المحكمة الدستورية.. نشأة استثنائية وتاريخ حافل من التوظيف السياسي
طرحت مسألة رقابة القضاء لدستورية القوانين فى مصر على المستوى الفقهى والقضائى قبل أن تطرح على المستوى التشريعى بفترة زمنية طويلة، فعلى المستوى الفقهى (فقه القانون) أيد فقهاء القانون حق المحاكم فى مراقبة دستورية القوانين التى تطرح عليها والامتناع عن تطبيقها فى النزاع المعروض عليها دون التعرض للقانون ذاته أو القضاء ببطلانه. وكان أول من قال بذلك المستشار برنتون، رئيس محكمة الاستئناف المختلط، فى محاضرة ألقاها عام 1920 بعنوان: “مهمة السلطة القضائية فى المسائل الدستورية بالولايات المتحدة ومصر”. وقد أثار هذا الرأى جدلاً فقهياً واسعاً انتهى إلى أن أقر الغالبية العظمى من الفقهاء حق القضاء المصرى فى رقابة دستورية القوانين بطريق الامتناع. مستندين فى ذلك إلى مبدأ الشرعية، وإلى أن هذه الرقابة من طبيعة عمل القاضى، فضلاً عن مبدأ فصل السلطات الذي يستوجب ذلك، بينما رفضت قلة قليلة الاعتراف للمحاكم بهذا الحق.[[1]] وفي أعقاب ثورة 1919م، نجحت مصر في الحصول على هامش من الاستقلال النسبي في ظل سيطرة الاحتلال الإنجليزي على جميع مفاصل السلطة في مصر منذ سنة 1881م، هذا الاستقلال الهامشي أفضى إلى إصدار دستور 1923م، وفي العام التالي (1924) ظهرت على سطح الحياة القضائية لأول مرة مسألة دستورية القوانين أمام محكمة جنايات الإسكندرية، وذلك أثناء نظرها الطعن المقدّم من هيئة الدفاع عن مجموعة من المواطنين وجّهت إليهم النيابة العامة تهمًا بنشر أفكار ثوريّة، فحكمت المحكمة حضوريًا على المتهمين بالسجن ثلاث سنوات استنادًا إلى المادة 151 من قانون العقوبات، فطعن دفاع المتهمين على الحكم على أساس أنّ المادة المذكورة تخالف المادة 14 من الدستور. تكرر الأمر سنة 1925م، حين رفض بعض العمد والمشايخ استلام دفاتر الانتخاب، وأضربوا عن العمل؛ فأمرت النيابة العامة بتقديمهم للمحاكمة بتهمة عدم تنفيذ الأوامر الحكومية، فأوردت هيئة الدفاع في دفاعها أنّ قانون الانتخابات المعدّل غير دستوري لصدوره أثناء غيبة البرلمان.[[2]] المحطة الثانية في سنة 1941م، حيث حدثت نقلة في تاريخ القضاء الدستوري، حين أصدرت «محكمة مصر الأهلية» حكمًا تاريخيًا يقضي بحق المحاكم في الرقابة على دستورية القوانين انطلاقًا من وجود قانونين يجري العمل بهما في البلاد، وهما القانون العادي والدستور. حيث يتوجب على القاضي إعمال القانونين في أحكامه، وإن حدث تعارض يتوجب عليه الركون إلى القانون الأعلى وهو الدستور. وتلا ذلك إصدار محكمة القضاء الإداري في 1948 حكمًا اعتبره الكثيرون علامة من علامات القضاء المصري، حين أقرت بحق القضاء في التصدي للقوانين غير الدستورية، وذلك بإهمال تطبيق أي قانون يراه القاضي، وفقًا لسلطته التقديرية، متعارضًا مع الدستور. المحطة الثالثة، في أعقاب حركة الجيش في 23 يوليو 1952م، حيث طفت فكرة إنشاء محكمة دستورية متخصصة إلى السطح لأول مرة، وذلك بتكليف لجنة اُسميت «لجنة الخمسين» بوضع مشروع دستور جديد للبلاد نص في أحد مواده على إنشاء محكمة عليا تكون لها سلطة الرقابة على دستورية القوانين. وقد حدد مشروع الدستور عدد قضاة المحكمة العليا بحيث لا يتجاوز تسعة قضاة بأي حال من الأحوال، يختار ثلثهم رئيس الجمهورية، والثلث الثاني يختاره البرلمان، والثالث تختاره السلطة القضائية. إلا أن دستور 1953 انتهى «في صندوق القمامة»، ولم يكتب للمحكمة الدستورية أن ترى النور آنذاك. مذبحة القضاء ونشأة «المحكمة العليا» المحطة الرابعة، في1969 قرر رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبد الناصر إصدار قانون «المحكمة العليا» بالقرار بقانون رقم 81 لسنة 1969 والتى تولت مهمة الرقابة بالفصل