تمرد فاغنر ومُستقبل الوجود الروسي في إفريقيا
تُعد قوات فاغنر ذراع فلاديمير بوتين الضاربة خارج الحدود الروسية، حتى أنها باتت أداة التأثير الروسي الأكثر فاعلية والتي لا تُبارى بالتحديد في إفريقيا، حيث نشرت قواتها في ليبيا وإفريقيا الوسطى، وأبرمت علاقات وثيقة مع ميليشيات خليفة حفتر في ليبيا، وقوات الدعم السريع في السودان، وتتورط في تهريب الذهب بالمنطقة وتوريد السلاح. ويبدو أن مجموعة فاغنر أسَّست لروسيا إمبراطورية في إفريقيا بأرخص التكاليف إن لم تكن، مع تحقيق مكاسب مادية عبر دورها في القارة في حروب القارة ونهب مواردها. والعلاقة بين قائدها بريغوجين والرئيس بوتين تعود إلى تسعينيات القرن الماضي، عندما كان الأخير عمدة مدينة سان بطرسبرغ حيث وُلد الشخصان. ونتيجة هذه العلاقة الخاصة بين بريغوجين وبوتين، فقد حظيت قوات فاغنر منذ تأسيسها وظهور نشاطها بشبه جزيرة القرم عام 2014 بثقة الكرملين وتمتَّعت بوضع خاص داخل أروقته، الأمر الذي أثار فيما يبدو خلافات بين زعيم فاغنر، وجنرالات الروس، وعلى رأسهم سيرغي شويغو وزير الدفاع، ورئيس الأركان فاليري غيراسيموف، وأذكى صراعًا على النفوذ. ومنذ دخول قوات فاغنر معركة مدينة باخموت الأوكرانية لم يتوقف قائدها عن توجيه السباب لقادة الجيش الروسي، بل اتهمهم بالخيانة، وشكَّك في قدرتهم على حماية روسيا، في مسلك غريب على دولة عظمى اشتُهرت بحكمها المركزي الاستبدادي. واحتدَّت الأزمة بين مجموعة فاغنر والجيش الروسي مُنذرةً بتعقيد الأوضاع في أوكرانيا، وبالتبعية في الدول الإفريقية والمناطق التي تسعى موسكو لتوسيع نفوذها بها. فكيف نشب الخلاف بين فاغنر والحكومة الروسية حتى وصل إلى تمردها؟ وكيف يُمكن أن يؤثر ذلك على إفريقيا في المستقبل؟ تلك هي التساؤلات التي سنسعى للإجابة عليها خلال هذا التقرير… أولًا: الخلاف بين فاغنر والحكومة الروسية.. أعلن قائد فاغنر يفغيني بريغوجين في 5 مايو الحالي عن أن مقاتليه مضطرون إلى الانسحاب من جبهة باخموت في إقليم دونيتسك الأوكراني، بحلول 10 مايو الماضي، وذلك بسبب عدم قيام وزارة الدفاع بتزويده بالذخائر اللازمة. وعلى الرغم من تراجع قائد فاغنر بعد يومين عن تهديده بالانسحاب من باخموت، وتأكيده بأنه تلقى وعودًا من وزارة الدفاع الروسية بتزويده بالذخائر اللازمة، فإن تصريحاته السابقة قد كشفت عن تفكك في العلاقة بين القوى العسكرية الروسية المنخرطة في معارك أوكرانيا، مع مؤشرات على خلافات داخل الحلقة الضيقة المحيطة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين.[1] وكانت التوترات المستمرة منذ فترة طويلة بين مجموعة فاغنر والجيش تُنذر بقرب الانفجار في الأسابيع الأخيرة. فقد اختطفت المجموعة قائدًا بارزًا للجيش على الجبهة وهو العقيد رومان فنيفيتين، بعد اتهامه بفتح النار على سيارة تابعة لمجموعة فاغنر بالقرب من مدينة باخموت. وقد أطلق سراح فنيفيتين لاحقًا، وفي مقطع فيديو تداوله مدونون عسكريون روس، اتهم المجموعة بتأجيج الفوضى على خطوط الجبهة الروسية من خلال سرقة السلاح وإجبار الجنود الذين يخدمون بموجب التعبئة العسكرية على توقيع عقود مع المجموعة، ومحاولة ابتزاز الأسلحة من وزارة الدفاع. ووصف بريغوجين ذلك بأنه “محض هراء”. وأشار أيضًا إلى أنه مستعد لنشر قواته على الأرض الروسية لمواجهة القوات المتمردة في منطقة بيلغورود. وفي المُقابل؛ قال نائب وزير الدفاع الروسي نيكولاي بانكوف إن “تشكيلات المتطوعين” سيُطلب منها التوقيع على عقود بشكل مباشر مع وزارة الدفاع، في خطوة اعتبرها الخبراء استهدافًا مباشرًا لقوات فاغنر، لكن وزارة الدفاع قالت إن الخطوة تهدف إلى “زيادة فعالية” الوحدات الروسية التي تقاتل في أوكرانيا. إلا أن ذلك لم يمنع رئيس مجموعة فاغنر، يفغيني بريغوجين، من إعلانه في بيان غاضب إن قواته ستُقاطع العقود.