قرار محكمة العدل الدولية في دعوى جنوب أفريقيا بشأن جرائم الإبادة الجماعية في غزة ضد إسرائيل: الإيجابيات والسلبيات
تقدمت حكومة جمهورية جنوب أفريقيا، في 29 ديسمبر 2023، بدعوى قضائية لدى محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، تتهمها فيها بانتهاك التزاماتها بموجب أحكام “اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها” على أساس المادتين 36/1 و41 من النظام الأساسي للمحكمة، التي تأسست عام 1945، وذلك بعد نحو ثلاثة أشهر من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. وتضمنت مذكرة الدعوى طلبًا للبت في التدابير المؤقتة (كإجراء فرعي مستعجل)، عملًا بأحكام المادة 41 من ذلك النظام. وبناءً على ذلك، أعلنت المحكمة في 3 يناير 2024 أنها ستعقد جلستين لسماع المحاجة الشفهية لفريقي الادعاء والدفاع يومي 11 و12 يناير 2024. وفي 12 يناير 2024، أعلنت اختتام جلسات الاستماع لطرفي الدعوى، وأشارت إلى أن قرارها بشأن ما قدم إليها من طلبات مستعجلة سيصدر في وقت تعلن عنه لاحقًا[1]. ثم أصدرت المحكمة، في 26 يناير 2024، قرارها بفرض التدابير المؤقتة التي طلبتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، والتي تلزمها بوقف جميع الأعمال والأنشطة والتصريحات التحريضية التي تؤدي إلى ارتكاب صور جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة، وبالأخص قتل المواطنين وإصابتهم بأضرار جسدية ونفسية وفرض ظروف معيشية صعبة بقصد تدمير شعب غزة كليًا أو جزئيًا وفرض تدابير تهدف إلى منع الولادات، مع ضمان عدم ارتكاب الجيش الإسرائيلي جميع الأعمال السابقة، ومنع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، وضرورة اتخاذ تدابير فورية وفعالة لتوفير الخدمات الأساسية ودخول المساعدات الإنسانية[2]. وقد تباينت ردود الفعل بشأن القرار بين محتفل يرى فيه انتصارًا رمزيًا للعدالة الدولية وإرغامًا لأنف إسرائيل في المحافل الدولية، ومن أصيب بخيبة أمل بشأن قرار لم يشر إلي وقف العدوان الإسرائيلي المستمر علي قطاع غزة، ولم يضمن للناجين عودة آمنة لديارهم التي نزحوا عنها قصرًا[3]. أولًا: ماهية محكمة العدل الدولية وجريمة الإبادة الجماعية: 1- محكمة العدل الدولية: هي الهيئة القضائية الرئيسية لمنظمة الأمم المتحدة. يقع مقرها في “قصر السلام” في مدينة لاهاي في هولندا، وهي الجهاز الوحيد من بين الأجهزة الستة التابعة للأمم المتحدة ( الجمعية العامة، مجلس الأمن، المجلس الاقتصادي والاجتماعي، محكمة العدل الدولية، الأمانة العامة، مجلس الوصاية) الذي لا يقع مقره في مدينة نيويورك. تم تأُسيسها في العام 1945 وبدأت أعمالها في العام التالي فحلت، بذلك، محل “المحكمة الدائمة للعدالة الدولية” (التي تأسست في العام 1920). وتجدر الإشارة إلى ضرورة التمييز بين “محكمة العدل الدولية” و”المحكمة الجنائية الدولية”، فهما هيئتان مختلفتان لكلًا منهما اختصاصات مختلفة؛ حيث تحاكم الأولى (العدل) الحكومات/ الدول بينما تحاكم الثانية (الجنائية – في لاهاي، أيضًا) الأفراد. يتمثل الاختصاصان المركزيان لمحكمة العدل الدولية في: الأول؛ الفصل في النزاعات القانونية التي تنشأ بين الدول (وهذه مشروطة بموافقة الدولة المدعى عليها)، ويمكن للدول الأعضاء في الأمم المتحدة وتلك التي قبلت اختصاص محكمة العدل الدولية تقديم القضايا. والثاني؛ إصدار فتاوى قضائية، بصفة استشارية، حسب طلب الهيئة العامة للأمم المتحدة أو منظمات مختلفة تعمل تحت رعاية الأمم المتحدة. وهي توفر وسائل سلمية لحل النزاعات القانونية الدولية. وتعالج فقط القضايا التي تتقدم بها الدول وتستند قراراتها على مبادئ القانون الدولي ولا تقبل الاستئناف. تتألف المحكمة من 15 قاضيًا يخدم كل منهم مدة 9 سنوات، تنتخبهم الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي مع مراعاة التنوع الجغرافي. يُنتخب ثلث الأعضاء كل ثلاث سنوات. ويجب أن يمثل القضاة كل الحضارات والأنظمة القانونية