إخلاء سبيل علا القرضاوي.. رسائل ودلائل
من أجمل ما قرأت عن السجون في مصر، تصريحات للفنان الراحل سعيد صالح الذي قضى عدة شهور في السجن لأسباب سياسية بعدما انتقد الأوضاع في مصر بعض مسرحياته وأعماله الفنية. وفي لقاء تلفزيوني بعدما خرج من السجن، سألته المذيعة: بعد ما خرجت.. السجن أحسن ولا برة؟ قالها بصي: «السجن كل شيء فيه واضح.. فلان ده تاجر مخدرت.. فلان ده قتال قتلة.. فلان ده حرامي وهجام.. فلان ده قواد وده بتاع مصلحته، وفلان ده مظلوم وبريء. كلنا نتلم على حصيرة ونصلي وندعي ربنا ونقول: يارب. في السجن كل حاجة هناك واضحة جدا، ومحدش بيلبس توب مش بتاعه، ويقول: أنا شريف وهو قواد.. ولا الحرامي بيقول إنه أمين.. ولا بتاع المخدرات بيغسل أموال ويبني عمارات بتقع على الناس. السجن هو العالم الحقيقي النقي.. لدرجة أننا كننا نتخيل أنهم عاملين أسوار وحاطين حرس بسلاح علشان يحمونا من السجن الكبير والعالم الكداب اللي بره.. أنا خرجت أهه.. بس لسة بروح أزورهم لأنهم ناس حقيقية.. مش مزيفين». بعد هذه المقدمة الصغيرة، يتعين الإقرار أن الإفراج عن أي معتقل سياسي هو بحد ذاته شيء إيجابي يستوجب الشكر لله، لا سيما وأن سجون الدكتاتور عبدالفتاح السيسي تكتظ بعشرات الآلاف من الأبرياء بين علماء وأساتذة جامعة وأطباء ومهندسين ودعاة إلى الله وطلاب جامعيين، وبالتالي فإن إخلاء سبيل السيدة: علا القرضاوي، نجلة الفقيه الإسلامي الكبير الدكتور يوسف القرضاوي، الرئيس السابق للاتحاد العام لعلماء المسلمين، يمثل بشرى خير لكل مؤمن أو صاحب ضمير حي. وكانت وكالة أنباء الشرق الأوسط الحكومية، قد نشرت ظهر الجمعة 31 ديسمبر 2021م، خبرًا مقتضبًا بإخلاء سبيل القرضاوي على ذمة التحقيقات بقرار من النيابة العامة، نقلًا عن مصدر وصفته بالـ«مسؤول» دون تسميته، ما تبعه محاميها أحمد أبو العلا ماضي، بعد دقائق، بالتأكيد عبر حسابه على فيسبوك على خروجها ووصولها منزلها. ورغم ما يحمله هذا الإجراء من بشرى، فإنه أيضا يحمل في طياته الكثير من الرسائل والدلائل. أولا، يتعين التنبيه إلى أن مصر هي البلد الوحيد التي ذكر في القرآن أنها سجنت نبيا من أنبياء الله ظلما وعدوانا، وهو نبي الله يوسف عليه السلام، رغم سطوع أدلة براءته للجميع؛ لكنهم كادوا له ولفقوا له تهمة لا أساس لها، وزجوا به في السجن ظلما وبهتانا بضع سنين. كما أن مصر البلد الوحيد التي اقترن اسمها بالسجن كثيرا في القرآن الكريم. ثانيا، يتعين التنويه إلى أن السيدة علا القرضاوي، جرى الزج بها في السجن ظلما لا لتهمة فعلتها ولا لجريمة اقترفتها، ولكن جرى التنكيل بها انتقاما من والدها العلامة يوسف القرضاوي، وهو الفقيه الذي أفنى حياته في خدمة الإسلام والمسلمين، وألف مئات الكتب وألقى آلاف المحاضرات والخطب والدروس ليُعلم الناس أمور دينهم، وله مواقف صريحة ضد الظلم والطغيان في بلادنا. وكان أحد أهم الداعمين لثورة يناير والربيع العربي وحق الشعوب في اختيار الحكام وعزلهم وفقا لمدى نجاهم في إدارة البلاد من ناحية، والتزامهم بحماية هويتها وسماتها الحضارية من جهة ثانية. فقد اعتلقت علا القرضاوي برفقة زوجها حسام خلف القيادي بحزب الوسط، أثناء قضاء إحدى الإجازات في الساحل الشمالي في شاليه عائلي، في 30 يونيو 2017، ووجهت لهما في البداية تهم بنقل بعض المفروشات من الشاليه، بحجة أن هذا الشاليه مملوك لوالدها رئيس الاتحاد العام لعلماء المسلمين السابق يوسف القرضاوي