[2] 1. جذور وأسباب الخلاف بين فاغنر ووزارة الدفاع: كان بريغوجين متورطًا في نزاع علني مع وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس أركان الجيش فاليري غيراسيموف طيلة أشهر. واتهم مرارًا المسؤولين الاثنين بعدم الكفاءة وبتعمد تقليل الإمدادات العسكرية لوحدات فاغنر التي تقاتل في أوكرانيا.[3] حتى أنه اتهمهما في فبراير الماضي بارتكاب أفعال ترقى إلى الخيانة، هدفها تدمير قوات فاغنر. ويرى البعض أن أسباب تصاعد الخلاف بين الطرفين ترجع من جهة إلى وجود استياء من فاغنر في أوساط قيادتي الأمن والجيش الروسيين، نظرًا إلى تنامي نفوذها، خاصةً أن ضباط الأمن والجيش ينظران إلى بريغوجين على أنه “مجرم وصاحب سوابق”، كونه دخل السجن لعدة سنوات سابقًا. ومن جهة أخرى إلى محاولات وزير الدفاع ورئيس الأركان المستمرة لعرقلة عمليات التجنيد في فاغنر، والتي تعتمد بدرجة أساسية على سجناء وأصحاب سوابق، يجري استصدار قرار عفو عنهم مقابل القتال مع فاغنر. والصراع بين قائد فاغنر ورئيس الشيشان قاديروف من جهة، وقادة الجيش الروسي من جهة أخرى، بدأ منذ سبتمبر 2022 عندما هاجم قاديروف القوات الروسية ووزارة الدفاع بعد فقدان مناطق استراتيجية في خاركييف شرق أوكرانيا، إذ ضغط بعدها كل من بريغوجين وقاديروف على بوتين لاستصدار قرار تعيين الجنرال الروسي سيرجي سوروفيكين قائدًا عامًا للعمليات في أوكرانيا. لكن الجيش الروسي استخدم نفوذه واستفاد من عدم تحقيق سوروفيكين تقدم يُذكر، واستطاع فرض تعيين رئيس هيئة الأركان غيراسيموف قائدًا لعمليات أوكرانيا في يناير 2023، ومنذ ذلك الحين عمد قائد العمليات الجديد للتضييق على فاغنر في أوكرانيا. بينما يرى البعض الآخر أنه هناك خلافات داخل الطبقة المسماة “أصحاب القوة” ضمن روسيا، وهم الدائرة الضيقة المحيطة ببوتين، حيث يُعد تصعيد قائد فاغنر ضد قادة الجيش الروسي امتدادًا للخلافات ضمن طبقة “أصحاب القوة”. وهجوم بريغوجين على وزير الدفاع الروسي ورئيس هيئة أركان الجيش، يهدف إلى إعادة التوازنات تلك الطبقة، إذ يدير التصعيد ضد الجيش من الخلف يرجل يدعى يوري كافالشوك المسؤول عن إدارة ثروة بوتين، ولديه تأثير كبير على قائد قوات فاغنر. ولم يستبعد هؤلاء وجود ضوء أخضر من بوتين للهجوم الإعلامي الذي يشنه بريغوجين على قيادات الجيش الروسي، والهدف المحتمل لذلك هو رغبة الرئيس الروسي بتأديب الجيش بشكل مستمر وعدم ترك المجال أمامه لاستعادة دوره في الحياة العامة، مستفيدًا من أوضاع الحرب الراهنة.[4] 2. تطور الخلاف وتمرد فاغنر: تفاقم الخلاف بين فاغنر ووزارة الدفاع الروسية حتى أعلن قائد فاغنر بشكل مفاجئ في نهاية يونيو الماضي، دخول قواته الأراضي الروسية وتوجههم نحو العاصمة موسكو، معلنًا رفضه التراجع أو الاستسلام. إلا أنه بعد ما يقارب الـ 24 ساعة دخلت بيلاروسيا على خط الوساطة بين بريغوجين وموسكو، لتنتهي تلك المغامرة المفاجئة والقصيرة بنفي قائد فاغنر إلى الأراضي البيلاروسية. وليعلن من هناك أن هدفه لم يكن الإطاحة بالحكومة الروسية أو حكم الرئيس فلاديمير بوتين بل حماية مجموعة فاغنر. فيما خيّر بوتين عناصر فاغنر إما بالخروج إلى بيلاروسيا، أو الانضمام للقوات الروسية، أو العودة إلى بيوتهم. وقال قائد فاغنر، يفغيني بريغوجين، قبل الإعلان عن التمرد: “تم استهدافنا بضربة صاروخية وبسلاح المروحيات بالرغم من أننا لم نقم بأي مقاومة.. وقتل قرابة 30 شخصًا من مجموعتنا وأصيب آخرون.. توجهت برسالة حول عدم نيتنا القيام بأعمال عدائية وأننا لن نرد إلا في حالة استهدافنا”. وأضاف أن “عملية التمرد استمرت 24 ساعة وقافلتنا الأولى توجهت…