لها. كما كانت القيادة السودانية الجديدة أرسلت إشارات إلى إمكانية السماح لتركيا أو روسيا بإقامة قواعد لوجيستية أو عسكرية على ساحل البحر الأحمر. لكن يبدو أن الضغوط الإماراتية على مجلس السيادة قد حقَّقت أهدافها، في ظل فشل المجلس في انتهاج سياسات متماسكة تحظى بقبول شعبي، وتصاعُد الغضب الشعبي ضده على خلفية الظروف الاقتصادية الطاحنة في البلاد. وبدت دلائل هذا النجاح في إعلان الخرطوم، قبيل نهاية مارس، بدء ضخ عملة صعبة في البنوك حتى منتصف إبريل، بعد تلقِّي البنك المركزي السوداني ودائع من الإمارات والسعودية.[2] السعودية: توجه البرهان إلى جدة (21 – 22 مارس)، حيث عقد اجتماعًا موجزًا مع ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي أكَّد استعداد بلاده للاستثمار في السودان في جميع المجالات ذات النفع المشترك، مع التشديد على أهمية التعاون في مجال أمن البحر الأحمر والتعاون العسكري وتبادل الخبرات. وكشف الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني، عن مبادرة سعودية استثمارية ضخمة سيعمل السودان على تهيئة البيئة المناسبة لاستيعابها قريبًا، مُشدِّدًا على أن هجمات الحوثيين المتكررة على المملكة، تتجاوز زعزعة أمن واستقرار المملكة إلى كل المنطقة، مؤكدًا وقوف الخرطوم إلى جانب الرياض، واستمرار تعاونهما الاستخباراتي والأمني والسياسي لدرء أي عمل إرهابي وتأمين ملاحة البحر الأحمر.[3] كما وقَّعت الرياض على البيان المشترك لـ”أصدقاء السودان” (29 مارس)، والذي أكَّد الالتزام بمواصلة تقديم دعم مباشر للسودانيين خلال هذه الفترة العسيرة، داعيًا في الوقت نفسه إلى استعادة حكومة انتقالية ذات مصداقية، وإفساح الطريق أمام استعادة المساعدات الاقتصادية والإعفاء الدولي من الديون. وفيما تُمثِّل أي تهدئة في الجبهة اليمنية تراجعًا لأهمية السودان في الملف العسكري والأمني لدى الرياض، التي أعلنت بالفعل وقفًا لإطلاق النار في اليمن طوال شهر رمضان، فإنه لا يُتوقع -بأي حال- تراجُع أهميته لناحية توفيره رافدًا مهمًا ومستدامًا للأمن الغذائي السعودي. ويُعزِّز حضور الاستثمارات السعودية في قطاع الزراعة في السودان؛ سعي مجلس السيادة إلى تعويض تشوُّه هيكل الاقتصاد السوداني، ترقُّبًا لاستئناف برنامج إعفاء السودان من ديونه الخارجية. ومن المتوقّع، في هذا المجال، اتفاق الخرطوم والرياض على تقديم الأولى حزمًا معقّدة لتحفيز الاستثمارات السعودية، الزراعية تحديدًا، فيما سيقود إلى تحقيق طفرة في واردات السعودية من السودان، وإعادة فتح السوق السودانية أمام الاستثمارات السعودية المباشرة.[4] مصر: بدت زيارة البرهان للقاهرة (30 مارس) لمقابلة عبد الفتاح السيسي، منطقية تمامًا في أعقاب النشاط الديبلوماسي الإقليمي الذي أسفر عن بعض الترتيبات السياسية والاقتصادية والعسكرية الجديدة. كما يُمكن قراءة هذه الزيارة في ضوء عدة اعتبارات، أهمها ما تردَّد في النصف الثاني من مارس، عن إطلاق الإمارات واستضافتها وساطة بين أطراف أزمة سد النهضة (وهي تقارير أكدها البرهان خلال وجوده في الرياض)؛ وكذلك انفتاح مجلس السيادة على جميع المبادرات التي تسهم في تحقيق استقرار السودان قبيل نحو أسبوع من تظاهرات 6 إبريل؛ إضافةً إلى وجود مبعوث الأمم المتحدة الخاص للسودان، فولكر بيرثيس، في القاهرة بالتزامن مع زيارة البرهان، ولقائه وزير الخارجية المصري، سامح شكري، في اختتام مشاورات مُطوَّلة للأول مع المعنيين السودانيين لوضع أساس لحوار وطني، تمهيدًا للخروج من مأزق المرحلة الانتقالية الحالي. وجاء على قمة أجندة البرهان في مصر التوصُّل لرؤية مقبولة، بوساطة مصرية، لمواجهة تعطُّل مسار المرحلة الانتقالية، وتفادي مزيد من التصعيد. كذلك، يرى البعض اعتبار الزيارة مناسبة لاستكشاف مصر مزيدًا من فرص تعزيز التعاون الزراعي مع السودان، ولاسيما في مجال زراعة القمح، لتفادي أكبر قدر ممكن من التداعيات السلبية على وارداتها من القمح من أوكرانيا وروسيا، إلى جانب عدد من الملفات التقليدية مثل التعاون في أمن البحر الأحمر، ودعم التعاون العسكري- الأمني، فضلًا عن ملف سد النهضة. حيث جاء ملف سد النهضة كقضية أساسية على مائدة المباحثات بين السيسي والبرهان، إذ جرى التوافق بشأن استمرار التشاور المكثف والتنسيق المتبادل في هذا السياق خلال الفترة المقبلة، مع التأكيد على الأهمية القصوى لقضية المياه بالنسبة للشعبين المصري والسوداني باعتبارها مسألة أمن قومي، ومن ثمَّ تمسُّك البلدين بالتوصل إلى اتفاق قانوني عادل…