الموجود في قطر، المدرج اسمه على قوائم الإرهاب وقوائم التحفظ على الأموال وبعد إثبات القرضاوي أن الشاليه مملوك لوالدتها، أدرجتهما النيابة على ذمة القضية رقم 316 لسنة 2017 ووجهت لهما تهم بالانضمام لجماعة على خلاف القانون وتمويلها، وهي التهم التي استمر حبس القرضاوي وخلف على إثرها لمدة عامين، قبل أن تعيد النيابة حبسها على ذمة قضية جديدة برقم 800 لسنة 2019 بنفس التهم في يوليو 2019، وهو ما دخلت على إثره علا في إضراب عن الطعام وقتها. وأصر نظام السيسي على إيقاع المزيد من الظلم عليها وعلى زوجها، ورغم أن محكمة جنايات القاهرة قررت في 19 فبراير 2020 إخلاء سبيلها إلا أن النيابة استأنفت على هذا القرار في اليوم التالي لتستمر القرضاوي في الحبس حتى 12 ديسمبر 2021م، فيما لم يتم الكشف عن مصير زوجها، وما إذا كان ما زال محبوسًا على ذمة القضية الأولى طوال قرابة الخمس سنوات الماضية، أم تم تدويره على ذمة قضية جديدة. ثالثا، إخلاء سبيل علا القرضاوى تم فعليا في 12 ديسمبر 2021م، وذلك وفقا لتقرير أعده موقع “مدى مصر” السبت غرة يناير 2020م، نقلا عن ثلاثة مصادر حكومية مطلعة، وأنه جرى الاتفاق معها على عدم نشر أسرتها أو المقربين منها أية معلومات بشأن خروجها خصوصا وأن زوجها ما زال محبوسًا وهناك وعود بإخلاء سبيله، وترك لأجهزة الأمن مسؤولية تحديد الموعد المناسب لإعلان إخلاء سبيلها. وينقل الموقع عن عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، جورج إسحاق إنه عرف بإخلاء سبيل علا القرضاوي منذ فترة، مضيفًا: «لا نعرف سبب تأجيل نشر الخبر في وسائل الإعلام حتى أمس وقد يكون جزءًا من مفاوضات لخروج عدد من المساجين». ووفقا للتقرير فإن الدائرة الرابعة جنايات إرهاب نظرت تجديد حبس القرضاوي على ذمة التحقيقات في القضية رقم 800 لسنة 2019 في جلسة 12 ديسمبر الماضي في غيابها، وهو ما اعترض عليه المحامون، لكنهم عرفوا في اليوم التالي بقرار إخلاء سبيلها من سجن القناطر دون معرفة أية تفاصيل أخرى عن مصدر القرار». وطالبت أسرة القرضاوي بعدم نشر أية معلومات عن إخلاء سبيل علا أملا في خروج زوجها حسام خلف قريبا. رابعا، قد يبدو أن السبب في تأخير الإعلان عن إخلاء سبيل السيدة علا القرضاوي هو محاولة إنهاء سنة 2021التي حملت الكثير من الفواجع والآلام بقرار إيجابي على أمل تبييض صورة النظام. لكن الأمر لا يخلو من مفارقة؛ إذ إن النظام لا يمكنه التباهي بإطلاق سراح نجلة القرضاوي لأنها بالأساس لم ترتكب جرما تستحق عليه كل هذا التنكيل والعذاب؛ كما أن الإعلان عن إخلاء سبيل القرضاوي وإن كان مفرحا ويدخل السرور على قلب كل مؤمن أو صاحب ضمير حي. إلا منظمات حقوقية رصدت شيئا من جرائم النظام خلال سنة 2021م، فقد كشفت منظمة “نحن نُسجّل” الحقوقية عن مئات الانتهاكات في السجون ومقار الاحتجاز المختلفة في مصر، التي أدّت إلى وفاة 60 سجيناً نتيجة الإهمال الطبي، مُقسّمين إلى 52 ضحية من السجناء السياسيين، و8 جنائيين، بينهم 6 أطفال، فضلاً عن تعرض 277 سيدة للاحتجاز والإخفاء القسري على مدار عام 2021. وأكدت المنظمة، خلال إحصائياتها التي وثّقتها هذا العام وأصدرتها الخميس 30 ديسمبر 2021م. وتنوّعت حالات الوفاة الستين ما بين 27 سجيناً بسبب الإهمال الطبي، و7 سجناء بفيروس كورونا، و6 نتيجة حريق، و4 نتيجة التعذيب، بخلاف حالة وفاة نتيجة شجار، وحالة وفاة واحدة نتيجة غرق في مياه السيول داخل الزنزانة، وحالة انتحار…