أزمة مصر المالية.. الأسباب والمآلات
يعاني الاقتصاد المصري من أزمة غير مسبوقة دفعت الخبير الأمريكي المتخصص في الشأن المصري روبرت سبرينجبورج إلى وصف مصر ــ في الدراسة التي أعدها مؤخرا ــ بالدولة المتسولة تحت حكم الجنرال عبد الفتاح السيسي. ويؤكد أن مصر باتت تعيش على المعونات والقروض الخارجية سواء من حلفائها الإقليميين أو الدوليين، وذلك حتى وصلت ديونها الخارجية إلى معدلات غير مسبوقة تقدّر بحوالي 137 مليار دولار في يونيو 2021م وفقا لبيانات البنك المركزي. الوضع في مصر ــ وفقا لدراسة سبرينجبورج التي نشرها موقع مؤسسة مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط (يوميد) في الأسبوع الأول من يناير 2022م بعنوان: «تتبع مسار المال لتعرف حقيقة مصر السيسي»ــ ــ لا يمكن أن يستمر على هذا النحو، والحل الوحيد أمام السيسي لمواجهة ذلك مزيد من الاقتراض الأجنبي، وهو مجرد حل مؤقت. ويرى “سبرينجبورج” وهو أستاذ دراسات دولية مرموق في جامعة سيمون فريزر، ومستشار سابق في إدارة وسياسة الشرق الأوسط لصالح الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، ووزارة الخارجية الأمريكية، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أن السيسي يدير مصر كما لو كانت واحدة من الدول الريعية الغنية بالنفط كالسعودية، أو دولة تجارية ناجحة تحت حكم أوتوقراطي، على غرار الصين. لكن الحقيقة أن الاقتصاد المصري بات يعتمد على الدعم الخارجي والقروض أكثر من أي وقت مضى”. من جانب آخر ــ وفقا للدراسة ــ فإن السيسي، الذي جاء إلى السلطة عبر انقلاب على الحكومة الشرعية، يضغط على المواطنين من خلال التخفيض المستمر للدعم وفرض المزيد من الضرائب وزيادة رسوم الخدمات العامة، بالرغم من الدعم الأجنبي الهائل الذي تلقاه والاقتراض الكثيف لنظامه من الداخل والخارج حتى وصل حجم الدين القومي لمصر 370 مليار دولار. في الوقت الذي يضغط فيه السيسي على القطاع الخاص بطرق شتى ليس أقلها “استحواذ الجيش على العديد من المؤسسات الخاصة المربحة”. وتحذر الدراسة من شراهة نظام السيسي في إنفاق المال على نحو كبير، لكن الكماليات، وليست الضروريات الأساسية، هي التي تلتهم الجزء الأكبر من إيرادات الدولة، بالرغم من تزايد عدد السكان.. حيث يعتمد السيسي، الذي وصل إلى السلطة عبر انقلاب، على عامل “الإبهار” من خلال المشاريع الضخمة وشراء الأسلحة بهدف تعزيز شرعيته. وحتى تتمكن مصر من سداد تكاليف هذا السَّرَف في الإنفاق (على تلك المشاريع الضخمة وشراء الأسلحة)، تضغط الحكومة على المواطنين من خلال خفض الدعم، والضرائب التنازلية (حيث تمثل الضريبة التنازلية عبئاً أكبر على الفقراء، بالنظر إلى مواردهم مقارنة بالأثرياء)، وزيادة رسوم الخدمات “العامة”. حيث يعاني المصريون من ركود الأجور وارتفاع الأسعار وارتفاع معدل البطالة، إذ يبلغ دخل حوالي 30 مليون مواطن أقل من 3.20 دولار في اليوم.[[1]] يتزامن حديث سبرينجبورج مع عدة مؤشرات أخرى حدثت على مدار الأسابيع الماضية، تعطي انطباعاً بأن مصر تنتظر مخاضاً صعباً خلال الشهور المقبلة. من ذلك ما يتردّد عن وجود عجز في السيولة المالية لدى البنوك المصرية، وهو ما يؤثر على القدرة الاستيرادية للشركات ورجال الأعمال في بلدٍ يعتمد، في معظم احتياجاته الأساسية، على الواردات، والتي وصلت العام الماضي (2020/2021) إلى ما قيمته 61 مليار دولار، وهو ضعف حجم الصادرات التي وصلت قيمتها إلى نحو 29.7 مليار دولار، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء التي نُشرت منتصف (ديسمبر2021). ولذلك، أعلن البنك المركزي المصري عن مجموعة من الشروط، من أجل منح سيولة طارئة للبنوك، أهمها أن يقتصر ذلك على البنوك ذات الملاءة المالية، مقابل ضمانات كافية، أهمها أن يكون سعر العائد المطبق أعلى من متوسط أسعار الإقراض السائدة في السوق، وأن يكون هذا التمويل قصير الأجل. ولعل أسباب ذلك الإجراء الذي اتخذه البنك المركزي هو الشعور بأن ثمّة أزمة مالية واقتصادية تلوح في الأفق، بسبب سياسات الاقتراض الخارجي التي يتبعها نظام السيسي بشراهة غير مسبوقة، من أجل الإنفاق على مشاريعه الكبرى.