الرئيسة في العالم. ولا يسمح بوجود قاضيين يحملان الجنسية نفسها. وفي حال توفي أحد القضاة الأعضاء، يُعاد انتخاب قاض بديل يحمل جنسية المتوفي فيشغل كرسيه حتى نهاية فترته. يمكن عزل القاضي عن كرسيه فقط بموجب تصويت سري يجريه أعضاء المحكمة. يجوز للقضاة أن يقدموا حكمًا مشتركاً أو أحكامًا مستقلة حسب آراء كل منهم. وتؤخذ القرارات وتقدم الاستشارات وفق نظام الأغلبية. وفي حال تساوي الأصوات، يعتبر صوت رئيس المحكمة مرجحًا. تتكون هيئة المحكمة حاليًا من 15 قاضيًا من الدول التالية: الولايات المتحدة (رئيسة المحكمة)، فرنسا، اليابان، ألمانيا، أستراليا، سلوفاكيا، البرازيل، جمايكا، الهند، أوغندا، الصين، الصومال، روسيا، لبنان والمغرب. يمكن تعيين قاض خاص من قبل كل طرف في القضايا الخلافية (بين دولتين) وبذلك يصل عدد القضاة في هذه القضية إلى 17. في الدعوى الحالية، عينت جنوب أفريقيا ديكجانج موسينيكي النائب السابق لرئيس المحكمة العليا في البلاد قاضيًا عنها، وعينت إسرائيل أهارون باراك الرئيس السابق للمحكمة الإسرائيلية العليا قاضيًا عنها[4]. 2- جريمة الإبادة الجماعية: “الإبادة الجماعية” مصطلح صاغه، في أربعينيات القرن العشرين، المحامي اليهودي رفائيل ليمكين، الذي هرب من بولندا (مولده الأصلي) إلى الولايات المتحدة إبان الحرب العالمية الثانية، وذلك في إثر الفظائع التي ارتكبت خلال المحاولات التي جرت لإبادة طوائف وشعوب على أساس قومي أو عرقي أو ديني أو سياسي. وقد صنفت هذه كجريمة دولية في اتفاقية وافقت الأمم المتحدة عليها بالإجماع في 8 ديسمبر 1948 ووضعت موضع التنفيذ العام 1951 وأُطلق عليها اسم “اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية” أو “اتفاقية الإبادة الجماعية – منع ومعاقبة جميع أشكال جرائم الإبادة الجماعية، في أوقات الحرب والسلم على حد سواء”. تتكون الاتفاقية من 19 مادة. وبموجب المادة الثانية من هذه الاتفاقية، تعني الإبادة الجماعية أيًا من الأفعال التالية، المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، بصفتها هذه: (أ) قتل أعضاء من الجماعة؛ )ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة؛ )ج) إخضاع الجماعة، عمدًا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي، كليًا أو جزئيًا؛ )د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة؛ )هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى. ووفقًا للمادة الثالثة من الاتفاقية، يعاقب على الأفعال التالية: )أ) الإبادة الجماعية؛ )ب) التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية؛ )ج) التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية؛ )د) محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية؛ )هـ) المشاركة في الإبادة الجماعية. ووفقًا للمادة الرابعة، يُعاقب مرتكبو الإبادة الجماعية، أو أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة، سواء كانوا حكامًا دستوريين أو موظفين عامين أو أفرادًا. ووفقًا للمادة الخامسة، يتعهد الأطراف المتعاقدون بأن يتخذوا، كل طبقًا لدستوره، التدابير التشريعية اللازمة لضمان إنفاذ أحكام هذه الاتفاقية، وعلى وجه الخصوص النص على عقوبات جنائية ناجعة لإنزالها بمرتكبي الإبادة الجماعية أو أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة. ووفقًا للمادة السادسة، تتم محاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب الإبادة الجماعية، أو أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة، أمام محكمة مختصة من محاكم الدولة التي ارتكب الفعل على أرضها، أو أمام محكمة جزائية دولية تكون ذات اختصاص إزاء من يكون من الأطراف المتعاقدة قد اعترف بولايتها. وحول دور “محكمة العدل الدولية”، تنص المادة التاسعة من الاتفاقية على أنه “تعرض على محكمة العدل الدولية، بناءًا على طلب أي من الأطراف المتنازعة، النزاعات التي تنشأ بين الأطراف المتعاقدة بشأن تفسير…