في دستورية القوانين وباشرت مهامها مدة تقترب من العشر سنوات اعتباراً من 25/8/1970 وحتى تاريخ تشكيل المحكمة الدستورية العليا فى 9/10/1979م. كانت تلك أول تجربة لإنشاء محكمة دستورية متخصصة يناط بها دون غيرها الرقابة على دستورية القوانين. ولا يمكن فهم قرار عبد الناصر هذا دون ربطه بسياقه السياسي الأوسع. حيث تزامن اعتزام «عبدالناصر» إنشاء محكمة دستورية مع أكبر صدام شهدته مصر في تاريخها بين السلطتين القضائية والتنفيذية فيما عرف بـ«مذبحة القضاة» (1969). النشأة الاستثنائية للمحكمة العليا في أحضان السلطة تزامنت مع حزمة قرارات استهدف بها نظام عبدالناصر تقويض أي معني لاستقلال القضاء؛ حيث أنشأ المجلس الأعلى للهيئات القضائية ليكون بديلا لكافة مجالس الهيئات القضائية، لكنه يتبع مباشرة للسلطة التنفيذية حيث يترأسه رئيس الجمهورية وينوب عنه وزير العدل، وهو المجلس الذي احتل جميع اختصاصات الهيئات القضائية من إجراءات التعيين والترقية والنقل والندب. وتبعه قانون بإعادة تشكيل الهيئات القضائية من الموالين للنظام، وهو القانون الذي اعتبر كل من لم يشملهم قرارات إعادة التعيين محالين إلي المعاش! مع عدم تمكينهم من التظلم من القرار أو التقاضي بشأنه أمام محكمة النقض كما يقرر قانون السلطة القضائية، ثم صدور قرار بانفراد رئيس الجمهورية بإصدار كافة التعيينات القضائية، ثم قرار آخر بتعيين مجلس إدارة لنادي القضاة، أقال به عبدالناصر مجلس إدارة النادي المنتخب قبل شهور من جموع القضاة، ثم قرار آخر بتعديل قانون مجلس الدولة نال من استقلاله، لتكون بالفعل أكبر مذبحة عرفها التاريخ القضائي أطاحت بالنائب العام وكبار القضاة في حركة شملت مائة وسبعة وعشرون قاضياً وعضو نيابة عامة. وقد تشكلت المحكمة العليا عند إنشائها من: المستشار / بدوى إبراهيم حمودة “أول رئيس للمحكمة العليا”. وكانت المحكمة العليا تؤلف من رئيس ومن نائب أو أكثر للرئيس وعدد كاف من المستشارين ، وتصدر أحكامها من سبعة أعضاء. ويعين رئيس الجمهورية رئيس المحكمة من بين أعضائها أو من غيرهم ممن تتوافر فيهم شروط التعيين ، ويجوز تعيينه دون التقيد بسن التقاعد ، ويعين نواب الرئيس والأعضاء بقرار من رئيس الجمهورية بعد أخذ رأى المجلس للهيئات القضائية ، ويكون تعيين رئيس المحكمة العليا ونوابه والمستشارين لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد. وتختص المحكمة العليا بما يأتى: الفصل دون غيرها فى دستورية القوانين. تفسير النصوص القانونية. الفصل فى طلبات وقف تنفيذ الأحكام الصادرة من هيئات التحكيم المشكلة للفصل فى منازعات الحكومة والقطاع العام. الفصل فى مسائل تنازع الاختصاص. ويرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن ناثان براون، في كتاب له عن القضاء المصري أن جذور الصراع بين ناصر والقضاة تعود إلى منتصف ستينيات القرن العشرين، حين بدأت جماعة من الشخصيات القانونية والسياسية المحسوبة على النظام تدعو إلى إجراء تغييرات في الثقافة القانونية لمواكبة التحول ناحية بناء المجتمع الاشتراكي. وبحسب براون، فإن معظم هذه الدعوات طالبت بتغيير على مستويين: المستوى الأول هو إعادة النظر في التشريعات السابقة على 1952 التي طالب أشخاص مثل القانوني البارز «جمال العطيفي» بمراجعتها من حيث أنها كانت «نتاجًا لعصر رأسمالي ومن شأنها أن تقوض فرص التحول الاشتراكي». أما المستوى الثاني، فقد تركز على المطالبة بتغيير «النظام القضائي»، وهو ما تبدى في الدعوة التي صاغها أمين عام الاتحاد الاشتراكي «علي صبري» في سلسلة من المقالات عن «كيفية إدارة هذا التحول في النظام القضائي نحو نظام أكثر اتساقًا، وانطلاقًا من الأيديولوجية الاشتراكية». وقد تسارعت الأحداث في هذا الاتجاه…