[[2]] ويُنتظر أن تتزايد احتياجات الحكومة المصرية هذا العام للحصول على تمويلات لضمان الوفاء بالتزاماتها، خصوصًا في ظل استمرار ضعف الاستثمارات الخارجية المباشرة، وعدم كفاية عائدات التصدير بشكل عام. ومن ناحية أخرى، هناك تحديات مختلفة تنتظر منابع الديون المعتادة، بعضها بسبب تقلبات اقتصادية يشهدها العالم هذه الأيام، والأخرى بسبب علاقات إقليمية معقدة. وقد اعتمدت مصر بشكل أساسي على الديون الخارجية بأشكالها المختلفة خلال السنوات الماضية. وبحسب آخر تقارير البنك المركزي، بلغ إجمالي حجم الدين الخارجي المصري 137.9 مليار دولار بنهاية يونيو الماضي 2021م، (بزيادة قدرها 14.4 مليار دولار عن نهاية يونيو 2020). هذه القيمة لا تمثل كل أشكال الديون الخارجية، لأن الأرقام الرسمية المصرية تستبعد بعض الأشكال من حساباتها، مثل السندات المحلية التي يشتريها الأجانب. وهو ما يعني أن حجم الديون الفعلي أكبر من ذلك بكثير. يتعين التنويه أيضا إلى أن ما يحل سداده من أقساط وفوائد ديون قصيرة وطويلة الأجل يتجاوز 36 مليار دولار خلال السنة المالية التي تنتهي آخر يونيو 2022، بحسب أرقام البنك المركزي. يمثل هذا نحو ربع إجمالي الدين الخارجي لمصر، كما أنه يقارب فعليًا نحو 90% من إجمالي احتياطي النقد الأجنبي المصري في يونيو 2021. وبسبب هذه التعقيدات، أصبح اللجوء إلى صندوق النقد الدولي مرة ثالثة في غضون ستة أعوام خيارًا مطروحًا بل ضروريا لنظام السيسي.[[3]] كيف يواجه السيسي الأزمة المالية؟ لمواجهة هذه الأزمة المالية غير المسبوقة يعمل نظام السيسي على عدة مسارات: أولا، العمل على الحصول على المزيد من الدعم والمساعدات من ممالك الخليج الثرية التي دعمت انقلاب السيسي في 2013م، ورعته دوليا وقدمت له عشرات المليارات من المساعدات في السنوات التي تلت الانقلاب مباشرة. وترتبط الزيارة التي قام بها السيسي للإمارات يوم الأربعاء 26 يناير 2022م، بهذه المساعي الحثيثة من أجل حلحلة الأزمة المالية التي تواجه النظام ، وهي الزيارة ــ وفقا لموقع مدى مصر ــ الأولى ضمن عدد من الزيارات يتم ترتيبها لعدد من العواصم الخليجية خلال الأسابيع القادمة، قد تثمر عن اتفاقات تعاون مالي مباشر. لكن، حتى الآن، لا توجد ملامح واضحة لهذه الاتفاقات. وحتى تتضح هذه الملامح، يظل الوضع الراهن كما هو. الوضع الآن هو أن إجمالي الودائع الخليجية انخفض بقيمة 2.2 مليار دولار في نهاية السنة المالية الأخيرة عن السنة التي سبقتها. وفي المقابل، تحتاج الحكومة بصورة مستمرة لسيولة من الدولارات لتغطية واردات منها ما يتعلق بإمدادات الغذاء الرئيسية مثل الأرز والزيت، وضمان استقرار المخزون الآمن من السلع الغذائية الرئيسية التي ارتفعت أسعار بعضها في السوق الدولية لأسباب متنوعة، من بينها تأثر خطوط الإمداد بفعل الوباء، وتأثر بعض المحاصيل بسبب التغير المناخي. يتعين التنويه أيضا إلى أن بعض الديون المصرية جاءت من دول الخليج (على رأسها السعودية والإمارات)، حصلت عليها الحكومة المصرية في صورة ودائع قبل سنوات. بلغ إجمالي ودائع الخليج 15 مليار دولار (حوالي 11% من إجمالي الدين الخارجي المصري) بنهاية العام المالي الماضي 2020/ 2021م. تبلغ قيمة…